المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

وموثوقة عن تلك الحرب التي امتدت سبعة وعشرين عامًا، وحققت فيها "إسبرطا" النصر على أثينا عام أربعمائة وأربعة قبل الميلاد.

كما اشتهر أيضًا عدد من المؤرخين الرومان مثل: "لفيتيتوس لفيوس" الذي كتب كتابًا مطولًا تضمن قصصًا مفصلة بعنوان: (تاريخ روما) قدم فيه قصة روما منذ إنشائها حتى العام التاسع قبل الميلاد، واشتهر "كونيوليوس تاكيتوس" خصوصًا بكتابيه:(تواريخ) و (تحويلات). وتتناول تلك الأعمال التاريخ الروماني منذ وفاة الإمبراطور "أغسطس"، في العام الرابع عشر بعد الميلاد، وحتى نهاية حكم "فيتليوس" عام تسعة وستين ميلادية.

‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

وفي مادة منهج كتابة التاريخ الإسلامي من الموسوعة ذاتها، يقول كاتب المادة: "إنّ المنهج الإسلامي في تناول أحداث التاريخ الإسلامي منبثق من تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان؛ فيقوم في أساسه على أركان الإيمان في الإسلام، وينبني على فهم دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الأول، مما يَجْعَلُ حَركة التاريخ الإسلامي ذات طابع مميز عن حركة التاريخ العالمي، الذي لا أثر فيه للوحي الإلهي. وتُوزن أعمال المؤرخين والباحثين ومذاهبهم ومناهجهم على هذا الأساس من الالتزام بالعقيدة الإسلامية؛ فليسَ من حق المسلم مثلًا أن يتهم أحدًا بناءً على رواية ضعيفة، ثُمّ إذا ثبتت الرواية؛ فإنّ هُناك قيودًا شرعية يلزم مراعاتها في نقد الأشخاص، وملاحظة مقاماتهم التي حددها كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد؛ لأنّ الكلام في الأنبياء والصحابة ليس كالكلام في أحد غيرهم، كما أن الكلام في عموم الناس له حدود وضوابط.

ص: 341

أما غير المُسلم فإنه عندما يتناول قضايا التاريخ الإسلامي يتخبط في الظنون والأوهام؛ لإعْراضه عن الوحي الرّباني، واعتماده في المقام الأول على التفسير المادي للتاريخ. وفِيما يخص مَصادر طرق إثبات الحقائق التاريخية عند العرب القدامى نجد علماء السنة قد قاموا بوضع قواعد وضوابط يعرفون بها صحة المرويات، واتبعوا منهجًا دقيقًا في نقدها عندما ظهر الوضاعون، ويَنْبَغي للمُؤرّخ المسلم أن يَطّلع على ذلك، ويفيد منه في دراساته التاريخية، والمصادر المهمة في هذا الجانب هي كتب مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، وعلم علل الحديث. وهذه الكتب لازمة للمؤرخ لتعينه على نقد الروايات والترجيح بينها، ومعرفة صحيحها من سقيمها.

أما كُتب التاريخ الإسلامي المتخصصة، سواء أكانت مصادر أولية مثل (السيرة النبوية) لابن إسحاق، وتاريخ الطبري، أم مصادر ثانوية مثل كتاب (الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية) لابن الطقطقى الذي عاش في القرنين السابع الهجري والثامن الهجري؛ فإنها تحتوي على مادة علمية تاريخية تحتاج تمحيصًا، فهي مصادر في المعلومات التاريخية وليست مصادر في نقل الأخبار". ويَستمرُّ كاتب المادة فيقول: "إنه لما كان منهج كتابة التاريخ الإسلامي يعتمد في أصوله على العقيدة الإسلامية؛ فإنّه يُمكن القول بأنّ مَصادر هذا المنهج هي نفس مصادر الشريعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

ففي مجال تفسير الحوادث التاريخية نجد أنه ليس تفسيرًا تبريريًّا، أي: أنه لا يُعتذر فيه عما حدث في الماضي، إذا كان مُخالفًا لمقاييس العصر الذي نعيش فيه، بل

ص: 342

تبرُز فيه خصائص الإيمان المستعلي على ما سواه، كما أنه ليس تفسيرًا ماديًّا يحصل المؤثرات على حركة التاريخ البشري في العوامل المادية، مثل تبدل وسائل الإنتاج، كما في الفكر الماركسي، أو التفسيرات المعتمدة على أثر البيئة الخارجية من جغرافيا واقتصاد، كما في الفكر المادي الغربي، بل يوضح دور الإنسان ومسؤوليته عن التغيير الاجتماعي والتاريخي في إطار المشيئة الإلهية". ولكن؛ ماذا عن القواعد العلمية التي كان يلتزم بها المؤرخون المسلمون؟ يجيب الكاتب قائلًا:"نحن هنا نرسُم منهجًا مثاليًّا في البحث العلمي كما نراه مطبقًا في مؤلفات المحققين من علماء التاريخ الإسلامي، لا سيما القدماء منهم"، ونَستطيعُ أن نُلَخِّص سمات هذا المنهج في النقاط الآتية:

1 -

استخدام الأدلة والوثائق بعد التأكد من صحتها.

2 -

حُسن استخدام الأدلة والوثائق باتباع التنظيم الملائم للأداة مع تحرير المسائل وحسن عرضها.

3 -

الإيمان بكل ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة من الإيمان بالغيب، والجزاء والقضاء والقدر، وردُّ كل ما خالف ذلك.

