الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرواية على مذهب الواقعية السحرية واقعية الخرافات والخوارق والعجائب والغرائب، كما كان الحال في السير الشعبية و (ألف ليلة وليلة مثلًا). بل إن الكاتب ليذهب إلى أن عملًا مثل "الستريكون" الذي ظهر في القرن الأول قبل الميلاد لـ"بترونياس" الروماني؛ يمكن أن يعد رواية وإن أضاف أن العرف قد استقر على أن (دونكشوت) التي صدرت في أول القرن السابع عشر الميلادي للكاتب الإسباني "سلفانس" هي أول رواية بالمعنى الحقيقي.
المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي
وعندنا في الأدب العربي القديم جنس أدبي قصصي له ملامح خاصة به هو جنس المقامات، وهذه المقامات العربية عرفت منذ وقت مبكر خارج الأدب العربي أيضًا، ففي الأدب الفارسي مثلًا أَلَّفَ القاضي حميد الدين أبو بكر بن عمر البلخي ثلاثًا وعشرين مقامة، على نسق (مقامات الحريري) وأتمها سنة خمسمائة وإحدى وخمسين هجرية، وكذلك عرفت هذه المقامات في الأوساط اليهودية والمسيحية الشرقية، فترجموها وصاغوها على مثالها باللغتين العبرية والسريانية، أما في أوربا فقد عني المستشرقون بـ (مقامات الحريري) فترجمت إلى اللاتينية والألمانية والإنجليزية، إلا أن تأثيرها كان محدودًا وبخاصة إذا قارنا بينها وبين ألف ليلة وليلة مثلًا في هذا المجال.
ذلك أن المقامات ليست القصة عمادها بل عمادها الأسلوب وما يحمل من زخارف السجع والبديع ذلك، مكتوبة بأسلوب فخم تجلله المحسنات البديعية، ثم إن من الممكن أن نرى أثرها في بعض القصص الأسباني الذي يصف لنا حياة المشردين والشحاذين، وأن لهذا القص عندهم بطلًا يسمى "بيكارون" يشبه
من بعض الوجوه أبا الفتح الإسكندري في (مقامات بديع الزمان)، وأبا زيد السروجي في (مقامات الحريري).
وفيما يخص تقليد القاضي الفارسي المذكور لمقامات الحريري ثمة كتاب للدكتور بديع محمد جمعة عنوانه (دراسات في الأدب المقارن)، تناول في فصل منه هذه المسألة بشيء من التفصيل، وهو يبدأ بتعريف فن المقامة محاولًا الرجوع بهذا الفن العربي الأصيل إلى أول من ابتدعه من المؤلفين العرب.
والمقامة في بداياتها الأولى فن أدبي يقوم عادةً على حكاية من حكايات الشطارة والاستجداء، ذات بطل واحد، ينتقل من مكان لمكان ومن موقف إلى آخر مغيرًا هيئته في كل مرة، متخذًا الكُدية -أي: الشحاذة- وسيلة لكسب ما يقيم حياته، إلى أن تنتهي الحكاية بانكشاف حقيقة حاله وافتضاح أساليب مكره وخداعه، التي يلجأ إليها لتحصيل مطعمه ومشربه، كل ذلك في لغة بديعية أي: مثقلة بالمحسنات البديعية، مفعمة بالفكاهة والتهكم، والحرص على متانة الأسلوب، وإظهار البراعة اللغوية المتمثلة في سعة المعجم اللفظي، وكثرة التسجيع والجناس والتوازن والتوريات، وغير ذلك من ألوان المحسنات المعقدة، ولزوم ما لا يلزم، مع حلاوة التصوير وإبراز بعض الأوضاع الاجتماعية، وتدبير المآزق للبطل ثم إخراجه منها بذكاء ولوذعية.
ثم تطور ذلك الفن ودخله التحوير في الموضوعات والأهداف، فاتسع لكل شيء حتى للوعظ الديني والتوجيهات الخلقية إلى آخره.
وبلغ من اتساع انتشار المقامات واهتمام الكتاب بها أن أحصى بعض الدارسين عدد الذين مارسوا تأليفها؛ فوجدهم تجاوزوا الثمانين مؤلفًا، بدءًا من بديع
الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، وانتهاء بنصيف اليازجي في القرن التاسع عشر الميلادي.
أما في الأدب الفارسي فلم يمارسها إلا أديب واحد هو القاضي حميد الدين من أهل القرن السادس الهجري، الذي أقر بأنه ليس إلا تلميذًا من تلامذة بديع الزمان، فكفى الباحثين مؤنة التدليل على أنه إنما استقاها من العربية وآدابها، وإن كان الدكتور جمعة قد استأنس رغم هذا بما قاله كل من "براون" المستشرق الإنجليزي وكريم شاورزي الباحث الإيراني.
