الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفسه من خلقه الأدبي، حينَ يسوغه في الشعر الغنائي، وهو الجنس الأدبي غير الموضوعي، وهذا الاختلاف الأخير يتوقف عليه جوهر البناء الفني للقصيدة، وهو في نفس الوقت دعامة تقويمها، والاعتداد بموقف الشاعر في هذه الحالة أهم وأجدى من الاعتداد بالموضوع الذي ينظم تجربته فيه.
مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع
ولنوضح ذلك بمثال يدخل في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، وذلك لنميز به الفروق في الموقف في الشعر الغنائي على الرغم من اتفاق الموضوع؛ فشَوقِي في وقوفه على الآثار في سِينيته الأندلسية، والبحتري في سنيته المشهورة في الوقوف على إيوان كسرى في المدائن، كِلَاهُما وقف على الآثار، ومن ثم اتحدا في الموضوع، ولكنهما مع ذلك مختلفان في الموقف، فموقف البحتري موقف النافر من المجتمع والناس حتى الأقارب، يرى هم أزمة وعيه النفسية في وجدان العظة بهذه الأطلال الدوارس، لقوم غير قومه، ويوصفهم فيها ويعرف لأهلها صنيعهم حين أيدوا ملك أجداده باليمن:
عمرت للسنون دهرًا
…
فسارت للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعينها بدموع موقفات
…
على الصبابة حبسي
ذاك عندي وليست الدار داري
…
باقتراب منها ولا الجنس جنسي
غير نعمى لأهلها عند أهلي
…
غرسوا من بكائها خير غرسي
أيدم الكنا وشد قواه
…
بكماة تحت السنور حمسي
وأعانوا على كتائب
…
بطعن على النحور ودعسي
أما شوقي؛ فإنه يوقف موقف المغترب عن وطنه الحبيب، يرزح تحت نير الأجنبي الدخيل، فهو يهرب في حلم خيالي، بأمجاد وطنه. ويستطرد من أثار الوطن ذكر
آثار الأندلس، وطني قومه القديم ينشد في المجد الغابر مجد الوطن ومجد العرب ملاذًا من الحاضر، في ثنائية أشاد فيها شوقي بوحدة الشعور الوطني مع الشعور العربي، فهروبه من الحاضر أو ملاذه بالماضي كلاهما ذو طابع إيجابي، فيه تتمثل حركة النفسية من الحاضر البائس، إلى الماضي المشرق مشدانًا بمستقبل يليق بذلك الماضي.
ففي خياله: أنه لا يبعد أن يكون لوطنه من المجد في المستقبل، ما كان لـ"قرطبة" في الماضي في حين أن حاضرها آسي كحاضر وطنه لذلك العهد:
قرية لا تعد في الأرض كانت
…
تمسك الأرض أن تميد وترسي
ويهيب شوقي من وراء آساه على الماضي الضائع، بعزائم أهل وطنه وبالعرب جملة؛ كي يلتفتوا إلى تلك الأمجاد ويتعظوا بها، ويشدوا عزائمهم، وموقفهم منها موقف الوارث المضيع من ملوك الطوائف حين فقدوا فردوسهم في الأندلس.
وفي حديث شوقي عن خروج هؤلاء من الأندلس نفسة يأس ذات طابع اجتماعي وجداني ضخم، يُحِسُّ فيها في نفس الوقت بلذعة أسى النفي من الوطن فيما يشبه نفي هؤلاء الأجداد، ونحس بهذا الشعور الذاتي الوجداني الكبير في هذه الصورة التي تتجاوب فيها أصداء نفسه في وجدانه الذاتي، وفي موقفه في وجدانه الاجتماعي المُمثل لموقف أمته من ماضيها الوطني والعربي جملة ولذلك في قوله:
خَرَجَ القَومُ في كَتائِبَ صُمٍّ
…
عَن حِفاظٍ كَمَوكِبِ الدَفنِ خُرسِ
رَكِبوا بِالبِحارِ نَعشًا وَكانَت
…
تَحتَ آبائِهِم هِيَ العَرشُ أَمسِ
رُبَّ بانٍ لِهادِمٍ وَجَموعٍ
…
لِمُشِتٍّ وَمُحسِنٍ لِمُخِسِّ
إِمرَةُ الناسِ هِمَّةٌ لا تَأَتى
…
لِجَبانٍ وَلا تَسَنّى لِمكسِ
فإذا وازَنّا بين قصيدة البُحتري وقصيدة شوقي، غافلين عن الفرق الكبير بين موقف كل منهما، وحصرنا همنا في تشابه الموضوع في القصيدتين، كان لا بد أن تنتهي الموازنة إلى نتائج خاطئة؛ لأنّ مَوقِفَ شوقي أملى عليه صورًا عميقة المعنى جليلة الشأن، مُتّصلة بوجدان اجتماعي واسع النطاق، فاستمدت روعتها وعمقها من هذا الموقف الذي يندر مثله في الشعر العربي.