4 -

تحري الصدق في استقصاء جميع الروايات والأدلة حول الحدث الواحد، ثم الجمع بينها إذا أمكن ذلك، أو الترجيح بين الروايات المختلفة وفقًا للقواعد المقررة للتحقيق، مع الاستعانة بأقوال العلماء الثقات.

5 -

بيانُ المَصادر والمراجع التي استمد منها معلوماته، مع الضبط المتقن في نقل الأحوال ونسبتها.

6 -

الاعتماد على النصوص الشرعية والحقائق العلمية ونبذ الخُرافات.

ص: 343

7 -

الالتزام بقَواعد اللغة العربية، وعدم إخراج اللفظ عن دلالته إلا إذا وجدت قرينة صارفة له عن دلالته المباشرة.

8 -

استعمال المصطلحات الشرعية في الكتابة التاريخية، مثل: المؤمن والكافر والمنافق، إذ لكل من هذه المصطلحات صفات محددة ثابتة وردت في القرآن الكريم وأحاديث الرسول، ولذلك لا ينبغي العدول عن هذه المصطلحات إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلامية. كذلك؛ فإنّ الحُكم على الأعمال والمنجزات الحضارية ينبغي أن نستخدم فيه المصطلحات الشرعية كالخير والشر والحق والباطل والعدل.

9 -

اعْتِمَادُ المصادر الشرعية والأصلية، وتقديمها على كل مصدر إذ يجبُ على الباحث المُسلم أن يعتمد على القرآن الكريم، ويَعُدّه مصدرًا أساسيًّا في استقاء معلوماته عن الأنبياء والأمم السابقة وسيرة الرسول؛ لأن القرآن الكريم قطعي الثبوت، ويأتي بعده الحديث النبوي في قوة الثبوت. وقد اتبع علماء الحديث منهجًا علميًّا دقيقًا في تدوين السنة، وجاء في القرآن والسنة أيضا الإشارة إلى جملة من القوانين التاريخية، والسنن الربانية؛ مما يعطي الباحث نظرة شمولية وعميقة في التحليل للأحداث. ولا بد أن يكون عالم التاريخ عالمًا بالقرآن وعلومه، والحديث وعلومه، ليحسن استخدام هذين المصدرين الأساسيين.

10 -

التجرد من الأهواء المذهبية أو العنصرية أو القومية أو السياسية، إذ يشترط في المؤرخ المقبول الرواية مجموعة من الصفات والشروط، التي يجعلها بعضهم كشروط راوي الحديث النبوي، ومن المعلوم أنّ الأخبار التاريخيّة لا تَصِلُ إلى درجة الأحاديث النبوية إلا في النادر.

ص: 344

وإذا تناول المؤرخ أحداث فترة الخلفاء الراشدين وما بعدها، وكانت مصادر مادته من كتب الإخباريين ولا تتعلق بالعقائد والأحكام الشرعية؛ فهناك قاعدتان أساسيتان، يجب ألا يغفل عنهما المؤرخ المسلم، وهما: النزعة المذهبية الإخباري، فمن كان متعلقا بمذهب وفكرة معينة، فهو لا شك سيحاول أن يدخل جميع ما يخدم هذه الفكرة، ولم ينج من هذا الخطر إلا القليل.

ثم النزعة السياسية الإخباري، ويلجأ الإخباري في الغالب إلى تدوين الأحداث ووضعها بما يخدم نزعته السياسية، وردّ القائمين على هذه النزعة، وهُنا يَجِبُ على دارس التاريخِ أن يُحَدّد النزعة السياسية الإخباري الذي يُريد أن يأخذ منه، ومدى قربه أو بعده من الحاكم، ومدى صداقته وعداوته له، والعداوة كما نعرف حجاب حاجز عن الحقيقة؛ فلا يُسمع كل كلام الخصم في خصمه بل لا بد من التمحيص، وهذا يعني وجوب أن يكون الإخباري عادلًا.

11 -

معرفة مناهج الإخباريين والمؤرخين القدماء: ونجعل الطبري مثالًا في هذا الجانب لأهميته، بوصفه مظهرا من أبرز مظاهر التاريخ الإسلامي في صدر الإسلام وما قبله. فعلى المؤرخ الحديث بصفة خاصة أن يعرف أن الطبري قد استخدم في تاريخه نفس منهج علماء الحديث في نقل الأخبار -أي: الإسناد- إلّا أنه اختلف معهم في أمر مهم، إذ لم يقم بتجريح رواة أخباره أو تعديلهم؛ فقد كان يعتقد أن رواية الأحداث التاريخية ليست في أهمية رواية الأحاديث النبوية، ولذلك لم يتشدد فيها تشدد رجال الحديث، بل ألقى العهدة في الخبر على راويه.

وذلك واضح في مقدمته التي قدم بها كتابه (تاريخ الأمم والرسل والملوك). التي يقول فيها: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما

ص: 345

يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجلِ أنّه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة؛ فليعلم أنه لم يؤت ذلك من قِبلنا، وإنّما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا. وأنّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا". ونادرًا ما ينتقدُ الطبري أخباره أو يرجح رواية عن أخرى، وهذا المنهج متبع عند بعض علماء الحديث وغيرهم؛ حيثُ يَذْكُرون ما يبلغهم، ويسوقون سنده ليؤخذ الصحيح ويحتج به، ويُعرف غير الصحيح ويعتبر به.

