الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي
والآن إلى بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي:
ونقف أولًا عند جُحا الذي أنكر الدكتور هلال -كما رأينا منذ قليل- صلاحيته لأن يكون نموذجًا إنسانيًّا في الأدب، وفي الواقع أن جُحا يعد نموذجًا لا على الحمق أو الغباوة، بل على التحامق، أو قل: إنّه ذَكاء الباحث عن جوهر الحقيقة، مع التظاهر بالغباء والحماقة.
ذلك أنه -كما يقول الدكتور محمد رجب النجار في كتابه (جحا العربي): لم يكن مخبولًا أو ناقص العقل، كما يتوهم؛ بل كان يتناول الأمور من أقرب الزوايا إلى الحق والواقع، مهما بدت معقدة، أو تظاهرنا نحن بتعقيدها، فيبدو عمله مناقضًا لصنيع الآخرين الذين لا يتصورون الحق قريبًا، كما كان صريحًا في التعبير عن نفسه، لا يَشْغَلُ باله أنّ الإطار الاجتماعي والسياسي كثيرًا ما يَفرض على الناسِ أن يسكتوا أو يرمزوا؛ فهو يستسلم دائمًا لرغباته في لحظتها.
وهذه الفلسفة الخاصة به وبأمثاله، تجعله بريئًا من الخوف أو الكبت وتبرزه، وهو ما جعلت شخصيته أقرب ما تكون إلى من يسقط عنه التكليف الاجتماعي.
وقد ألممنا بما قاله الدكتور هلال عن جُحا من هذه الناحية، وأرى أنه حكم شديد التسرع والانكسار؛ فإنّ للنّموذج الجحوي في كثير من الآداب العالمية مكانًا ومكانة، فكيف يزعم الدكتور هلال هذا الزعم غير القائم على أساس؟! لقد تَناولت النُّسخة العربية موسوعة "الويكيبديا" في مقال لها بعنوان:"جُحا" هذا الموضوع.
ومن الواضح أن كاتب مقالته عن جحا قد قرأ مادة نصر الدين في النسخة الإنجليزية من نفس الموسوعة، ووضع في ذهنه أن يضع الحق في نصابه عندما لم يجدها قد ردت شخصية نصر الدين إلى أصلها العربي، دجين بن ثابت على ما جاء في الكتب العربية القديمة التي تعرضت لهذه المسألة، فأكد أنّ كُلّ شعب قد صمم له بناء على شخصية جحا العربي، جحًا خاصًّا بها، بِمَا يتلاءم مع طبيعته، وظروف الحياة الاجتماعية الخاصة به.
ومع أن الأسماء تختلف وشكل الحكايات رُبما يختلف أيضًا؛ فإن شخصية جحا المغفل الأحمق وحماره لم يتغير، أو لم تتغير.
وهكذا نجد شخصية نصر الدين خواجا في تركيا، وملا نصر الدين في إيران وكردستان، ومشفقي في تبريز حسبما جاء في مادة "إسلاميك آرتس" من الموسوعة البريطانية في طبعتها لعام 2010 ومن الشخصيات التي شابهت جحا "جبرو" في بلغاريا المحبوب و"آرتين" الأرمنيا صاحب اللسان السليط، و"آريو" يوغسلافيا المغفل.
ونضيف نحن بناء على ما ورد في مقال نصر الدين في كل من "الوكوبيديا" الإنجليزية والموسوعة اليونفرساليت الفرنسية إلى هذه الأسماء اسم "تل أورنج بيجل" عند "الفلمنكيين" وأبو نواس عند السواحليين، ومن يقرأ مثلًا مقال المخصص للشخصية "تل أورانج بيجن" الفلمنكي في "الوكبيديا" يتبين له في التو أن السمات التي تميز شخصيته ونوادره، تُشبه نظريتها لدى جحا مع أخذنا في الاعتبار ما لا بد من طروئه على تلك السمات، عند انتقاله إلى المحيط الجديد.
