المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

و (مصرع شمشون). ويعتقد أن "ميلتون" قد ألف العملين الأولين وربما الأخير أيضًا بعد أن كُفّ بصره، وكَتب مِيلْتُون (الفردوس المفقود) حتى يبرز مسالك الرب مع الإنسان كما يقال، وتعيد القصة ذات الإثني عشر كتابًا رواية قصة الكتاب المقدس عن الخلق، وسقوط آدم في مواجهة تمرد إبليس على ربه والخروج من الجنة.

لقد كان ميلتون على دراية واسعة بأدب الإغريق واللاتيني القدامى، وتأثر بهم كثيرًا؛ لكنّه رَكّز اهتمامه بوصفه بروتاستني على الإنجيل؛ فقد أراد ميلتون أن يقدم انجلترا من خلال شعره ما قدمه عظماء وصفوة عقول أثينا وروما.

‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

وفي التراث العربي يوجد أكثر من قصة بعنوان (حي بن يقظان) وهي قصة رمزية تدور حوادثها حول شخص نشأ في جزيرة وحده، ويتصور علاقته بالكون والدين، وأول منشئ لقصة (حي بن يقظان) هو الفيلسوف ابن سينا، ثم أعاد كتابتها شهاب الدين السهروردي، وبعدها صاغها من جديد فيلسوف أندلسي بن الطفيل، ثم كانت آخر رواية القصة بقلم ابن النفيس. على أن أشهر مؤلف بين هؤلاء الأربعة هو ابن الطفيل، وبسبب شهرة هذه الرواية قيل: إن قصصًا غربية مثل مثل قصة (روبنسون كروزو) و (طرزان) قد نُسِجت على منوالها.

وقد صَبَّ ابن الطفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشريعة، أو بين الفلسفة والدين في قالب روائي قصصي، إذ نشأ بطل القصة (حي بن يقظان) في جزيرة معزولة، وكان قد ألقي فيها طفلًا، أو نشأ بشكل طبيعي من مادتها وترابها حسب الروايتين المختلفتين، وبعد أن نما وترعرع تأمل الكون من حوله؛ فوصل إلى حقيقة التوحيد بالفطرة.

ص: 314

ثم انتقل إلى جزيرة أخرى، فالتقي بشخصين هما: سلامان وأبسال، فوجد الأول منهما يعلم أهل الجزيرة -الذين يتدينون تدينًا سطحيًّا- يعلمهم الحقائق الإلهية والوجودية عن طريق ضرب الأمثال، بينما يميل الثاني إلى التأمل والنظر العقلي وفيه نزعة صوفية. ويُدرك حي بعد أن يتفاهم مع أبسال أنّ مَا توصل إليه من إدراك لحقائق الوجود والكون بالفطرة، وما ورِثه أبسال عن طريق النبوة، إن هو إلا وجهان لحقيقة واحدة؛ فالكون واحد، والخالق واحد، وهو رب السماوات والأرض وصانع الموجودات، قد نصل إليه عن طريق التأمل الذاتي كأفراد، لكن الجماعات بحاجة إلى طريقة أبسال في ضرب الأمثال الحسية لمعرفة ذلك؛ لأنه لا قدرةَ للعامة على إدراك الحقيقة المجردة التي قد يصل إليها أصحاب التأمل الذاتي والنظر العقلي.

والنبوة حق ولا بد منها، والخليقة بحاجة إليها للوصول إلى معرفة الخالق، إلا أن (حي بن يقظان) لا يكاشف أهل الجزيرة بالحقيقة كلها، بل يعود مع أبسال إلى الجزيرة الأخرى؛ ليَعْبُد الله عبادة رُوحيّة خالصة؛ حتى يأتيهما اليقين.

وتمثل القصة العقل الإنساني الذي يغمره نور العالم العلوي، فيصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل بعد أن تلقاها الإنسان عن طريق النبوة، وتُؤَكِّد قِصّة (حي بن يقظان) على أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية، وقد تركت آثارها على كثير من الجماعات والمفكرين، وترجمت إلى اللاتينية واللغات الأوربية الحديثة. وتتجلى براعة ابن طُفيل في مَزْجِه الأفكار الفلسفية الدقيقة بالقصص الشعبي، وفي جهده لتصوير هذه الأفكار منطقيًّا وفنيًّا.

