الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس
(الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية)
التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها
جاء في "الموسوعة العربية العالمية" في المادة المخصصة لأحمد شوقي: أنه عَلَمٌ من أعلام الشعر العربي في القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين الميلاديين، وقد ولد في القاهرة من عائلة تلتقي فيها الدماء العربية والكردية والتركية والشركسية واليونانية، ونشأ منذ طفولته وعاش في سعة من الرزق ورغَد في العيش بسبب صلته بالخديوي إسماعيل، ومَن جاء بعده من أبنائه.
تعلم شوقي في الكُتَّاب أولًا، ثم في المدارس الابتدائية فالثانوية التي تخرج فيها سنة ألف وثمانمائة وخمس وثمانين للميلاد، ثم انتظم بعد ذلك في مدرسة الحقوق والترجمة، وتخرج بعد أربع سنوات، فألحقه الخديوي توفيق بخدمته، ثم أرسله في بعثة دراسية على حسابه الخاص إلى فرنسا.
وكان أثناء دراسته الحقوق في مصر وفرنسا مكبًّا على دراسة الشعر العربي واستظهاره، وحفظ نوادره إلى جانب اطلاعه الواسع على روائع الأدب الفرنسي، وكان يرسل قصائده من فرنسا في مديح الخديوي توفيق، وكانت تلقى صدًى من القراء والأدباء في مصر، وبعد ثلاث سنوات عاد شوقي من بعثته، وقد تولى الخديوي عباس الحكم بعد وفاة والده، فانضم إلى ديوانه، وبدأت مرحلة جديدة في حياته هي مرحلة شعر القصر، التي قام فيها بكل ما يتطلبه هذا المنصب من التزامات سياسية واجتماعية، فأصبح بيته مقصدًا لذوي الحاجات بسبب موقعه في القصر.
كما أصبحت علاقاته كذلك مرتبطة باتجاهات القصر، واستمرت العلاقة بينه وبين الخديوي عباس حلمي قوية؛ حتى عزل الخديوي سنة ألف وتسعمائة وأربع عشرة إلى الميلاد، ونفي شوقي إلى الأندلس بسبب تلك العلاقة، وهنا بدأت مرحلة جديدة أخرى في حياته حياة المنفى، حيث عاش في إسبانيا أربع سنوات لا ينغص عليه سوى حنينه الشديد إلى مصر وأهلها، وفي ذلك يقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
…
نازعتني إليه في الخلد نفسي
ثم عاد إلى الوطن بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وأصبح عندئذ أشد التصاقًا بالشعب وأكثر تعبيرًا عن آرائه وآماله بعد أن تحرر من قيود القصر، وتعد مرحلة ما بعد المنفى أغزر فترات حياته إنتاجًا، فقد كثرت فيها قصائد المناسبات الاجتماعية والوطنية، كما اتجه إلى كتابة المسرحيات المستمدة من التاريخ، وفي سنة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين ميلادية، اجتمع شعراء الأمة العربية في مهرجان كبير بالقاهرة؛ لتكريمه ومبايعته بإمارة الشعر عرفانًا منهم بفضله ومكانة شعره، الذي كان كما وصفه في ذلك الحفل بقوله: كان شعر الغناء في فرح الشرق، وكان العزاء في أحزانه، وأصبح منذ ذلك الحين يلقب بأمير الشعراء.
وقد أكمل شوقي المهمة التي بدأها البارودي لإحياء تراث الشعر العربي، وإعادة مجده في أيامه الزاهرة، فنظم في جميع الأغراض الشعرية، وأكثر من معارضة القصائد المشهورة في الشعر العربي القديم معتمدًا على موهبة شعرية فذة، ولغة طيعة رائعة، وترك شوقي وراءه ديوانه (الشوقيات) في أربعة مجلدات و (دول العرب) و (عظماء الإسلام)، وهي أراجيز تتحدث عن تاريخ الإسلام وعظمائه منذ عهد النبوة إلى عهد الفاطميين، وله من المسرحيات الشعرية ست
هي (مصرع كليوباترا) و (مجنون ليلى) و (عنترة) و (قمبيز) و (علي بك الكبير) و (الست هدى)، وله مسرحية نثرية واحدة هي (أميرة الأندلس).