وأذكر بهذه المناسبة أنه كان لي زميل وصديق ياباني أثناء المرحلة الجامعية، كان قد أسلم حديثًا؛ فكان يُرَدّد علينا طول النهار نكتًا عن مهران العبيط، أو كما كان ينطقها "مهرانا أبيت" نكتة وراء أخرى، وهي في الواقع حكايات جحوية، وقد عزا كاتب مادة نصر الدين في "الوكبيديا" الإنجليزية هذا التشابه إلا أن تلك النوادر قد ترجمت إلى كثير من اللغات.
وفي المادة الخاصة بنصر الدين خوجا في الموسوعية "اليوفرسانية" الفرنسية "سيكلوبيديا يونيفرسليز" أن حكايات هذا الأخير ترتد في أصلها إلى جحا العربي، وإن أضيفت إليها أشياء من هنا وهناك، تبعًا للبلاد التي مرت بها أثناء رحلتها الطويلة عبر التاريخ والجغرافيا.
وبالعودة إلى التاريخ -كما يقول الكاتب- نكتشف أن كل هذه الشخصيات قد ولدت واشتهرت في القرون المتأخرة، بما يدل على أنها تكونت شخصياتها على أساس من شخصية جحا العربي، الذي سبقهم جميعًا. وهو دجين بن ثابت الفزاري.
والواقع أن ما قاله كاتب المادة صحيح، إذ تذكر مقالة النسخة الإنجليزية من الموسوعة: أن أقدم مخطوطة للنوادر المنسوبة إلى نصر الدين تعود إلى أوائل الثلث الأخير من القرن السادس عشر الميلادي، أما النسخة الفرنسية من الموسوعة؛ فترجع تاريخ نصر الدين نفسه إلى ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين، على حين أن المصادر التي تتحدث عن جحا العربي، وتورد نوادره أقدم من ذلك كثيرًا.
وعلى سبيل المثال فإن الجاحظ يورد في "رسالة البغال" النادرة التالية من نوادر جحا: "نظر جُحا إلى رجل بين يديه، يسير على بغلة؛ فقال الرجل: الطريق يا
حمصي، فقال رجل: ما يدريك أني حمصي؟ قال: رأيت حير بغلتك فإذا هو يشبه الحاء، ورأيت فقحتها فرأيتها تشبه الميم، ورأيت زنبها فإذا هو يشبه الصاد، فقلت: إنك حمصي".
وفي (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي، قال جحا لأبي مسلم صاحب الدعوة: إني نذرت إن رأيتك أن آخذ منك ألف درهم، فقال: رأيت أصحاب الهزور يعطون لا يأخذون، وأمر له بها. وفي (البصائر والذخائر) للتوحيدي أيضًا عدة نوادر أخرى لجحا. وفي (تزيين الأسواق) لداود الأنطاكي: أن جُحا قد اشترى يومًا دقيقًا وأعطاه لحَمّال فلما دخلوا في الزّحام هرب الحمال بالدقيق، فرآه جحا بعد أيام فتوارى جُحا منه فقيل لجحا: لم ذلك؟ فقال: أخاف أن يطالبني بالأجرة.
وقدم إلى أبي حازم القاضي سكران ليمتحنه، فقال: من ربك؟ قال: أصلحك الله، هذا ليس من مسائل القضاة، إنه مسائل منكر ونكير؛ فضحك وخلى سبيله. وفيه أيضًا: دخل جحا على المهدي يومًا، فقال له: كم عيالك؟ قال: ثمانية، فأمر له بثمانية آلاف درهم، فأخذها وخرج ولما بلغ الباب رجع، وقال: نسيت واحدًا من عيالي؛ فقال: من هو؟ قال: أنا، فضحك المهدي وأمر له بمثل ذلك.