ولا تتضح دلالته العميقة إلا إذا اعتددنا بالموقف لدى كل من الشاعرين، على الرغم من أن شوقي قد تأثر بالبحتري في بعض الصور، وفي استلهام روح الموضوع العامة.
وقد غاب عن النقاد الذين وازنوا بين القصيدتين السابقتين معنى الموقف، كما غاب معنى الموقف كذلك عن قدامة بن جعفر حين قرر أن الرثاء والمدح شيء واحد، فقال:"ليس بين المعصية والمدحة فضل، إلّا أن يُذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك، وهذا ليس يزيد في المعنى ولا ينقص منه".
وفي هذا الكلام غفلة تامة عن الموقف، إذ أنه على الرغم من أن الرثاء مدح لهالك؛ فالموقفان مُختلفان في البواعث النفسية، وما يترتب عليها من تخير المعاني، ومن طُرق الصِّياغة، ومن الشُّعور العام الذي يتجلى فيه طابع القصيدة.
وما ذكرنا الأمثلة السابقة وهي من باب الموازنات الأدبية في داخل الأدب الواحد، إلا ليتضح الفرق بين الموقف والموضوع، وليظهر الخطأ في الخلط كل منهما عند النظر إلى العمل الأدبي في ناحية الصور والصياغات الفنية.
وفي السطور السابقة نرى الدكتور محمد غنيمي هلال يفرق بين الموضوع والموقف؛ فالموضوع هو الأمر الذي يكتب الأديب عنه ويتخذه محورًا لإبداعه،
كالوقوف على إيوان كسرى مثلًا، ووصف ابن خفاجة للجبل، وغزل ابن أبي ربيعة في إحدى حبيباته
…
إلى آخر ما نعرفه من موضوعات شعرية يُمكن أن تدور حولها القصيدة.
أما الموقف فهو رأي الشاعر في هذا الموضوع، أو شعوره به، أو نظرته إليه، أو الوضع الذي يتخذه حياله وهكذا، ولنأخذ على سبيل المثال موقف عمر بن أبي ربيعة في معظم قصائده، وقصائده كلها حسبما نعرف قصائد غزلية ليس إلا؛ فهو رجل لاه يبحث عن التسلية وتضييع الوقت، مع هذه الجميلة، أو تلك من النساء المترفات اللاتي لا يمكن أن يفكر في غيرهن.
وإن لم يكن من أولئك الشعراء الذين يقعون في غرام واحدة بعينها من النساء، لا تعوضه عنها أي امرأة سواها مهما صنعت به، وقست عليه، وحرمته وصرمته، وهو ما تعكسه قصائده المعروفة، أما موقفُ كُثير في شعره الذي يتناول فيه علاقته بعزة؛ فهو موقف اليائس الذي يتنسم نظرة رضا منها نحوه، ويَعمل بكل سبيل على استعطافها عليه؛ حتى يتمنى في إحدى قصائده أن يُشِلّ الله رجله أثناء زيارة منه لقومها، كي يعجز عن السفر ومفارقة ديارها، ويبقى قريبًا منها بحيث لا يفوته من نبغه من قربها وهو أشل، ما فاته من ذلك القرب وهو صحيح معافى
…
إلى آخره.