ولهذا لا يكفي في المنهج العلمي السليم الإحالة على الطبري أو غيره، من الكتب المسندة دون الحديث عن سند الرواية؛ فالطبري مثلًا يروي عن مئات الضعفاء والمتروكين، الذين لا يعتمدهم المحدِّثون في تلقي الأحكام الشرعية والعقائد والحكم على مواقف الصحابة رضي الله عنهم. ولهذا أصبح تاريخ الطبري مرتعًا خصبًا لأهل الأهواء من أبناء المسلمين وغير المسلمين، لاسيما المستشرقين؛ فالصحابة مثلًا رضي الله عنهم عدول بتعديل الله تعالى ورسوله عليه السلام وهو اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأن الله سبحانه وتعالى قد قال فيهم:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110) وقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100).

وقال فيهم الرسول: ((استوصوا بأصحابي خيرا ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) و ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)). ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا؛ فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن

ص: 346

آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه، لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق)). وقال أبو زرعة الرازي شيخ البخاري:"إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله؛ فاعلم أنه زنديق، لأن الرسول عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسُّنن أصحاب رَسولِ الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُّنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة".

وموقف أهل السنة والجماعة من الخلاف الذي شجر بين الصحابة هو: صيانة القلم واللسان عن ذكر ما لا يليق بهم، وإحسانُ الظّن بهم، والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم، والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم، واعتقاد أنهم مجتهدون. وممن تواترت النصوص بفضله الخلفاء الراشدون، أما سب صحابي لم يتواتر النقل بفضله سبًّا يَطْعَنُ في دينهِ؛ فلا يكفره جموع العلماء، بل يفسقونه، وذَلك لعدم إنكاره أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، إلا أن يسبه من حيث الصحبة، ومن سبه سبًّا لا يطعن في دينه فيستحق التعزير.

في مادة تاريخ الموسوعة العربية العالمية نجد كاتبها يقرر أن أغلب مؤلفات المؤرخين العَرب تدور حول تاريخ البلدان التي فتحوها، وتاريخ الإسلام وتاريخ أهم الأقطار والمدن؛ كمصر والأندلس والمغرب ومكة والمدينة ودمشق ومكة وبغداد، ومن أبرز المؤرخين العرب والمسلمين: المسعودي، وأهم مؤلف له في التاريخ (مروج الذهب) ومحمد بن جرير الطبري وأشهر كتبه (تاريخ الرسل والملوك). ومن أشهر المؤرخين العرب والمسلمين في العالم عبد الرحمن بن خلدون ويعد كتابه (المقدمة) من أروع كتب التاريخ وأوسعها، وقد استقاه من ملاحظاته

ص: 347

فيما يقع من أحداث، وهو يرى أن هناك اضطرادًا في السلوك الإنساني، شبيهًا بِمَا يَحدثُ في الطبيعة، ومن أفضل كتب التاريخ التي ألفت في القرن الثالث عشر الهجري كتاب عبد الرحمن الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) ويعد الجبرتي من بين أشهر مؤرخي العالم العشرة، وكذلك كتب المؤرخ العربي الكبير ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي.

وتقول مادة hestory في موسوعة "كلومبيا" نفس الشيء، ونفس الأمر نجده في موسوعة "انكارتا" الناطقة بالفرنسية، والواقع أنّ الكتاب المعروف بـ "مقدمة ابن خلدون" يعد أساسًا لما أصبح يُعرف فيما بعد بعلم الاجتماع، إذ قام ابن خلدون في تلك المقدمة بفلسفة التاريخ، وأوضاع المجتمعات الإنسانية، ووضع قوانين يرى أنها تحكم مسيرة البشر؛ فلم يكتف برصد وقائع التاريخ، وتسجيلها كما يفعل غيره من المؤرخين، بل قدم تفسيرًا لسلوك الأمم والمجتمعات والدول، يمكن أي إنسان أن يستعمله في تحليل تاريخ أية أمة؛ فنقل بذلك علم التاريخ من حالته الغفل إلى وضعه العلمي الذي صار إليه منذ ذلك الحين. وعما أنجزه ابن خلدون في هذا المجال نسمعه يقول:"فأنشأت في التاريخ كتابًا، وأبديت فيه لأولية الدول عملًا وأسبابًا، وسلكتُ في ترتيبه وتبويبه مسلكًا غريبًا، واخترعته من بين المناحي مذهبًا عجيبًا، وطريقة مبتدعة وأسلوبًا، وشرحت من أحوال التمدن والعمران، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها".

وفي مقال بعنوان "نظرات في الفكر المنهجي عند ابن خلدون" يكتب علال البوزيد قائلا: "إن ابن خلدون كان مجددًا أيضًا في ميدان الأدب، إذ كان في طليعة كُتاب القرن الثامن الهجري، الذين نَبذوا أغلال السجع وغيره من المحسنات

ص: 348

البديعية المُتكلفة في كتاباتهم، وجعلوها حُرّة طَليقة لا تعنى إلا بقوة التعبير وجماله، ودقة تصويره. لقد كانت الطريقة الشائعة في عصر ابن خلدون هي طريقة القاضي الفاضل، المتوفى سنة خمسمائة وست وتسعين هجرية، وهي تقوم على المبالغة والتصنع بالزينة البديعية من سجع وتورية وجناس وطباق واقتباس، وما إلى هذا. وكان القاضي الفاضل يعتسف هذه المحسنات في نثره وفي شعره، ثم كان تلاميذه المتأثرون بطريقته من بعده أقل منه اطلاعًا، وأكثر باعًا؛ فهبطوا بتكلفهم هبوطًا شنيعًا. كما كان نقاد العصر يَكلفُون بالطريقة الفاضلية؛ فخضع الكُتّاب للنقاد، وجَاروهم في إعجابهم، وأنشئوا على الغرار الذي يرضيهم. أما ابن خلدون فقد تحرر من قيود الطريقة التي وضعها معاصروه للكتابة؛ فكان فذًّا في عصره من حيث تفكيره الأدبي والمنهجي معًا.

