الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي عشر
(أجناس الأدب النثرية)
القصة، والملحمة
فنقول: تاريخ القصة هو تاريخ الإنسان إذ واكبته القصة منذ البداية الأولى، وإن كانت أشكالها الفنية تختلف وتتطور من عصر لعصر تبعًا لتطوره الفني والإبداعي، وإلا فماذا كان يفعل البشر في أوقات فراغهم حين يكون هناك كلام بين اثنين أو أكثر، وليس ثم موضوع يحتاج إلى نقاش أو حل إلا أن يتسلوا بأن يحكي كل منهم على مسامع الآخرين ما قابله وما شاهده، مما يعرف أنه ليس لهم به علم أو أن من شأنه إدخال التسلية على قلوبهم، ولم يكن هناك في ذلك الوقت فاصل بين الحقيقة والخيال والأوهام، وإذا كان كثير من الناس حتى في البلاد المتقدمة علميًا ما زالوا غير قادرين حتى الآن على هذه التفرقة في بعض الأحيان، فما بالنا بالإنسان الأول؟!
وعلى هذا فمن الطبيعي جدًّا أن يختلط كل ذلك فيما كان يحكيه على مسامع الآخرين من حكايات وقصص، وقد كان جل تفكيره في ذلك الوقت تفكيرًا خرافيًّا وأسطوريًّا فانعكس ذلك بطبيعة الحال على القصص التي يرويها، وكانت معظمها قصصًا خرافية أسطورية.
وقد احتاج الأمر وقتًا طويلًا جدًّا حتى تغيرت الأمور وصارت القصص تاريخية وواقعية، بل إننا حتى الآن ورغم كل هذا التقدم العلمي الجبار ما زلنا نَحِن إلى الخرافات والأساطير، حتى لقد اخترعنا في عصرنا هذا ما يسمى بالواقعية السحرية، وهي لون من القصص تختلط فيه الحقائق بالخيالات والأوهام التي لا تمت إلى الواقع بصلة.
فإذا تكلمنا عن الفن القصصي كما وصلنا في بداياته الأولى وجدنا الملاحم التي لا تفرق بين واقع ووهم؛ لأن الإنسان الذي أبدع لم يكن يفرق بين واقع ووهم، بل كان يعتقد بوجود تلك الكائنات الخرافية التي تعج بها ملاحمه، ويتصور أن الآلهة تعيش في الدنيا كما يعيش البشر وتتصرف كما يتصرفون، وأن من الممكن تمامًا أن ينزل الإنسان مثلًا إلى ما تحت الأرض وأن السحر قادر على تغيير هيئته وشكله، وهكذا. والمعروف أن الملحمة قصيدة قصصية شديدة الطول تدور عادةً حول أعمال بطولية ووقائع ذات دلالة لأمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات.
ويفرق الدارسون بين نوعين من الملاحم: النوع القديم كملحمة "جلجامش" وملحمة "الإلياذة" لـ "هومرس" الإغريقي، والنوع الأحدث أو الثانوي مثل "الإنيادة" لـ"فرجيل" الروماني و (الفردوس المفقود) لـ"جون ملتون" الإنجليزي، وهذا النوع الأخير هو من إبداع أدباء كبار معروفين استعملوا له لغة أدبية راقية، ونسجوه عامدين على منوال تلك الملاحم القديمة، التي كانت في الأصل شفوية غير مكتوبة وإن كان قد تم تسجيلها كتابة بعد ذلك فوصلت من ثم إلينا.
وهناك عدة خصائص تميز الملحمة عن غيرها من الأجناس الأدبية، وتتلخص هذه الخصائص في أن يكون بطل الملحمة شخصًا جليلًا ذا مكانة كبيرة بين أبناء وطنه أو في العالم أجمع،
ويحظى بأهمية تاريخية أو أسطورية، كذلك ينبغي أن يكون ميدان الأحداث شديد الاتساع بحيث يشمل كثيرًا من الأمم والبلاد المختلفة، وأن تتسم تصرفات البطل بالشجاعة الفائقة حتى لا تكون خارقة في كثير من الأحيان، فضلًا عن مشاركة الآلهة والملائكة والشياطين فيها، مع حرص المؤلف على فخامة الأسلوب والموضوعية في رواية الوقائع ورسم الشخصيات بكل سبيل.
وعلى وجه العموم، نرى البطل يقوم برحلة يلقى فيها خصومًا، يحاولون إنزال الهزيمة به ليعود في نهاية المطاف إلى بلاده وقد تغير، فلم يعد كما كان، وهو في كل ذلك يعكس الملامح القومية والخلقية التي تميز أمته، ويأتي من الأعمال ما يمثل أهمية قصوى لتلك الأمة، وقد قام كاتب مادة الملحمة في "موسوعة الويكيبيديا" في نسختها الإنجليزية في نهاية المادة بتزويدنا بقائمة لأهم الملاحم المعروفة في العالم، مرتبةً تاريخيًا بدءًا من القرن العشرين قبل الميلاد حتى عصرنا هذا، وتتوالى في تلك القائمة عشرات بعد عشرات من أسماء الملاحم بعضها لا يزال موجودًا حتى الآن وبعضها مفقود، فعدد الملاحم إذن أضخم كثيرًا جدًّا مما يُظن عادة، وبخاصة إذا عرفنا أن هذه القائمة لا تضم كل الملاحم المعروفة، فضلًا عن أن هناك ملاحم لا تزال مجهولة حتى الآن.
