الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففي القرن الثاني الهجري نظمه أبان بن عبد الحميد بن لاحق البرامكة في نحو أربعة عشر ألف بيت، ونظمه كذلك علي بن داود وبشر بن المعتمر وأبو المكارم أسعد بن خاطر، وقد ضاعت هذه المنظومات ولم يصلنا منها إلا نحو سبعين بيتًا من نظم أبان بن عبد الحميد، نقلها الصوفي في كتابه (الأوراق)، وفي القرن السادس الهجري نظم ابن الهبارية في كتابه سماه (نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة)، وفي القرن السابع الهجري نظمه ابن مماتي المصري القاضي الأسعد لصلاح الدين الأيوبي، وضاع نظمه، ونظمه عبد المؤمن بن الحسن الصاغاني في كتابه سماه (درر الحكم في أمثال الهنود والعجم)، ومنه نسخ خطية في فيينا وميونخ، وقد نُسب هذا الكتاب لابن الهبارية.
وفي القرن التاسع الهجري نظمه جلال الدين النقاش، وتوجد نسخة من نظمه في مكتبة الآباء اليسوعيين في بيروت، وأخرى في المتحف البريطاني.
جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات
ولم يقتصر عمل أدباء العربية على نظم كتاب (كليلة ودمنة)، بل قام كتاب (ثعلى وعفراء)، وألف ابن الهبارية كتاب (الصادح والباغم)، وألف ابن الظفر كتاب (سلوان المطاع في عدوان الطباع) وألف ابن عربشاه كتاب (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء)، واستمرت قصص كتاب (كليلة ودمنة) موضع اهتمام أدباء العربية؛ حتى عصرنا الحديث فرأينا في نهاية القرن الماضي شاعرًا من شعراء الجزيرة العربية من الأحساء، هو الشاعر أحمد بن مشرف، أحد شعراء الرعيل الأول ممن أرسوا دعائم النهضية الشعرية الحديثة في المملكة العربية السعودية، والذي ثقف ثقافة عربية خالصة ينظم قصصًا سهلة على ألسنة الطيور
والحيوانات، مستلهمًا في ذلك قصص (كليلة ودمنة)، أما باسم الآداب العالمية فقد استلهم هذه القصص جاندي لافونتين، الذي ولد عام ألف وستمائة وواحد وعشرين، وتوفي عام ألف وستمائة وخمسة وتسعين، ويعتبر أشهر كاتب قصص خرافية في تاريخ الأدب الفرنسي؛ حتى ليقول عنه فلوبير: إنه الشاعر الفرنسي الوحيد الذي استطاع أن يفهم تراكيب اللغة الفرنسية، ويتمكن من استخدامها قبل عصر هيجو.
وفيما تركه لافونتين من شعر قصصي يدور حول الحيوانات تقول الدكتورة نفوسة زكريا: إنه لم يشرع في كتابة خرافاته إلا في سن السابعة والأربعين بعد أن تم نضجه وتكوينه، وبعد أن أطال البحث عن أقرب الفنون الأدبية إلى ميله واستعداده؛ حتى اهتدى إلى أن فن الخرافة هو الذي يلائمه، وأخذت خرافاته تتابع في الظهور، صدرت في ثلاث مجموعات تضم اثني عشر كتابًا ما بين عام ألف وستمائة وثمانية وستين، وعام ألف وستمائة وأربعة وتسعين، وقد أهداها إلى ولي عهده لويس الرابع عشر ملك فرنسا وقتذاك؛ لأنه كما جاء في كلمة الأهداء الرقيقة يرغب في تسلية الأمير، وفي الوقت نفسه أن يقدم إليه دروسًا جادةً يتلقاها بلذة، آملًا أن يكون لهذه الدروس والصفات العظيمة التي ورثها الأمير عن والده أثر في نمو النبت الصغير، الذي سوف يستظل به كثير من الشعوب والأمم.
ولم يكن لافونتين مخترع فن الخرافة وإنما استفاد من كل من سبقه من أمثال إيسوب اليوناني، وفيدر اللاتيني، وبلباي أو بيدبا الهندي، ومن أدباء الخرافة الفرنسيين في العصور الوسطى وفي القرن السادس عشر من أمثال مارو ورابليه، ومن الكتابات المختلفة في الخرافات عند الأمم القديمة شرقية وغربية.