ولهذا وذاك نال ابن خلدون إعجاب العلماء في الشرق والغرب، وترجموا مقدمته إلى عدد غير قليل من اللغات، ولم يخف علماء أوروبا وفلاسفتها إعجابهم واعترافاتهم بتفوق هذا الفيلسوف العربي المغربي، وقد سجلت عدة دراسات وأبحاث هذه الاعترافات على لسان كبار الكتاب والباحثين، من الذين اهتموا بدراسة التراث العلمي الأصيل، الذي خلفه ابن خلدون، والذي يؤكد جملة وتفصيلًا اجتهاداته المثالية". ويُضِيفُ الكاتبُ قائلًا:"لقد أجمع غير واحد من الأعلام بأن معالم العبقرية المبدعة متوفرة في شخصية ابن خلدون، وقال عنه المستشرق "ليفيبروفنسال": إن صفات العبقرية عند صاحب المقدمة تتجلى في كونه أحرز قصب السبق في مجالات المعارف الإنسانية؛ مما جعله في مسار يُثير نزعة المعاصرين له من المؤرخين، مسار حدد فيه لنفسه مكانته الخاصة المرموقة في

ص: 349

مصاف العظماء، ذَلكَ أنّ منهجيته في فن التاريخ تعكس نظرة مطلقة أهلته لإدراك حقيقته الخفية، ومعناه البعيد".

وفي الوقت الذي ارتقى فيه الفكر الخلدوني إلى مستوى عال في فلسفة التاريخ، عكف بعض المؤرخين أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم، على دراسة التاريخ على أساس أنه سجل للحوادث والوثائق، وهكذا يتجلى الفرق في الاجتهاد الخلدوني الذي انصب على اعتبار الحوادث موضوعًا له صلة جوهرية بأعمال البشر ونشاطاتهم وأوضاعهم وأحوالهم، في حياتهم واجتماعهم. وممن قدروا عبقرية ابن خلدون حق قدرِها المؤرخ البريطاني "آرنولد تونبي" الذي قال:"إنه قد ابتكر وصاغ فلسفة للتاريخ هي بلا ريب أعظم ما بلغه الفِكْرُ البَشري في جميع العصور والأمم"، كما يقول المستشرق "إيفلا كوست" عن كتاب ابن خلدون:"إنه يمثل ظهور التاريخ كعلم وهو أروع عنصر فيما يمكن أن يسمى بالمعجزة العربية".

وبالمثل يقول مستشرق فرنسي آخر هو "تياي": "إن ابن خلدون قد ترك لنا تآليف قيمة، لم تغن الآداب العربية وحدها، بل التراث الثقافي للإنسانية جمعاء؛ فهو مؤسس علم الاجتماع، وواضع منهج الكتابة التاريخية العلمية، والسببُ في ذلك هو أنه توصل إلى أنّ هناك فلسفتين: فلسفة أصيلة صحيحة، وفلسفة كاذبة خاطئة. وهو ما يدل على أنه قد توصل قبل الفيلسوف الجرماني "إيمانول كانط" إلى التفكير النقدي الهادف إلى تحديد القواعد والمقاييس المنطقية لاستعمال العقل في البحوث الفلسفية، وانتقاداتها للتفكير الفلسفي الذي يتجاوز المقاصد الهادفة".

ص: 350

إن كتاب (المقدمة) وكتاب (العبر) لابن خلدون، هما عمل نادر وعظيم القيمة توجه فيه ابن خلدون إلى الناس جميعًا، لا إلى نخبة من المفكرين، أو إلى جماعة ضيقة من الفلاسفة، والتَّاريخُ كما يراه ابن خلدون فرع من الفلسفة، وله ظاهر وباطن، فأما في ظاهره فلا يزيد على أخبار الأيام والدول، وأما باطنه فنظر وتحقيق وتعليل للكائنات عميق كما يقول هو بأسلوبه. إن ابن خلدون إذ يُخضع الظواهر الاجتماعية للقوانين؛ فإنّما يبحثُ عن مدى الارتباط بين الأسباب والمسببات، ولم يكتف بالوصف وعرض الوقائع وبيان ما هي عليه، وإنّما اتجه اتجاهًا جديدًا في بحوثه الاجتماعية، جعله يعلن بصراحة أن التطور هو سنة المُجتمعات إذ إن الظواهر الاجتماعية لا تثبت على حالة واحدة، وهذا هو السبب في تباين الأنظمة الاجتماعية، بتباين المكان والزمان.

وقد اعتمد ابن خلدون في بحوثه على ما لاحظه في الشعوب التي عاصرها، واحتك بها، ووجد بينها وبين الشعوب السابقة عليها، ودرس العلاقات الاجتماعية بالإضافة إلى ما جمع من معلومات تاريخية أخضعها للعقل، وهو ذو منهج استقرائي استنتاجي، يعتمدُ فيه على الملاحظة والدخول على الموضوع دون أية فكرة مُسَبّقة، وإنْ لُوحِظَ أنّ استقراءه ناقص بعض الشيء؛ لأن الكثير من القوانين والأفكار التي وصل إليها، إنّما تصدق على الأمم التي كانت في عصره، لا على غيرها.