أما في النثر فله كتاب (أسواق الذهب)، وقصائده المشهورة كثيرة جدًّا من أشهرها أندلسياته التي كتبها من منفاه، وجارَى في واحدة منها سينية البحتري المشهورة، فقال:
اختلاف النهار والليل ينسي
…
اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
كذلك جارى نونية ابن زيدون، فقال:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
…
نشجى لواديك أم نأسى لوادينا
هذا فضلًا عن همزيته في مدح رسول الله، ومطلعها:
وُلد الهدى فالكائنات ضياء
…
وفم الزمان تبسم وثناء
ومن أرق شعره وأعذبه "جارة الوادي" التي منها قوله:
يا جارة الوادي طربت عادني
…
ما يشبه الأحلام من ذكراك
مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى
…
والذكريات صدت سنين الحاكي
وقد جاء في كتاب (المسرح) لمحمد مندور ما يفهم منه أن تأثر شوقي بالأدب الفرنسي وإقباله على الإبداع المسرحي، هو حصيلة إقامته في فرنسا أيام طلبه العلم في مدرسة الحقوق بمونبليه، والواقع أن كان في مصر من قبل ذلك نشاط أدبي مسرحي شعري ونثري تأليفًا وترجمة،
ومن المؤلفين المسرحيين الغربيين الذين تُرجمت بعض أعمالهم في تلك الفترة المبكرة: "شكسبير" و"راسين" و"كورنيه" و"موليير"، ومن الأسماء التي برزت في تلك الفترة محمد عثمان جلال وسليم النقاش وخليل اليازجي ونجيب الحداد وعبد الله فكري ومصطفى كامل مثلًا، وكانت هناك كتابات نقدية واعية بهذا الفن وأصوله، تدل على أن أصحابها درسوا هذا الفن، وعرفوا أصول نقده من خلال ما قرأوه في الأدب والنقد الغربيين.
وهذه الكتابات نجدها في مقدمات المسرحيات المنشورة في ذلك الوقت، أو في بعض المجلات والصحف، ومن هنا فإني قد لا أشاطر الدكتور مندور هذا الرأي، وأرى أن شوقي قد تأثر في الأصل بالتأليف المسرحي، الذي كان موجودًا ونشطًا بمصر قبل سفره إلى فرنسا، وبخاصة أنه لم يقبل على المشاركة بذلك التأليف، إلا في أخريات حياته بعدما عاد من فرنسا بزمن جد طويل، بل بعدما عاد أيضًا من إسبانيا، ولو أضفنا إلى هذا وذاك أنه لم يقم بترجمة أي من المسرحيات الغربية؛ لتبين أن الرأي الذي ذكرته أحرى أن يكون هو الصواب، وإن لم أستبعد أن تكون إقامته في فرنسا أيام الدراسة قد أغرته بالإقبال على المسرح الفرنسي قراءة ومشاهدة، مما أسهم في ثقل موهبته المسرحية.
كذلك يقول الدكتور محمد مندور في سياق انتقاده لشوقي: إن شوقي حين شرع الكتابة المسرحية كان تأثره أوضح ما يكون بالمسرح الكلاسيكي، لكنه لم يكن قد تعمق دراسة المذاهب المسرحية المختلفة، ومن ثم لم يكن قادرًا على اختيار مذهب من تلك المذاهب عن وعي واختيار، بل جاء تأثره بالكلاسيكية بطريقة تلقائية غير منهجية؛ ولهذا لا نراه يتقيد في مسرحه بجميع الأصول الكلاسيكية، بل يأخذ بما هداه إليه إحساسه.
هذا ما قاله الدكتور مندور.
وبعيدًا عن المستوى الفني لمسرح شوقي نود أن نعرب بقوة عن مخالفتنا للدكتور مندور، إذ من الواضح أنه يرى أن مكاننا في الإبداع الأدبي لا بد أن يأتي تابعًا للغربيين، فإذا ذهبوا يمينًا وجب أن نذهب وراءهم ذات اليمين، وإذا راحوا شمالًا كان علينا أن نوجه وجوهنا وراءهم جهة الشمال وهكذا، وبنفس الطريقة لا بد لنا إما نكون إما كلاسيكيين أو رومانسيين أو واقعيين صِرفًا، ما دامت هناك مذاهب كلاسيكية ورومانسية وواقعية صرفًا، ولا يحق لنا أن نمزج بين مذهبين، وهذا ما يوجبه النقاد المشيعون لكل ما يأتي من الغرب، فنراهم يعيبون أيضًا أي ناقد لا يتقيد بمذهب بعينه، ويزعمون أن نقده فاسد، وغير منهجي مع أن تلك المذاهب الأدبية والنقدية ليست نازلة من السماء، بل هي نتائج بشري فيه الصواب وفيه الخطأ، ومن حق أي أحد أن يتصرف فيها على النحو الذي يراه صحيحًا، ومن ثم فإننا مبدئيًّا لا نرى فيما فعله شوقي طبقًا لما يقوله الدكتور مندور من عدم تعبده لمذهب بعينه على النحو الذي يريده ذلك الناقد، لا نرى في ذلك شيئًا يُعاب، بل هو التصرف الأقرب إلى الحكمة.
