الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب
"
وننتقل الآن إلى المثال الثالث من مواقف المسرحية: وهو "فوست" وقبل أن نتحدث عن مسرحية "جوتا" التي تدور حول فاوست لا نعرف طبيعة الموقف الذي على عرضته، نَوَدُّ أن نُعَرّف أولًا بتلك الشخصية:
كتب مُحرر مادة "فوست" في الموسوعة العربية العالمية: أن "فاوست" الذي يُسمى أيضًا: "فوستس" كان منجمًا وساحرًا ألمانيًّا، ثم أصبح فيما بعد شخصية مهمة في الأساطير والأدب، ومع هذا فلا يعرف إلا القليل عن تاريخ فاسوت، ولكن من المحتمل أن يكون قد عاش بين عامي ألف وأربعمائة وثمانين، وألف وخمسمائة وأربعين، وقد عده الألمان حينئذ شخصًا مخادعًا يمارس الإجرام.
وكان الراهب "مارسل لوثر" مؤسس "البروتسطانتية" يعتقد أن "فاوست" كان تتلبسه قوى شيطانية.
وفي عام ألف وخمسمائة وسبعة وثمانين، ظهر سيرة أسطورة غير دقيقة تسمى تاريخ "جوهان فاوس" أو كتاب "فاوس" استعرض فيها المؤلف المشهور كثيرًا من الأساطير المثيرة عن السحرة، وفي هذا الكتاب يبيع فاوست روحه للشيطان "مفيس توفوليس" لقاء أربعة وعشرين عامًا يحقق فيها الشيطان كل رغباته.
وكان "فاوس" في القصة يطوف أرجاء أوربا في ذلك الوقت، يمارس السحر، وفي النهاية يذهب إلى جهنم، ويتمالكه الرعب بسبب اللعنة التي حلت به. وقد ترجم ذلك الكتاب إلى عدد كبير من اللغات.
على أن أول مُعالجة في كتاب "فاوس" كانت "تاريخ دكتور فاوس" المأساوي وهي مأساة شعرية ألفها الكاتب المسرحي الإنجليزي "كرستوفر مارلو" نحو عام ألف
وخمسمائة وثمانية وثمانين، وفي هذه المسرحية نجدُ فاوست عالمًا يتشوق إلى أن يعرف كل شيء في حياة البشر، ثُمّ يُحَاول في النهاية أن يتوب؛ لكنّه لا يستطيع.
وقد ظَهَر كثير من المسرحيات عن "فاوس" كما ظهر كثير من العروض في مسرح العرائس عنه أيضًا خلال القرنين السابع والثامن عشر باللغة الألمانية، وتأثرت هذه الأعمال بمسرحية "مارلو" إلا أنها كانت عارية من الجمال الفني، كما كانت هزيلة المبنى خالية من القيمة الأدبية.
وكانت الدراما الشعرية للكاتب الألماني "جوته" أفضل صياغة أدبية لقصة "فاوس" وقد نُشِرَ هذا العملُ في الجزأين عام ألف وثمانمائة وثمانية، وألف وثمانمائة واثنين وثلاثين، حيثُ بدل "جوته" القصة تمامًا، ففي الصيغة "جوته" يتم إنقاذ "فاوس" بِوَاسِطَة الإله، وهناك صيغات لاحقة بقصة "فاوس" تأثرت كلها بتفسير "جوته" باستثناء أن "فاوس" في كل الصيغات اللاحقة لصيغة "جوته" يذهب للجحيم.
وتعد "دورو سيسيبرز عد جورو سييرز" من انجلترا و"توماس مان" من ألمانيا و"بولفان ري" من فرنسا من بين الكتاب الذين عدلوا أسطورة "فاوس" في أعمالهم خلال القرن العشرين للميلادي.
وفي العدد "131" من مجلة المعرفة الأرشيفية الضوئية، وتحت عنوان "جوته" ومسرحية "فاوست". الشيطان الأدبي في الأدب الألماني، يذكر أسامة أمين أن " youhan volvgan vol gota " قد شرع في كتابة "فاوس" وهو في الرابعة والعشرين من عمره وانتهى منها في الثانية والثمانين، وأنه قد وضع في عمله هذا عصارة فكره، وهو الفيلسوف ورجل الدولة وعالم الفيزياء، وجعل العمل يدور حول الشيطان والإنس، وهل الشيطان قادر على أن يجذب السعادة
للإنسان المتعطش إلى معرفة الحرية وعلى أن يخلط الحق والباطل في قلب هذا الإنسان؟.
ثم يُضيف الكاتب قائلًا: إن "جوته" المولود في عام ألف وسبعمائة وتسعة وأربعين، والمتوفى عام ألف وثمانمائة واثنين وثلاثين، هو صاحب "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" الذي يَحتوي على الكثير من المفاهيم الإسلامية، والاقتباسات من القرآن الكريم، وإنه صاحب قصيدة المحمدية، وهو الذي قال:"إننا أهلَ أوربا بجميع مفاهيمنا لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، ولم يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي محمد، وهكذا وجب أن يظهر حق ويعلو كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد".