كما سجل ابن النديم، وهو من أهل القرن السادس الهجري طرائف جحا في كتاب له بعنوان (نوادر جحا)، وفي (جمهرة الأمثال) لأبي هلال العسكري "أحمق من جحا"، وتحت هذا المثل في (مجمع الأمثال) للميداني نقرأ ترجمة لجحا
وبعض من نوادره، يقول الميداني: هو رجل من فزارة وكان يكنى أبا الغصن، فمن حمقه: أن عيسى بن موسى الهاشمي مر به وهو يحفر بظهر الكوفة موضعًا، فقال له: ما لك يا أبا الغصن؟ قال: إني قد دفنتُ في هذه الصحراء دراهم، ولستُ أهتدي إلى مكانها، فقال عيسى: كان يجب أن تجعل عليها علامة، قال: قد فعلت، قال: ماذا؟ قال: سحابة في السماء كانت تظلها، ولست أرى العلامة في السماء".
ومن حمقه أيضًا: "أنه خرج من منزله يومًا بغلس -أي: في الظلام- فعثر في دهليز منزله بقتيل، فضجر به وجره إلى بئر منزله، فألقاه فيها فنزر به أبوه -أي: أحس به أبوه- فأخرجه وغيبه وخنق كبشًا، حتى قتله وألقاه في البئر، ثم إنّ أهل القتيل طافوا في سكك الكوفة، يبحثون عنه فتلقاه جحا فقال: في دارنا رجل مقتول، فانظروا أهو صاحبكم؟ فعدلوا إلى منزله وأنزلوه في البئر، فلما رأى الكبش ناداهم وقال: يا هؤلاء، هل كان لصاحبكم قرن، فضحكوا ومروا -أي: مضوا-".
ومن حُمقه: "أن أبا موسى صاحب الدولة لما ورد الكوفة قال لمن حوله: أيكم يعرف جحا فيدعوه إليّ؟ فقال يقطين: أنا، ودعاه فلما دخل لم يكن في المجلس غير أبي موسى ويقطين، فقال: يا يقطين، أيكما أبو موسى؟! "
ويعلق كاتب مادة جحا في "الوكبيديا" العربية على التشابهات بين نوادر جحا، ونوادر الشخصيات المناظرة له في الآداب الأخرى، قائلًا: إنك تجد الطرائف الواردة في كتاب (نوادر جحا) أي: جحا العربي، المذكور في (فهرس ابن النديم) الذي كان يعيش في القرن الرابع الهجري، هي نفسها مستعملة في نوادرهم الأخرى، ولم يختلف فيها غير أسماء المدن والملوك وتاريخ وقوع الحكاية؛ مما يدل على الأصل العربي لهذه الشخصية.
ثم يمضي كاتب المادة فيقول: إنّ أقدم قصص جُحا تَعُود إلى القرن الأول الهجري، القرن السابع الميلادي؛ فهو دُجين بن ثابت الفزاري، الذي روى عنه أسلم مولى عمر بن الخطاب، وهشام بن عروة، وعبد الله بن المبارك وآخرون. قال الشيرازي: جحا لقب له وكان ظريفًا، والذي يُقال فيه مكذوب عليه.
وقال الحافظ ابن عساكر: إنّه عاش أكثر من مائة سنة، وذكر أن جُحَا تابعي من التابعين، كانت أمه خادمة لأنس بن مالك، وكان الغالب عليه السماحة وصفاء السريرة، فلا ينبغي لأحد أن يسخر به.
وذكر جحا هذا أيضًا في كتب الجلال السيوطي، والذهبي، والحافظ ابن الجوزي، الذي قال: ومنهم جحا. ويكنى أبا الغصين، وقد روي عنه ما يدل على فطنة وذكاء، إلا أن الغالب عليه التغفيل، وقيل: إن بعض من كان يعاديه وضع له حكايات، أي لفقها عليه.
وقال الميداني -طبقًا لما مر بنا قبل قليل-: هو رجل من فزارة، وكان يكنى أبا الغصن. وسواء كان جحا هو هذا أو ذاك؛ فمن الواضح الذي لا يحتاج إلى إثبات أنه أقدم كثيرًا جدًّا في الوجود التاريخي من نصر الديني. وانظر مادة جحا في الطبعة الجديدة من دائرة المعارف الإسلامية.