وإذا كان البطل في كل من المقامات الهمذانية والمقامات الحريرية شخصًا واحدًا لا يتغير، هو أبو الفتح الإسكندري عند بديع الزمان وأبو زيد السروجي عند الحريري، وكذلك راوية كل من هو شخصًا واحدًا أيضًا، وعيسى بن هشام في الأولى والحارث بن همام في الثانية، فإن البطل لدى القاضي حميد الدين يتغير في كل مقامة، أما الموضوع فيبقى ثابتًا دون تغيير كما هو الحال عند الهمذاني والحريري، حيث الكدية هي المحور في معظم مقامات الأول وكل مقامات الثاني.
وكما قامت المقامات في الأدب العربي ضمن ما قامت على المحسنات البديعية والإغراق فيها، والاستعانة بالألغاز والحرص على إبراز المؤلف سعة معجمه اللغوي، وبخاصة ما يكثر في لغة العرب من غريب الألفاظ، فكذلك حاول القاضي حميد الدين أيضًا الجري في نفس المِضمار، وإن لم يكن الفارسية ذات الثراء الذي تتمتع به لغة القرآن حسبما ذكر المؤلف.
ومن مظاهر تأثر الحميدي بـ (مقامات بديع الزمان) كذلك كثرة استخدامه للألفاظ العربية في عمله، فضلًا عن الجمل والعبارات الكاملة المنقولة من لغة الضاد، حتى في المواضع التي لا يكون ثمة داع لذلك من ضَرْب مثل أو سَوْق شاهد في أصله العربي، بل لقد قلد الحميدي تركيب الجملة العربية في كثير من الأحيان، فكان يأتي بالفعل في أول الكلام على عكس ما تقتضيه اللغة الفارسية التي يقع فعلها في آخر الجملة لا في بدايتها، فضلًا عن إيراده كثيرًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار والأمثال العربية كما هي في نصها الأصلي، إضافة إلى بعض الأشعار التي نظمها هو بلغة القرآن.
ليس ذلك فقط، بل إنه قد اقتصر في عدد من الحالات على إيراد بعض المقامات الهمذانية كما هي بعد ترجمتها إلى الفارسية مع زيادة بعض الإضافات؛ بغية إظهار تفوقه وبراعته مثلما هو الحال في (المقامة السقباجية)، التي تقوم على (المقامة المضيرية) لدى الحريري، كذلك تتشابه المقامات هنا وهناك في العدد، إذ تبلغ كل منهما أربعًا وعشرين مقامة.
هذه نقاط الاتفاق.
أما الاختلاف فيكمن في أن بطل مقامات الحميدي يختلف من مقامة إلى مقامة، كما أن راويها هو نفسه كاتبها، على حين أن بطل المقامات لدى الهمذاني واحد دائمًا، علاوة على أن راويها شخص غيره، كذلك في الوقت الذي نجد فيه بديع الزمان يسمي معظم مقاماته بأسماء البلدان، فإن الحميدي لا يصنع شيئًا من هذا، بل يطلق على كل مقامة اسمًا مشتقًّا من الفكرة التي تعالجها، وإلى جانب ذلك فإن في مقامات الأديب الفارسي كثيرًا من المناظرات كتلك التي قامت بين السني والملحد، والأخرى التي دارت بين الشيب والشباب، ثم إنه بسبب انتشار التصوف في إيران في الفترة التي عاش فيها القاضي حميد الدين؛ وجدنا ذلك
الكاتب الفارسي يخلع على كثير من مقاماته خلعة صوفية بتعبير المؤلف، كما في (المقامة السقباجية) التي تجري في إثر (المقامة المضيرية) للهمذاني إذ يوجد فيها شيوخ ومريدون.
وكما يرى القارئ فإن بحث الدكتور بديع جمعة قد توفرت فيه كل الشروط التي تشترطها المدرسة الفرنسية بوجه عام في هذا المجال، إذ ثبت أن الحميدي قد استقى فن المقامة عن الهمذاني، وأنه قلده في كثير من النواحي الفنية المتعلقة بها، وإن لم ألاحظ أن الدكتور جمعة يتشدد كما يتشدد عامة المقارنين الفرنسيين، فقد وجدته واعيًا تمامًا بتميز المدرسة الأمريكية بذلك الحق، ولم أسمعه ينادي بوجوب التزام النهج الفرنسي، أيًّا ما يكن الأمر فقد لمس الأستاذ الباحث مسألة جدًّا مهمة، وهي أن فن المقامات لم يكتب له الرواج والانتشار في الأدب الفارسي، ذلك أنه لم يكرر المحاولة أحد بعد الحميدي كما يقول.
وقد علل الأستاذ الدكتور هذا بأن الفارسية فقيرة في الكلمات المترادفة والمتساجعة بالقياس إلى لغة الضاد، ومن ثم لا تصلح كثيرًا لكتابة المقامات التي تلتزم السجع والمحسنات البديعية، وأخيرًا فقد أذكر أن الدكتور زكي مبارك قد كتب قائلًا: إن فن المقامة قد انتقل أيضًا إلى الأدبين السرياني والعبراني. وهو ما أشار إليه الدكتور شوقي ضيف، ولعل الله يقيد للمسألة انتقال هذا الفن من العربية إلى السريانية والعبرية من يدرسها هي أيضًا.
