المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

فقالت يمين الله أفعل إنني

رأيتك مشئومًا يمينك فاجره

أبَى لي قبر لا يزال مقابلي

وضربة فأس فوق رأسي فاقره

والقصة شعرًا ونثرًا من قصص المواعظ، التي رويت على ألسن الحيوان، وهي جاهلية كما يبدو في صورتها وفي بيئتها أيضًا، ومثل القصة السابقة قصة الثعلب والعنقود، التي وضعت لتفسير المثل: أعجز من ثعالة عن العنقود، أو أعجز عن الشيء من الثعلب عن العنقود، فأصل ذلك المثل كما يقول الميداني: أن العرب تزعم أن الثعلب نظر إلى العنقود فرماه فلم ينله، فقال: هذا حامض وحكى أحد الشعراء ذلك شعرًا، فالمثل جاهلي وقصته جاهلية، أما صياغة القصة شعرًا فيبدو أنها صيغت في العصر الإسلامي، وهذه القصة قد وردت في خرافات لافونتين.

‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

وعندنا أيضًا كتاب (كليلة ودمنة)، وهو في الواقع أثر أدبي ترك بصماته على كثير من الأعمال الأدبية العالمية، وقد اختلف الدارسون حوله، وكانت النسخة العربية التي ترجمها ابن المقفع، وهو من أهل القرن الثاني الهجري مثار دراسات وأخذ ورد، وترجم النص العربي للكتاب إلى السريانية والحديثة والإنجليزية والفارسية الأولى، ثم الثانية والفارسية الهندية والتركية واليونانية والإيطالية والعبرية واللاتينية الوسطى، ثم اللاتينية القديمة والإسبانية القديمة، أما الترجمات الأوربية الأخرى فأكثرها ترجم عن لغات وسيطة أخذت على النص العربي مباشرةً، وبالنسبة لأصل ذلك الكتاب يقال: إن العالم الفارسي برذويه كان مولعًا بالحكمة والعلم، وكان مقربًا من كسرى أنوشروان، فقرأ في كتاب الهنود أن

ص: 253

لديهم نباتًا ينثر على الميت، فيتكلم في الحال، فارتحل برذويه إلى لهند بتوجيه من كسرى، حيث واجهته مصاعب كثيرة إلى أن عرف أن النبات المقصود هو رمز لكتاب (كليلة ودمنة)، الموجود لدى الراجا حاكم الهند.

وقيل: إن هذا الكتاب كان متوارَثًا عند الحاكم لا يسمح لأحد باستنساخه، إلا أن برذويه بعلمه وحكمته وحسن خلقه استطاع الاطلاع على النسخة الهندية، وكان يرسل إلى كسرى أنوشروان ما يحفظه منها تباعًا، وتولى بوزرج مهر كتابة ما يصل من برذويه، وصدر الكتاب بعد ذلك، وهو يدور حول قصص يرويها الفيلسوف بيدبا للملك دبشليم، واطلع ابن المقفع على النسخة الفارسية للكتاب، وكان لها أثر بالغ في نفسه وتفكيره وثقافته، وكانت الظروف الاجتماعية والسياسية التي تحيط بالفيلسوف الهندي بيدبا في علاقته بالملك دبشليم، تشابه ما كان فيه ابن المقفع مع الخليفة المنصور، الذي كان بحاجة إلى النصح غير المباشر؛ لِمَا عرف عنه من قوة البأس والبطش بكل من لا يمالئه، أو يخرج عن طاعته؛ لذا اتسمت ترجمة ابن المقفع للكتاب بخصوصية ظرفها الزماني والمكاني، فأضاف ابن المقفع بعض القصص من نسج تأليفه، وعدل في بعضها، وأكسب المترجم منها روحًا جديدة من خلال أسلوبه المشوق وعرضه الرائع.

هذا، وتناول الكتاب قصصًا ترجي على لسان الحيوان في ظاهرها؛ لتصل لأهداف أخرى أخلاقية وإصلاحية لشئون المجتمع والسياسة، فالحيوان في (كليلة ودمنة) أداة توظيف لغاية قصدها الكاتب، وقد يتحقق هذا الهدف بعرض الحكمة مباشرة، أو من خلال الفكاهة، التي تظهر في قيام الحيوان بالدور الإنساني تصرفاتٍ أو كلامًا، وقد صرح ابن المقفع أكثر من مرة أن للكتاب غرضًا ظاهريًّا، وآخرَ باطنيًّا.