أما جحا الرومي فهو نصر الدين خوجا، وهو تركي الأصل من أهل الأناضول مولده في مدينة "سيورحصار" ووفاته في مدينة "آق شهر" وقد تلقى علوم الدين في "آق شهر" وقونيا، وولي القضاء في بعض النواحي المتاخمة لآق شهر ثم ولي الخطابة في "سوري حصار" ونصب مدرسًا وإمامًا في بعض المدن، وساح في ولاية قنيا وأنقرة وبرصا وملحقاتها، وكان واعظًا مرشدًا صالحًا يأتي بالمواعظ في قالب النوادر، وله جرأة على الأمراء والقضاة والحكام، وكثيرًا ما كانت الحكومة
تستقدمه من آق شهر إلى العاصمة يومئذ قنيا. وكان عفيفًا زاهدًا، يحرث أهله ويحتطب بيده، وكانت داره محطًّا للواردين من الغرباء والفلاحين.
ويُذكر أن وساطته أنقذت بلدته من "تيمور لانك" الجبار الطاغية المغولي في القرن الرابع عشر الهجري، أما زمنه فالراجح أنه كان في عهد السلطان "أور خان" وظل حتى عهد السلطان "نيل درم" أي: في أوائل القرن السابع من للهجرة، وعاش إلى سنة ستمائة وثلاث وسبعين هجرية، وتوفي عن نحو ستين عامًا، وقبره الآن في تركيا ومكتوب عليه نصر الدين خوجا المشهور بجحا.
وقد أوحت رواية "لوليفر دي جحا، لو سيبل" جحا العبيط التي صدرت سنة ألف وسبعمائة وثماني عشر بقلم أديس و"جوزيبوفيسي" للمخرج "جاك بارتيه" بسيناريو فيلم يدعى جحا، قام ببطولته الممثل المصري عمر الشريف، والإيطالية "كولديا كارندالي" وتم عرضه في دور الخيالة عام ألف وتسعمائة وثمانية وخمسين ميلادية، كما عرضت الصين ما بين عام تسعة وسبعين، وثمانية وثمانين وتسعمائة وألف أربعة عشر حلقة عن جحا بعنوان "حكايات أفندي".
وثَمّ كتابٌ عن جحا ألفه الكاتب الروسي "يونيل سوليفيف" عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، صور فيه جحا شخصًا جوالًا يفر من الحكومات الظالمة، التي تُرهق الناس بالضرائب والمكوث العبثية في غير مقابل من الخدمات تؤديه الحكومات لمواطنيها، التي تفدحهم بها، وهناك كتب كثيرة للأطفال تدور حول "جحا" منها على سبيل التمثيل:(حكاية جحا والحمار)، و (حكاية جحا القاضي) لمنصور علي عرابي، و (حكاية جحا الفيلسوف) لإيمان عرابي عبد العزيز، و (جحا والسلطان) لأحمد بهجت.
كما دخل اسمه الأمثال الشعبية من مثل: "جحا أولى بلحم طوره" و"مسمار جحا"، "بلدك منين يا جحا إللي فيها مراتي".
وهكذا وقد جعلت منظمة "اليونسكو" من عام ستة وتسعين وسبعمائة وألف ميلادية عام نصر الدين جحا، وفي آخر مقال النسخة الفرنسية من "الويكبيديا" عن جحا ثبتٌ بالكتب والمقالات التي تتحدث عن جحا، أو تتضمن حكاياته يبلغ بضع عشرات، ولا أظنها إلا جزءًا ضئيلًا من المصادر والمراجع التي تتعلق بالموضوع، إذ تقتصر على اللغة الفرنسية ليس إلا.