وفي العصور الوسطى ظهرت في أوربا قصص ذات طابع شعبي هي "الفابليو"، كما ظهر لون آخر هو قصص الفروسية والحب، وهذه القصص قد تأثرت بالأدب
العربي تأثرًا واضحًا، وبالنسبة إلى قصص الفروسية والحب يذكر الدكتور محمد غنيمي هلال أن المرأة في المجتمعات الأوروبية -إبان العصور الوسطى وفي آدابها- قد ظلت مهملة لا يؤبه لها حتى القرن الحادي عشر، حين أخذ يظهر خلق الفروسية الذي يزاوج بين أخطار الحب وأخطار الحرب، فمثلًا في كتاب (فن الحب العفيف) لـ"أندريه لوشه بلا" نرى إدراكًا جديدًا للحب، فيه ترتفع المرأة إلى مكانة سامية لم تكن تعرفها من قبل، إذ يخضع الفارس لها خضوعًا مطلقًا ويضحي بكل شيء في سبيل حبه لها، ويبكي أمامها بسبب شدة الوجد الذي يلاقيه غير مستنكف من ذلك شيئًا، فضلًا عن أن حبه لها هو حب طاهر نبيل يتغذى على الحرمان ويستعذب فيه صاحبه العذاب.
ويؤكد الدكتور هلال أن هذا المفهوم الجديد للحب قد نشأ على أثر اتصال الغرب بالشرق في الحروب الصليبية وفي الأندلس، ومما له دلالته أن الأميرة التي ألف لها الكتاب المذكور وهي "ماري دي فرانس" أميرة إقليم "شمبانيا" هي حفيدة "بيوم" التاسع أمير "بواتيا" ودوق "أكتانيا"، الذي عاش في أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر الميلاديين، وشارك في الحروب الصليبية وهو أول شاعر من شعراء "التروبادور"، ويتبين في شعره هذا المفهوم الجديد للحب، ومن يقابل بين ما كتبه مؤلف الكتاب المذكور عن الحب وما كتبه ابن داود الظاهري في كتابه (الزهرة) وابن حزم في كتابه (طوق الحمامة) -وهما سابقان عليه بوقت طويل- يجد تشابهًا واضحًا، وهناك من هذا الضرب من القصص الأوربي قصة (لانسيلو) التي ألفها "كرتيان دي تروا"، وقصة (سجن الحب) للكاتب الإسباني "سان بدرو" الذي عاش في القرن الخامس عشر، وقصة (أماديس ديجولا) لـ"جارثي أوردنييس" ونشرها في عام ألف وخمسمائة وثمانية للميلاد.
وهذه القصص وإن كانت تتفوق على الملاحم بهذا الحب النبيل، لا تبتعد كثيرًا فيما عدا هذا عنها، إذ الوحدة العضوية لا وجود لها، كما أن هناك قوى غيبية تحمي بطلها الفارس وتكثر فيها العجائب والغرائب.
ويذكر الدكتور هلال أيضًا أن قصص الرعاة في عصر النهضة الأوربية كانت أقرب إلى الواقع من قصص الفروسية هذه، إذ تقل فيها العناصر العجيبة الموجهة للأحداث، وتكاد تنحصر في السحر واستطلاع المستقبل، كما أن الحوادث فيها حوادث إنسانية في جوهرها كما يقول، فضلًا عن تصويرها أماكن واقعية معروفة للناس، وقد نشأت هذه القصص أولًا في إيطاليا ثم انتقلت إلى الأدب الإسباني ثم إلى الأدب الفرنسي من بعده.
و"الفابليو" كما عرفتها "الويكيبيديا" وقاموس (البنجون للمصطلحات والنظرية الأدبية): حكاية تقع في عدة مئات من الأبيات ما بين ثلاثمائة إلى أربعمائة، ازدهرت في فرنسا من سنة ألف ومائة وخمسين إلى ألف وأربعمائة من الميلاد، وإن كانت قد عرفت فيما يبدو من قبل هذا، وهي حكايات مفحشة في كثير من الأحيان، وتوجه كثيرًا من سهام السخرية إلى رجال الدين، وموقفهم من النساء هو موقف النقد اللاذع.
وفي القرن السادس عشر والسابع عشر ظهر في أوربا -كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال أيضًا- جنس جديد من القصص خَطَا بالقصة خطوات نحو الواقع، هو ما نطلق عليه قصص الشطار، ووجد أول ما وجد في إسبانيا وهو قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع، وتسمى في الإسبانية "بكارسكا"،
وتختص بأن المغامرات فيها يحكيها المؤلف على لسانه كأنها حدثت له، وهي ذات صبغة هجائية للمجتمع ومَن فيه، ويسافر فيها البطل -أي: المؤلف- على غير منهج في سفره وحياته فقيرة بائسة يحياها على هامش المجتمع.