ولكن ما هو الجديد الذي حققه لافونتين، واستحق به أن يكون أبا المنظومات الخرافية في العالم أجمع، إن لافونتين في الواقع إن كان قد استفاد من غيره، فإنه وسم كل ما أخذه بطابع فنه، وهذا هو سر عبقريته ونبوغه، وقد كشف هو نفسه عن هذا السر في قوله: بعض المقلدين أعترف أنهم كالحمقى من الأنعام، إذ يتبعون راعي مانتو تمامًا كالأغنام، إنني أتصرف على وجه آخر، فحينما يؤخذ بيدي فأنقاد كثيرًا ما أسير وحدي سعيًا وراء السداد، سترون أنني أفعل مثل هذا على الدوام، فما كان اقتدائي أبدًا بعبودية واستسلام، لا آخذ غير الفكرة والطريقة والقانون التي كان أساتذتنا أنفسهم يتبعون، على أنه إذا أعجبني عندهم بعض المواضع الرائعات، وأمكن أن تسلك بين أشعار من غير إعنات، فأنا أنقلها وأريد أن أنتقي التكلف العقيم، حين أن أجهد أن أسمى بطابعي ذلك اللحن القديم.
ولا شك أن ما يقوله لافونتين إنما هو المنهج السائد بين أدباء أوربا في هذه الفترة، التي كانت فيها كتابات اليونان والرومان بصفة خاصة تمثل النموذج الأعلى، الذي ينبغي احتذاؤه على أن لافوتين يقر بإبداعه في الصياغة، ويعني بها الشكل بصورة عامة، وهو الجانب الإبداعي الذي يفرق بين شاعر وآخر في كل مقاييس النقل الأدبي، وكانت الخرافة قبل لافونتين في اليونانية أو اللاتينية حكاية قصيرة بسيطة، تنتهي عادة بدرس أخلاقي هو غايتها الأساسية؛ ولذلك كانت العبارة التي تُختتم بها خرافات إيسوب اليوناني، ولا تكاد تتغير هي:"هذه الحكاية توضح أن"، ثم ينشق الدرس الأخلاقي الذي تتضمنه،
كما نهج فدر اللاتيني نهج إيسوف في مفهومه لغاية الخرافة، فصرح بأن كل ما يطلب من الخرافات هو أنها تصحح أخطاء الناس، ولكن لافونتين تولى الخرافة إلى عمل فني متكامل العناصر أراد أن يحقق من ورائه غايتين: التثقيف والمتعة الفنية؛ لأنه رأى كما يقول في مقدمة خرافاته: أن الخرافات تتكون من جزأين، يمكن أن نسمي أحدهما جسمًا والآخر روحًا.
فالجسم هو الحكاية، أما الروح فهو المعنى الخلقي للحكاية؛ ولكي يشف الجسم عن الروح لا بد من إجادة تصويره تصويرًا يثير كل ما للروح من خصائص؛ ولهذا حرص لافونتين على توفر المتعة الفنية في خرافاته، لقد تناول لافونتين في خرافاته الموضوعات التقليدية التي تناولها من سبقه من كتاب الخرافات، ولكنه بث فيها الحياة والقوة والجمال بما سكبه فيها من طبعه الفني، وعاطفته القوية، ونكتته الحلوة الرفيعة، وسخريته اللطيفة، وملاحظاته الدقيقة، ومقدرته على الغوص إلى أغوار النفوس، والإحساس بالواقع، وبذلك استطاع أن يقدم من خلال تلك الموضوعات لوحة كاملة للمجتمع الفرنسي في عصره، بل للمجتمع الإنساني بعامة، أو حسب تعبيره هو في مقدمة خرافاته: تمثيلية واسعة الآفاق في مائة فصل، تجري حوادثها على مسرح هذا العالم، عرض في خلالها الناس في مختلف طبقاتهم: الملوك، السادة، الجادين، العلماء، الفلاحون، وبمختلف طبائعهم: المتكبرون، الجبناء، الاستغلاليون، السذج.