وقد اختلطت الكثير من النوادر الجحوية والنصرية، حتى يقول الدكتور محمد رجب النجار: إنّ الفصل بينهما أصبح شبه مستحيل، بل غير مجدٍ في النهاية، وإنْ كان في كلام الدكتور النّجار شيء غير قليل من المبالغة، كما سيتبين بعد قليل. كما لاحظ الدكتور أن هناك ميلًا لطمس جحا العربي لمصلحة نصر الدين التركي، ذلك أننا سنجد أن أكثر الكتب العربية التي جمعت النوادر الجحوية بين دفتيها، وخاصة تلك التي شهدت عصر المطبعة في العالم العربي -كما يقول الدكتور النجار- سنجدها جميعًا بلا استثناء تنسب النوادر إلى جحا العربي الرومي، في آن واحد.
فهي مثلًا تقول: "نوادر جحا الكبرى" في عنوانها الرئيسي، وتذكر تحته العنوان ببنط أصغر هذه مجموعة من نوادر الشيخ نصر الدين المعروف بجحا، لقد بلغ من هذا الخلق أن جاء ناشر كتاب (أخبار الحمقى) لابن الجوزي الذي صدر قبل أن يوجد رمز تركي نصر الدين خوجا بعدة قرون، فذكر فيه مثل هذا الكتاب معنونًا لنوادر جحا العربي، هذا العنوان "أخبار جحا المعروف بنصر الدين خوجا". وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أن العقلية العربية قد تمثلت في النموذجين معًا، وجعلتهما واحدًا مما أتاح فرصة لكل جامع النوادر أن تنسب ما تشاء من النوادر لمن تشاء من أعلام الدعابة عربية أو تركية دون حرج.
بل إن حكمت شريف الذي ترجم النوادر التركية إلى العربية، في كتابه المعروف (نوادر جحا الكبرى) والذي قدر له أن ينتشر في العالم العربي، حتى لقد طبع في مصر أكثر من عشرين طبعة، غير الطبعات السورية واللبنانية والعراقية وغيرها، نَرى حِكْمَت شِريف يَنُصّ صراحة في المقدمة التي كتبها قائلًا: وبعد فقد وقع لي كتاب نوادر ضخم باللغة التركية يسمى (لطائف خوجا نصر الدين) وهو مشهور عندنا في العالم العربي بنصر الدين جحا صاحب الأخبار المستغربة، والنكات المستملحة.
ولما كان ما طُبع في العربية من نوادره قليلًا جدًّا أقدمت على ترجمة هذا الكتاب عن اللغة التركية، وألحقت به مع عثرت عليه في غيره من كتب العرب والترك، من أخبار هذا الرجل وأطواره وقصصه ونوادره؛ حتى اجتمع لديّ هذا الكتاب، ويُضيف الدكتور محمد رجب النّجار أنّ الطبعات العربية جميعًا تستمر على هذا الخلط بين الشخصيتين.
ومن هنا يقول العقاد: إنّ النوادر المنسوبة إلى جحا، يستحيل أن تكون صادرة كلها عن شخص واحد، إذ الأزمنة التي تقع فيها تختلف، وكذلك الأشخاص الذين يظهرون مع جحا ينتمون إلى عصور مختلفة، والعادات والتقاليد التي تعرضها مختلفة، كما أن السمات النفسية والعقلية التي ترسمها لجحا لا يمكن أن تكون لذات الشخص في النوادر كلها؛ لأن بعضها يناقض بعضها الآخر.
ومع هذا نرى العقاد في كتابه (جحا الضاحك المضحك) يميز بعض النوادر بأنها مثلًا نوادر تركية لا عربية، لما تتضمنه من الملامح الأدبية التي تتعلق بلغة الترك لا بلغة العرب، أو لأنها تذكر أسماء مُدن تركية لا عربية، ويُمكن أن نضيف إلى ذلك: أنّ النّوادِر التي تدور حوادثها في بلاد عربية، أو تتحدث عن شخصيات
عربية متقدمة في التاريخ؛ كهارون الرشيد مثلًا، أو أبي موسى الخراساني، أو تصور عادات عربية هي نوادر جحوية لا نصرية.
