المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السادس عشر

(المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب")

‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

"

المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس"، و"أديب".

فـ"أما عُطيل" واسمه في الإنجليزية "أوثلو"؛ فهي مسرحية تراجيدية للكاتب الإنجليزي "ويليام شكسبير" تتكون من خمسة فصول، وتدور أحداثها في "البندقية" و"قبرص" وشخصيات المسرحية هم: عطيل قائد مغربي تابع للبندقية. "ديدمونة"، زوجة "عُطيل"، "ياجو" حامل الراية لعُطيل "كاسيو" مساعد عطيل "إيميليا" زوجة "ياجو".

وقد نقلها أولًا الشاعر اللباني مطران خليل مطران إلى العربية عبر الفرنسية، ثم ترجمها مرة أخرى جبرا إبراهيم جبرا عن الإنجليزية مباشرة.

وتجري معظم أحداث المأساة في مدينة البندقية، ولكن قسمًا آخر من هذه الأحداث يجري في قبرص، وموضوعها الأساسي هي الغيرة القاتلة، غَيْرَةُ زَوجٍ مَخْدُوع على زوجته البريئة الشريفة، وغيرة صديق من صديقه وكان "ياجو" حامل راية "عطيل" مغربيًّا هو أيضًا، وكان قائدًا عسكريًّا في خدمة البندقية.

وكان يُصاحب السيد عطيل المغربي، لا لشيء إلا لكي ينتقم منه وهو من ذوي الوجهين وجه مطيع وآخر يخفي حب الثأر والانتقام، وكان يخاف أن يحصل عطيل على ديدمونة ابنة أحد أعيان البندقية، وقد اعتمد "ياجو" في الوصول إلى غايته الشريرة على الدسيسة، وعلى معرفته العميقة بشخصية ضحيته.

ص: 423

وهو يجسد الشر وإن لم تَظهر عليه علامات الإنسان الشرير، وفضلًا عن ذلك؛ فإن الخوف والارتباك لا يَعْرِفَان لقلبه طريقًا، كما كان ذو إرادة صلبة قوية، وأنانيًّا إلى أبعد الحدود، ولا يُؤمن بوجود الحب والضمير والشرف، بل إنّ من يؤمن بهذه المفاهيم هو في رأيه ساذج أبله كذلك يتميز بأنه يتلذذ بتعذيب ضحيته، في الوقت الذي نراه شديد الحساسية لأي شيء يمس كبرياءه؛ لأنه يعي تفوقه على الآخرين.

إنه يكره "عطيلًا" لأنه جعل "كاسيو" ملازمه ويكره أيضًا "كاسيو" لأن عطيلًا فضله عليه، ويَرغَبُ في الحصول على منصب يليق بإمكاناته الكبيرة، فيتعاون مع "مدريجو" وهو وجيه من وجهاء البندقية، إلا أن "برباندتبو" يرفض أن يكون زوجًا لابنته "ديدمونة" فيبلغ "ياجو" و"رديريجو" والد "ديدمونة" أن "عطيلًا" يلتقي بها.

ورغم ذلك يتزوج عطيل وهو سعيد ببيت من بيوت المالكة من "ديدمونة" التي كان يحبها وتحبه، وعندها يبدأ "ياجو" محاولته تخريب بيت "عطيل" إذ يحاول إقناعه بخيانة زوجته "ديدمونة" التي كانت تُرافق زوجها في قبرص حيث جرت معارك انتصر فيها "عطيل" على أعدائه، وأغرق سفنهم، فيذكره "ياجو" بما فعلته "ديدمونة" حين هربت معه وتزوجته رغم أنف أبيها، مؤكدًا له أن لديها الاستعداد لخداعه هو أيضًا. وهذا نص كلامي "تزوجتك دون أن تحصل على موافقته، وقد تهشك".

ثم لا يكتفي بهذا، بل يبحث عن وسيلة يحاول عن طريقها تخريب بيت عطيل بيد عطيل نفسه، ولأنه لا يستطيع تنفيذ المؤامرة بمفرده، يطلب من زوجته "إيميليا" مساعدته دون أن يشرح لها أنه يَحِيكُ خيوطَ مُؤامرة، إذ يُكَلّفه بسرقة

ص: 424

منديل ديدمونة دون أن يشرح لها الأسباب، فتقول إيميليا: هذا المِنْديل هو أول تذكار أهداه المغربي إليها، وزوج الغريب الأطوار قد لاطفني، وسألني أن أسرقه له.