ويُشير الباحثون إلى أن ابن خلدون قد تحدث في (المقدمة) عن القوانين التي يسير عليها التزايد في النوع الإنساني، سابقًا بأربعمائة سنة "مالتس" الإنجليزي في نظريته المتعلقة بتزايد السكان، وهي النظرية التي تقول: إن السكان يتزايدون كل خمس وعشرين سنة بنسبة متوالية هندسية واحد اثنان أربعة ثمانية ستة

ص: 351

عشر اثنان وثلاثون

إلى آخره. إذا لم يوقف تزايدهم عائق خارجي، وإن لم يعن العالم العربي المسلم بتفصيل الحديث في هذا الموضوع، ووضع قانون محدد للزيادة السكانية كما فعل "مالتس".

وقد سبق في الفقرات الماضية تصنيف التاريخ على أنه علم؛ لكنّ هذا لا يَمنعُ من أن نعده أدبًا بوصفه لونًا من ألوان الكتابة، إذ الأدب في معنى من معانيه هو الكتابة؛ فكل ما هو مكتوب يمكن تسميته أدبًا، بيد أن التاريخ قد يستحيلُ على أيدي بعض كتابه إلى أدب بالمعنى الخاص بالأدب، ألا وهو الكتابة المُمتعة التي تَشُدّ القُرّاء لما تنطوي عليه من أسلوب دافئ فتان، أو وصف مفصل لأشياء من أمور الواقع اليومي بحيويتها ودفئها، وما تعج به من حوارات كاشفة لنفسيات أصحابها، وهكذا. لكن؛ لا بد من التنبيه إلى أنه ليس من الضروري أن يكون التاريخ في هذه الحالة أدبًا خالصًا، بل من الممكن أن تتحقق فيه بعض سمات الأدب فقط لا كلها، وقد قلنا إن بعض أفضل المؤرخين يستخدمون البراعة الفنية للروائيين والكتاب المسرحيين، للتعبير قدر الإمكان.

ولعل هذا الموضع يكون أنسب المواضع لنقل الاقتباس التالي الذي أخذته من مادة " hestory " في موسوعة "انكارتا" الإنجليزية طبعة ألفين وستة " of oll the feels of serya stdy and letary efort hestory my be the hardest defin bresisly becous the atemet to an kavrt bast events and formolat an antelejabolt acunt of them msesrly envorves the use and enfrans of eny ogthelare desblans and letary forms ".

ص: 352

وقد ذكر الدكتور محمد غنيمي هلال أنّ جنس التاريخ عند العرب قد بدأ حول شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام يُريد أن يقول: إنه أول تاريخ يكتبه العرب كان تاريخ الرسول -أي: السيرة النبوية- وهو ما يكرره وراءه الدكتور الطاهر أحمد مكي؛ لكنّي لا أذهب هذا المذهب، وأرى أن أول كتاب عربي عرض للتاريخ، بل عرض له وحلل ما حكى من وقائعه بأسلوب أدبي فخيم جليل، هو القرآن الكريم؛ فقد تحدث مثلًا عن عدد من الأمم السابقة وزعمائها، وأنبيائها، والناس العاديين فيها، وروى ما وقع منهم ولهم، وحكى كلامهم وبعض ما كان يجري من حوار بينهم، كما هو الحال في حديثه عن نوح وقومه، وما دار بين الطرفين من صراع استمر حتى بنائه عليه السلام السفينة، وركوبه وأتباعه إياها، وهطول الأمطار، وغرق الكافرين.

كما تحدث عن موسى وفرعون وقص ما جرى بينهما، بشيء غير قليل من التفصيل، مثلما تحدث عن يوسف ومصر في عهده، والعزيز وامرأة العزيز، والسّجن وما إلى ذلك، وقد صيغ ذلك كله صياغة أدبية فخمة سامقة؛ فكانَ القرآن بذلك ضمن أشياء أخرى كثيرة، وأوليات متعددة، أول كتاب يكتب التاريخ في العربية، فضلًا عن سبكه إياه في قالب أدبي شامخ. ولست بحاجة إلى أن أورد من القرآن شواهد على ما أقول، فكل الناس يعرفون هذا، ولا تعوزهم أمثلة عليه. ويلمس كاتب مادة "لستوار" في موسوعة "إنكارتا" الفرنسية طبعة ألفين وتسعة، يلمس المسألة من زاوية أخرى قائلًا:"إن الرسول هو الذي دفع المسلمين مبكرًا نحو دراسة التاريخ، وذلك من خلال ما بذلوه من جهود لتوثيق النص القرآني، وضمان صحة الأحاديث النبوية".

ص: 353

واستمرارًا مع موضوع الصياغة الأدبية للتاريخ، نقول: إننا في (السيرة النبوية) لابن إسحاق مثلًا نجد كثيرًا من الأشعار توشي الأحداث، وتجري على ألسنة الشخصيات، كما نَجِدُ كثيرًا من التفصيلات والحوارات الواقعية المفعمة بالحيوية، سواء تعلق الأمر بالناس العاديين، أو بالزعماء والقادة. وذلك كي لا يقال: إنّ كتابة التاريخ قديمًا كانت تعنى دائمًا بالسادة ملوك ووزراء وأشباههم ليس إلا، فضلًا عن أن الأسلوب الذي صيغ به هذا كله هو أسلوب أدبي، وإن غلبت عليه البساطة في كثير من كتب السير.