وتتميز حكايات جُحا أو نصر الدين خوجا بالقصر، والمفارقات غير المتوقعة التي تبعث إلى الضحك، وإن كان بعضها قائمًا على المنطق؛ لكنه المنطق القائم على القياس الخاطئ، ثم إن هذه الحكايات تخلو من الوصف والتحليل، وتقتصر على السرد والحوار الموجزين؛ لتنتهي بما يبعث على القهقهة، إما لما تصرف جُحا أو كلامه من خلل يدل على البلاهة أو التّباله، وإما لما فيه من وخز للمنطق المعوج، أو النفاق اللئيم الذي يلجأ إليه الآخرون في تعاملهم معه.
ومن أمثلة ذلك الحكايات التالية:
"جلس شيخ نصر الدين أفندي يومًا على منصة الوعظ في أحد جوامع أقشه، وقال: أيها المؤمنون، هل تعلمون ما سأقوله لكم؟ فأجبه السامعون كلا لا نعلم، قال: إذا كنتم لا تعلمون فما الفائدة من التكلم ثم نزل، وعاد في يوم آخر، فألقى عليهم نفس السؤال فأجابوه هذه المرة أجل إننا نعلم، فقال: ما دمتم تعلمون ما سأقوله فما الفائدة من الكلام، فحار الحاضرون في أمرهم، واتفقوا فيما بينهم على أن تكون الإجابة في المرة القادمة متناقضة، قسم يُجيب لا، وقسم يجيب نعم، ولما أتاهم المرة الثالثة ووقع عليهم سؤله الأول اختلفت أصواتهم بين لا ونعم، فقال: حسن جدًّا من يَعْلَم يُعلم من لا يَعلم".
"وكان جُحا راكبًا حماره حينما مر ببعض القوم، وأرد أحدهم أن يمزح معه فقال له: يا جحا، لقد عرفت حمارك ولم أعرفك، فقال ججا: هذا طبيعي؛ لأن الحمير يعرف بعضها بعضًا".
"ودَخَل الحمام يومًا، وكان السكون فيه سائدًا؛ فأنشأ يتغنى فأعجبه صوته، فحدثته نفسه بأنه لا يجوز أن يبخل بنعمة صوته البديع على إخوانه المسلمين، فما أسرع ما خرج من الحمام قاصدًا الجامع، حيث صعد للمئذنة، وبدأ ينشد بعض التسابيح في ساعة آذان الظهر؛ فاستغرب المارة هذا الأمر، وكان صوته خشنًا مزعجًا؛ فناده أحدهم قائلًا: ويحك يا أحمق، ما لك تزعج الناس بهذا الإنشاد بصوتك المزعج، وفي مثل هذه الساعة؛ فأجابه من أعلى المئذنة: يا أخي، لو أن محسنًا يتبرع لي ببناء حمام فوق هذه المئذنة؛ لأسمعتك من حسن صوتي ما ينسيك تغريد البلابل".
"ورأى جحا في منامه أن شخصًا أعطاه تسعة دراهم بدلًا من عشرة كان يطلبها منه، فاختلفا ولما احتدم بينهما الجدال انتبه من نومه مذعورًا، فلم ير في يده شيئًا؛ فتكدر ولام نفسه على طمعها، ولكنه عاد فاستلقى في الفراش، وأنزل رأسه تحت اللحاف، ومد إلى المخصوم يده قائلًا هاتها تسعة ولا تزعل".
"توجه جحا مع أحد أصحابه إلى الصيد؛ فرأيا ذئبًا، وطمعا في فروته، فركضا ورائه إلى أن دخل جحرًا، فأدخل رجل رأسه كي يعرف مكن وجوده ويمكسه، فقطع الذئب رأسه، وجحا واقف بجانبه أكثر من ساعة، ولما رأى أن رفيقه لا يخرج سحبه إلى الخارج فشاهده من دون رأس؛ فافتكر في نفسه هل، كان معه رأس أم لا!! فعاد إلى البلد وسأل زوجة صديقه قائلًا: اليوم حين خروج زوجك معي، هل كان رأسه معه أم لا!؟ ".