وهُناك رِوايتان تفسران لنا ولادة (حي بن يقظان):

ص: 315

الأولى تقول: إنه تولد من الطين في جزيرة جنوب خط الاستواء تسمى "الواق واق" وهي جزيرة خيالية كما هو واضح، على حين تخبرنا الرواية الأخرى بأنه قد ولد لأميرة تزوجت على غير إرادة أخيها الملك، من قريب لها اسمه يقظان، ثم أنجبت منه طفلًا؛ فخافت أن يفتضح أمرها، فيعاقبها أخوها عقابًا رهيبًا هي وزوجها؛ لأنه لم يكن يريد لها أن تتزوج، فألقت ابنها في تابوت، وأسلمته إلى اليم الذي حمله إلى جزيرة مهجورة.

وتصادف أنْ مَرّت في المكان الذي استقر فيه التابوت غزالة كانت تبحث عن ابنها الذي فقدته، فسمعت صوت بكاء فاتجهت نحوه، وكان أن عثرت على الطفل الرضيع فأخته وأرضعته وحضنته وربته، وكانت تحمله هنا وهناك أينما اتجهتْ. ويَكْبُر (حي بن يقظان)، وتمر حياته في سَبعِ مراحل كما يقول كاتب مادته في النسخة العربية من موسعات "اليوكيبيديا":

أما الأولى: فهي إرضاع الغزالة لحي وحضانتها ورعايتها له، حتى بلغ سبع سنوات، ثم بَعد ذلك وفاة الغزالة وتشريحها من قبل (حي بن يقظان)؛ لمعرفة سبب الوفاة، حيث بدأت تتكون عنده المعرفة عن طريق الحواس والتجربة.

وهنا تأتي المرحلة الثالثة وكانت اكتشافه للنار.

أما المرحلة الرابعة فكانت في تصافحه لجميع الأجساد التي كانت موجودة حوله، إذ جعل يَكْتَشِفُ الوحدة والكثرة في الجسم والروح، وتشابه الكائنات من مادة، واختلافها في الصور.

وتلا ذلك المرحلة الخامسة وكانت اكتشاف الموت،

ص: 316

وعند بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره بدأ حي مرحلته السادسة، وهي مرحلة الاستنتاج بعد التفكير؛ فتوصل إلى أنّ النّفس مُنْفَصلة عن الجسد، كما شعر داخله بشوق إلى واجب الوجود. وأخيرًا يُدرك (حي بن يقظان) في المرحلة السابعة أن سعادته لا تتحقق إلا في ديمومة المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، والبقاء داخل حياة رسمها هو لنفسه.

هذا عن (حي بن يقظان)، فماذا عن سيرورتها خارج النطاق العربي الإسلامي، وتأثيرها في الفكر والأدب العالمي؟

تجيب على ذلك ذات المادة من موسوعة "يوكوبيديا" في نسختها الإنجليزية؛ فقد جاء فيها: أنه ظهرت لرواية ابن طفيل ترجمة لاتينية عام ألف وستمائة وواحد وسبعين، بقلم "إدوار بيكوك"، الذي كان قد أعدها منذ عام ألف وستمائة وستين، وأنها قد أوحت للمفكرين بمفهوم " tabula raza " أي: العقل في حالته الأصلية قبل أن تدخله أية فكرة أو معلومة، وقبل أن يخبر الحياة بعد، أو يعرف أي شيء فيها، وهو المفهوم الذي اعتبره " jon lok " في رسالات هذه " any say konsarneing human andr standeng ".

وكان لوك تلميذًا لبيكوك وقرأ ترجمته لكتاب ابن الطفيل وأبدى إعجابه به، كما أوحت (حي بن يقظان) إلى "روبرت بويل" بكتابة روايته " tha asbiring natshral last ". التي تقع أحداثها أيضًا فوق جزيرة من الجزر.