ونضيف إلى هذا: أن سيرة ابن هشام بالذات، وهي كما نَعرف سيرة ابن إسحاق ذاتها معلقًا عليها، ومتصرفا فيها بعض التصرف، هذه السيرة تمتلئ بالأحكام النقدية التمحيصية لما ورد فيها من أشعار، إذ لا يكتفي ابن هشام بإيراد ما أورده ابن إسحاق من النصوص الشعرية، بل عادة ما يُعقب على ما يثبته منها بأنه لم يثبته كاملًا، بل حذف منه أشياء للسبب الفلاني أو العلاني، أو أن النص غير موثوق عند العلماء بالشعر. وقد يحذف النص كله ويشير إلى الحذف معقبا عليه بالسبب الذي حدا به إلى ذلك، وهكذا. أي: أنّ سيرة ابن هشام ليست مُنْبَتّة الصِّلة بالأدب والنقد كما هو واضح، وهذا مثالٌ على ما نقول، وهو من حديث زمزم وحفر عبد المطلب إياها: "ثم ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب؛ فأقامها للناس، وأقام لقومِهِ ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم.

ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحِجْر إذ أُتي فأُمِر بحفر زمزم، قال عبد المطلب: إنِّي لنَائِمٌ في الحِجْر إذ أتاني آت؛ فقال: احفر طيبة، قلت: وما طيبة؟

ص: 354

قال: ثم ذهب عني؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة، قلت: وما برة؟ قال: ثم ذهب عني فلما جاء الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضمونة، فقال: فقلت: وما المضمونة؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم، قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبدًا ولا تذم؛ تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.

قال ابن إسحاق: فلما بُيّن له شأنها، ودُلّ على موضعها، وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره؛ فَحَفر فيها فلما بدا لعبد المطلب الطي كبّر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقًّا؛ فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إنّ هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيل، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، قال: والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة؛ فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم وقالوا: إنّا بِمَفازة، ونحنُ نخشى على أنفسنا مثلما أصابكم.

فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم، وما تخوف على نفسه هو وأصحابه، قال: ما ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك؛ فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر

ص: 355

كل رجل منكم حفرته لنفسه، بِمَا بِكُم الآن من القوة، فكُلّما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه حتى يكون آخركم رجلًا واحدًا فضيعة رَجُلٍ واحِد أيسر من ضيعة ركبٍ جميعًا، قالوا: نعم ما أمرت به، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشًا. ثم إنّ عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتحلوا حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم، ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها؛ فلما انبعثت به انفجرت من تحت خُفّها عين ماء عذب، فكبّر عبد المطلب، وكبّر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلُمّ إلى الماء؛ فقد سقانا الله فاشربوه واستقوا.

ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا يا عبد المطلب، فوالله لا نخاصمك في زمزم أبدًا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا؛ فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها. قال ابن هشام: هذا الكلام والكلام الذي قبله من حديث علي -رضوان الله عليه- في حفر زمزم من قوله: لا تنزف أبدًا ولا تذم إلى قوله: عند قرية النمل، عندنا سجع وليس شعرًا. قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين قيل له ذلك، قال: وأين هي؟ قيل له: عند قرية النمل، حيث ينقر الغراب غدًا -والله أعلم غير ذلك كان- فعاد عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره، فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين إساف ونائلة، اللذين كانت قريش تنحر عندهما

ص: 356

ذبائحها فجاء بالمعول، وقام ليحفر حيث أمر؛ فقامت إليه قريش حين رأوا جده، فقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثنين هذين اللذين ننحر عندهما.

فقال عبد المطلب لابنه الحارث: ذد عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به، فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه؛ فلم يحفر إلا يسيرًا حتى بدا له الطي. الطي معناه جدران البئر المبنية بالحجارة. فكبّر وعرف أنه قد صُدق، فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب، وهما الغزالان اللذان دفنتهما جرهم فيها، حين خرجت مكة، ووجد فيها أسيافًا قلعيه وأدراعًا؛ فقالت له قريش: يا عبد المطلب، لنا معك في هذا شرك وحق، قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح، قالوا: وكيف تصنع؟! قال: أجعل الكعبة قدحين، ولي قدحين ولكم قدحين؛ فمن خرج له قدحه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له. قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوا القداح صاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل.

وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل فضَرَب صَاحِبُ القِدَاح القداح؛ فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان في الأسياف والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش؛ فضرب عبد المطلب الأسياف بابًا للكعبة، وضَربَ في الباب الغزالين من ذهب؛ فكان أول ذَهبٍ حُلّيته الكعبة فيما يزعمون، ثُمّ إنّ عَبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج". وهُنَاك لوحاتٌ رَائعة أُخرى منتشرة في السيرة النبوية، كتلك التي تصور لقاء المسلمين بالنجاشي، يستفسر منهم عن عقيدتهم في عيسى بن مريم عليه السلام وقد أحاط به الرهبان والبطاركة.

ص: 357

وكذلك اللوحة التي ترسم ابتهال النبي الكريم في غزوة بدر لربه أن ينصر عصبة المسلمين؛ لأنها إن هلكت فلن يعبد سبحانه في الأرض. أو تلك التي تسجل لنا ما صنعته هند بنت عتبة في جثة حمزة وكبده، أو تلك التي تنقل لنا لوعة صفية أخت البطل الشهيد، وتعقيب النبي حين سمع بكاء النساء على قتلى أحد، قائلًا في حزن:((لكنّ حَمزة لا بواكي له)) فذهبت مثلًا.