ويظل يتنقل بين طبقاته ليكسب قوته، وهو يحكم على المجتمع من وجهة نظره هو حكمًا تظهر فيه الأثرة والانطواء على النفس، وقصر النظر في اعتبار الأشياء من الناحية الغريزية النفعية، فكل من يعارضه فهو خبيث ومن يمنحه الإحسان خيِّر، وأول قصة من هذا الجنس القصصي في الأدب الإسباني قصة عنوانها:(حياة لاسريودوترمس وحظوظه ومحنه) وهي قصة تنبع من واقع الحياة في الطبقات الدنيا، وتصفها كما يمليها منطق الغرائز الصريح، وهي معارضة تامة لقصص الرعاة وتسير على نقيضها؛ لأنها تصف واقعًا لا مثالية فيه ولا أمل.
ثم ينتقل الأستاذ الدكتور إلى القضية التي تهمنا هنا؛ ألا وهي قضية تأثر هذا الفن القصصي الجديد بالمقامة فيقول: ويوجد وجوه شبه قوية بين قصص الشطار السابقة الذكر وبين المقامات العربية، كما نعلمها عند بديع الزمان الهمذاني ثم الحريري، ولم تُبحث هذه المسألة بحثًا مقارنًا بعد، ولكن الأدلة التاريخية تقطع بأن مقامات الحريري عرفت في الأدب العربي في إسبانيا، ومن كتاب العرب الإسبانيين -يقصد الأندلسيين- مَن ألفوا مقامات على غرارها في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي. مثل: ابن القصير الفقيه، ومثل أبي طاهر محمد بن يوسف السراقسطي.
وقد شرح (مقامات الحريري) كذلك كثير من العرب الإسبانيين من أشهرهم: عقيل بن عطية المتوفى عام ألف ومائتين وأحد عشر، ثم أبو العباس أحمد الشريشي المتوفى عام ألف ومائتين واثنين وعشرين، ثم إن (مقامات الحريري) ترجمت إلى اللغة العربية، ترجمها سالموني بن صقبيل في القرن الثاني عشر الميلادي، ثم ترجمها الحريزي
وظهرت ترجمته عام ألف ومائتين وخمسة من الميلاد، وقد كان هذه المقامات رائجة كل الرواج لا بين العرب فحسب بل بين العبريين والمسيحيين أيضًا، ولهذا ترجموها إلى لغاتهم، وإذن فقد لقيت هذه المقامات حظًّا كبيرًا في أدب العرب في الأندلس، وغير معقول أن تظل مجهولة لدى كتاب الإسبان وقصاصيهم بعد ذلك، وهذا التلاقي التاريخي هو الذي يفسر وجوه التشابه الكثيرة الواضحة بين المقامات وجنس قصص الشطار في الأدب الإسباني.
وقد آثر كتاب الأسبان أن ينحو منحاها الواقعي على أن يسيروا على منوال قصص الرعاة المثالية، فكان جهدهم ذا أثر كبير في القضاء على قصص الرعاة وفي التقليل بين القصة وواقع الحياة، وأثروا بذلك تأثيرًا في كتاب القصة في الآداب الأوروبية الأخرى.
ولا يكتفي الدكتور هلال بذلك بل يمضي فيبين امتداد تأثير المقامات، ذلك التأثير الذي يقوم عليه ما بسطه من شواهد قوية مقنعة إلى خارج الأدب الإسباني، فيقول: وممن تأثر بهم أي بالأدباء الإسبان المتأثرين بالمقامات العربية في الأدب الفرنسي "شارل سوريل"، في قصته (تاريخ فرانسيون الحقيقي الهازل) وقد نشرها في باريس عام ألف وستمائة واثنين وعشرين، وهي أول قصة من قصص الشطار في فرنسا.
وهي على لسان شخصية "فرانسيون" يهجو فيها العادات والتقاليد، بوساطة أشخاص من المتسولين ومن يعد في حسابهم في نظر المؤلف، كما يهجو مختلف الطبقات الأخرى، وقد كانت هذه القصة وأمثالها أصلًا لما سلكه الكاتب الفرنسي "لوساج" في قصته (جان بلا)، التي ظهرت طبعتها الكاملة في فرنسا عام ألف وسبعمائة وسبعة وأربعين للميلاد، وفيها يهجو المؤلف العادات والتقاليد
على لسان البطل الذي سميت القصة باسمه، كما كان قد انتفع بهذا الاتجاه العام الأقرب إلى الواقع الكاتب الفرنسي الآخر "جوتييه" في قصته التي عنوانها (موت الحب)، التي ظهرت في باريس عام ألف وستمائة وستة عشر للميلاد، وفيها يصور حبًّا ماديًّا بين راع نفعي غليظ الطبع وراعية في صفاتهما الحقيقية بين الرعاة العاديين، وهو حب لا مثاليةَ فيه.