ثم إن شوقي لم يؤلف وهو في فرنسا إلا مسرحية واحدة هي مسرحية (علي بك الكبير)، الذي عاد تأليفها بعد ذلك بسنوات طوال في أخريات حياته.
كذلك فقول مندور: إن استقاء شوقي مسرحياته من التاريخ قد وقف حاجزًا بينها وبين الجمهور، الذي كان يفضل أن يرى في المسرحية عرضًا لمشاكله المعاصرة، بدلًا من معالجة الأحداث التاريخية، التي بعد بها العهد فلم يعد لها تأثير يذكر في حياته واهتماماته، هذا القول يدل على أن مندور قد فاته التنبه إلى أن كثيرًا جدًّا
من المسرحيات المعاصرة لشوقي والسابقة عليه، كانت مسرحيات تاريخية، وراجت لدى الجمهور المصري أيما رواج، وإلا فلم استمر الشعراء ينسجون مسرحياتهم من خيوط التاريخ إذن؟
إن انحياز شوقي لإبداع المسرحيات التاريخية في كل أعماله تقريبًا، إنما هو اتباع لما كان يجري عليه التأليف المسرحي في مصر في كثير من الأحيان، إذ كان التاريخ والقصص الشعبي أهم مصادر التأليف المسرحي العربي، كما جاء في مادة المسرحية العربية في الموسوعة العربية العالمية، التي أضافت أن المسرحية العربية تقسم إلى ثلاثة أنواع: مسرحية تاريخية، ومسرحية تراثية، ومسرحية شعرية، وأن المسرح التاريخي قد شغل حيزًا كبيرًا في التراث الأدبي المسرحي على امتداد الوطن العربي، وفي مختلف مراحل تاريخ المسرحية العربية، ومنه على سبيل المثال في تلك الفترة المبكرة مسرحية (المروءة والوفاء) لخليل اليازجي، و (السلطان صلاح الدين في مملكة أورشليم) لفرح أنطون.
أما المسرح التراثي في تلك الفترة ذاتها، فيمكن الاستشهاد له بمسرحية (أبو الحسن المغفل) لمارون النقاش، المستوحاة من قصص (ألف ليلة وليلة)، وكاد أبو خليل القباني الرائد الثاني لكتابة المسرحية أن يعتمد كليًّا على القصص الشعبي في كتابة مسرحياته، وهي في معظمها مأخوذة من قصص (ألف ليلة وليلة)، وقد اعتمدت الموضوعات في هذه الفترة على ما يجد القبول لدى العامة من أحاديث الحب والخيانة، والبطولة والشهامة، ومما قاله الدكتور مندور أيضًا عن مسرح شوقي حسبما رأينا: إنه مسرح كلاسيكي، لكن فاته أن المسرح الكلاسيكي يفصل تمام الفصل بين المأساة والملهاة، فلا يخلط بينهام في العمل المسرحي الواحد، فضلًا عن أن زمن المسرحية فيه ينبغي ألا يتجاوز أربعًا وعشرين ساعة،
وبالمثل ينبغي ألا يتسع المحيط المكاني الذي تقع فيه أحداثها ويتحرك فيه أبطالها عن المحيط الذي يمكن أن يتحرك فيه الإنسان خلال تلك الساعات الأربع والعشرين.
ومن ثم، فإننا لا نوافق مندور على تصنيفه هذا لمسرح شوقي، إذ كانت مسرحياته تضم أحيانًا عناصر مأساوية وأخرى ملهاوية، كما لم تلتزم بتاتًا بالوحدات الثلاث التي كان المسرحيون الكلاسيكيون يلتزمون بها.