غير أنها تحب هذه الهدية حبًّا جمًّا؛ لأنّ عُطيلًا أوصاها ملحًا بالاحتفاظ بها أبدًا، ولهذا هي تحملها بلا انقطاع، وتُقَبلها وتخاطبها، ومع هذا تسرق المنديل، وتُعطيه لزوجها "ياجو" الذي يَرميه في غرفة "كاسيو" ثم يقول عطيل: لقد كنت منذ عدة ليال نائمًا مع "كاسيو" حين سمعته يقول وهو مستغرق في أحلامه: "حبيبتي "ديدمونة" لنكن حذرين ولنخفي حبنا، وحينئذ يا سيدي أمسك بيدي يشدها، ويصيح يا لك من حسناء شهية، ثم طفق يلثمني بقوة، ثم ألقى بساقه على فخذي، وتنهد وعانقني وصاح لعن الله الحظ الذي وهبك للمغربي.

ويقول عطيل: إنه رأى منديلها بيد "كاسيو" ويقول "ياجو" أيضًا لعطيل: إن "كاسيو" قد اعترف له بفعلته، وعده أنْ يُسمِعه وهو مختبئ حديثًا بينها وبين "كاسيو" ووافق عطيل وسمع الحديث، وكان في الواقع حول خليلة "كاسيو" لا حول "ديدمونة" إلا أن عطيلًا ظن أن الحديث يدور حول زوجته، فاعتقد أنها تخونه فعلًا، وكان "ياجو" يأخذ من "رودريجو" مجوهرات بحجة أنه يعطيها لـ"ديدمونة" ولكنه لم يكن يوصلها إليها.

ومن ثم أراد التخلص من "رودريجو" لكي لا يطالبه بالمجوهرات، كما كان أيضًا يريد التخلص من "كاسيو" الذي كان عطيلًا قد عينه قائلًا حربيًّا تحت إمرته بدلًا منه، فقال "رودريجو": إن وفدًا جاء من البندقية يريد تعيين "كاسيو" مكان "عطيل" فالأفضل التخلص من "كاسيو" الذي سيكون في منتصف الليل عند خليلته، ويتضاربان في الظلام، ويكسر "ياجو" ساق "كاسيو". ثم بعد ذلك يعود في الظلام، ويضرب "رودريجو" ويقتله.

ص: 425

ويخنق عُطيل ديدمونة بتهمة الخيانة مع "كاسيو" ولكن "إيميليا" زوجة "ياجو" تكشف الحقيقة لعطيل موضحة له أنها هي التي أخذت المنديل وأعطته لزوجها دون أن تعلم أنه يبيت أمرًا خبيثًا؛ فيطعن عطيل نفسه حزنًا على "ديدمونة" بعد أن طعن ياجو وجرحه ولم يكن الجرح قاتلًا.

ويصف عطيل نفسه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بأنه رجل لم يعقل في حبه، بل أسرف فيه، رجل رمى بيده كهندي غبي جاهل لؤلؤة أثمن من قومه جميعًا، رجل إذا انفعل ذرفت عينه دموعًا غذيرة، كما تدر أشجار العرب صمغها الشافي. ولعل هذه الأوصاف التي وصف بها نفسه أصدق من كل تحليل لشخصيته.

أما "كاسيو" الذي تَسَلّم زِمَام الأمور بعد "عطيل" فكان شابًّا طيبًا يحب عطيلًا ويخلص له، وأما إيميليا زوجة "ياجو" فهي تشبه "كاسيو" في طيبته كما كانت تحب "ديدمونة" وإن كانت دون أن تدري قد شاركت في المؤامرة التي حاكها زوجها الشرير، وكانت ديدمونة شريفة مخلصة لزوجها صادقة لا تعرف الخداع.