ثم يخلص كاتبنا إلى القول بأنه بهذا الجهد المشترك لكتاب القصص في الآداب المختلفة؛ قضي على قصص الرعاة، كما قضي من قبل على قصص الفروسية والحب، وقامت على أنقاضها قصص العادات والتقاليد في معناها الحديث، وخلت القصة بذلك من العناصر العجيبة الخارقة للمألوف، واتخذت حوادث الحياة العادية مادة خصبة لموضوعاتها. وفي نفس الموضوع يكتب الدكتور جميل حمداوي في منتدى الزوراء قائلًا: لم تظهر لفظة "بيكارسكا" باعتبارها لفظة إسبانية إلا في نهاية الربع الأول من القرن السادس عشر، قبيل ظهور رواية الشطارية الأولى في الأدب الإسباني للروائي المجهول، ألا وهي (لافيدا دي لازارلو إيسوس فورتناس إي أدفرس دات):(حياة لافريو دوترنس وحظوظه ومحنه)، وتدل هذه اللفظة على جنس أدبي جديد تشكل في إسبانيا لأول مرة، ثم انتقل بعد ذلك إلى فرنسا وألمانيا وانجلترا وأمريكا.
وتعني هذه الرواية ذلك المتن السردي الذي يرصد حياة "البيكارو" أو الشطاري المهمش، لذلك تنسب هذه الرواية إلى بطلها "بيكارو" الشاطر أو المغامر، الذي يقول عنه قاموس (الأكاديمية الإسبانية): نموذج شخصية خالعة وحظرة وشيطانية وهزلية تحيا حياة غير هنيئة كما تبدو في عيون المؤلفات الأدبية الإسبانية، أو أنه
بطل مغامر شطاري مهمش صعلوك محتال ومتسول، وتعتقد الأكاديمية الإسبانية أن لفظة "بيكارو" مشتقة من فعل "بيكار" في معناه الشعبي المجازي، وهو الارتحال والصيد واللسع، وتعني "بيكارسك" في اللغة الفرنسية الأعمال التي تصل الفقراء والمعوزين والمعدمين والصعالكة والمتسولين والأندال، أو قيم المتشردين والمحتالين واللصوص في القرون الوسطى".
و"بيكارو" باعتباره بطل الرواية ليس بمقترف جرائم في معنى الجرائم الحقيقي، ولكنه ينتمي إلى طائفة المتسولين لا يبالي كثيرًا بالقيم والأخلاق، ما دام الواقع الذي يعيش فيه منحطًّا وزائفًا في قيمه، يسوده النفاق والظلم والاستبداد والاحتيال حتى من قبل الشرفاء والقساوسة والنبلاء ومدعي الإيمان والكرم والثراء. ومهام "البيكاروس" هو البحث عن لقمة الخبز ورزق العيش، لذلك فهو في حياته متزاوج الشخصية جاد في أقواله ونصائحه ومعتقداته وذكي، يتكلم بالمصالح ويتفوه بإيمان العقيدة، ولكنه في نفس الوقت يسخر من قيم المجتمع، وأعرافه المبنية على النفاق والهراء، ويأنف "البيكارو" من اتخاذ عمل منتظم لرزقه بل يتسكع في الشوارع، ويتصعلك بطريقة بهيمية وجودية وعبثية، يقتنص فرص الاحتيال والحب والغرام منتقلًا من شغل آخر كصعلوك مدقع يرفضه القانون وسنة الحياة والعمل، يفضل الارتحال والكسل والبطالة.
وعلى الرغم من كل هذا يحصل على المال لا باغتصابه، بل بالحيلة والذكاء واستعمال المقدرة اللغوية والحيل والمراوغة وفصاحة اللسان وبلاغة البيان والأدب، ويجعل الناس يقبلون عليه بسلوكياته ومواقفه ويرغبون في مصاحبته ومعاشرته؛ إشفاقًا عليه وعطفًا واستطرافًا،
وتعتبر نصوص "البيكارست" بمثابة قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع، أي: إنها قصص مغامرات الشطار ومحنهم ومخاطراتهم رواية واقعية، سواء من ضمير المتكلم أم بضمير الغائب، لذلك تسمى أيضًا بالرواية "الأوتوبغرافية البيكارسكية" التي تؤكد مدى اعتماد الرواية على تصوير البعد الذاتي وتجسيد تقاطعه مع البعد الموضوعي، وتتخذ هذه الرواية صبغة هجائية وانتقادية لأعراف المجتمع، وقيمه الزائفة المنحطة، فاضحًا إياها بطريقة تهكمية ساخرة منددة بالاستبداد والظلم والفقر.
وتتغنى رواية (البيكارسكية) باعتبارها رواية شعبية تتغنى بالفقراء والكادحين والمهمشين، الذين صودرت حقوقهم وممتلكاتهم وحرياتهم، وأصبحوا يعيشون على هامش التاريخ، لم يظهر الأدب البيكارسكي في أسبانيا إلا تأثرًا بالفن الشعبي العربي بالأندلس، ولا سيما ظهور طبقة اجتماعية من الشطار العرب المسلمين المهمشين المشردين، الذين آثروا حياة الصعلكة والبطالة والتمرد عن قوانين المجتمع والسلطة، وكانوا يعيشون على حافة المجتمع سواء بالأندلس أو البلدان الأخرى من العالم الإسباني، التي انفتحت عليها إسبانيا، ويقضي هؤلاء الشطار "بيكاروز" حياتهم في التسول والارتحال والغنائم وممارسة الكدية والاحتيال؛ من أجل الحصول على المال أو الحب أو لقمة العيش.