لم يبق إلا أن موضوعات مسرحياته كلها تقريبًا موضوعات تاريخية، لكن هل يكفي هذا للحكم عليها بأنها مسرحيات كلاسيكية على اعتبار أن المسرحيات الكلاسيكية كانت تعالج في الغالب موضوعات تاريخية؟ لا أظن هذا سببًا كافيًا للقول بأن شوقي شاعر مسرحي كلاسيكي، بل إن مندور نفسه قد عاد في موضع آخر من ذات الكتاب الذي نحن بصدده وهو كتاب (المسرح)، فذكر أن شوقي كان حريصًا على أن يضفي على مسرحيته (مجنون ليلى) مثلًا ما يسمى باللون المحلي والطابع التاريخي الشعبي، وهو سمة من سمات المسرح الرومانسي.
كما لا ينبغي أن يفوتنا أن بعض مسرحيات شوقي تشتمل على أبيات رومانسية، ينصرف البطل إلى إلقائها حيث تسكن حركة المسرحية، وينصرف المشاهد إلى استماع تلك القصيدة مغمورًا بالانبهار، وليس في هذا أدنى شيء من الاتجاه الكلاسيكي، ولعل ما كتبه الدكتور جمال الدين الرمادي عن مسرحيات شوقي، من أنها لا تمت بصلة إلى مذهب أدبي محدد، بل تأخذ من هذا المذهب شيئًا، ومن ذاك المذهب شيئًا آخر، فجاء فنه يتأرجح على غير هدى لعل هذا الكلام هو أقرب شيء إلى واقع الأمر، وقد ذكره في كتابه (مسرحية كليوباترا بين
الأدب العربي والإنجليزي)، ومن العجيب أن يكتب مندور في كتابه (مسرحيات شوقي): أنه إذا كانت الكلاسيكية تحافظ على مبدأ فصل الأنواع أي: جعل المأساة مأساة خالصة، والملهاة ملهاة صرفة، فإن الرومانسية قد خلطت بين الأمرين، وهو ما صنعه شوقي أيضًا، فضلًا عن أنه قد ضمن مسرحياته قصائد غنائية؛ إرضاءً للذوق العربي والمصري، الذي يعشق الطرب والغناء.
بل لقد أكد الدكتور مندور أن شوقي لم يتقيد بتيار خاص ولا بمذهب معين، بل جمع بين الشرق والغرب، وبين مذاهب الأدب المختلفة والظاهر أنه لم يتعمق دراسة فلسفة الأدب ولم يكون لنفسه حصيلة نظرية من تلك الفلسفة، وإنما كان يستهدي ذوقه الخاص وتفكيره القريب المنال؛ ليعود فيقول عكس هذا تمامًا حين قرر أننا لا ينبغي أن نأخذ بالأصول، التي سار عليها هذا المذهب أو ذاك في الأدب الغربي، فالكثير من تلك الأصول نسبي لم يتحرج الغربيون من الخروج عليها، حتى لو كانت مما نظنه بديهيًّا مثل ضرورة انتهاء المسرحية إلى خاتمة ما، وهو ما يعني صحة كل ما قلناه آنفًا مخالفين فيه الدكتور مندور.
وبالمثل نرى الدكتور محمد حامد شوكت يقرر أن شوقي قد تأثر في مسرحياته بالاتجاه الكلاسيكي في فرنسا، قال ذلك في كتابه (الفن المسرحي في الأدب العربي الحديث)، وذلك أنه رغم أنه عنون الفصل الذي ورد فيه هذا الحكم، وهو الفصل الثاني من الكتاب الذي نحن بصدده بالمسرح الرومانسي المنظوم.
وبالنسبة لاختيار شوقي موضوعات مسرحياته التاريخية يرى الدكتور علي الزبيدي أن شوقي لم يكن بالمناضل المستعد للتضحية في سبيل حبه لبلاده، بل كان يلجأ إلى الوسائل السلمية التي لا تكلف تعبًا ولا تجر وراءها أذى لصاحبها، رغم أن شوقي قد عاش فترة تفرض حب مصر والتضحية لها، والجهاد من أجل تحقيق آمال شعبها.
ولم يكن شوقي في نظر الزبيدي مناضلًا؛ لأنه بطبعه يحب الاعتدال فهو يحب أن يتخذ المواقف الوسط؛ ليرضي الشعب والسرايا والعلماء والنقاد في ذات الوقت؛ لذلك نراه يفر من واقعه إلى التاريخ أحيانًا، ويعمل قوافيه في حقائقه وواقعه حسبما يجب أن يكون، لا كما هو التاريخ، أو كما روى المؤرخون أن التاريخ كان.