عرض هؤلاء جميعًا خلف ستار من الرموز التي تتطلبها الخرافة: الحيوانات، والنباتات، والجمادات، والإنسان، وكانت الحيوانات أبرز تلك الرموز؛ حتى
أطلق عليها "حيوانات لافونتين"؛ لمقدرته الفائقة في رسم مظاهرها المادية، وحسن اختياره للصفات المعنوية المناسبة لها، وملاحظاته الدقيقة لغرائزها على نحو قليل من غرائز الإنسان، فكان الأسد يرمز للملك والثعلب يرمز للوزير أو رجل الحاشية، والدب يرمز للفلاح إلى آخره.
ولم يقتصر تجديد لافونتين في طريقته تناوله لموضوعات خرافاته فحسب، بل شمل تجديده القالب والصياغة، فقد أفرغ تلك الموضوعات في قوالب متنوعة، كالقصة أو التمثيلية أو يجعل منها موقفًا نقديًّا أو تصويرًا للحيوان والإنسان والطبيعة، وافتن في كتابتها فاستخدم أسلوبًا رشيقًا مركزًا وأوزانًا كثيرة متنوعةً، معتمدًا على ثرائه اللغوي الواسع، الذي لم يقف عند حدود اللغة القاموسية، بل شمل اللهجات المحلية ولهجات العمال وأصحاب الحرف، ومعتمدًا أيضًا على حسه الموسيقي الدقيق، سواء في اختيار الكلمة المناسبة لموضوعه، أم في اختيار الوزن الذي يماشي الفكرة أو العاطفة الوزن الخفيف السريع للفكرة القريبة، والوزنة الطويلة للفكرة العميقة، مما كان له أثر في إشاعة الحياة والحركة في خرافاته، أما الدرس الأخلاقي الذي كان غاية الخرافة عند كتابها الأوائل فقد وفاه لافونتين حقه، بل إنه جدد أيضًا في استخلاصه وفي عرضه لم يسقه بالطريق المباشر، الذي يشعر القارئ بأن هذا الدرس قد فرض عليه فرضًا، وإنما جعل القارئ يستنبطه من تلقاء نفسه من خلال ترتيب أحداث الخرافة، وتسلسل أفكارها، كما أنه لم يجعل موضع هذا الدرس في نهاية الخرافة شأن من سبقه من كتاب الخرافات، وإنما جعل موضعه في أول الخرافة حينًا وفي نهايتها حينًا آخر حسب ما كان يتطلب الموقف.
هذا هو الجهد الذي بذله لافونتين في فن الخرافة، الذي بز فيه السابقين واللاحقين؛ حتى صار مثالًا لمن حاكاه من في الآداب جميعًا.
فينبغي أن نتوقف بصفة خاصة عند محمد عثمان جلال الذي كان أول مَن نقل من ظلمات لافونتين الخرافية للغة العربية، بل إنه كان أول من قام بنقل عمل أدبي شعري من لغة أجنبية في العصر الحديث، وهو أديب مصري من صميم الريف من "ونا القمر" بمديرية بني سويف، نشأ في عصر تكوين مصر الحديث، وشهد في خلاله تطور مصر في عهد حكامها محمد علي وإبراهيم وعباس الأول وسعيد وإسماعيل وتوفيق وعباس الثاني، فكان ثمرة من ثمار هذا التطور، ولبنة من اللبنات التي دفعته للأمام، وقد تلقى تعليمه في المدارس المصرية؛ حتى تخرج من مدرسة الألسن على يد رفاعة رافع الطهطاوي، ثم تولى عدة مناصب حكومية كان آخر ما تولاه منها منصب قاض في المحاكم المختلطة عام ألف وثمانمائة وواحد وثمانين.
أما منظومات لافونتين الخرافية التي نحن بصدد الكلام عنها، والتي وضعها محمد عثمان جلال في كتاب بعنوان (العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ)، فكانت أول عمل أدبي قام بنقله عن الفرنسية، شرع في نقلها في عهد عباس الأول، وفي ذلك يقول: ونقل الملك بعد وفاة إبراهيم باشا إلى المرحوم عباس باشا رحمه الله فرتب المدارس بوجه آخر، وجعل تلامذة الفقه يحضرون المحاسبة تحت نظارة عبد الرحمن بك؛ قصدًا لإزالة تسلط القبط على هذا الفن وجعله تحت يد المسلمين، وكنت أود أن أكون ضمن المحاسبين، ولكن الله تعالى رزقني بغير حساب ومَنَّ عليَّ بالصحة في ديوانها، فأخذت أترجم في الأوقات الخالية كتاب (لافونتين)، وهو من أعظم
الآداب الفرنساوية المنظومة على لسان الحيوان من باب (الصادح والباغم) و (فاكهة الخلفاء).