وكان هؤلاء الصعاليك المحتالون المرحون يسمون في الثقافة الإسبانية بـ"المورو"، وتحضرني صور هؤلاء كثيرًا في الرواية الشطارية الإسبانية، إذ يقول أستاذي الدكتور محمد أنقار، والكلام للدكتور حمداوي كما ينبغي أن نتذكر: لم تكن الرواية الشطارية الإسبانية تتبلور من حيث هي نوع سردي بعيدًا عن التيارات والأنواع الأدبية، كالغنائية والمسرح الشعري والقصة المورسكية والقصة العاطفية أو الرعوية، التي حفلت كلها بصورة غزيرة للمسلمين والعرب والمغاربة خلال القرنين السادس عشر والسابع
عشر، إلا أن مما يلفت النظر في الرواية الشطارية ضآلة صور "المورو"، على الرغم من أن ظاهرة المورسكية لم تكن قد تلاشت نهائيًّا خلال تلك الفترة.
ويتعلق الأمر على الخصوص بروايتين نموذجيتين (لاتاريو) و (تاريخ حياة البسكون) وتعتبر رواية (رواتريو دوترموس) نموذجًا شطاريًّا في إدانة المسلم، وتصوير وضعيته الرديئة حتى لدى الأوساط الدنيا لكي يعلم الناس أن "المورو" لا يؤدب إلا بعقابه وتوبيخه وصده عن غيره.
هذا ما قاله الدكتور جميل حمدان.
ولكن السؤال هو: هل تأثرت الرواية البيكارسكية الإسبانية بأدب المقامات؟
للإجابة عن هذا السؤال انقسم الباحثون إلى قسمين: فريق ينكر هذا التأثير وفريق آخر يؤكده ويثبته، ومن بين المثبتين لهذا التأثير الدكاترة: محمد غنيمي هلال وسهير القلماوي وأحمد طه بدر وعبد المنعم محمد جاسم وعلي الراعي، الذي يرى أن المقامات ربما كانت أقوى أثر مفرد تركه العرب في الأدب الغربي، فعن طريق محتال المقامة قام الأدب الاحتيالي في إسبانيا، وامتد من ثم إلى فرنسا وألمانيا وانجلترا؛ ليكون الأساس لصالح الرواية الواقعية، التي أسهمت في خلقها أقلام كتاب مرموقين أمثال:"ديفو" و"فلدنك" و"ديكنز" في انجلترا، و"لوساج" و"بلزاك" و"فلوبير" في فرنسا، بل لا تزال هذه الرواية الواقعية الاحتيالية موجودة بيننا في عملين محددين؛ أولهما:(فلكس ترول) لـ"توماس مان" الألماني، والثاني:(مغامرات أوجيه مارش) كاتب أمريكي "سول بليو".
وقد انتقل نموذج بطل المقامات العربية القديمة في العصور الوسطى -أي: العصر العباسي- إلى الآداب الأوربية، كما يقول الدكتور غنيمي هلال، فأثر فيها بخلق نموذج أدبي آخر تتوارد به القصة الأوربية، بعد أن عرفت تلك الآداب والمقامات
العربية عن طريق الأدب العربي في إسبانيا، وقد أثر نموذج بطل الحريري في الأدب العربي الأندلسي، ثم الأدب الإسباني بعامة، ثم تعاون هذا التأثير كله في خلق قصص الشطار الذي تعد قصة (حياة لامفاريو دي تورمس) نموذجًا له، ويؤيد رأي الدارسين العرب باحثون إسبان هم أيضًا ذهبوا إلى تأثر الرواية البيكارسكية بأدب المقامة العربية، ومن هؤلاء مؤلفا (دائرة المعارف الوجيزة في الحضارة العربية) حيث يقولان: إن هذا النوع الأدبي -يعنيان المقامة- قد تسرب إلى الأدب الفارسي وغيره من آداب شرقية.
ويبدو أنه قد أثر أيضًا إلى حد ما على كتاب الرواية الأوائل في كل من إسبانيا وإيطاليا، وينفي الناقد الإسباني "أنخل فلورس" التأثير المباشر للمقامات في "البيكارسك"؛ لانعدام الطبع الأتوبجرافي في مقامات الحريري باستثناء مقامة واحدة وهي الحرامية، ولأن الترحال كان موجودًا في الآداب القديمة اليونانية والرومانية، فإذا سلمنا جدلًا بأن بطل المقامات يقوم في كل مقامة منفردة برحلة تورطه في شتى الملابسات، مع أناس مختلفي الأوساط والطبقات الاجتماعية، فلا يجب أن ننسى أن هذا التراث القصصي الذي يمثل البطل متجولًا، والذي يبدو واضحًا في رواية "البيكارسك" الإسبانية وفي الواقع سابق لظهور هذه الرواية، وسابق لانتقال أدب المقامات من الشرق الأقصى إلى المغرب وإلى الأندلس الإسلامية.