أما أول ترجمة إنجليزية فقد صدرت عام ألف وستمائة وستة وثمانون بقلم جورج أشول، اعتمادًا على الترجمة اللاتينية السالفة الذكر، ثم تُرجمت مرة أخرى إلى الإنجليزية من العربية مباشرةً عام ألف وسبعمائة وثمانية، على يد "سايمون أوكلي" لتظهر بعدها ترجمتان إنجليزيتان أخريان، كما أشار مُحَرِّر المَادة إلى

ص: 317

اطلاع "سبينوز" الفيلسوف الألماني على الرواية، وتشجيعه أحد أصدقائه على ترجمتها للهولندية، فكانت الترجمة التي ظهرت سنة ألف وستمائة واثنتي وسبعين، والتي ظهرت ترجمة هولندية أخرى بعدها بنحو ثلاثة عقود.

كما ظهرت ترجمتان ألمانيتان أخريان، وقد اطلع الفيلسوف الألماني "لايبرتس" على إحدى هاتين الترجمتين، وأثنى على ما في الرواية من فلسفة عربية إسلامية ثَنَاءً كبيرًا، وبالمثل اطلع أساتذة السُّوربون على ترجمة "بيكوك" وكانوا مبتهجين بها أشد الابتهاج. وفي سنة ألف وسبعمائة وتسعة عشر ألهمت إحدى الترجمات الإنجليزية ل (حي بن يقظان) الروائي "دانيل ديفو" فكتب روايته (روبنسون كروزو) التي جرت وقائعها في إحدى الجزر المهجورة، وهو العمل الذي يعده مؤرخو الأدب أول رواية إنجليزية. ثم ظهرت رواية أخرى عام ألف وثمانمائة وواحد وستين في بريطانيا على نفس الشاكلة، تحتوي على أشياء كثيرة جدًّا من ترجمة "بيكوك" ل (حي بن يقظان)، ثم أُريدَ طَبع تَرجمة بيكوك ثانية عام ألف وثمانمائة وأربعة، أما ترجمة ابن يقظان إلى الأسبانية؛ فقد تأخر ظهورها لبداية القرن العشرين، ثم ظهرت ترجمة فرنسية لها في نفس العام بقلم المستشرق "بيونج تيه".

وفضلًا عن هذا كانت (حي بن يقظان) إرهاصًا على نحو من الأنحاء برواية "جان جاك روسو إيميل" كما أن بينها وبين رواية (كيبرينج ذا جانجل بوك) شبهًا واضحًا، وكذلك بينها وبين رواية (طرزان) التي ألفها "إيدجر رايس باروزوا" وتدور حول طفل رضيع هجرته أمه في جزيرة استوائية خالية من السكان، حيث التقطته وربته واعتنت به ذئبة من الذئاب.

ص: 318

وهناك كتاب مفكرون أوروبيون غير قليلين تأثروا بترجمة "بيكوك" لرواية (حي بن يقظان) منهم "جون وردس" و"روبرت داركلي" و"كارل ماركس" وطائفة "الكويكرس" المعروفة وآخرون، وفي عام ألف وسبعمائة وواحد وعشرين، ظَهر في أمريكا كتاب (ذا كريشتن كروسفر) للكاتب والقسيس الأمريكي البيروتاني "كوتوننيسس" الذي لم يمنعه وسمه المسلمين بالكفر من استيحاء رواية (حي بن يقظان) في كتابه هذا، ولا من الاعتراف بتأثيره عليه ناظرًا إلى حي بطل الرواية بوصفه نموذجًا للفيلسوف النصراني المثالي، ومحاولًا من خلاله فهم نفسية سكان أمريكا الأصليين الهنود الحمر؛ بغية تحويلهم إلى مذهبه "البرويتاني".

وكما نرى فإنّ مَادة (حي بن يقظان) في النسخة الإنجليزية من "اليوكوبيديا" تُؤكِّد أن تأثير رواية ابن الطفيل على الآداب الأوربية تأثير واسع وعميق، وعند هذه النقطة نحب أن نتوقف بشيء من التفصيل إيذاء قضية الصلة بين تلك الرواية وبين رواية (ديفو روبينسون كروزو).

ولكن علينا أولًا أن نتعرف إلى "روبنسن كروزو" مثلما تعرفنا إلى (حي بن يقظان)، وسوف يكون اعتمادنا على ما جاء المادة الخاصة بتلك الرواية في موسوعة "اليوكوبيديا".