وقد انتهى من ترجمة الكتاب في عهد سعيد باشا، وقدمه إليه آملًا أن يظفر منه بالقبول الحسن، ولكن سرعان ما خاب أمله، ويصف لنا هذه الخيبة بالروح الفكهة الساخرة التي اشتهر بها، فيقول: وعرضتها على الوالي بواسطة المرحوم مصطفى فاضل، وكان قد أوصلني إليه محمد علي الحكيم، فما أثمر غرسها وما نفع درسها، فاتفقت مع رجل فرنساوي له مطبعة من الحجر يسمى يوسف بير، وعهدته بطبعها فتعهد، ثم أخلف ما وعد، فكلفت مطبعة أكبر من مطبعته وصرفت عليها ما جمعت ونشرتها، ثم بعت الحمار وبعتها.
ويقول محمد عثمان جلال: هذه الخرافة محافظًا على جميع معالم العنوان الفكرة الإطار القصصي، الذي وضع فيه من جميع عناصره، التمهيد الحوار المفاجأة الخاتمة، وكل ما أحدثه من تغيير هو نقل الخرافة إلى جو عربي إسلامي، تشيع فيه روح الفكاهة بإضافة سحق الياقوت والمرجان بالإضافة إلى الأعشاب للمعالجة، التي وردت في خرافة لافونتين وتحديده الكرش مكانًا لداء الحصان، والتعبير عن أسى الذئب لشكى الحصان بأنه يشعر وكأن ضمانًا في كبده، كما أن عثمان جلال تحرر في صياغة الخرافة من أصل النقل، فابتعد عن لغة لافونتين الكلاسيكية الرفيعة، وكتبها بلغة عربية سهلة وفي أسلوب تهكمي ساخر، يضاهي أسلوب لافونتين من هذه الناحية، حتى بدت الخرافة وكأنها من تأليفه على الرغم من قربها الشديد من خرافة لافونتين.
وهناك نماذج أخرى تصرف في تعريبها تصرفًا واسعًا، طمس معالمها وأبعدها عن نصوصها الأصلية، نذكر منها على سبيل المثال خرافة السلحفاة والأرنب.
ومن شأن قصص الحيوان عند محمد عثمان جلال قوله:
قد وقعت في يد شخص حية
…
ولم تكن ميتة بل حيه
ورام أن يكسر منها الراس
…
وأن يريح من أذاها الناس
أدخلها كيسًا وقال: ذوقي
…
لأحرمنك المشي في الطريق
لأن من دأبه الخيانة
…
لا يستحق الحفظ والصيانه
منكرة الإحسان والمعروف
…
مثلك حقًّا بالهلاك كوفي
قالت له: ما خان بين العالم
…
وخاس بالعهد سوى ابن آدم
وإن يكن ما قلت غير الحق
…
فأمر بتضييعي أو بشنقي
قال لها الإنسان: إن المدعي
…
بلا شهود عندنا لم يُسمع
قالت: من الشهود عندي عشرة
…
وقد أشارت وقتها لبقرة
ومذ أتت كلفت الشهادة
…
ونطقت على خلاف العادة
قالت: كلام الحية الصواب
…
كل سؤال وله جواب
أما ابن آدم فمثل الجمرة
…
لا يحفظ العهد ولو في تمرة
يا طالما أطعمته من زبدي
…
ولحم آبائي ولحم ولدي
وأنزلوا الحرث وآتي النورجا
…
وإن رجوت راحة خاب الرجا
بل بعد كدي وانبرى ضلوعي
…
أُربة ظلمًا بالظما والجوع
قال لها الإنسان: أنت كاذبة
…
قالت له: سل ابن عمي شنذبه
فجاء وهو الثور في كليله
…
وحوله من المواشي عيله
وقال: قد سمعت ما تقول
…
وشاهدوا من جسمي النحول
إني وأهلي لم نزل في الخدمة
…
عند ابن آدم الخئون النعمة
يأكل من لحومنا ما يشتهي
…
وقط عن عذابنا لا ينتهي
وهو بهذا للصنيع ناكر
…
والحق لا يجحده المكابر
قال ابن آدم: شهود زور
…
يلزمهم في ذلك التعزير
نسأل يا حية تلك الشجرة
…
تشهد لي شهادة بعشرة
فنطقت بمنطق فصيح
…
وأخبرت بالخبر الصحيح
قالت: وحق زمن الربيع قد
…
ضاع في ابن آدم صنيعي
أظله في القيظ تحت ظلي
…
أكفيه شر وابل وطل
