الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً
؟
كذلك أثار الدكتور محمد سعيد جمال الدين نقطة جديرة بالتأمل والبحث، إذ يرى أن نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر يعد مفارقةً تستوقف النظر إذ قال: والحق أننا نعجب لنشأة هذا العلم في أوربا في وقت سادتها روح العصبية القومية، ونشبت الحروب بين دولها، وكان التنازع والتكالب على اكتساب المغانم الاستعمارية على أشده بينها، مما عمق فكرة الأثرة القومية والعصبية المقيتة في نفوس الشعوب الأوروبية، وأخذ كل واحد من هذه الشعوب ينظر إلى الآخر نظرة العداء والازدراء، ووجه العجب هنا أن طبيعة الأدب المقارن لا تتفق مطلقًا مع روح التعصب والأثرة القومية، فهو يقف في الوسط ليرصد التيارات الفكرية المتبادلة بين الآداب المختلفة، ويرقب عوامل التأثير والتأثر فيما بينها.
فكيف يتسنى لهذا العلم أن يقوم بمهمته هذه في ظل جو مشبع بعوامل الاستعلاء والتميز القومي؟ كيف يمكن لهذا العلم أن يعنَى بدراسة نقاط الالتقاء بين الآداب والسمات المشتركة بينها في وقت كان هم كل أمة من هذه الأمم الأوروبية منحصرًا في بيان أوجه الاختلاف، والتعارض بين أدبها وآداب غيرها، وفي أن أدبها هو الأكثر كمالًا وفضلًا؟
لقد كان المزاج الأوربي الذي ساد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مشبعًا بأسباب التنافر والتباعد، لا بمظاهر التآزر والتقارب، حقًّا لقد كانت هناك نقط
التقاء توحد بين الأدباء الأوربيين في ذلك الوقت، إذ كانوا يرون في شعراء اليونان واللاتين القدماء مثلهم الأعلى، الذي يتعين عليهم أن يحتذوه إلا أن روح القومية التي سادت في ذلك الوقت كانت تعصف بكل رغبة في التسليم بتبادل التأثير بين الآداب الأوروبية بعضها وبعض.
لكن ظهرت في ألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر حركة نادت بالأدب المقارن، حيث تتجمع الآداب المختلفة كلها في أدب عالمي واحد، يبدو وكأنه نهر يرفده كل أدب من الآداب القومية بأسمى ما لديه من نتاج إبداعي، وقيم إنساني وفنية، وكان زعيم هذا الاتجاه الشاعر الألماني "جوته" الذي عد نفسه نموذجًا تتجمع فيه صفة العالمية، فلقد كان مطلعًا على الآداب الأوروبية متمثلًا قيمها واتجاهاتها، ومد بصره إلى خارج الحدود الأوروبية الضيقة المضطربة، فوجد في الآداب الشرقية الإسلامية عاملًا رحبًا لا نهائيًّا من الطهر والطمأنينة، بَدَا له وكأنه قَبَس من نور النبوة، كما وجد منبعًا صافيًا من الإبداع والإلهام المتجدد عبَّر عنه بوضوح في ديوان سماه (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي) كتب في مقدمته: هذه باقة من القصائد يرسلها الغرب إلى الشرق.
ويتبين من هذا الديوان أن الغرب قد ضاق بروحانيته الضعيفة الباردة، فتطلع إلى الاقتباس من صدر الشرق، ولقد استطاع "جوته" بثقافته العميقة الواسعة، ومكانته البارزة وقدرته الفذة على الإبداع أن يجعل فكرة التواصل بين الآداب الأوروبية خاصةً والآداب كلها بعامة تستقر في الأذهان، وتصبح من الأمور المسلمة التي لا تقبل الجدل على الرغم من طغيان العصبية القومية في أوربا،
وهكذا بدأت دعوة الأدب العالمي، وكأنها كانت بمثابة تمهيد طبعي لنشوء فكرة الأدب المقارن.
انتهى كلام الدكتور محمد سعيد جمال الدين.