وهو ما جعل بعض الدارسين يقولون: إن "جوته" مات مسلمًا، بيد أن ذلك غير مثبت في أي سيرة لحياته، ومِمّا قاله أسامة أمين: إن لـ"جوته" فلسفة الخاصة في علاقته بالأديان، إذ كان يقتبس منها ما يتفق ونظرته للحياة، ولذلك فإنّ مَسرحية "فاوس" التي يعدها البعض أرفع الأعمال الأدبية مكانة في اللغة الألمانية ليست انعكاسًا لمفاهيم دينية سائدة في عصره، رغم أنها تعالج قضية دينية بحتة، متعلقة بالإله والشيطان والإنسان، ورغم أنه جعل الغلبة للإيمان بل كان إنسانًا فحسب.
كما أمر بالكتابة على شاهد قبره: "لقد كنت بحق إنسانًا" وهو الذي قال في "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي": لأنني كنت إنسانًا فهذا يعني أنني كنت من المجاهدين.
وتبدأ مسرحية "فاوس" بحوار في السماء؛ حيث يُمَجّد الملائكة الله لقدرته على القيام بما لا يقدر عليه سواه، وأنه زرع الخير في الإنسان، إلا أن الشيطان
"مافيستو" الذي كان موجودًا بين الملائكة يُخالفهم في الرأي، ويشير إلى الشكوى المستمرة من البشر، فيتدخل الرب متحدثًا عن الدكتور "فاوس" الذي يُسميه عبدي، فيقول الشيطان: إنه قادر على أن يصرف "فاوس" عن عبادة الله فيقول الله لإبليس: إنه سيتيح له الفرصة لمحاولة إغراء "فاوس" ويعترف الشيطان عندئذ والألم يعتصره بأنّ الإنسان الصالح يَبْقَى مُدركًا للحلال والحرام، حتى عندما يرتكب أكبر الكبائر.
ويترك الرب للشيطان أن يحاول غواية "فاوست" ويقول "جوته": إن الله لا يكره إبليس ولا بقية الشياطين، فهو يعلم أن الإنسان يحتاج إلى بعض المحفزات والاختبارات، حتى يثبت صدق إيمانه.
ويرى النقاد أن "جوته" قد تأثر في هذه المُقَدّمة بما ورد في عهد القديم، وعلى وجه التحديد كتاب أيوب الإصحاح الثاني إذ نقرأ فيه النص التالي: "فقال الرّب للشيطان هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر.
إلا أن لأسامه أمين رأيًا آخر إذ يؤكد أن معرفة "جوته" المؤكدة بالقرآن تجعل تأثره بالآيات القرآنية التالية من سورة الإسراء غير مستبعد {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَاّ قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَاّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (الإسراء: 61 - 65).
والواقعُ أنّ في المَسرحية أشياءَ يغْلبُ على الظن أن تكون مستقاة من القرآن، على أن يتبين أن اتصال "جوته" بالقرآن والإسلام قد تم من ذلك الوقت على الأقل، بيد أن هذا لا يعني أن المسرحية لم تتأثر بالكتاب المقدس والنصرانية، إذ إن تأثيراتهما فيها واضحة قوية.
ثم يرى المشاهد "فاوس" وهو في غرفة الدراسة في الليل البهيج يتساءل عن جدوى الحياة، ما دامت العلوم التقليدية من فلسفة وحقوق وطب ولاهوت لم تعد قادرة على أن تقدم له شيئًا، ولم يعد يجد في غير السحر ما يجعله قادرًا على الولوج إلى أسرار الكون، ثم يستدعي بالسحر عفريتًا قسمًا؛ ولكنه لا يشفي غليله، فيفكر في التخلص من كل ذلك الهم ووضع السم في الفنجان لينتحر؛ إلا أنه يسمع أجراس الكنائس تدق، وترتيل الأغاني التي تتحدث عن قيام السيد المسيح، فيرجع عن محاولة الانتحار، ويخرج إلى الطبيب حيث يحييه كل من يلقاه باحترام وإجلال لأنه في شابه استطاع أن يتوصل إلى علاج لوباء الطاعون، الذي كاد أن يقضي على المدينة بأكملها.
ثم يرى "فاوس" الشمس وهي تغرب؛ فيعود من جديد للشوق إلى ما وراء الطبيعة، ويقول لنفسه: إن هناك روحين في صدره، كل منها تريد الانفصال عن الأخرى، وفي طريق العودة إلى غرفته يتبعه كلب أسود مثير للريبة، وفي الغُرفة يسعى "فاوست" لترجمة بداية إنجيل يوحنا إلى اللغة الألمانية التي يذوب عشقًا فيها، ولكنه يتوقف عند الكلمة اليونانية "لوجست" التي تعني الكلمة، ولكنه لا يجدها مناسبة فيستبدلها بكلمة الفعل. وبذلك يترجم بداية الإنجيل:"الباعث في البدء كان الفعل" بدلًا من الترجمة المعتادة: "في البدء كان الكلمة".