وبالتالي فالصراع في هذه المأساة هو بين "ياجو" الشرير الخالص الشر، وبين عطيل وزجته "ديدمونة" اللذين لا يعرفان الشر فوقعا ضحية طيبتهما، وقد انتحر عطيل بعد أن خنق زوجته، وجرح "ياجو" جرحًا غير قاتل.

وفي تفسير الموقف الذي تصوره المَسرحِيّة هُناك من يتساءل قائلًا: هل فعلًا مسرحية بنهاتيا هذه أن الشر باق، وأن الخير سريع الزوال؟ لكن بعضهم كتبوا عن هذا العمل يرون أن هناك أملًا في أن يحاكم "ياجو" على فعلته القذرة، إلا أن السؤال هو: كيف؟ ومتى؟ ترى هل تركت لنا المسرحية شيئًا نعتمد عليه في ذلك الأمل؟!.

ص: 426

وهناك تفسير آخر في الموقف الذي تصوره المسرحية إذ يرى خليل مطران: أن "شكسبير" قد كتبها لإظهار الغيرة وتأثيرها في الرجل بأقوى وأصدق ما دل عليه الاختبار من أمرها، ولذلك اختار عاشقًا إفريقيًّا بدوي الفطرة؛ ليكون وثاب الشعور عنيفًا، وجعله عسكري المهنة؛ ليكون سريع التصديق والانخداع، واختاره كهلًا ليكون أشد في العشق كما هي شيمة أمثاله ممن يسطو عليه الحب على انقضاء الشباب، وليكون أيضًا في حالة يتهم نفسه بفقدان أكثر الخصال التي يقتضيها الغرام، ولا سيما وهو أسود البشرة من رجال الحرب. على حين أن "ديدمونة" امرأة بيضاء منعمة من قوم فسدت الأخلاق مترفين.

ثم يمضي مطران قائلًا: إنّ الشاعر الإنجليزي قد أراد أن يثبت أن العِفّة لا تنتفي من مدينة ما مهما فسقت، بل قد تزداد تمكنًا من نفس المرأة المتحصنة بمقدار ما تندر العفة بين جيرتها، وفي عشيرتها. كما أراد أن يُبَيّن إلى أي مدى يمكن أن يَصِل احتيال نفس رجل ذكي طماع، أصم الضمير، مستبيح كل محرم مستهين كل منكر في سبيل غايته مثل "ياجو".

وفي النسخة الإنجليزية الموسوعة "الويكيبديا" يُرْجِعُ كاتب مادة "شكسيبير" ما صنعه "ياجو" إلى كراهيته للنساء، وعدم اطمئنانه إليهن، فضلًا عن أن "ياجو" كان فيما يبدو غير مطمئن إلى قوته الذكورية، كذلك يرى الكاتب أن هذه المسرحية الشكسبيرية مثال لمسرحية التراجيدية الكلاسيكية، التي يرجع مع ما تحتوي عليه من مأساة إلى عيب قاتل موجود في البطل، وهو في حالتنا هذه الغرام الشديد المخلص غير الحكيم من جانب عطيل لديدمونة.

كما نقرأ في مقال لعطيل في النسخة الفرنسية "لإنكارتا" طبعة سنة ألفين وتسع أنّ ذلك القائد الإفريقي لم يكن ضحية لتآمر "ياجو" فحسب، بل كان ضحية

ص: 427

أيضًا لطبعه الإفريقي الحامي، إذ ترك العاطفة تتحكم في سلوكه؛ يَقْصِدُ عاطفة الغيرة العنيفة العمياء فيما هو واضح.

وهكذا تتعدد التفسيرات التي يريد أصحابها كشف اللثام عن الموقف المسرحي في ذلك العمل، ومعروف أن "فيردي" الموسيقي الإيطالي الشهير قد استوحى في المسرحية في إبداع أوبرالي يحمل نفس الاسم، وأن "أورسل ولز" قد صنع منها فيلمًا أبيض وأسود.

المثال الثاني للمواقف التي سندرسها هـ و: مسرحية "هنريك أبسن" النرويجي المسماة "عدو الشعب". وعدو الشعب هو في الأساس لقب تستخدمه بعض الأنظمة الاستبدادية لوصف المعارضين السياسيين، أو المشتبه بهم، وقد يُطلق أحيانًا على بعض الحلفاء السابقين لتلك الأنظمة، التي تُريد القول بأنّ أولئك الأشخاص هم أعداء يتآمرون ضد المجتمع والشعب، وهذا اللقب يعود على الأقل إلى عصر الإمبراطورية الرومانية.