ص: 254

وقد تناول الدكتور عمر فروخ في المجلد الثاني من كتابه (تاريخ الأدب العربي) النظريات، التي تتعلق بكيفية تأليف ذلك الكتاب، فقال: هناك ثلاث نظريات:

النظرية الأولى: أن الكتاب منقول عن الفهلوية.

أما الثانية: فهي تتخلص في أن الكتاب غير معروف بالآداب القديمة بهذا الشكل، وما دبشليم الملك ولا بيدبا الفيلسوف ولا فور ملك الهند، إلا أعلام منسوبة إلى زمن لم تكن فيه وأمكنة لا تعرفها، ثم إن ما في الكتاب من احتقار للثورة، ومن آيات قرآنية كريمة ومن أحاديث شريفة، ومن آراء لا شك في أنها من صلب الفقه الإسلامي، يدل على أن الكتاب نشأ في بيئة إسلامية عربية محضة.

وهناك نظرية أخرى تقول: إن القصص الواردة في كتاب (كليلة ودمنة) معروفة بأعيانها أو بأشباهها عند اليونان، وعند الفرس وعند الهنود وعند اليابانيين، وعلى هذا يكون عبد الله بن المقفع قد استقى القصص من الأدب الفارسي والهندي، ثم ساقها بسياقه هو واستخلص منها العبر التي يريدها هو، وأضاف إليها وحذف منها. وهذا مثال من كتاب (كليلة ودمنة)، وهو حكاية المسماة القرد والغيلم، وتجري على النحو التالي:

قال دبشليم للملك الفيلسوف: اضرب لي مثلًا الرجل الذي يطلب الحاجة، فإذا ظفر بها أضاعها قال الفيلسوف: إن طلب الحاجة أهون من الاحتفاظ بها، ومن ظفر بحاجة ثم لم يحسن القيام بها أصابه ما أصاب الغيلم، قال الملك: وكيف ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أن قردًا يقال له: ماهر، كان ملك القردة، وكان قد كبر وهرم، فوثب عليه قرد شاب من بيت المملكة، فتغلب عليه، وأخذ مكانه فخرج هاربًا على وجهه؛ حتى انتهى إلى الساحل فوجد شجرة من شجر التين فارتقى إليها، وجعلها مقامه.

ص: 255

فبينما هو ذات يوم يأكل من ذلك التين، إذ سقطت من يده تينة في الماء، فسمع لها صوتًا وإيقاعًا، فجعل يأكل ويرمي في الماء فأطربه ذلك، فأكثر من طرح التين في الماء، وثم غيلم كلما وقعت تينة أكلها، فلما كثر ذلك ظن أن القرد إنما يفعل ذلك لأجله، فرغب في مصادقته وأنس إليه وكلمه، وألف كل واحد منهما صاحبه، وطالت غيبة الغيلم عن زوجته فجزعت عليه، وشكت ذلك إلى جارة لها، وقالت: قد خفت أن يكون قد عرض له عارض سوء فاغتاله، فقالت لها: إن زوجك بالساحل قد ألف قردًا وألفه القرد، فهو مؤاكله ومشاربه، وهو الذي قطعه عنك، ولا يقدر أن يقيم عندك؛ حتى تحتالي لهلاك القرد، قالت: وكيف أصنع؟ قالت لها جارتها: إذا وصل إليك فتمارضي، فإذا سألك عن حالك، فقولي: إن الحكماء وصفوا لي قلب قرد.