وجاء الدكتور عبد المنعم محمد جاسم مذهب المستعرب الإسباني "أنجل فلورس" حينما قال: والذي أريد أن أقوله في نهاية هذا المطاف حول إمكانية التأثير العربي في الرواية الإسبانية، هو أن هذا التيار العميق الغور والبعيد المدى من القصص والنوادر والطرائف الشعبية العربية؛ كان ذا أثر أبعد في التمهيد لظهور رواية
"البكارسك" الإسبانية من المقامات، التي وقف عندها الباحثون مرارًا وتكرارًا، وحاولوا إعطاءها دورًا لم تكن بطبيعتها مؤهلة له، فالمقامات كانت تكتب للتداول في صفوف الضالعين والمتبحرين في علم اللغة، وبما أنها كانت عسيرة اللغة وعسيرة الفهم وكثيرة المجاهل، فإنها لم تترجم إلى اللغة اللاتينية أو اللغة الإسبانية.
وعلى كل حال فأنا لا أحاول في هذا البحث الاستدلال على أية فصول من الأدب الإسباني، جاءت منقولة أو واضحة التأثر بأصول عربية، لكن القارئ قد يجد فيما عرضت إثباتًا جديدًا لوجهة نظر الكاتب والناقد "أنخل فلورس"، القائلة بأن الرواية بمظاهرها المختلفة قد ظهرت في إسبانيا قبل أي بلد آخر؛ بسبب أثر الحساسية العربية بالآداب الإسلامية. ويذهب الدكتور محمد أنجار إلى ضرورة التريث في الحكم على مدى تأثير المقامة في "البيكارسك" الروائي، حتى تتوفر الأدلة العلمية الدقيقة والحجج القاطعة، ولكن هذا لا يلغي إن كان مقاربة البيكارسك على ضوء السد العربي القديم، ومن خلال قواعد فن المقامة التي لا يعلم بعض النقاد الصلة بينها وبين الحكي العربي القديم، على مستوى العلاقة بفن المقامة أو ببعض النوادر والحكايات.
وإذا كانت مثل هذه الاحتمالات لا تزال في حاجة إلى تمحيص علمي مقنع، فإن ذلك لا يلغي بتاتًا إمكانية قراءة هذه الرواية الشطارية بمواساة مع أعراف السرد العربي القديم وأساليبه، مثلما هو الشأن في دراسة محمود طرشونة، وهناك نقطة واحدة لا أحب المضي دون أن أقول كلمة سريعة بشأنها؛ ألا وهي زعم المستشرق الأسباني أن البطل الجوال في قصص "البيكارسك" قد ظهر في
الأدب الإسباني، قبل انتقال فن المقامة من المشرق العربي للأندلس وهو زعم خاطئ؛ إذ إن قصة (حياة لاسليو دوترمس وحظوظه ومحنه) التي ذكر الدكتور محمد غنيمي هلال أنها أول قصة من نوع "البيكارسك" في ذلك الأدب، قد ظهرت عام ألف وخمسمائة وأربعة وخمسين ميلادية، على حين انتقلت المقامة إلى الأندلس قبل ذلك بعدة قرون.
ويزيد الأمر إيضاحًا دكتور عيسى الدودي في مقاله "تأثير المقامة بالفن السردي الأوربي المشهور"، في منتدى المؤتمر فيقول: اعترف كثير من المهتمين بالأدب الأندلسي وذلك استنادًا إلى المقارنات التي عقدوها بين المقامة والأدب السردي في أوربا، وانتهوا إلى هذه القناعة بعد أن توصلوا إلى كثير من أوجه التشابه بين الفنين. بدأ فن المقامة في الانتشار أواخر القرن الرابع الهجري، وأبرز أعلام هذا الفن في المشرق: الحريري والهمذاني، ثم إنه قدر لهذا اللون من الأدب الانتشار الواسع في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وكثر المقلدون هذا اللون من الأدب، وقد عرف الأندلسيون المقامة عن طريق مَن رحل إليهم من الشرق، كما قدر للأندلسيين الوافدين إلى المشرق الاطلاع على هذا الفن الأدبي، وخاصة مَن أسعدهم الحظ وأقاموا في بغداد، وبعد أن أتموا دراستهم عادوا إلى بلادهم ونشروا هذه المقامات، فلقيت قبولًا من طرف الأندلسيين ونالت حظها من المعارضة والشرح والنقد والتعليق.
ونسجت على منوالها مقامات مشهورة؛ كـ (مقامة أبي حفص عمر الشهيد) و (مقامة أبي محمد بن مالك القرطبي)، و (مقامة عبد الرحمن الفتوح) و (مقامة ابن المعلم). ثم إن هناك من توجه لشرحها كمحمد بن سلمان المالقي، وعبد الله
بن ميمون العبدري الغرناطي، وأبي العباس الشريشي، وعقيل بن عطية، ومقامات البطليوسي، وابن المرابع الأزدي صاحب (مقامة العيد) وابن القصير الفقيه، ولسان الدين بن الخطيب، بالإضافة إلى مقامتين لمحارب بن محمد الوادآشي، و (المقامة الدوحية أو العياضية)، ومقامة ابن غالب الرصافي، ويبقى أأبرز من تأثر بالمقامات المشرقية السرقسطي، وتسمى مقاماته بـ (المقامات السرقسطية)، وهي المعروفة باللزومية، وهي خمسون مقامة أراد بها مقامات الحريري.