وكلما تنضج فوقي ثمرة
…
أرمي بها إليه بل بالعشرة
ومنظري يسره بالخضرة
…
فيتلالى وجهه بالنضرة
ومع هذا كله يقطعني
…
للنار أو في بِركة ينقعني
ولم يسل عما جنى من خيري
…
يجني معي كما جنى مع غيري
فالتهب الإنسان غيظًا ونفر
…
وقتل الحية ظلمًا بحجر
وهكذا العتو شأن الأمرا
…
أظلم منه في الناس لم أرَ
تسمع منهم صيحة وضجة
…
إن أنت ألزمتهم بالحجه
ومما عرضناه في هذه النماذج التي أجرينا فيها مقارنة بين ما كتبه محمد عثمان جلال، وبين ما كتبه لافونتين تتبين لنا الحقائق التالية:
أولًا: أن محمد عثمان جلال لم يكن مترجمًا لخرافات لافونتين بالمعنى الحرفي للترجمة، وإنما كان ناقلًا لها بتصرف يتفاوت مقداره من خرافة إلى أخرى معربة كانت أم ممصرة.
ثانيًا: أن مصرية محمد عثمان جلال قد غلبت عليه إلى حد كبير، وتجلى ذلك في استخدامه أمثالًا شعبية مصرية، وتعبيرات مصرية، بل تعدى ذلك إلى الإضراب عن استعمال اللغة العربية الفصحى في بعض الخرافات، وكتابتها بالزجل العامي المصري.
ثالثًا: مزج محمد عثمان جلال بين مصدره الرئيسي في الخرافات، وهي خرافات لافونتين وبين مصادر أخرى عربية استقى منها المغزى الخلقي، كالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وأشعار العرب وأمثالهم.
رابعًا: تعددت الأوزان التي استخدمها محمد عثمان جلال تعددًا كبيرًا، وهو أحيانًا يكتب في قافية موحدةً، وأحيانًا أخرى يكتب في المزدوج.
خامسًا: هناك حقيقة أخرى كشفت عنها دراسة (العيون اليواقظ)، وهي أن محمد عثمان جلال لم يقتصر على نقد خرافات لافونتين، ولكنه نقل من الشعر العربي وتاريخ العرب وأمثالهم حكايات عربية خالصة.
وتصل الدكتورة نفوسة زكريا إلى أمير الشعراء ودوره في هذا المجال، فتقول: لقد صرح شوقي في مقدمة ديوانه الذي صدر عام ألف وثمانمائة وثمانية وتسعين بمحاكاته للافونتين في نظم الخرافة، فقال: فجربت خاطري في نظم الحكاية على أسلوب لافونتين الشهير، وفي هذه المجموعة شيء من ذلك، فكنتُ إذا فرغت من وضع أسطورتين أو ثلاث أجتمع بأحداث المصريين وأقرأ عليهم شيئًا منها يتفهمونه لأول وهلة، ويأنسون إليه ويضحكون من أكثره وأنا أستبشر بذلك، وأتمنى لو وفقني الله لأجله لأجعل لأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدنة منظوماتٍ قريبة المتناول، يأخذون الحكمة والأدب من جلالها على قدر عقولهم.
وواضح مما ذكره شوقي أن الدافع الرئيسي له على نظم الخرافات هو الرغبة في إيجاد شعر للأطفال له هدف تعليمي، ويبدو أن هذه الرغبة كانت صادقة إلى حد بعيد، بل لعلها أكثر صدقًا من هذه الناحية من لافونتين نفسه، إذ يرى بعض
الدارسين للافونتين أن لافونتين في حياته الخاصة كان بعيدًا عن حب الأطفال والعناية بهم حتى طفله الوحيد لم يكن موضع اهتمامه، فالرغبة إذن في كتاب الأطفال خاصة لم تكن الهدف الأول للافونتين، بقدر ما كانت هدفًا لشوقي، الذي يؤكد لنا تاريخ حياته وسائر شعره حبه للأطفال بعامة وأطفاله بخاصة، وانشغاله بمستقبلهم وأطفال الفقراء منهم، وحرصه على تثقيفهم لا في الخرافات المنظومة فحسب، وإنما في قصائد ومقطعات من شعره.