ثم إن الغيلم انطلق بعد مدة إلى منزله، فوجد زوجته سيئة الحال مهمومة، فقال لها الغيلم: ما لي أراك هكذا؟ فأجابته جارتها وقالت: إن زوجتك مريضة مسكينة، وقد وصف لها الأطباء قلب قرد، وليس لها دواء سواه، قال الغيلم: هذا أمر عسير، من أين لنا قلب القرد ونحن في الماء؟ لكن سأحتال لصديقي، ثم انطلق إلى ساحل البحر، فقال له القرد: يا أخي، ما حبَسَك عني؟ قال الغيلم: ما حبسني إلا حيائي، فلم أعرف كيف أجازيك على إحسانك لي، وأريد أن تتم إحسانك إليَّ بزيارتك إياي في منزلي، فإني ساكن في جزيرة طيبة الفاكهة، فركب ظهر الغيلم فسبح به؛ حتى إذا سبح به عرض له قُبح ما أضمر في نفسه من الغدر، فنكس رأسه، فقال له القرد: ما لي أراك مهتمًّا؟ قال الغيلم: إنما همي؛ لأني ذكرت أن زوجتي شديدة المرض؛ ولذلك يمنعني من كثير ما أريد أن أبلغه من حرصي على كرامتك وملاطفتك، قال القرد: إن الذي أعرف من حرصك على كرامتك يكفيك مؤونة التكليف، قال الغيلم: أجل.

ص: 256

ومضى بالقرد ساعة، ثم توقف به ثانية فساء ظن القرد، وقال في نفسه: ما احتباس الغيلم وإبطاؤه إلا لأمر، ولست آمنًا أن يكون قلبه قد تغير لي، وحال عن مودتي فأراد بي سوءًا، فإنه لا شيء أخف وأسرع تقلبًا من القلب، وقد يقال: ينبغي للعاقل ألا يغفل عن التماس ما في نفس أهله وولده وإخوانه وصديقه عند كل أمر وفي كل لحظة وكلمة، وعند القيام والقعود، وعلى كل حال فإن ذلك كله يشهد على ما في القلوب. قالت العلماء: إذا دخل قلب الصديق من صديقه ريبة، فليأخذ بالحزم من الحفظ منه، وليتفقد ذلك في لحظاته وحالاته، فإن كان ما يظن حقًّا ظفر بالسلامة وإن كان باطلًا ظفر بالحزم، ولم يضره ذلك.

ثم قال للغيلم: ما الذي يحبسك؟ أي: ما الذي يوقفك، وما لي أراك مهتمًّا كأنك تحدث نفسك مرة أخرى؟ قال: يهمني أنك تأتي منزلي فلا تجد أمري كما أحب؛ لأن زوجتي مريضة، قال القرد: لا تهتم، فإن الهم لا يغني عنك شيئًا، ولكن التمس ما يصلح زوجتك من الأدوية والأغذية، فإنه يقال: ليبذل ذو المال ماله في أربعة مواضع: في الصدقة وفي الحاجة وعلى البنين وعلى الأزواج. قال الغيلم: صدقت وقد قال الأطباء: إنه لا دواء لها إلا قلب قرد، فقال القرد: وا أسفاه، لقد أدركني الحرص والشر على كِبر نفسي؛ حتى وقعت في شر ورطة، ولقد صدق الذي قال: يعيش القانع الراضي مستريحًا مطمئنًّا، وذو الحرص والشره يعيش معاش ذي تعب ونصب، وإني قد احتجت الآن إلى عقلي في التماس المخرج مما وقعت فيه.

ثم قال للغيلم: وما منعك أن تعلمني عند منزلي حتى كنت أحمل قلبي معي؟ فهذه سنة فينا معاشر القردة إذا خرج أحد لزيارة صديق خلف قلبه عند أهله، أو

ص: 257

في موضعه؛ للنظر إذا نظرنا إلى حرم المزور، وليس قلوبنا معنا، قال الغيلم: وأين قلبك الآن؟ قال: خلفته في الشجرة فإن شئت فارجع بي إلى الشجرة؛ حتى آتيك به، ففرح الغيلم بذلك، وقال: لقد وافقني صاحبي بدون أن أغدر به، ثم رجع بالقرد إلى مكانه، فلما أبطأ على الغيلم ناداه: يا خليلي، احمل قلبك وانزل، فقد حبستني، فقال القرد: هيهات، أتظن أني كالحمار، الذي زعم ابن آوى أنه لم يكن له قلب ولا أذنان، قال الغيلم: وكيف ذلك؟