فنقول: إن (روبنسون كروزو) قصة كتبها "دانيال ديفو" ونشرها لأول مرة عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر، وهي تحكي قصة شاب عاش في جزيرة من الجزر وحيدًا لمدة طويلة دون أن يقابل أحدًا من البشر، ثم بعد عدة سنوات التقى بأحد المتوحشين؛ فعلمه بعض ما وصل إليه الإنسان المتحضر من تقدم فكري، واتخذه خادمًا له، ثم يعود في نهاية القصة مصطحبًا خادمه إلى أوربا حيث العالم المتحضر.

وتبدأ القصة بمغادرة "كروزو" إنجلترا في رحلة بحرية في سبتمبر عام ألف وستمائة وواحد وخمسين، مخالفًا رغبات والديه، ويسطوا القراصنة على السفينة ويصبح

ص: 319

"كروزو" عبدًا للمغاربة، إلّا أنّه تَمكّن من الهرب في زورق، ويُصادِفُ قائدَ سَفِينَةٍ بُرتُغالية قادِمة من الساحل الغربي لأفريقيا، في طريقها إلى البرازيل، وهُناك يصبح "كروزو" مالكًا لإحدى المزارع، وينضم إلى بعثة الجلب الجديد من أفريقيا، وتغرق السفينة التي كان هو فيها وقتذاك في عاصفة تبعد أربعين ميلًا في البحر في مدخل نهر "أورونيكو" في الثلاثين من سبتمبر عام ألف وستمائة وتسعة وخمسين، فيموت جميع رفاقه ما عداه، ويتمكن من استخلاص الأسلحة والأدوات والتجهيزات الأخرى التي كانت في السفينة قبل أن تتحطم تمامًا وتغوص في الماء.

ثم يقوم ببناء سور لمسكنه الذي أقامه في كهف، ويصنع أيضًا تقويمًا يتعرف به على أمور الزمن، من خلال علامات يَرْسُمها على قطعة خشب، كما يقوم بالصيد وزراعة الذرة، ويتعلم صناعة الفخار وتربية الماعز، ويقرأ الإنجيل، ويصبح متدينًا فجأةً، ويشكر الله على مصيره؛ فلا شيء قد فقد منه إلا المجتمع والناس.

وفي يوم من الأيام يكتشف "كروزو" جماعة من آكلي لحوم البشر يقومون بزيارة الجزيرة؛ ليقتلوا ويأكلوا أسراهم، وعندما استطاع سجين من السجناء الهروب انضم إلى "كروزو" فسماه " friy day " باسم يوم الجمعة الذي قابله فيه؛ فشرع يعلمه الإنجليزية حتى يستطيع التفاهم معه، كما نجح في تحويله إلى النصرانية.

ثم تصل مجموعة جديدة من السكان الأصليين؛ لصنع وليمة أخرى من اللحوم البشرية، ويستطيع جمعة و"كروزو" قتل معظمهم مع الاحتفاظ باثنين من أسراهم أحدهما: هو والد جمعة، والثاني: إسباني، ويُخبر هذا الأخير

ص: 320

"كروزو" أن مجموعة من الأسبان الذين غرقوا موجودون على هذه الجزيرة، ويَسْتَطِيعُ الثلاثة بمعاونة هؤلاء الأسبان بناء سفينة يبحرون بها إلى إسْبانيا، بيد أن سفينة إنجليزية تظهر، ويَقَعُ فيها تمرد يسيطر أصحابه على السفينة، ويتركون قائدهم على الجزيرة، إلا أن القائد بمساعدة "كروزو" يستطيع استردادها.

ثم يسافر "كروزو" بعد ذلك إلى البرتغال للبحث عن قائده القديم، الذي يخبره بأن مزرعته "الدراجينية" قد جعلته رجلًا غنيًّا، ومن البرتغال يسافر "كروزو" برًّا إلى إنجلترا، عن طريق إسبانيا وفرنسا؛ حيث يتعرضون في جبال "بريليز" لهجوم من الذئاب، ويُقَرِّر "كروزو" بيعَ مزرعته، إذ إن عودته إلى البرازيل تستلزم تحوله إلى الكاثولوكية، وهو ما لا يريده ثم يتزوج ويصبح أبًا لثلاثة أطفال، وعندما تموت زوجته ويُصبح أرملًا، يعود إلى جزيرته في نهاية المطاف.