"ورأته امرأته مرة يأكل تمرًا ولا يُخرج نواة، فقالت: ماذا تصنع كأني بك تأكل التمر بنواه؟ قال لها: طبعًا آكله بنواه؛ لأن البائع وزنه مع النواة، ولو أخرج نواه لما باعه بسبع بارات أما وقد أعطيته الثمن الدراهم بيضًا، فهل أرمي في الزقاق شيئًا اشتريته بدراهمي".
"دعاه "تيمور لانك" لركوب دابته والدخول في ميدان السباق، ولعب الجليد، فذهب إلى الإصطبل وركب ثورًا هرمًا، وجاء به فلما رآه الناس ضحكوا وضجوا، فسأله "تيمور لانك": كيف تدخل ميدان السباق بهذا الثور؟ فأجابه جحا: إني جربت هذا الثور منذ عشر سنوات؛ فكان يسابق الطير في ركضه، فكيف يكون الآن؟!.
"أخذ جُحا يَبيعُ مخللًا وقد ابتاع أدوات المخلل مع حمار المُخللاتي، فكان الحمار يعرف البيوت التي تشتري منه، وكلما ناد الشيخ: مخلل مخلل، كان الحمار ينهق بتلك الأذقة المزدحمة، ويغطي بنهيقه صوت جحا؛ فغضب جحا منه، وذات يومٍ وصل إلى محل مُزدحم، وأخذ الشيخ ينادي: مخلل مخلل؛ فسبقه الحمار إلى النهيق، فألقى له جحا المقلد على عاتقه، وحملق فيه بعينيه قائلًا: انظر يا هذا أأنت تبيع المخلل أم أنا".
"ضاع حمار جحا؛ فأخذ يفتش عنه ويحمد الله شاكرًا؛ فسألوه لماذا تشكر الله على ضياع الحمار؟ فقال: أشكره لأني لم أكن راكبًا على الحمار ساعة ضياعه، ولو كنت راكبًا عليه لضعت معه".
"شعر جُحا بوجود لص في داره ليلًا، فقام إلى الخزانة واختبأ بها، وبحث اللص عن شيء يسرقه فلم يجد فوجد الخزانة، فقال: لعل فيها شيئًا، ففتحها وإذا جحا فيها، فاختلج اللص ولكنه تشجع، وقال: ماذا تفعل هنا يا شيخ؟ فقال جحا: لا تؤاخذني يا أخي، فإني عارف بأنك لا تجد ما تسرقه، ولذلك اختبأت خجلًا منك".
"وكان قميصه منشورًا على الحبل فهبت الريح وقذفته في الأرض، فقال في نفسه: يلزمنا أن نذبح فدية وقربانًا، فسألته زوجته: لماذا؟ فقال: العياذ بالله، لو كنت ألبسه ساعة ما وقع لتحطمت معه".
"سأله "تيمور لانك" قائلًا: تعلم يا جحا أن خلفاء بني العباس كان لكل منهم لقب اختص به، فمنهم الموفق بالله، والمتوكل على الله، والمعتصم بالله، وما شابه
…
فلو كنت أنا منهم فماذا يجب أن أختار من الألقاب؟ فأجابه على الفور: يا صاحب الجلالة، لا شك بأنك كنت ستُدعى بلقب نعوذ بالله".
وبهذا يتبين لنا كيف أن الدكتور محمد غنيمي هلال كان متسرعًا جدًّا حينما رفض دخول شخصية جحا بين النماذج الإنسانية في الآداب العالمية، إذ رأيناه موجودًا في عدد من الآداب، منها الشرقي ومنها الغربي، وفي كل منها له اسم مختلف، أما نوادره وملامح شخصيته وأعماله فتكاد تكون واحدة، إلا من بعض السمات التي تختلف باختلاف الدول والشعوب التي ينتمي إليها جحا في كل بلد".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.