ثم يلاحظ أن الكلب الذي دخل وراءه الغرفة بدأ يعبث بمحتوياتها، ثُمّ يعترف هذا الكلب "لفاوس" بحقيقة رؤيته وأنه شيطان، فيشكو له فاوست من الهم الذي يتملكه من جراء وجوه في هذا الكون، ويتوصل الشيطان إلى اتفاق مع "فاوست" وقعه الأخير بنقطة من دمه، وينص على أن يكون الشيطان في خدمته، يحقق له كل رغباته ويمنحه قوة خارقة، على أن تُصبح روح فاوست لحظة وفاته ملكًا للشيطان، وعلى أن يخدمه "فاوست" في الآخرة كما خدمه الشيطان في الدنيا، بشرط أن يصل "فاوست" إلى اللحظة التي يشعر فيها بروعة لا حد لها، ويتمنى أن تتوقف عقارب الساعة حتى لا تنتهي المتعة بهذه اللحظة، وفي المقابل تصبح روحه ملكًا للشيطان.
فتبدأ رحلة الاثنين في حانة في مدينة "لاي بذك" ليستمتع "فاوست" باحتساء الخمر، ثُم يتوجهان إلى مطبخ الساحرات، حيث يشاهد "فاوست" في مرآة صورة لامرأة يقع عشقها في قلبه فورًا، وحتى يثير هو أيضًا إعجابها، تعطيه الساحرة شرابًا سحريًّا يجعل منه -وهو الكهل الطاعن في السن- فتىً في ريعان الشباب، لا تستطيع أي حسناء أن تقاومه.
ولكن الفتاة التي رآها في المرأة تختفي عن ناظريه، فيجلس على قارعة الطريق وعندها يشاهد فتاة أخرى اسمها "جريتشن" عائدة من الكنيسة بعد أن أدت فريضة الاعتراف بما اقترفته من ذنوب للكاهن؛ لأنّه لا يمكن مغرفة الذنوب دون الاعتراف، فأراد أن تكون من نصيبه، فعرض عليها باندفاع كبير أن تبادله مشاعره، ولكنها تأبى فيطلب "فاوست" من الشيطان أن يجمعه بها، ولكن الشيطان يتحجج بطهرها وعفافها؛ فيهدده "فاوست" بفسخ العقد بينهما، فيعمل الشيطان على إيقاعهم في حبائله، حتى يرضي "فاوست" فيقدم لها صندوقًا من التحف والحلي أخذ بلبها لما رأته.
ولكن أمّها اشتمت فيه رائحة الحرام، فسعى للقسيس لأخذ رأيه، فصادره لحساب الكنيسة، قائلًا:"إن الكنيسة هي التي تستطيع أن تهضم المال الحرام". ولما عجز الشيطان عن التأثير على "جريتنش" مباشرة لجأ إلى جارتها القوادة الشريرة، التي تقوم بمهمة الجمع بين "فاوست" و"جريتشن".
وتعترف الفتاة العذراء البرئية لأول مرة بالحب لـ"فاوست"، ولكنها ترى الشيطان وتعرف أنه يحيك الدسائس بينها وبين حبيبها "فاوست" الذي لا تعرفه مدى التزامه بالدين، حتى بعد أن قال لها في حماس: إنه عميق الإيمان بدينه. ويغويها الشيطان لتعطي لأمها شرابًا منومًا، فتغط في ثبات عميق ثم يدخل "فاوست" إلى مخدعها، وتقع في المحظور.
وهنا يريد أخوها "فلنتاين" أن يثأر لها، فيأمر "فاوست" بأن ينازله بسيفه؛ فيتدخل الشيطان ويشل يد أخيها، فيقتله "فاوست" وتتحول حياة "جريتشن" إلى جحيم، إذ تموت أمها من جرعة المنوم التي أعطاها الشيطان إياها، ويموتُ أخوها على يد "فاوست" وتحمل "جريتشن" سفاحًا، ومن ثم ما كادت تلد حتى أغرقت المولود خشية الفضيحة. وتُسلم نفسها للمحكمة، وينتهي بها المآل إلى السجن؛ حيث تفقد عقلها هناك.
ولم تفلح محاولات الشيطان لإلهاء "فاوست" عما حصل لـ"جريتشين" فيرى فاوست كيفَ تَجمّعت آلام البشرية كلها في شخص هذه الفتاة التي كانت بديعة قبل أن يعرفها، ويضيقُ ما يحدثُ الإنسان الذي ينقاد إلى الشيطان، ويَعجزُ "فاوست" عن إخراجها من السجن، ولكنّها عندما رأت الشيطان أدركت أنه وراء كل هذه التعاسة، فمدت أيديها متضرعة لله حتى يغفر لها ذنوبها.