هذا، وقد سبق أن رأينا كيف تُؤكد مادة (حي بن يقظان) في موسوعة "اليوكيبيديا" أنّ للرواية العربية تأثيرًا كبيرًا على نظيرتها الإنجليزية، وهو رأي من الآراء المختلفة في هذه القضية، التي ينقسم قارضوا الأدب بشأنها، إذْ هُناك من يتجاهل تلك الصلة، ولا يتحدثُ عنها، بل لا يومئ إليها مجرد إيماء، وكَأنّها لم تكن، ولا يُمكن أن تكون. وهناك من يؤكد أن "ديفو" إنما سبق ما كتبه "سلكيرك" البحَّار الأسكتلندي عن مغامرته الحقيقية المشابهة بما جاء في قصة (روبنسون كروزو) تلك المغامرة التي نُشرت أكثر من مرة قبل كتابة "ديفو" لروايته، وهناك من يشير إلى وجوه الشبه بين العملين، إلا أنه يُردف ذلك إلى بأنه لم يثبت أن "ديفو" قد استوحى كتاب ابن الطُّفيل، إذ ليس هناك أي دليل على أنه قد وقع في يده؛ فضلًا عن أن يكون قد قرأه.

ص: 321

وهناك من يوافق على أنه لم يثبت تاريخيًّا أن "ديفو" قد اضطلع على (حي بن يقظان)، بَيدَ أنّه يُحتم على هذا أنه يكون قد قرأها وتأثر بها، أي: أنه يعتمد على البرهان النظري للواقعية.

يقول الدكتور سعيد إبراهيم عبد الواحد في مقال له بعنوان "الترجمة إثراء للثقافات المختلفة" منشور في مجلة "ديوان العرب" الإلكترونية، بتاريخ الثامن من كانون الأول أي: ديسمبر سنة ألفين وخمس للميلاد، عن (حي بن يقظان): إنها من أعظم قصص العصور الوسطى ابتكارًا، وقد كان لهذه القصة الأثر الفعال في الآداب الأوربية بعد عصر النهضة، وذلك بعد أن ترجمت إلى اللغات الأجنبية المختلفة، وانتشرت طبعاتها في كل مكان، ومن بين المترجمين لهذه الرسالة "ليونج تييه" الفرنسي، ولعله هو أول مَن بحث علاقة قصة (حي بن يقظان) بقصة (روبنسون كروزو) المكتوبة عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر في بريطانيا تحت عنوان:"مُغامرات عجيبة في قصة حياة روبنسون كروزو".

ووقفت "جوتيا" عند حد افتراض اطلاع "ديفو" على قصة ابن طفيل، ويذهبُ في "دائرة المعارف الإسلامية"، إلى اعتبار أن "كروزو" تمثل نمطًا لرجل عملي دنيوي، في حين يمثل (حي بن يقظان) مثلًا للحياة التأملية التصوفية. ويأتي "إيرن سبيكر" في كتابة (تاريخ القصة الإنجليزية) الصادر في لندن سنة ألف وستمائة وثلاث وأربعين ميلادية، ليعد (حي بن يقظان) أحد المصادر المحتملة لقصة (روبنسون كروزو) وينضم "وليم كيري" و"ليفين أولو فسون" إلى أولئك الذين جزموا باطلاع "ديفو" على قصة (حي بن يقظان)، في حين يقف "أوجستين سيرار" و"ديهارو ويختناش" دون الجزم.

أما الكتَّاب العرب: عمر فروخ، ومحمد غلاب، وعلي المسراطي، وقدري طوقان، وكمال اليازجي، وأنطوان كرم، وإبراهيم مدكور، ومحمد نصر جمعة،

ص: 322

ولطفي عبد البديع، وسعيد عبد الفتاح عاشور، وكامل كيلاني؛ فقد ذهب جميعهم على تأكيد أثر قصة (حي بن يقظان) في قصة (روبنسون كروزو). وأما من افترض أيضًا اضطلاع "ديفو" على (حي بن يقظان) المستشرق "دويشون" كاتب مادة (حي بن يقظان) في الطبعة الجديدة من "دائرة المعارف الإسلامية"، إذ كتب: أنه من المحتمل أن تكون قصة (روبنسون كروزو) التي ظهر جزؤها الأول عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر، مدينة بعض الشيء لترجمة "أوكلي" لقصة ابن طفيل.