والواقع أنه لا ينبغي أن يكون ثمة عجب، إذ من قال: إن الأدب المقارن قد نشأ وهدفه التقريب بين الشعوب والأمم على أساس من روح الأخوة، إن هناك فرقًا كبيرًا بين رغبة بعض العلماء والمفكرين في أن يؤدي الأدب المقارن إلى نشوء هذه الروح، وبين استجابة النفوس البشرية التي تمارس وتشتغل به لهذه الروح، ذلك أنه كان هناك دائمًا -وسيظل هناك دائمًا- فجوة بين المثال والواقع كبرت هذه الفجوة أم صغرت، فهذه هي طبيعة الطبيعة البشرية، وعلى أية حال فهناك عوامل أخرى للأدب المقارن كانت وما زالت وراء اهتمامي بهذا الفرع من فروع البحث، منها إرضاء الفضول البشري، الذي يريد أن يعرف إلى ذاك الأدب أو هذا، وإلى أين يمكن أن يذهب بعد ذاك؟
ومنها أيضًا الرغبة الفطرية في المقارنة بين المتشابهات والمتخالفات في أي شيئين من جنس واحد، إن لم يكن من أجل شيء، فمن أجل إرضاء النزعة العقلية المقارنية، التي لا تهدأ عند بعض الناس إلا إذا اشتغلت ولا ترتاح إذا بقيت خاملة لا وظيفة لها، ثم هم بعد هذا كله لا يمكنهم أن ينسوا قوميتهم ولا حبهم لبلادهم وشعوبهم، ولا إيثارهم لحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم وفنونهم وآدابهم، وبخاصة إذا كانوا ينتمون إلى أمور قوية تتطلع إلى جر الأمور الأخرى وراءها، كأنها القاطرة وعرباتها، ولا تريد لأحد أن يخالف عن رأيها، ولا أن يكون له ذوق يتميز عن ذوقها، بل يمتاز عليها، أما الكلام والتشدق به فما أسهله لكن الكلام وحده لا يجعل الأمنيات حقيقة واقعة محترمة من الجميع،
وإذا كانت الطبيعة البشرية لم يستعصِ عليها أن تتلاعب بالدين ذاته، وأن تحوله إلى أداة للتكسب والخداع والقتل والتدمير في كثير من الأحيان، أفنظن أن الأدب المقارن سوف يسهل أمامها، ويكون عندها أقدس وأجل وأكثر تبجيلًا؟
وفي كلام "رينيه وليك" التالي ما يؤكد ما قلته، فقد ذكر أنه إن كان ظهور الأدب المقارن قد جاء رد فعل ضد القومية الضيقة التي ميزت الكثير من بحوث القرن التاسع عشر احتجاجًا ضد الانعزالية لدى الكثير من مؤرخي الآداب الأوروبية، فضلًا عن تصدر التبحر في هذا العلم من بعض العلماء الذين يقعون على مفترق الطرق بين الشعوب، أو على الحدود بين شعبين على الأقل أي: ينتمون مثلًا لأبوين من بلدين أوربيين مختلفين، فإن هذه الرغبة الأصيلة في أن يعمل دارس الأدب المقارن كوسيط بين الشعوب، وكمصلح لذات بينها غالبًا ما طمسته وشهوته المشاعر القومية الملتهبة، التي سادت تلك الفترة وفي ذلك الموقع.
وهذا الدافع الوطني في أساسه، الذي يكون خلف العديد من دراسات الأدب المقارن في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها أدى إلى نظام غريب لمسك الدفاتر الثقافية، وإلى الرغبة في تنمية مدخرات أمة الباحث عن طريق إثبات أكبر عدد ممكن من التأثيرات التي أثرتها أمته على الشعوب الأخرى، أو عن طريق إثبات أنه متى الكاتب قد هضمت أعمال أحد العظماء الغرباء، وفهمته أكثر من أي أمة أخرى، ثم مضى "وليك" فأعطانا أمثلةً على هذا التعصب القومي من واقع الدراسات الأدبية المقارنة في فرنسا وأمريكا.
خلاصة القول:
إن الشعارات واللافتات المرفوعة وحتى العوامل والبواعث التي تكمن وراء نشوء عمل ما شيء، والواقع الذي ينتهي إليه هذا العمل أو يُساق نحوه سوقًا شيء آخر، باختصار:
الطبيعة البشرية هي هي الطبيعة البشرية، ولا أحسبها ستتغير في المستقبل حتى لو دخلت تغيرات جذرية على التكوين البيولوجي للإنسان، كما يلمح بعض العلماء الآن؛ اعتمادًا على ما يظنونه أو يرجونه من إمكانات التماسك البشري، بالتأكيد سوف يساعدنا الأدب المقارن على مزيد من فهم بعضنا بعضًا، لكنه لن ينجح في قلع ما غرس في أغوار نفوسنا العميقة منذ أول الخلق.
إن الغربيين بوجه عام بحسب الرطانة الجديدة لا يريدون مثاقفة بينهم وبين الآخرين، بل يريدون في أقل القليل غزوهم الثقافي. والمثاقفة بعكس الغزو الثقافي الذي يتضمن في طياته الرغبة في محو الآخر، وإلحاقه وفرض التبعية عليه، ومعاملته بنظرة فوقية وعدوانية متغطرسة تقوم على الندية والاحترام والتسامح والاعتراف بخصوصية الآخر واختلافه، وفي إطارها تتفاعل الجماعات والشعوب، وتتواصل بهدف الاغتناء المتبادَل؛ لهذا فهي تفترض الثقة والرغبة في التواصل والتقدم والتطور واكتساب العلم والمعرفة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.