وفي مشهد مؤثر للغاية يقول الشيطان: إنها قد انتهت وضاعت إلى الأبد، فيأتي صوت من السماء يقول: بل إن ذنوبها قد غُفرت، وبهذا يكون الشيطان قد خسر هذه المعركة، برغم كل ما فعلته الفتاة؛ لأنها بقيت مع كل ما اقترفته من آثام مدركة للصواب والخطأ، ولم تتردد في طلب الرحمة من ربها، الذي بقي ملاذها وحيدًا فغفر لها.
وفي الجزء الثاني من المسرحية نرى "فاوس" مع خادمه الشيطان في بلاط القيصر، حيث ينجح في حل الضائقة المالية للبلاد، ويشاركهم "فاوست" في الاحتفال بالأعياد، ويستحضر "فاوست" روح الفتاة البديعة التي رأها في المرآة في الجزء الأول.
وتقبل أن ترافقه إلى قصره بعد أن أصبح أميرًا للبلاد، ويرزقان بمولود بديع اسمه "أري فوريون" أراد أن يساعد والديه بعد أن اشتد عوده؛ فدخل الحرب معهما وتخيل أنه يستطيع الطيران، فقفز من فوق الجبل فوقع على الأرض ومات، وبموته تختفي الأم أيضًا، بما يوضح أن هذه المرأة وهذه الزيجة كانتا كلاهما وهمًا؛ فأراد "فاوست" أن يقوم بعمل حقيقي ينجزه بكده وتعبه دون مساعدة من الشيطان؛ فيسعى لإيجاد أماكن للسكن الكثير من البشر، عن طريق تجفيف مياه البحر، وكسب أراض جديدة.
وفي النهاية يقول: إنّه لو استطاع أن يوفر لكل هؤلاء الناس السكن في الأرض الواقعة عند الهضبة وبين البحر، لأمكنه أن يقول ساعتئذ: أيتها اللحظة، ما أبدعك ليتك تبقين ولا تمضين، ويتحقق الكثير من أحلامه، ويموتُ في تلك اللحظة، ويبدو كما لو كان الشيطان هو الذي ربح الرهان، وأصبحت روح "فاوست" ملكًا له! ولكن تنزل ملائكة من السماء وتحيط بـ"فاوست" لتحمل
أغلى ما فيه وهي روحه، ويقول الناس عند ذاك: إن من قضى العمر مجاهدًا فإنه يحظى بالخلاص وينال العفو والرحمة.
هذا؛ وقد شقت مسرحية "فاوست" طريقها إلى الأدب العربي، فقد جرى ترجمتها في عام ألف وتسعمائة وتسعة وعشرين على يد محمد عوض محمد، وفي عام ألف وتسعمائة وتسعة وخمسين على يد عبد الحليم كرارة، وفي عام ألف وتسعمائة وخمسة وسبعين على يد مصطفى ماهر.
كما اقتبس منها آخرون مثلما فعل كل من توفيق الحكيم في "عهد الشيطان" وعلي أحمد با كثير في "لويس الجديد" ومحمد فريد أبو حديد في "عبد الشيطان" ومحمود تيمور في "أشطر من إبليس" وفتحي رضوان في "دموع إبليس" ومحمود طاهر لاشين في قصة "مفيس توفوليس".
كما كتب آخرون دراسات أو مقالات تتناول هذا العمل، مثل عباس محمود العقاد في كتاب (تذكار جيجي) وطه حسين في مقدمة ترجمة "فاوست" محمد عوض محمد وعبد الغفار مكاوي في "خواطر عن فاوست" في كتابه (البلد البعيد) عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين، إضافة إلى المقالات القيمة الواردة في مجلة " الفصول" القاهرية المجلد السادس العدد الرابع سنة ألف وثمانمائة وثلاث وثمانين.
ذلك؛ أن شخصية دكتور "فاوست" تعَدُّ كما يقول الدكتور حسن المختار في مقال له بعنوان: "فاوست عندما يختفي الوجه في غابة المرايا" منشور في موقع "بغديدا" هي واحدة من أبرز رموز الأدب الغربي الحديث والمعاصر، فقد تم رسم بورتريه لهذه الشخصية اصطبغ في كل بلد وفي كل حقبة بما يناسبه.
وطيلة القرون الخمسة الماضية اتخذ "فاوست" بطلًا لمئات القصص والحكايات الشعبية، كما قدم على خشبة المسرح بأشكال مختلفة منذ "مارلو"، وحتى "جوته" و"بورفارلي" ومع مرور الوقت ترسخت الصورة حتى غدا "فاوست" شخصية نمطية، ورمزًا لحضارة الغرب بكل أحلامها وإنجازاتها وشرورها.