كذلك يقرر كامل كيلاني في مقدمة ترجمته المبسطة للناشئين لكتاب (روبنسون كروزو) أنه قد ظهر فيه أثر القصة العربية الخالدة (حي بن يقظان). أما الدكتور عمر فروخ فقد قال في كتابه (تاريخ الأدب العربي): لقد قلّد هذه القصة كتاب كثيرون أشهرهم وأقربهم السياسي القصصي الأدبي "دانيال ديفو" في قصته (روبنسون كروزو). كذلك كتب جميل صليبة، وكامل عياد، في مقدمة تحقيقهما لكتاب (الطفيل مالي). وتمتاز قصة ابن الطفيل عن قصة (روبنسون كروزو) من الناحية الفلسفية، كذلك تمتاز على غيرها من القصص الفلسفية الشرقية بالقرب من الحقيقة الواقعة، وبالوصف الطبيعي، والتفصيلات الدقيقة عن الحياة العملية، عَدَا رشاقة الأسلوب وسهولة العبارات وحسن الترتيب. وهي بهذه المزايا تعد في مقدمة الآثار العربية التي تستحق الخلود في تاريخ الفكر البشري.

وبالمثل تُؤكد مادة (روبنسون كروزو) في موسوعة "سهلول الضوئية": أنّ رواية "ديفو" مُستوحاة من (حي بن يقظان)، إذ نَقْرَأُ فيه أنّ ذلك العمل قصة أوربية

ص: 323

مأخوذة عن قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل الأندلسي، وأنه بعد ترجمة قصة (حي بن يقظان) بدأ الغربيون ينسجون على منوالها، ولعل أهم ما نسجوه قصة (روبنسون كروزو) للكاتب "دانيال ديفو". ورغم هذا؛ فإن كاتب المادة لا يُغْفِلُ الفُروقَ التي بين الروايتين، بل يرصدها معليًا في الوقت ذاته من شأنه الروايات العربية على نظيراتها الإنجليزية.

وأما الدكتور محمد غريب هلال فيستبعد أن يكون لـ (حي بن يقظان) تأثير على قصة "ديفو" لأن التشابه بينهما ظاهري ضئيل كما يقول، علاوة على أن قصة (روبنسون كروزو) أصلًا تاريخيًّا يَتمثل في مغامرات البحار الأسكتلندي "سيلكرك" التي كتب عنها زميل له من البحارة عام ألف وسبعمائة وتسعة، أي: قبل ظهور "روبنسون كروزو" بعشر سنوات. ومع هذا نرى هلالًا في ذات الوقت يؤكد أن قصة الكاتب الإسباني (بلتا أسار جارتسيان ألكريتيكن) التي ظهر أنشاؤها ثلاثة اتباعًا في خمسينيات القرن السابع عشر. إذ من المؤكد في رأيي أن يكون "جراتسان" قد اطلع على قصة ابن الطفيل رغم أنها لم تكن قد ترجمت بعد إلى أية لغة أوربية؛ لأنّه من الصعوبة بمكان أن نرجع هذا التشابه بين العملين إلى مجرد المصادفة.

وهناك أيضًا مدني صالح الذي يَخْلُص في مقاله المنشور في العدد التاسع من مجلة "الأقلام العراقية"، إلى أنّ قصة (روبنسون كروزو) هي عنصر من عناصر "ديفو" الثقافية، وهو ما يؤيده فاروق سعد صاحب كتاب (حي بن يقظان) لابن الطفيل، وهذا يعني أن ذانك الكاتبين يريان أنه لا وجود لأي صلة أو عملية تأثير أو تأثر بين قصة ابن الطفيل، وقصة "دانيال ديفو".

وبالمثل فإن كاتب مادة (روبنسون كروزو) في موسوعة "الإنكارتا" الإنجليزية طبعة ألفين وستة، لا يُشير لأي صلة بين العملين، مكتفيًا فقط بلفت النظر إلى ما

ص: 324

قيل عن تأثر "ديفو" في كتاب (روبنسون كروزو) بما وقع ألكسندر "سيلكرك" بمغامرات حقيقية قرأها الجمهور على نطاق واسع قبل صدور (روبنسون كروزو).