وازداد اهتمام شوقي بنظم الخرافات بعد أن جرب بنفسه تأثيرها على أحداث المصريين، كما قال في المقدمة السابقة، فأخذ يتابع نظمها، ولكنه لم يعنى بجمعها في ديوان خاص كما فعل لافونتين، بل نشر عددًا منها في حياته في الطبعة الأولى من (الشوقيات)، وأعاد نشرها في الطبعة الثانية، ولكن الطبعات التالية للشوقيات أهملت نشر الخرافات؛ حتى كادت تتعرض للضياع لولا أن تدارك محمد سعيد العريان الذي قام بتحقيق ونشر الجزء الرابع من (الشوقيات) سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة وألف، فأفرد لها بابًا في هذا الديوان، بعنوان: الحكايات، جمع فيه ما تفرق من خرافات شوقي إلى جانب ما نشر منها في طبعة (الشوقيات) الأولى، وعدد هذه الخرافات أو كما سماها الحكايات خمس وخمسون حكاية، تقع في تسعة وسبعمائة بيت، وصل هذا العدد إلى ست وخمسين حكاية في الطبعة الثانية للجزء الرابع من الشوقيات، التي صدر سنة ألف وتسعمائة وإحدى وخمسين، وتقع في ثلاثين وسبعمائة بيت.
وفي سنة إحدى وستين وتسعمائة وألف عثر محمد صبري السربوني على حكايات أخرى لشوقي، فنشرها في كتابه (الشوقيات المنشودة)، الذي ضم فيه آثار شوقي التي لم يسبق نشرها، وعلى الرغم من هذا الإهمال الذي تعرضت له حكايات شوقي، فإنها قد شاعت قبل أن تجمع في الجزء الرابع من (الشوقيات)
وفي الشوقيات المجهولة، وعرفت طريقها إلى الكتب المدرسية مثل اليمامة والصياد، والثعلب والديك، والوطن، وحكاية عن عنصرين أبيا ترك وطنهما الحجاز، والذهاب إلى بلاد اليمن حيث الطعام والشراب أوفر وأشهى.
وتدور الحكايات المنظومة عند شوقي حول موضوعات شتى، منها موضوعات إنسانية عامة تكشف عن نواحي الخير والشر في الإنسان، وما يترتب عليها من عواقب مثل حكاية سليمان عليه السلام والحمامة، وهي تحكي قصة الفضول الإنساني، وسقوط الإنسان في هوة الخيانة، ومن الموضوعات التي تناوله شوقي في حكاياته أيضًا موضوعات تتصل بالحياة القائمة في عصره، إجتماعية وسياسية، مثل حكاية الديك الهندي، والدجاج البلدي، التي قصد فيها تنبيه المواطنين على وجوب الحذر في علاقتهم بالأجنبي الدخيل.
وكانت هذه قضية عصره قد رمز إلى المحتل الدخيل بالديك الهندي، وإلى المواطنين بالدجاج البلدي، مبينًا الأساليب التي اتخذها الديك الهندي لتوطيد أقدامه في بيت الدجاج البلدي، الذي لم يفطن إلى تلك الأساليب إلا بعد فوات الأوان، وهي الأساليب نفسها التي دخل بها الإنجليز مصر في ذلك العهد. المزاعم الباطلة في الرعية في الإصلاح ونشر العدل والأمن في البلاد، والوعود الكاذبة في إقامة مؤقتة تنتهي بانتهاء الإصلاحات واستتباب الأمن.