قال القرد: زعموا أنه أسد في أجمة وكان معه ابن آوى يأكل من فواضل طعامه، فأصاب الأسد جرب وضعف شديد، فلم يستطع الصيد، فقال له ابن آوى: ما بالك يا سيد السباع قد تغيرت أحوالك؟ قال: هذا الجرب الذي أجهدني وليس له دواء إلا قلب حمار وأذناه، قال ابن آوى: ما أيسر هذا، وقد عرفت بمكان كذا حمار مع قصار يحمل عليه ثيابه، وأنا آتيك به، ثم دلف إلى الحمار فأتاه وسلم عليه، فقال له: ما لي أراك مهزولًا؟ قال: ما يطعمني صاحبي شيئًا، فقال له: وكيف ترضى المُقام معه على هذا؟ قال: فما لي حيلة في الهرب منه لست أتوجه إلى جهة، إلا أضر بي إنسان فكدني وأجاعني، قال ابن آوى: فأنا أدلك على مكان معزول عن الناس لا يمر به إنسان، خصيب المرعى فيه، قطيع من الحمر لم ترَ عين مثلها حسنًا وسمنًا، قال الحمار: وما يحبسنا عنها؟ فانطلق بنا إليها.

فانطلق به ابن آوى نحو الأسد، وتقدم ابن أوى ودخل الغابة على الأسد، فأخبره بمكان الحمار فخرج إليه، وأراد أن يثب عليه فلم يستطع لضعفه، وتخلص الحمار منه، فأفلت هلعًا على وجهه، فلما رأى ابن آوى أن الأسد لم يقدر على الحمار، قال له: أعجزت يا سيد السباع إلى هذه الغاية؟ فقال له: إن جئتني به مرة أخرى فلن ينجو مني أبدًا.

ص: 258

فمضى ابن آوى إلى الحمار، فقال له: ما الذي جرى عليك، إن أحد الحمر رآك غريبًا، فخرج يتلقاك مُرحبًا بك، ولو ثبت له لآنسك، ومضى بك إلى أصحابه، فلما سمع الحمار كلام ابن آوى، ولم يكن رأى أسدًا قط، صدقه وأخذ طريقه إلى الأسد، وأعلمه بمكانه، وقال له: استعد له، فقد خدعته لك، فلا يدركنك الضعف في هذه النوبة، إن أفلت فلن يعود معي أبدًا، فجأش جأش الأسد لتحريض ابن آوى له، وخرج إلى موضع الحمار، فلما بصر به عاجله بوثبة افترسه بها، ثم قال: قد ذكرت الأطباء إنه لا يؤكل إلا بعد الغسل والطهور، فاحتفظ به حتى أعود، فآكل قلبه وأذنيه، وأترك ما سوى ذلك قوتًا لك.

فلما ذهب الأسد؛ ليغتسل عمد ابن آوى إلى الحمار فأكل قلبه وأذنيه، رجاء أن يتطير الأسد منه فلا يأكل منه شيئًا، فقال لابن آوى: أين قلب الحمار وأذناه؟ قال ابن آوى: ألم تعلم أنه لو كان له قلب يفقه به وأذنان يسمع بهما لم يرجع إليك بعدما أفلت ونجى من الهلكة؟ وإنما ضربت لك هذا المثل؛ لتعلم أني لست كذلك الحمار، الذي زعم ابن آوى أنه لم يكن له قلب وأذنان، ولكنك احتلت عليَّ، وخدعتني فخدعتك بمثل خديعتك، واستدركت فارط أمري، وقد قيل: إن الذي يفسده الحلم لا يصلحه إلا العلم.

قال الغيلم: صدقتَ، إلا أن الرجل الصالح يعترف بزلته، وإذ أذنب ذنبًا لم يستحِ أن يؤدب لصدقه في قوله وفعله، وإن وقع في ورطة أمكنه التخلص منها بحيلته وعقله، كالرجل الذي يعثر على الأرض ثم ينهض عليها معتمدًا، فهذا مثل الرجل الذي يطلب الحاجة فإذا ظفر بها أضاعها.

وقد نقل أبان بن عبد الحميد الشاعر العباسي المعروف كتاب (كليلة ودمنة)، وجعله شعرًا؛ ليسهل حفظه على الناس وهو معروف أوله:

ص: 259

هذا كتاب أدب ومحنة

وهو الذي يدعى كليلة ودمنة

فيه احتيالات وفيه رشد

وهو كتاب وضعته الهند

ويقع في أربعة عشر ألف بيت، وانتهى منه في ثلاثة أشهر، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل خمسة آلاف ولم يعطِه جعفر شيئًا، وقال: ألا يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك؟