وغدا أيضًا في تاريخ الأدب والفن لوحة يهوي كل فنان عليها بفرشاته؛ فيصبغها بألوانه ليصبح بهذه الطريقة ظاهرة تستحق التأريخ والعودة إلى جذورها، ذلك أن "فاوست" كرمز أدبي وكفكرة يشبه من أوجه كثيرة كرة الثلج، فكلما تدحرج إلى الأمام مع التاريخ ازداد حجمه، وتحول إلى أسطورة، وحينما يتعلق الأمر بالأدب والإبداع يكون الأساطير معنى مميز أنها هي ملح الأدب.
ولعل "جوته" كما يقول أسامة أمين قد تأثر في رسمه لصورة الشيطان بالخلفية الدينية والثقافية التي كانت سائدة في عصره، إلّا أنه -كما ورد في مقال عصام بهيج في العدد المذكور من مجلة "الفصول"- قد استطاع أن يطفي عليها طابعًا مميزًا من نفسه وقدراته الفنية، ذلك أن "من ممفست" عند جوته هو الإيمان والتفاؤل، وتجسيد الروح السوية؛ فقليل ما هم الذين أمكنهم أن يهربوا من نظرة التهكمية المريرة.
وهو واقعي يؤكد الحقيقة وحاضر البديهة، وذكي يستمتع أشد الاستماع بعمل الشر، مما جعل من الشيطان شخصية متكاملة حية ذاتية الملامح، لا تلتبس بأي شخصية أخرى، ولعل هذا هو ما جعل لهذه الشخصية جاذبيتها الآسرة، التي لم يستطع كابت بعد "جوت" أن يتخلص منها.
ولم يسع "جوته" من خلال تشخيصه للشيطان أن يجعله محببًا للنفس، وأن يسوغ أفعاله على الإطلاق؛ لكنه ألجأ إلى أسلوب مختلف عما تعودناه من كيد الشيطان، إذ فضل "جوته" أن يَستخدم أسلوب الإقناع ليوضح به لقارئه أنه متى استطاع الإنسان المُطيع للشيطان إشباع شهواته؛ فإن سعادته زائلة، ومهما حصل عليه من مال فإنه لم يصبح غنيًّا، بل يظل صدره خاويًا من السعادة، وأنه لو ساعده الشيطان في تكوين أسرة؛ فإنّها ستزول في لمح البصر، وأنّ الخلاصَ لا يكون إلا باللجوء إلى الله الذي لا يصد من يطرق بابه، ولا يحرم من رحمته إلا من أبى.
وسواء كان الشيطان شرقيًّا أو غربي الطباع؛ فإنه يتخلى عمن تبعه كما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (إبراهيم: 22).
ورد عن حسن مختار في مقاله سالف الذكر: أن "فاوست جوته" في قرارة نفسه ممزق بين عالمين متناقضين هما قوة الخير والقيم والإيمان من جهة، وقوى الشر ممثلة في الشيطان "مافيست" والرغبات والشهوات من جهة ثانية، وكما يمكن أن نتوقع يميل "جوته" ببصره إلى الشهوات الآنية، وإلى أن يُرَجّح الطرف الثاني في الرهان، دون الإعلان عن أنه الطرف الشرير؛ لأنّ أحكام القِيمَة غير محسوبة بالنسبة لصالح أي طرف كان. ولذا بدى العاجل الملموس طافيًا على السطح أكثر من أي شيء آخر.
كذلك فالنهاية السعيدة لمسرحية "جوته" هي واحدة من أكثر عناصرها أهمية؛ لأنها تقدم لأول مرة نهاية إيجابية لهذه الشخصية، عليه جرة العادة من الشر
والسحر ومثالًا لمن باع نفسه للشيطان، وتخلى عن الفضائل؛ لينال خسيس الرزائل؛ واستعاض عن جوهر الأعراض، وعن الحقيقة بزيف النفس وفسادها، وفنائها الشهواني الخسيس.
وهذه الرؤية المتفائلة الإيجابية تحمل أيضًا إعلام من "جوته" عن قيمة شخصية الإنسانية، وبخاصة إذا ما تذكرنا أنّ حياته هو نفسه تشبه من أوجه كثيرة حياة "فاوست" كما رآها ورواها، وهي على النقيض تمامًا من سابقيه خاصة "مارنو" الذي كانت نهاية "فوست" في مسرحتيه الوقوع بأيدي الشيطانين، وهو ما يمثله العالم السفلي الشرير.
ويُضِيفُ حسن مختار أن مسرحية "فاوست" إنّما تَطْرَحُ مسألة الصراع الأدبي بين الخير والشر، وتَقِفُ منتشية أمام مستويات الجمال في الذات الإنسانية، وفي العالم.