والمقامة هي حكاية عن حيلة تافهة بطلها متشرد ظريف، يتقمص في كل مرة شخصية معينة، فهو مرة قراد يسير بقرده ليجمع الناس في حلقات فيضحكهم، ويأخذوا من أكياسهم، وهو مرة واعظ محترف يلج المساجد لتدمع عينه ويرتل آيات الذكر ورقائق الوعظ وسير الصحابة، ومرة ثالثة ينحط إلى دركات وبيئة فيسرق أكفان الموتى ويجمل خادمه ليوقع في حبه المتهورين، ويتوخى صاحب المقامة من ذلك الوصول إلى قلوب الناس وكسب مودتهم، بمقدرته اللغوية وألاعيبه اللفظية وذلك بالإغراق في السجع والصنعة البديعية.
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن تأثير المقامة في الأدب الأوربي خاصة السردي منه: فإن كثيرًا من الباحثين تحدثوا عن تأثير فن المقامات في الأدب الأوربي تأثيرًا واسعًا متنوع الدلالة، فقد غذت هذه المقامات قصص الشطار الإسبانية بنواحيها الفنية، وعناصرها ذات الطابع الواقعي،
وتعلق حبيبة البرقادية عن هذا اللقاء الأدبي بقولها: وهذا اللقاء التاريخي هو الذي يشرح أوجه الشبه الكبيرة بين المقامات وقصص الشطار في الأدب الإسباني.
وقد فضل الكتاب الإسبان أن ينسجوا على منوال قصص المقامات الواقعية عوض أن ينسجوا على منوال قصص الرعاة، واستطاعوا بعد جهد جهيد أن يقربوا بين قصصهم وواقع الحياة، وأثروا بذلك تأثيرًا كبيرًا في الآداب الأوربية، ثم إن المقامة حولت أنظار الأدباء من الجري وراء الخيال، وذلك بنسج قصص الحب والفروسية والرعاة إلى الواقعية وتقريب الفرد من المجتمع، ودعته ليفتح عينيه على واقعه، لذلك اتجه الكتاب الروائيون بإيحائها إلى التحدث عن أحوال المجتمع وظروف الأغمار من الناس، ثم أبدعوا روائعهم في هذا الاتجاه الواقعي، متناسين هذه الأحلام الهادئة التي كانوا يملئون بها قصصهم الخيالية.
وأول قصة من هذا النوع في الأدب الإسباني كان عنوانها (حياة لاسليو ومحنته) كما أن هناك من الباحثين مَن يثير تأثير المقامة في (الكوميديا الإلهية) لـ"دانتي"، إذ ليس من المعقول أن يكون هذا الكاتب بمعزل عن الثقافة العربية الإسلامية، وهو الملم بجميع نواحي الثقافة والمعرفة آنذاك، وقد درس الموضوع بمزيد من الجدية والعمق المستشرق الإسباني "بلاثيوس" في كتابه (المعتقدات الإسلامية حول العالم الآخر في الكوميديا الإلهية) وهو خلاصة دراسة استغرقت عشرين عامًا، وازن فيها المؤلف بين قصيدة "دانتي" من جهة وبين الكتب الدينية الإسلامية، وبعض الكتب الدينية العربية كالقرآن الكريم وكتب الحديث والتفسير والسيرة ومؤلفات المتصوفين، وانتهى المؤلف من دراسة كل هذا إلى القول بأن "دانتي" كان مطلعًا على كثير من نواحي الثقافة الإسلامية، وأنه استقى من هذا المنبع بعض الصور والمعلومات التي وردت في (الكوميديا الإلهية)، مما يتعلق بالبعث والحشر وخروج النفس ومشاهد الجنة والنار.
وهذا يقودنا إلى الربط بين المقامة والفن الروائي، فقد ذكر "بيير كاكيا" أن الفن الروائي لم يجد متنفسًا له إلا في المقامة، وهي كلمة تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان "أسيمبلي" وإلى الفرنسية بلفظ "سيونس"، بما يفيد أنه يمكن قراءتها في جلسة واحدة، وينقل بهذا الصدد محمد رجب البيومي عن الفيلسوف الفرنسي "إرنست رينان" هذا الإعجاب بالمقامة، التي آثرها على "مجموعة بلزاكي" الأدبية، بحيث إن الحريري قاد شحاذه في خمسين موقفًا مختلفًا بقوة اختراع عجيبة ودقة وتأمل في الأخلاق والعادات، لنعلم المهارة والغرابة التي تنطوي عليها فكرة المقامات، أرادوا أن يضعوا للقرن التاسع عشر مهزلة بشرية يشير "رينيه" إلى "مجموعة بلزاكي" المسماة بهذا الاسم، فلم يعرفوا كيف يجعلونها في قالب مقبول، في حين حقق الحريري هذه الفكرة للمجتمع الإسلامي في القرن الثاني عشر، أما "بلزاك" فقد نقصته شخصية أبي زيد التي لا تكاد تلمسها حتى تفلت.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.