أما في العصر الحديث فأشهر من استعمله هم الشيوعيون بدءًا من عند "استالين" الذي كان هو والزُّمرة الحَاكِمَة من حوله يزعمون أنهم هم وحدهم الممثلون الحقيقيون للشعب، إذ كانوا يضيقون بأي لون من الجدل الفكري أو العقدي، وتصل الأمور على أيديهم إلى حد التصفية الجسدية ضد المعارضين، مستندين إلى هذه الحجة الإجرامية.

وقد كتب "هنريك إبسن" بلغته القومية مسرحية مشهورة بعنوان "عدو الشعب" عام ألف وثمانمائة واثنين وثمانين، وتمت ترجمة المسرحية للعربية عبر الإنجليزية على يد كمال المصري، عام ألف وثمانمائة، كما استلهمت شعب في سوريا اسمه

ص: 428

"عدو الشعب ليس إلا" وأُخرجت فيلمًا في الولايات المتحدة عام ألف وثمانمائة وثمانية وسبعين، وكذلك الهند بعد ذلك بأحد عشر عامًا.

وفي المسرحية النرويجية يكشف بطلها الدكتور "ستوكمان" المشرف الطبي على حمامات البلدية الصحية التي يفد الناس إليها من كل صوب وحدب، للاستشفاء وتكسب المدينة من ورائها الكثير، أنّ هذه الحمامات قد تلوثت، ولم تَعُد تَصْلُح للاستعمال؛ فيُحَذّره أخوه رئيس البلدية من إذاعة الخبر على الناس، مفضلًا أن تعالج المشكلة في السر، لكن الدكتور "استوكمان" يُصِرّ على نشر اكتشافه، وإشاعة الخبر في المجتمع قائلًا: إن هؤلاء الذين يريدون أن يعيش المجتمع في أكذوبة، يجب سحقهم كما تسحق الحشرات.

وعندئذ يؤلب رجال البلدية الناس عليه؛ فيرمونه بالحجارة ويصفونه بأنه عدو الشعب، فيردُّ قائلًا في غير مبالاة: إنّ أقوى رجل في العالم هو ذلك الذي يقف وحيدًا. وهكذا تحولت المواجهة بينه وبين الشعب، بدلًا من أجل تكون لأجل الشعب، وذَلك بسبب الطريقة التي انتهجها في معالجة المسألة، إذ ظنّ أن مواجهة الجموع بالحقيقة وتحدي من بيدهم زمام الأمور بدون مبالاة بالعواقب اعتمادًا على أنّ الحَقّ مَعَه، وأنّ حُجّته من الوضوح بمكان، وأنّ الحَقّ بِطَبيعته منتصرٌ لا محالة. وأن الناس تفكر بعقلها، وعلى استعداد للمناظرة في سبيل الدفاع عن حقوقها، وعمن ينصر تلك الحقوق أن تلك المواجهة رغم كل الظروف هي السبيل إلى إقناعهم وكسب قولبهم، وكسبهم إلى جانبه، واتخاذهم أعوانًا ضد قوى الشر والفساد، ناسيًا أن هناك من يستطيع الضحك على عقول هذه الجموع، وبث الأكاذيب وإقناعهم بها.

ص: 429

وأنّ الجماهير من السهل قلبها عليها في لحظات، وبث كراهيته في صدورها، وإيهامها أنهم حين ينقلبون عليه، إنّما يناضلون من أجل الحقيقة والمصلحة العامة.

وبشيءٍ من التفصيل نقول: تَروي المَسْرَحِيّة قصة طبيب يعيش في إحدى القرى التي يقصدها السياح للاستحمام في حماماتها العامة، وذات يوم يكتشف ذلك الطبيب أنّ الماء الذي يستحمون به ملوث، ويصيبُ من يستعمله بأمراض خطيرة؛ فيثِيرُ القضية في القرية رأفة بالناس، دون أن يدري أنه سيدخل في صراع مرير مع أصحاب المصالح من تجار وصحفيين ومنتفعين، أولئك المتحكمين بالأمور، الذين يجنون أرباحًا طائلة من التجارة بتلك المياه، فيشنون حملة مضادة ضد الدكتور "ستوكمان" مُتّهمين إياه أنه عدو الشعب.