ونصل إلى مسرحية "أوديب" للمسرحي اليوناني "سوفوكليس" وتدور أحداثها في مدينة طيبة حيث كان ملك "لايس" حاكمًا عليها، وقد تزوج ولم ينجب؛ فذهب إلى المعبد "دلفي" ليعرف حلًا لمشكلته فجاءت إليه العرافة بنبوءة أنه سينجب ولدًا سوف يقتل أباه، ويتزوج من أمه؛ فانزعج من هذه النبوءة وهجر امرأته حتى لا ينجب، إلا أنه عاشرها مرة وهو مخمور لا يدري فحملت، فانزعج لخوفه من النبوءة، وتربص حتى وضعت الولد فعهد به إلى حارثه ليقتله.
فذهب به الحارث وهو مقيد بالأغلال من قدميه، وهذا يفسر سِرّ تسميته بـ"أوديب" التي معناها باليونانية القديمة المصفد بالأغلال، أو ذو الأرجل
المتورمة؛ وبدلًا من أن يتركه في الجبل ليموت تركه عند راع قابله هناك، وقد أشفق الراعي على الطفل وأخذه إلى ملك "كورانس" وزوجته اللذين لم يكونا ينجبان، وأعطاها إياه. وظن "لايوس" أنه قد تخلص من ابنه ومن النبوءة.
وتربى الطفل مع الملك والملكة، وهو يحسبهما أبويه حتى شب وأصبح يافعًا، وظلت في قدميه علامات من الأصفهاد التي سلسل فيها وليدًا، وذات يوم كان مع أصحابه فتشككوا أنه ليس ابن ملك "كورنس" فانزعج ورحل إلى "ذيرفي" لاستطلاع الأمر؛ فجاءت إليه النبوءة أنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه، فهبت وترك الملك والملكة اللذين لم يعرفا غيره أبًا وأمًا؛ حتى لا يقتل أباه ويتزوج أمه، ورحل إلى طيبة.
وفسي الطريق إليها قابلته عربة يركبها رجل مسنٌ يحيط به حراسه، ونشبت مشادة بينه وبين ذلك الرجل، فضربه الرجل بالسوط فقتله "أوديب" وقتل معه الحراس، وواصل طريقه إلى طيبة، وعند مشارفها كانت هناك هولة متوحشة تسأل سؤالًا غامضًا، وتقتل من يعجز عن الجواب، وتشيع في الأرض الخراب؛ وعندما وصل إلى هناك سألته نفس السؤال: من الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهر على اثنين، وفي الليل على ثلاثة؟.
وكان الجواب "أوديب" أنه هو الإنسان، في البداية هو طفل يحبو على أربع، ثم شَابٌ يسير على قدميه الاثنتين، ثم بعد ذلك هو عجوز هرم يمشي على قدمين اثنتين معتمدًا إلى عصًا هي رجله الثالثة وانهارت الهولة لمعرفته حل اللغز الرهيب وماتت، وفرح الشعب لتخلصه منها، وجاء الخبر بموت مليكهم في طريق العودة راكبًا عربه، فأخذوا "أوديب" ونصبوه ملكًا عليهم وزوجوه من أرملة الملك السابق.
وبعد ذلك تولى "أوديب" حكم طيبة أنجب منها أربعة أبناء ولدين وبنتين، وبعد مضي سنوات من اعتلائه العرش حدث طاعون أصاب الحرث والنسل وامتلأت الأرض بالجثث، وسادت الفوضى والدمار؛ فبعث "أوديب" بـ"كريون" أخي زوجته لاستطلاع نبوءة "ديليفي" بخصوص هذا الطاعون، وعادت "كريون" ليبلغ "أوديب" أن سبب الطاعون وجود قاتل الملك "لايوس" بالمدينة؛ فأخذ أوديب يتوعده ويتهدد ويسب لعناته على هذا القاتل حتى لو كان يسكن بيته، ووعد أهل المدينة باستقصاء خبر قاتل ملك ليضع حدًا لهذا الطاعون القاتل.
واقترح عليه علية القوم أن يأتوا بعراف أعمى اسمه "سيرسياس" ليكشف لهم قاتل الملك، ولما أتى أخذ "أوديب" يناقشه ويسأله، ولكن العراف يتهرب بلباقة وذكاء، ناصحًا إياه ألا يصب لعناته على القاتل؛ فاتهمه "أوديب" بالجهل وعيره بالعمى، فرد العراف أنه أعمى البصر وليس أعمى البصيرة، وتنبأ له أنه عندما يدرك من هما أبوه وأمه، فسوف يبصر الحقيقة الغائبة، وأخبره أنه قاتل الملك.
ولكن؛ لأن "أوديب" كان دائم الاختيال بذكائه والثقة بنفسه، فقد تصور أن ثمة مؤامرة بين العراف وبين "كليون" أخي زوجته فأمر بحبسهما، وجاء لـ"أوديب" رسول من "كورنس" يحمل له خبرًا مفرحًا وآخر محزنًا، فأما المحزن فموت أبيه، وأما المُفرح فهو أنه سيتولى العرش من بعده، وكان "أوديب" لا يزال يتذكر الأسطورة؛ فخشي أن يقع الجزء الآخر منها بعدما اطمأن، واهمًا أنه لم يقتل أباه فطمأنته زوجته أن النبوءات تكذب وتخدع، فقد جاءت لها وزوجها نفس النبوءة وتركا ابنهما في الجبال ليموت، وذلك بسبب نبوءة كاذبة.