فإذا كانت الدعوة إلى الجهاد ومغالبة النفس إلى التضحية في سبيل الوطن واجبة، فإنه لا يدعو إلى ذلك مباشرة في مسرحياته، بل ينتخب من التاريخ فترات الاضمحلال أو الفساد، مثل الفترة التي شهدت نهاية الحكم الروماني في (مصرع كليوباترا)، وآخر أيام العرب في الأندلس في (أميرة الأندلس)، وفوضى الانحلال أيام المماليك في مسرحية (علي بك الكبير)، وانهزام مصر أيام (قمبيز) في المسرحية المسماة بهذا الاسم، ونراه يحمل هذه الفترات السود ما لا تحتمل من بطولات يريد أن يدعو إليها، وليس من عيب على شوقي كما يقول الزبيدي: أن يختار فترات الاضمحلال والانهزام والفساد، فلعل هذه الفترات أغنى من الناحية الدرامية بالمشاهد المأساوية، والمواقف التي تخدم الصراع الدرامي بكل قوة، ولكنه يختار هذه الفترات؛ ليصور أبطالًا لا على أنهم معالم حجار، وإنما على أنهم عناصر قوة وسط الضعف، وكأنما نصب نفسه محاميًا عن هذه الفترات العاثرة من تاريخ مصر والعرب.
ويقول الدكتور عز الدين إسماعيل في المقدمة، التي كتبها للأعمال الكاملة لأحمد شوقي، والتي صدرت عن هيئة الكتاب سنة ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين: إنه على الرغم من تنوع مسرح شوقي من حيث مصادر مادته، ومن حيث أساليب معالجته، فإن القارئ المتأمل لهذا النتاج في مجموعه يستطيع أن يستشف صدور شوقي في هذا النتاج كله عن مبدأ أخلاقي يحكم نظرته إلى
التاريخ، أو ما يشبه التاريخ من جهة، وفهمه لوظيفة المسرح من جهة أخرى فهو فيما يختار من أحداث تاريخية يدير حولها بعض مسرحياته، يكون مدفوعًا بمشاعر وطنية، وأعراف وتقاليد اجتماعية يستهدف تعميقها في نفوس الجماهير، وتأكيدها في ضمائرهم.
ومن أجل ذلك لا يفسر غدر كيلوباترا بأنطونيو على أساس من الانحلال في سلوكياتها، أو ميلها إلى النجم الساطع آنذاك، وهو أكتافيو بقصد إغوائه، وبرغبتها في تحقيق أمجادها الشخصية، بل يفسر هذا الغدر في ضوء سياسة وطنية، كانت كيلوباترا في رأيه تتبناها مؤداها أن توقع بين قواد الرومان؛ حتى يفني بعضهم بعضًا، فتتمكن بهذا من بسط نفوذها على مصر، وعلى الإمبراطورية الرومانية نفسها، وكأن شوقي قد حدث من هذه المعالجة إلى إحداث نوع من التعاطف بين الجماهير وبينها، وكسب عطفهم عليها، أما أن يكون قد نجح في تحقيق هذا الهدف أو لم ينجح فهذه مسألة أخرى.
ويرتبط بهذا المنزع عند شوقي ما يمكن ملاحظته من اختياره من حياة الأمة الحقب التاريخية، التي تكون فيها في حالة انكسار، أو تكون قد ألمت بها فيها بعض الكوارث، فالنظرة العجلى قد ترى في هذا الاختيار تعارضًا مع أهدافه الوطنية، وإلا فقد كان الأَولى به أن يختار الحقبة التي يبلغ فيها الوطن أوج الازدهار، والتي يحقق فيها أمجاده.
هذا فيما يتصل بمسرحياته الأربعة ذوات العلاقة الوثيقة بالتاريخ المعترف به.
أما فيما يتصل بمسرحيات (عنترة) و (مجنون ليلى)، فالهدف الأخلاقي يتركز في تأكيد المبادئ والأعراف والتقاليد، التي درَجَ عليها المجتمع، فالقيم والأعراف الاجتماعية
السائدة تمثل عند شوقي الإطار المرجعي للحكم الأخلاقي على شخوصه، فإذا استغرت مشاعر الفرد بأعراف الجماعة كان على الفرد أن يضحي بمشاعره في سبيل تحقيق هذه الأعراف، وفي هذا يتمثل الصراع الذي كتب على الشخصية المأزومة عنده أن تخوضه، وهذا المنحى يدل على رغبة شوقي في عدم الاصطدام بالتقاليد والأعراف، أو إحداث أي هِزة لها ومَيْله على العكس إلى تأكيدها.