أو اللوحة التي حدثتنا فيها عن عائشة عن تفاصيل واقعة الإفك، وبخاصة الحلقة الأخيرة منها، عندما نَزل الوحي على رسول الله في بيت أبويها، يبرئها مما قرفت به رضي الله عنها ظلمًا وبهتانًا من قبل المنافقين الملاعين، ومن انخدعوا بما قالوه -عفا الله عنهم. وهذا الذي قلناه عن سيرة ابن إسحاق وابن هشام ينطبق على كثير من كتب التاريخ، ولنأخذ هذا النص مثلًا من كتاب ابن الأثير في التاريخ، وفيه يُصَوِّرُ لنَا ليلة من الليالي التي مَضت على الحُسين، وآله ورجاله قريبًا من كربلاء، وقَد عَرض عليهم بعض قادة الجيش الأموي الاستسلام.

قال ابن الأثير: "فجَمَع الحُسين أصحابه بعد رجوع عمر فقال: أثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وجعلت لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين؛ فاجعلنا لك من الشاكرين، أما بعد: فإني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي؛ فجزاكم الله جميعًا عني خيرًا، ألا وإني لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدًا، وإني قد أذنت لكم جميعًا؛ فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غَشيكم فاتخذوه جبلًا، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله خيرًا.

ص: 358

ثم تفرقوا في البلاد في صعيدكم ومدائنكم، حتى يفرج الله؛ فإن القوم يطلبونني ولو أصابوني لهَوْا عن غيري، فقال له إخوته، وأبناؤه، وأبناء إخوته وأبناء عبد الله بن جعفر: لم تفعل هذا؟ لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبدًا، فقال الحسين: يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: وما نقول للناس؟ نقول: تركنا شيخنا وسيدنا، وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولا نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل ولكنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك، حتى نَرِدَ موردك فقبح الله العيش بعدك. وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نتخلى عنك ولم نعذر إلى الله في أداء حقك، أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، والله لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك؛ حتى أموت معك وتكلم أصحابه بنحو هذا فجزاهم الله خيرًا. وسمعته أخته زينب تلك العشية وهو في خباء له يقول، وعنده مولى أبي ذر الغِفَاري يُعَالِجُ سيفه:

يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحب أو طالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنما الأمر إلى الجليل

وكل حي سالك السبيل

فأعادها مرتين أو ثلاثا؛ فلما سمعته لم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها، حتى انتهت إليه ونادت: وا ثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم، ماتت فاطمة أمي، وعلي أبي، والحسن أخي، يا خليفة الماضي وثمال الباقي، فذهب فنظر إليها وقال لها: يا أخية، لا يذهبن حلمك الشيطان. قالت: بأبي أنت وأمي استقتلت، نفسي بنفسك الفدا فردد غصته وترقرقت عيناه ثم قال: لو ترك القطا ليلًا لنام. فنفضت وجهها وقالت: وا ويلتاه! أفتغصبك نفسك اغتصابًا، فذلك أقرح

ص: 359

لقلبي وأشد على نفسي، ثم لطمت وجهها وشقت جيبها، وخرّت مغشيًّا عليها؛ فقام إليها الحسين فصب الماء على وجهها، وقال: اتق الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله أبي خير مني وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة.

فعزاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أخية، إني أقسم عليك لا تشقي علي جيبًا ولا تخمشي علي وجهًا، ولا تدعي علي بالويل والثبور إن أنا هلكت، ثم خرج لأصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن ينشروا الأطناب بعضها في بعض، وكونوا بين يدي البيوت، فيستقبلون القوم من وجه واحد، والبيوت على أيمانهم وعن شمائلهم ومن ورائهم. فلما أمسوا قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون، ويتضرعون ويدعون فلما صلى عمر بن سعد الغداة يوم السبت، خرج فيمن معه من الناس وعبا الحسين أصحابه، وصلى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلًا فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مطهر في ميسرتهم، وأعطى رايته للعباس أخاه، وجعل البيوت في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب فألقي في مكان منخفض من ورائهم كأنه ساقية، عملوه بساعة من الليل، لئلا يؤتوا من ورائهم، وأضرم نارًا تمنعهم ذلك".

وقد بلغ الفن في تاريخ الجبرتي مدى بعيدًا رغم ما يعتور التعبير في أحيان من ضعف، إلا أنّ التصوير الحي والتلقائية العجيبة، والتفاصيل اليومية، والحوارات الواقعية الدقيقة تغطي على هذا كله، وتنبض الأسلوب بالفتنة الساحرة. على أنّ الأمر في التقاء التاريخ بالأدب لا يقف عند هذا الحد، بل هناك من اعتمدوا في كتابة التاريخ السجع والجناس وغيره من محسنات البديع، وهذا مُلاحظ على

ص: 360

وجه الخصوص في الكتب التاريخية التي وضعت في العصور المتأخرة، أيام انحسار رونق الحضارة الإسلامية، وإن كان التسجيع والتجنيس قد بدءا قبل ذلك بوقت طويل.

فرأينا إبراهيم الصابي في القرن الرابع الهجري، والعتبي يؤلفان كتابيهما (التاج) و (اليميني) على الترتيب في بعض ملوك بني بويه والغزنويين سجعًا، ولدينا من هؤلاء أيضًا: العماد الأصفهاني، وحبيب الحلبي، كذلك هناك الشعراء نظموا التاريخ شعرًا. وتم ذلك منذ وقت مبكر منهم على سبيل المثال: يحيى الغزال الشاعر الأندلسي، الذي ذكرت كتب الأدب أنه نظم رجزًا في فتح الأندلس. ومثل ما رجز به علي بن الجهم في تاريخ العالم، ومثل أرجوزة ابن المعتز في تاريخ المعتضد جده، ومثل رجز ابن عبد ربه في تسجيل تاريخ عبد الرحمن الثالث في الأندلس، ومِثل شعر الخُرَني في فتنة الأمين والمأمون، وما وقع ببغداد من الدمار، وكذلك أرجوزة ابن كثير الموجزة عن الخلفاء العباسيين، وأرجوزة ابن عون الدمشقي المسماة "تحفة الظرفاء في تواريخ الملوك والخلفاء" وشعر ابن دانيال عن قضاة مصر. أما كتاب لسان الدين بن الخطيب (رقم الحلل في نظم الدول)؛ فقد جمع بين الشعر والنثر.