فاستفسر الرسول لماذا يخشى "أوديب" من العودة بـ"كورنسا"؟ فلما أخبره طمأنه بأن الملك والملكة ليسا أباه وأمه؛ لأنّه بنفسه قد أخذه من راع مدينة طيبة،
وأعطاه لهما وليدًا؛ فاستقصى "أوديب" خبر الراعي رغم تحذيرات زوجته، التي هي أمه ونصائحها، وقد حاول الراعي ألا يخبره، إلا أنه اضطر تحت الضغط أن يخبره بأنه بالفعل أعطى طفلًا وليدًا ذا قدم متورمة لرجل من "كوريسا" ولم ينفذ كلام "لايس" فلم يقتله. واستفسر عن الطريق الذي مات فيه "لايس" فكان هو الطريق الذي تعارك فيه مع راكب العربة وحراسه.
وهنا ظهرت له الحقيقة؛ لقد قتل "أوديب" أباه وتزوج من أمه، بل وأنجب منها؛ فانهار تمامًا، وذهب لاستطلاع أمر زوجته أو أمه فوجدها انتحرت؛ حيث وجد الحبل ما زال يدور بالجثة الهامدة؛ فذهب مسرعًا ليفك الحبل من أعلى لتسقط الجثة؛ فأخذ دبابيس فستانها ومشابكها، وأخذ يفقأ بها عينيه ويصيح: أنه لن يرى شقاءه وجرائمه، ويقول لعينيه: ستظلان في الظلمة فلا تريان من كان يجب ألا ترياه، ولا تعرفان ما لا أريد أن أعرف بعد اليوم، حتى لا ترى الشمس المقدسة إنسانًا دنسًا فعل أكثر الجرائم بشاعة.
وفي موقف مُؤثّر سالت الدماء على لحيته البيضاء، وبللت وجهه، وهو يلعن سوء حظه قد جعله القاتل، ونفى نفسه من الأرض حتى ينتهي الوباء، وعاش طريدًا من الأرض والسماء، وبعد هذا المشهد الفاجع يطلب "أوديب" من صديقه "ريكدور" أن يعتني ببنتيه، كما طلب منه أن توضع الملكة في قبر مناسب.
وقد يكون لقصة "أوديب" أساس تاريخي حقيقي، ولكن يستحيل تخليصه من العناصر الأسطورية التي شابتها وتوارثتها الأجيال في التراث اليوناني القديم، وفي التراث الشعبي لبلدان كثيرة، وقد ورد ذكر مأساة "أوديب" في "الأوديسا" لـ"هميروس" تلميحًا مُختصرًا جدًّا، وفيها: أنه قتل والده وتزوج والدته من دون أن يعلم، وأن أمه "يوكسا" انتحرت شنقًا حين تكشفت لها الحقيقة، أما "أوديب" فقد ظل يحكم طيبة حتى مات.
وأما الروايات الأخرى التي تناولت هذه القصة وهي كثيرة؛ فقد ضاعت جميعها خلا ثلاث مسرحيات لـ"سوفوكليس" هي: "أوديب ملكًا" و"أوديب في كلونوس" و"أنتيجونا" وكَذلك الفصل الأخير من مسرحية لـ"أسخيلوس" بعنوان: "السبعة ضد طيبة" الذي تناول جزءًا من أحداث القصة.
وقد لاقت أسطورة "أوديب" على النحو الذي فصله "سوفوكليس" في مسرحياته الثلاث شهرة كبيرة، وتناقلتها الأجيال وزادت فيها، ربما كان سبب زيوعها التركيز على اللعنة التي كان لها شأن كبير في أساطير اليونان القدماء، وفي حياتهم اليومية. وهي شبيهة بفكرة الخطيئة القريبة بمفهوم الإنسان المعاصر؛ لأن قوتها تجعل الأجيال اللاحقة تدفع الثمن لجرائم العادات.
كما تجمع الصورة بين المصير المحتوم والأخلاقيات التي تدعو إلى الاعتدال والتبصر في الأمور وعواقبها، وتجنب المبالغة والإسراف في الاعتداد بالنفس والغضب.
وقد طرق كتاب كثيرون موضوع مأساة "أوديب" من نواح عدة؛ فعالجها "أوربديس" في إحدى مسرحياته، وكذلك "سنيكا، وكورنيا، ودرايدن، وفولتير، وهوفنستان، وأندريه جين، وجانكوكتو". ولعل أهم صياغة حديثة للقصة هي مسرحية "أندريه جين" التي يُركز فيها على الصراع بين "أوديب" الجاحد للآلهة والمعتد بنفسه حتى الغرور، والكهنة الذين ينبذون بث سلطان الدين على كل شيء، وعلى كل إنسان حتى الملك نفسه.