وبفضل مكرهم ودهائهم وسطوهم يستطيعون تقليب السكان ضد الطبيب المسكين، ويَدْفَعُونه إلى الرحيل، بالرغم أنه صديق الشعب الحقيقي، على حين هم أصدقاؤه المزيفون، بل قل إنهم أعداءه الذين يجيبون في حقه، والسبب! السبب هو كما قلنا: أنّ الجموع ليس عندها وقت تنفقه في التثبت بما تسمع، بل تحركه عقلية القطيع، ومن السهل خداعه بالكلام المنمق والدعاية المزوقة، فضلًا عن أن مثل ذلك الطبيب هو شخص فرد في مواجهة عصابة كاملة، ونحن نعرف أن الكثرة تغلب الشجاعة.

ويمكن القول إنّ الدكتور "ستوكمان" في هذا المثال أشبه بشخص يحمل مكبر صوت واحدًا مُتهالكًا مُحاولًا بث الحقائق التي تحت يده، في حارة منعزلة ضيقة، لا يَقْطُنها إلا بضعة أفراد لا حول لهم ولا طول.

فيما الجهة المضادة للدكتور "ستوكمان" أشبه بقوافل تحمل ألوف المكبرات الصوتية الحديثة القوية ذات المدى البعيد، والمنتشرة في شتى بقاع المدينة، ولا شك أن حملة المكبرات الصوتية الكثيرة المتطورة سيكونون هم أصحاب التأثير

ص: 430

الواسع، لكنهم ليسوا بالضرورة صادقين، فحامل المكبر الوحيد المتهالك قد يكون أكثر صدقًا، والعبرة ليست أبدًا في كثرة الأصوات والضجيج الإعلامي المتقن، كما قال فيصل القاسم في مقال له على المشباك.

وكان "جوبلز" وزير الدعاية في ألمانيا النازية يردد الشعار التالي: "اكذبوا ثم اكذبوا، حتى تُصَدّقوا أنفسكم، أو حتى يعلق شيء في أذهان الجماهير". ومن قبل قال أحمد شوقي في مسرحيته "مصرع كليوباترا" عن الشعب وسهولة انقياده إلى الدعايات الكاذبة، وعدم قدرته من التثبت من أي شيء باستعمال العقل، وتَمحيص الأمور تمحيصًا علميًّا، بل عدم رغبته في ذلك:"يا له من ببغباء عقله في أذنيه".

وكان هتلر يرصد مبالغ طائلة للإنفاق على الإعلام، ويقول ما معناه: إنه لو كان لديه مائة دولار لصرف جملها على الدعاية، وأبقى القليل منها للأمور الأخرى.

فمن مسرحية "إبسن""عدو الشعب" ومن الموقف التي اتخذه بطلها وظن أنه هو الموقف السليم الذي يوصل إلى النتيجة المبتغاه اعتمادًا على ما في ذلك الموقف من نية طيبة وغاية نبيلة خيرة، وعلى أن الجماهير لديها من العقل والحصافة ما تستطيع به أنْ تُميز الطيب من الخبيث، والخَير من الشر، والحقيقة من الوهم.

من هذا كله يمكننا أن نتنبه إلى أن الحياة ليست بهذه البساطة، وأنّ الانتصار في معركة الخير والشر لا تستند فقط إلى ما لدينا من نية نبيلة خيرة، من قياس القوة التي في أيدينا إلى تلك التي في أيدي خصومنا ودراسة الموقف جيدًا لتحديد الزمان، والمكان، والظروف التي نقرر فيها خوض المعركة، وإلا كانت العاقبة وبيلة على أهل الخير الذين يعملون للصالح العام، وأنه لا يكفي أن يحب الواحد منها الجماهير، ويعمل لمصلحتها، ويتفانى في الدفاع عن حقوقها، حتى تحبه الجماهير فهذان شيئان منفصلان؛ بل قد تكون العاقبة وخيمة كما رأينا.

ص: 431