وبالنسبة لعلاقة التأليف التاريخي عند العرب بالفرس، يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: "إنّه منذ القرن الثاني الهجري تُرجمت إلى العربية كتب كثيرة من التاريخ الإيراني، أثرت أيما تأثير في جنس التاريخ الأدبي عند العرب، وإن البلاذري، والمسعودي، والدينوري قد ساروا على طريقة الفرس في التأليف التاريخي الخالي من سلاسل الإسناد، إلا أنه للأسف لم يفكر

ص: 361

في أن يمدنا بأسماء تلك الكتب الكثيرة التي يقول: إنها ترجمت من الفارسية إلى العربية. والملاحظ أنه لم يذكر إلا "الشهنامة"، وبِضْعَ فقراتٍ كتبها ابن المقفع وفقدت، فأمّا "الشهنامة" فليست تاريخًا، بل أدبًا من أدب الملاحم بكل ما تنطوي عليه الملاحم من خرافات ومبالغات وخيالات وتفصيلات وطنية، وهو نفسه يقول في الهامش: إن التاريخ عند الإيرانيين كان يختلط بالأسمار والحكايات الخلقية، وقواعد السلوك العامة، فضلًا عن تخلف النقد التاريخي في تلك المؤلفات.

وأما ما فُقِدَ فليس دليلًا على شيء، إذ متى كان المفقود الذي لا وجود له يصلح اتخاذه دليلًا"، ولا ريب أن هذا كله من شأنه بذر بذور الشك فيما بيننا فيما قاله الدكتور هلال، وبخاصة أنه قد قاله اعتمادًا على مقال كتبه المستشرق الهولندي "دي خويه" في طبعة عام ألف وثمانمائة وثمانية وثمانيين، من دائرة المعارف البريطانية؛ فهو إذًا ليس كلامه بل كلام أحد المستشرقين، ولما يُحاول هو أن يسند هذا الكلام ببعض الشواهد التي تعضده؛ فبقي مجرد ادعاء لا دليل عليه وبالذات حين يجعله من "الشهنامة"، وتلك الفقرات المقفعية المفقودة كتبًا كثيرة حسب تعبيره. وفضلًا عن ذلك لم يحاول أن يذكر لنا عنوان المادة التي استقى منها هذا الادعاء، أو رقم الصفحة، واكتفى بذكر المجلد ليس غير، ثم مَن قال: إنّ الفرس كانوا يتسمون بالإيرانيين كما يتعامل هو معهم هنا، إنّ هذه تسمية حديثة، يُسقط الحاضر على الماضي بهذا الشكل غير المسوغ.

وفي نفس الموضوع يتوقف الدكتور هلال بإزاء ترجمة كتاب الطبري (تاريخ الأمم والرسل والملوك) إلى اللغة الفارسية، إذ ترجمه الوزير الفارسي الساماني أبو

ص: 362

محمد علي البلعمي، مع حذف العنعنات، والاختصار في كل خبر على رواية واحدة من الروايات المتعددة التي درج الطبري على أن يرددها في كل خبر يذكره، فضلًا عن زيادته أشياء من عنده من تاريخ فارس القديم، وغيره من الموضوعات إلى ما كتبه. وهنا أيضًا نجد الدكتور هلال يصف الطبري بأنه إيراني، وهو نعت لم يكن متداولًا في ذلك الوقت، بل كان يُقال: فارسي، ومن ناحية أخرى؛ فإن الطبري لم يكن يدور في خلده أنه فارسي، بل أنه مسلم عربي وبخاصة أن الدولة في تلك الفترة كانت دولة مترامية الأطراف، ينتمي مواطنوها جميعًا إلى العروبة لغة وثقافة، وإلى الإسلام عقيدة ودينًا بغض النظر عن أجناسهم ودمائهم.

وهذه كتبه متوفرة في أيدينا، فأين تلك النزعة فيها؟ وعلى نفس المنهج يمضي الدكتور طاهر أحمد مكي فيصف الطبري بأنه إيراني الأصل، ومما تناوله هلال أيضًا: تأثر كتب التاريخ في العصور المتأخرة بما ساد أساليب الكتابة الأدبية إبان ذلك؛ مِن أسجاع وجناسات وتوريات ومحسنات بديعية وأمثال وحكم، ومجازات وسيرها في هذا المضمار، مشيرًا في هذا السياق إلى ما كتبه العتبي في كتابه (تاريخ أمين الدولة) بأنه سلك في ذلك الكتاب مسلك الشعراء، وهو الكتاب الذي فرغ منه عام 412 هـ. ويمضي هلال قائلًا:"إن تأثير الأدب العربي على نظيره الفارسي في تلك النقطة تأثير عظيم على حد عبارته، إذ ترجم "الجربادي قاني" كتاب العتبي الذي ألفه في أمين الدولة إلى الفارسية، ناقلًا بهذا جنس التاريخ من العربية إلى الفارسية بكل خصائصه الفنية، كما كان في الكتاب المترجم، الذي ألفه في أوائل الربع الثاني من القرن الثامن الهجري، وإن أضاف أن المؤرخين الفرس الآخرين لم ينهجوا نهج وصاف المتكلف".

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 363