وقد كان لأدباء العرب أيضًا نصيبهم في طرق هذا الموضوع، ولعلّ أول من عُني بِقِصّة "أوديب" مِنهم ترجمة ودراسة هو "طه حُسين" الذي ترجم مسرحية "أندريه جيب أوديب وفستيوس" عام ألف وتسعمائة وستة وأربعين، وقدم لهما
بمقدمة ضافية. ثم أتبعهما ترجمة لمسرحتي "سوفوكليس" نشرها مع "أوديب جيب" في سلسلة مطبوعات كتابه.
وفي عام ألف وتسعمائة وتسعة وأربعين ظهرت مسرحيتان عن "أوديب" كتب إحداهما توفيق الحكيم، وثانيهما علي أحمد با كثير، وبعد ذلك نشر علي سالم "أنت اللي قتلت الوحش"، ونشر وليد إخلاص مسرحية "أوديب مأساة عصرية" وعاد علي حافظ ترجمة مسرحيته "سوفوكليس" وكتب للترجمة مقدمة جديدة.
وكان لويس عوض قد لخص مسرحية "أوديب ملكًا" في كتابه المسرح العالمي سنة ألف وتسعمائة وأربع وستين، أمّا الدراسات العربية فتشمل كتاب عز الدين إسماعيل (التفسير النفسي للأدب) وكتاب مصطفى عبد الله (أسطورة أوديب في المسرح المعاصر) وربما كانت دراسة عز الدين إسماعيل أول دراسة تطبيقية أفادت من المنهج الفرويدي.
وقد اهتم العرب أيضًا بالأصول النّفسية والتاريخية لقِصّة "أوديب" فترجم مصطفى صفوان (تفسير الأحلام) لـ"فرويد" وترجم جميل سعيد "عقدة أوديب في الأسطورة وعلم النفس" لـ"باتريك ميلاي" وترجم فاروق فريد "أوديب وأخناتون لمانويل فلكوفسكي" وهو كتاب يبين بالأدلة الأثرية التاريخية أن أصول هذه الأسطورة التاريخية تعود إلى التاريخ الفرعوني.
وقد أخذَ المُفَكِّرون يبحثون في الناحية الأخلاقية، ويسألون عن مدى مسئولية "أوديب" عما صنع، وفي موضوع حريته في مقابل الجبرية، فالقصة تتنبؤ بمصير "أوديب" حتى قبل أن يولد، وهذا التنبأ يمكن أن يقرأ بوصفه سلبًا لحرية الإنسان، أو بأنه المقدر
والمكتوب، وهذه القراءة تؤيد "أوديب" في أن "أبولون" هو المسئول الحقيقي عن كل ما جرى، وهي قراءة تروق للجبريين.
ولكن المؤمنين بحرية الإنسان -أي: الذين يحاولون أن يجعلوا من الإنسان كائنًا مسئولًا عن أفعاله، لا مجرد ضحية الآلهة- يقولون: إن "أوديب" فعل كل شيء بمحض إرادته، وإنّ علم الآلهة المسبق بمصيره هو من صفات الآلهة التي يسعى معها كل شيء، وليس العلم بالغيب تسييرًا للأحداث، ويمثلون عن ذلك بالطبيب الذي يؤهله عمله لأن يتنبأ بأن مريضًا من مرضاه سوف يموت بعد مدة معينة؛ فالطبيب لا يميت المريض مع علمه المسبق بالنتيجة.
وواضح ما ينطوي عليه الموقف في هذه المسرحية من الأفكار والقضايا الفلسفية، فهي تبحث في الأخطار التي تواجه المرء في رحلته الطويلة على طريق البحث عن الذات، وتبحث في مشاعر الذنب والبراءة، وتكشف عن طبيعة القَدَر، ويقول النقاد: إنه ليس بمسرحية أخرى درست بشكل أفضل العلاقة ما بين الشخصية الفرد وقدره؛ فحرص "أوديب" على البحث عن الذات، وثقته التي لا تعرف الحدود بنفسه وسرعة غضبه، وكلها خصائص تتميز به شخصيته هي السبب وراء المواجهة مع قدره، وهي الحافز في تحقق النبوءات.
وبعضهم يرى أنّ قصة "أوديب" أصلها عربي شامي، وأنها هي نفسها حكاية شيخ العرب الموجودة في الكتاب الثاني من الحكايات الشعبية الشامية، انظر في هذا الدرس مادة "أوديب" في كل من "اليوكيبيديا" والموسوعة العربية السورية، ومقال الملك "أوديب" و"رحلة البحث عن الذات" الدكتور زياد الحكيم في موقع موسوعة "دهشة" ومقال "أوديب الملك أشهر مسرحيات أصلها حكاية عربية" لنزار أسود وهو منشور بجريدة شرفات.
والسلام عليكم ورحمة الله.