ويقول ابن المعتز في كتابه (طبقات الشعراء): إنه نظمه في أكثر من خمسة آلاف بيت، وإنه أنجزه في أربعة أشهر، وهذه عبارته نصًّا: هو صاحب البرامكة وشاعرهم، وصاحب جوائزهم للشعراء وهو يستخرجها لهم، ويفرقها عليهم، وهو الذي نقل (كليلة ودمنة) شعرًا بتلك الألفاظ الحسنة العجيبة، وهي هذه المزدوجة التي في أيدي الناس، وكان الذي استدعى ذلك وأراده يحيى بن خالد بن برمك، وكان قد اختار أبا نواس وصار إليه أبان اللاحقي، فقال كالمنتصح: أنت رجل مغرم بهذا الشراب لا تصبر عنه وعن الإشباع بإخوانك عليه، وهو لذتك من الدنيا ومتعتك، وهذا الكتاب مشهور ولم ينتقل لهذا الوقت من المنثور إلى الشعر، وإذا فعل ذلك تداوله الناس وطلبوه ونظروا فيه، فإن أنت تداولته مع تشاغلك بلهوك ولذتك لم يتوفر عليك فكرك وخاطرك، ولم يخرج بالغًا في الجودة والحسن، وإن توفرتَ عليه واهتممت به قطعك ذلك عن لهوك ولذتك ومتعتك، فلا تقدم عليه إلا بعد إنعام النظر في أمرك.

فظن أبو نواس أنه قد نصح له، واستقال الأمر فيه فاستعفى عنه وتخلى به اللاحقي، ولزم بيته لا يخرج حتى فرغ منه في أربعة أشهر، وهي قريبة من خمسة آلاف بيت، لم يقدر أحد من الناس أن يتعلق عليه بخطأ في نقله، ولا أن يقول: ترك من لفظ الكتاب أو معناه، ثم حمله إلى يحيى بن خالد فسُر به سرورًا عظيمًا، وأعطاه على ذلك مائة ألف درهم،

ص: 260

ولابن الهبارية (تاريخ الفطنة في نظم كليلة ودمنة) أي: أنه نظمه أهو أيضًا شعرًا.

وعن أثر (كليلة ودمنة) في الأدب العربي والآداب العالمية، تقول الدكتورة نفوسه زكريا في كتابها (خرافات لافونتين في الأدب العربي): لم تقتصر شهرة كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع بين العرب وحدهم، بل امتد إلى الشرق والغرب وصار الكتاب بعد ضياع الأصل الهندي والترجمة الفارسية الأصل الذي ترجمت عنه لغات العالم، حتى إن الفرس أنفسهم قد ترجموه عدة مرات وفي عصور مختلفة إلى لغتهم، وكان من هذه الترجمات ترجمة حسين واعظ كاشني المعروفة بأنوار سيري، ترجمها في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وأهداها إلى الأمير أحمد السهيلي، أحد الأمراء في عهده ونسبها إليه.

وهذه الترجمة الفارسية التي كان الأصل العربي أساسًا مباشرًا لها، هي التي ترجمها إلى الفرنسية داود ساهل الأصبهاني بعنوان: كتاب الأنوار أو أخلاق الملوك، تأليف الحكيم الهندي بلباي بيدبا، وقد ظهرت هذه الترجمة عام ألف وستمائة وأربعة وأربعين في عهد لافونتين، ولعل لافونتين اطلع عليها وعرف عن طريقها بيدبا الذي يعترف لافونتين نفسه بأنه كان من مصادره، حيث يقول في مقدمة المجموعة الثانية من خرافاته: ليس من الضروري فيما أرى أن أقول هنا: من أين استقيت هذه الموضوعات الأخيرة؟ غير أني أقول فقط اعترافًا بالفضل: إني مدين في أكثرها بالباي بيدبا الحكيم الهندي الذي تُرجم كتابه إلى كل لغات.

ولقد أحدث كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع ازدهارًا في فن القصة المروية على ألسن الحيوان الخرافة في الأدب العربي، لا في عصر ابن المقفع فحسب، بل فيما تلاه من عصور، فمنذ أن عرفت العربية هذا الكتاب اتجهت أنظار أدبائها شعراءًا وكتابًا إلى هذا النوع من القصص، منهم من نظم كتاب (كليلة ودمنة)، ومنهم مَن قلده.

ص: 261