وعلى الجملة يمكن أن يقال: إن التزام شوقي الأخلاقي بوجهيه الوطني والعرفي هو المسئول عما يكشف عنه تحليل الصراع في مسرحياته التاريخية وشبه التاريخية من نجاح أو إخفاق.
هذا ما قاله الدكتور عز الدين إسماعيل.
وهذه الملاحظة التي لاحظها الدكتور على مسرحيات شوقي التاريخية، واختياره فترات الانحلال والضعف في تاريخ مصر والعرب، قد لاحظها غيره من النقاد، وقد تناول الدكتور مندور هذا الموضوع فأشار إلى استنكار أولئك النقاد الذين لم يعجبهم اختيار شوقي لفترات الانحلال من تاريخ العرب والمصريين موضوعًا لمسرحياته التاريخية، ما دام قد ألفها من أجل الدفاع عن بلاده وأمته، ولست أرى لهذا الاستنكار معنًى؛ لأن حب الإنسان لوطنه وأمته ليس معناه أن أغفل عن عيوبهما، وأعمل على تصيير مساوئهما حسناتٍ، إن هذا ليس حبًّا، بل تزييفًا وتمكينًا للعيوب التي يعاني منها الوطن والأمة من البقاء والاستطان؛ فنظل متخلفين ضعفاء يرتع فينا الفساد، وتسرح ديدانه كما يحلو لها.
وإذا كان شوقي قد انتقد الشعب المصري في مسرحيته (مصرع كيلوباترا) مثلًا؛ فلأنه يستحق الانتقاد، إذ يبدو في بعض الفترات التاريخية وكأنه لا يعرف شيئًا اسمه الإنكار على الاستبداد والفساد، والثورة على ظالميه، والتمرد على مَن يسومونه سوء الطغيان والعذاب، بله الخروج إلى الميادين والشوارع للهتاف بحياة
الطغاة اللصوص القتلة المفسدين، وإلا فلو صوره رغم ذلك في صورة مشرقة جميلة، لكان بهذا يمد في عمر تلك العيوب ويضعفها ويقويها، وليس ذلك من حب الأوطان والأهلين في شيء، ولقد استدرك مندور نفسه في هذا الموضوع قائلًا: إن شوقي رغم ذلك قد تغنى فأجاد التغني بمصر ومجدها وعظمتها وخلودها، وأكد أنها دائمًا مقبرة للغزاة.
وفي الكتيب الذي وضعه رفعت سلام عن المسرح الشعري العربي نراه يتناول هذه النقطة قائلًا عن حق: إنه في ظل الانهيارات المدمرة والصراعات المتوالية، والمصائر الدامية لفرسان المقاومة، فإن الموقف العام للشعب في مسرح شوقي يتسم بالسلبية والتخاذل، فالشعب لديه يتلقى الصدمات المتوالية، وصنوف القهر والعذاب دون أن يتفض ضد قاهريه، هو شعب كما قال:
أثر البهتان فيه
…
وانطلى الزور عليه
ملأ الجو هتافًا
…
بحياتي قائليه
لا يشارك في حركة الصراع إذ هو مفعول به وليس فاعلًا، وهذا الضعف الشديد الذي يتسم به الشعب إنما هو نتيجة انعدام الوعي الذي يقود إلى الانصياع وراء الحاكم المستبد، دون أن يتخطى موقفه مرحلة التذمر والسخط والشكوى، وفي الحالة النادرة التي تخطى ممثلو الشعب فيها هذا الموقف السلبي، وجنحوا إلى تكوين التنظيم الثائر في مصرع كيلوباترا، فإنهم ركنوا إلى الثرثرة دون الفعل، والكلام المتذمر دون التضحية الحقيقية المطلوبة، ولم ينطلق شوقي في نظرته هذه إلى الشعب من موقف التعالي والاحتقار، كما زعم البعض، ولكن من الأسى للدرك الذي وصلت إليه سلبية الشعب في مواجهة الحكام وتردي أوضاعه.