ونفس الشَّيء يردده كاتب ذات المادة في النسخة الفرنسية من طبعة ألفين وتسعة، من "الإنكارتا" إذ يُرجع مصدر إلهامها إلى "ألكسندر سيلكرك" البحار الأسكتلندي الذي غرقت سفينته، واضطر للعيش وحيدًا فوق جزيرة من جزر أرخبيل "خوارفنديز" بشيلي، وعلى نفس الشاكلة تمضي "إنسيكلوبيديا بريتانيكا" الموسوعة البريطانية طبعة ألفين وثمانية في ترجمتها لـ"ديفو"، إذ كل ما تقوله في هذا الصدد هو أن المؤلف قد اعتمد جزئيًّا على مذكرات بعض الرحالة، والناجين من الغرق من أمثال "سيلكيرك" ثم لا شيء آخر.

وتكتفي مادة "دانيال ديفو" في إ"نسيكلوبيديا يونيفرسالس" الموسوعة "اليونيفرسالية" بالقول بأنّ رِوَايةَ "دِيفُو" تَستلهِمُ مغامرات البحار الأسكتلندي "سيلكرك".

وأما من وقفوا نفس الموقف الذي وقفه مدني صالح الدكتور بسام مرتضى، الذي قام بمقارنة بين العملين مبينًا أن التشابه بينهما يثير كثيرًا من الأسئلة، حول مدى تأثير الرواية الأولى في الثانية، وبخاصة أن (حي بن يقظان) تسبق (روبنسون كروزو) في الظهور بزمن جد طويل، فضلًا عن ترجمتها إلى بعض اللغات الأوربية قبل ظُهور رواية مغامرات (روبنسون كروزو) بزمن طويل.

وقام دكتور مرتضى بتلخيص قصة (حي بن يقظان) الذي قذفت به الأمواج إلى جزيرة "الواق واق" الخيالية؛ فتحدث عما ذكره ابن طفيل من ولادة حي غير

ص: 325

العادية، وكيف عاش في كنف غزالة أعانته على الحياة كما تعين الأم وليدها، وكيف وعى الفروق الجسدية التي تميزه عن حياة الغابة، وكيف أخذ يستر عورته وجسده بأوراق الأشجار؛ ثم كيف ماتت الغزالة، فحاول معرفة أسباب موتها لكن دون جدوى، وكيف دفنها كما تفعل الغربان

إلى آخره.

وانتقل البحث بعد ذلك إلى الحديث عن نمو مدارك ابن يقظان وحواسه، واكتشافه للنار، وفهمه لمسألة الجسد والروح، وكيف أخذ يدرك طبيعة الأجساد والأشياء من حوله، ويَعرف طبيعة الأفلاك والأجرام السماوية ليتوصل إلى أن هذا كله لا يصل إلا عن فاعل مختار في غاية الكمال.

وعندما بلغ ابن يقظان الخامسة والثلاثين، تحول حرصه من معرفة المصنوع إلى معرفة الصانع؛ فزهد في الطعام والشراب ولجأ إلى كوخ ينفق وقته في التأمل؛ رغبةً في الوصول إلى مرتبة مشاهدة الحق، إلى أن تم له ذلك ففني عن ذاته، وعن جميع الذوات، ولم يعد في الوجود إلا الحي القيوم، وبقي كذلك حتى بلغ الخمسين من عمره.

ثم أوضح الباحث كيف تعلم (حي بن يقظان) لغة الكلام من رجل اسمه أسال قدِمَ إلى الجزيرة، وكيف اصطحبه أسال إلى مدينته لإقناع الناس بأهمية التأمل لحياتهم الروحية؛ لكن ذلك لم يجد معهم للنقص الذي كان في فِطرتهم، فرجعَا معًا إلى جزيرة "الواق واق" حيث أخذَا يعبدان الله بطريقتهما، حتى أتاهما اليقين.

ثم ينتقل الباحث إلى تلخيص رواية (روبنسون كروزو) فيقول: إنّها تتحدث عن مغامرات (روبنسون كروزو) الذي ترك بيته وأهله، خلافًا لغربتهم، ورحل طالبًا الثروة والمغامرة؛ فصادف أثناء ترحاله مخاطر وأهوالًا كثيرة، منها غرق سفينته، ثم نجاته رغم هذا، ووصوله على ظهر موجة إلى اليابسة في جزيرة ليس فيها إلا الأدغال والوحوش؛ ليجد نفسه هناك وحيدًا دون رفيق من بني جنسه، ثم

ص: 326