وإلى جانب هذه الموضوعات اقتبس شوقي موضوعات معينة من خرافات لافونتين مثل: الموضوع الذي صور فيه لافونتين حيلة من حيل الثعلب للإيقاع بديك اشتهى أكله، وذلك في حكاية الديك والثعلب، وقد اقتبس شوقي موضوع هذه الخرافة من لافونتين، ولكنه أضفى عليه شخصيته إلى حد بعيد، وأعمل فيه فنه بالتحوير والتبديل ووضع فيه لمسات عربية وإسلامية، فقال:
برز الثعلب يومًا
…
في شعار الواعظينا
فمشَى في الأرض
…
يهدي ويسب الماكرينا
ويقول: الحمد لله
…
إله العالمينا
يا عباد الله توبوا
…
فهو كهف التائبينا
وازهدوا في الطير
…
إن العيش عيش الزاهدينا
واطلبوا الديك يؤذن
…
لصلاة الصبح فينا
فأتى الديك رسول
…
من إمام الناسكينا
عرض الأمر عليه
…
وهو يرجو أن يلينا
فأجاب الديك عذرًا
…
يا أضل المهتدينا
بلغ الثعلب عني
…
عن جدود الصالحينا
عن ذوي التيجان ممن
…
دخل البطن اللعينا
أنهم قالوا وخير القول
…
قول العارفينا:
مخطئ مَن ظن يومًا
…
أن للثعلب دينا
وهناك من حكايات شوقي ما استقى موضوعها من مصدر عربي قديم، كما نرى في حكاية "الصياد والعصفورة"، فهذه الحكاية قد أوردها ابن عبد ربه في (العِقد الفريد) في كتاب "الجوهرة في الأمثال" تحت عنوان: مثل في الرياء وتتميز الخرافة عند شوقي إلى جانب تنوع موضوعاتها إلى كثير من السمات الفنية في صياغته لتلك الموضوعات، وأول ما نلاحظه من تلك السمات روح الفكاهة التي أضفاها على الخرافة، والتي تعكس جانبًا أصيلًا في شخصيته، فقد كانت لشوقي خصائص في إخوانه تفيض بأبدع وأرقى أنواع الفكاهة، كما كانت قصائده الجدية لا تخلو من بيت أو أبيات فُكاهية، ويعتبر عباس محمود العقاد هذه
الأشعار الفكاهية الباب الوحيد الذي ظهر فيه شوقي بملامحه الشخصية؛ لأنه أرسل نفسه فيها على سجيته، وانطلق من حكم المظهر والصنعة والقوالب العرفية التي تنطوي فيها ملامح الشخصية وراء المراسم والتقاليد، ووجدت روح الفكاهة عند شوقي مجالًا ومنطلقًا في الخرافات التي نظمها كما قال: لأحداث المصريين الذين كانوا يلذ له أن يمتعهم، ويدخل البهجة والسرور إلى قلوبهم إلى جانب الرغبة في تثقيفهم.
ولقد صاغ شوقي هذه الخرافات صياغة تختلف عن صياغة شعره التقليدي لا من حيث الأصالة والشاعرية والمقدرة الموسيقية، بل من حيث السهولة والبساطة في الصياغة والتعبير، فقد رصفها في أوزان قصيرة خفيفة تتناسب هذا اللون من القصص، وإن كان قد أكثر من استعمال الرجز كما نَوَّع قوافيها، فكان يستخدم أحيانًا قافية متحدة في الخرافة، وفي أحيان أخرى يستخدم قافية مزدوجة، كما كانت الخرافة عنده تختلف طولًا وقصرًا حسبما يتضمنه موضوعها من أفكار.
أما اللغة التي كُتِبت بها خرافاته فكانت العربية الفصيحة السهلة، ولعلنا نلاحظ الفرق الهائل بين لغة شوقي في الخرافات ولغة محمد عثمان جلال، فعلى الرغم من بساطة اللغة التي استخدمها شوقي في كتابة خرافاته وسلاسة التعبير وسهولته لم ينحرف إلى العامية، ولا إلى ألفاظ وتعبيرات مبتذلة كما فعل محمد عثمان جلال، ولعل ذلك كان من بين الأهداف التي أرادها شوقي لتثقيف الأطفال عن طريق الخرافة، وهو تقويم ألسنتهم، وتعويدهم على النطق بفصيح الكلمات بدون مشقة أو جهد.
ولم يقتصر افتنان شوقي في خرافاته على طريقة تناوله الموضوع وصياغته، بل إننا نراه يفتن أيضًا في إيراد الحكمة التي هي روح الخرافة كما قال لافونتين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.