ثم إنّ ما قاله هلال في تداخل تصريفات الموضوعات والمواقف التي أنشأها جوزي، هو كلامٌ سليم، وإن كان لا بد في ذات الوقت من التنبيه؛ لأنّ جوزيه كان -طبقًا لما قاله هلال- رائدًا في تلك التصنيفات، ومن ثَمّ كان من الطبيعي أن يهتز القلم في يده؛ فلا تأتي تصنيفاته دقيقة ولا حاسمة؛ فضلًا عن أن يكون
مفهوم الموقف واضحًا تمام الوضوح في تلك الفترة المبكرة من تاريخ الكتابة في ذلك الموضوع.
وفي ذات الوقت، ينبغي ألا ننسى أنّ بَعضَ تصنيفات ذلك الإيطالي إن كانت قد تداخلت، فإن أمور الحياة كثيرًا ما تتداخل فما الغرابة في هذا؟! كما أن التداخل لا يعني التطابق، ومن ثم فمن الصعب الزعم بأن أحد التصنيفين في تلك الحالة يُمكن أن يغني عن الآخر، ومعروف أن في التصنيفات ما يقارب سواه، لكنه يختلف معه في نفس الوقت ولو في بعض التفاصيل الصغيرة، وهو ما يميز كل منهما عن صاحبه.
وأضيف إلى هذا كله: أن ما قاله جوزيه، وما قاله غيره، وما يمكن أن يقوله أي قائل في المستقبل، لا يستطيع أن يغطي كل التصنيفات الممكنة إذ كثيرًا ما تبدهنا الحياة بمواقف جديدة غير معروفة، وقد ذكر الدكتور هلال نفسه أن هناك من أوصل المواقف في الإبداعات المسرحية إلى أكثر من مائتي ألف موقف، ويمكن قياس القصة على المسرحية في هذا المجال.
وإذا كان بعض الكتاب قد ذكر أن من الممكن اختصار عدد المواقف الأدبية، فلا بد من القول أيضًا: إنّ ذلك الاختصار قد يختلف من شخص إلى آخر، حسب رؤيته، وحسب ميله إلى الإيجاز الشديد أو المخفف، كذلك لم أجد هذا المُصطلح فيما عندي من معاجم من النقد الأدبي بالإنجليزية والفرنسية اللهم إلا ثلاثة معاجم؛ منها:
معجم "شيكلي" المسمى "دكشنري فوير بكتشر" فقد عثرت على مادة كاملة له، وإن لم تكن من الطول بمكان وخلاصتها: أن الموقف عبارة عن اقتران مجموعة من الظروف لحظة معينة من القصة.
وهناك الموقف الأصيل الذي انبثق منه ما تطور من أحداث، وكذلك الموقف الحرج الذي أدت إليه تلك الأحداث.
ومن هذه المعاجم كذلك المعجم الدرامي: "ديكسونير دراماتيك" الذي ألفيته يُخَصّص هذا الاصطلاح مادة أطول من مادة معجم "الشبلي" بعد طول، وفيها أن الموقف هو الوضع الذي تجد شخصيات العمل المسرحي فيه نفسها بعضها إزاء بعض، ورغم أن كل المناظر المسرحية تُعد في ذات الوقت مواقف؛ فإنه لا يقال عن أي منها عادة موقف إلا إذا اتسم بالجدة والأهمية، حتى ليدفع النظارة إلى الترقب، ويشعل فيهم من التشوق لا ما سوف ينطق به الممثلون أو يعملونه.
وفي معجم "المصطلحات الدرامية والمسرحية" للدكتور إبراهيم حمادة مادتان لمصطلح الموقف:
الأول: مصطلح المواقف الدرامية الستة والثلاثين، وهي المواقف التي أشار إليها الشبلي في معجمه، وإن لم يصنع الشبلي شيئًا سوى ذكر اسم الناقد الذي أحصى هذا العدد واسم كتابه، بخلاف الدكتور حماده الذي أورد هذه المواقف الستة والثلاثين كاملة، ثم عقّب عليها بقوله: إنّه أمكن فيما بعد اختصار هذه المواقف وحصرها في عدد أقل من ذلك بكثير.
أما المصطلح الثاني فهو: المواقف المكرورة أو المخزونة، وهي مواقف ذات طابع معين تتكرر تقليديًّا في عدد من المسرحيات كما يقول، كمشهد الزوج الذي يعود إلى بيته من الخارج على غير انتظار، ويفتح باب غرفة النوم؛ فيباغت بزوجته في أحضان رجل آخر مثلًا.