ولعل ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية يوم الحادي والثلاثين من ديسمبر سنة ألفين وأربعمائة تحت عنوان: اكتمال أقدم ملحمة صينية، يعطينا لمحة في هذا
الصدد، إذ جاء في الخبر أن الصين أعلنت عن اكتمال أطول ملحمة شعرية على مستوى العالم، وهي الملحمة المعروفة باسم "الملك قصار" التي لا أذكر أن أحدًا أورد اسمها مجرد إيراد بين ملاحم العالم، وذلك إثر العثور على الجزء الناقص منها، ويستغرق ألف كلمة منقوشة على الأحجار والتماثيل الكائنة بمعبد السمكة الذهبية جنوب الصين، وقد وصفت الملحمة بأنها أطول ملحمة شعبية عرفها العالم إذ تقع في ستة وثلاثين مجلدًا، وتضم قرابة مليوني بيت من الشعر، كما وصفت أيضًا بأنها تضاهي في قيمتها الأدبية أشهر الملاحم الغربية حتى ليطلق عليها الإلياذة الشرقية. وهذه الملحمة كما جاء في الخبر تدرس في عشرات المعاهد والكليات في أرجاء العالم.
وبالمناسبة فقد ذكرت صحيفة "الشعب الصينية" على الإنترنت بتاريخ الثالث والعشرين من شهر أكتوبر سنة ألفين وثلاثة، أن صبيًّا صينيًّا عمره ثلاث عشرة سنة يحفظ هذه الملحمة عن ظهر قلب، وأن عملية الحفظ قد تمت على نحو خارق، إذ كان الصبي نائمًا ذات ليلة، ثم استيقظ فوجد نفسه يحفظ عن ظهر قلب تلك الملحمة التي تشتمل على عشرة ملايين كلمة، دون أن يبذل في حفظها أي جهد دون أن تكون عنده النية أصلًا في هذا الحفظ.
وأنا أنقل لطلابي هذا الكلام على عهدة من كتبوه، أما أنا فإني لا أصدقه.
القصة إذن فن من الفنون الأدبية القديمة، وكما قلنا: لا نظن أن ثمة مجتمعًا بشريًّا قديمًا أو حديثًا يمكن أن يخلو من هذا الفن؛ لأن حب القصص نزعة فطرية في النفس الإنسانية، ولعل أقدم كتابة نقدية في هذا الموضوع هي ما كتبه أرسطو في كتابه (فن الشعر) عند كلامه عن الملحمة والمسرحية، ذلك أن الملحمة والمسرحية كلتاهما فن قصصي، كل ما في الأمر أن الملحمة كانت
تنظم شعرًا وأن المسرحية تقوم على الحوار، فلا سرد فيها إلا في أضيق نطاق، وذلك حين يضع المؤلف ملاحظاته السريعة الموجزة قبل بعض المشاهد، كي يهتدي بها المخرج لدن تحويلها من عمل مكتوب إلى تمثيل حي على المسرح، وفي كل من الملحمة والقصة والمسرحية نجد الحوادث والشخصيات والحوار والعقدة والحل والبناء الفني، كما أن المواصفات التي يراعيها المبدع في كل فن من هذه الفنون لا تكاد تختلف بشكل جذري عما ينبغي مراعاته في الفنيين الآخرين.
وقد قال أرسطو في كتابه (فن الشعر)"بويتكس": إن كل ما يصدق على الملحمة يصدق على مسرحية المأساة، اللهم إلا في أن الملحمة لا تنظم إلا في بحر واحد من بحور الشعر، كما أنها تتخذ الشكل السردي علاوةً على أن المأساة محكومة في طولها الزمني بدورة الشمس حول الأرض مرة واحدة، أي: بأربع وعشرين ساعة أو أزيد قليلًا، إن كان ثمة حاجة إلى ذلك على حين أن زمن الملحمة مفتوح.
وهما كما يرى القارئ لا صلة بينهما وبين البناء الفني لهذين الجنسين الأدبيين، ولأن العناصر الموجودة في الملحمة هي نفسها تقريبًا العناصر الموجودة في المسرحية، نجده يؤكد أن من يستطيع الحكم الفني على إحداهما يستطيع الحكم على الأخرى، وبالمثل نراه يذكر أن المؤلف -أيّ مؤلف- قد يروي قصته من خلال ضمير الغائب أو من خلال ضمير المتكلم، أو من خلال ترك الشخصيات تتصرف أمامنا مباشرة، والأسلوب الأخير هو أسلوب المسرحية، أما الأسلوب الأول فأسلوب "هومر" في شعره الملحمي، إلا أنه لم يضرب لنا مثلًا يوضح به كيفية تقديم الشخص نفسه من خلال ضمير المتكلم.
والمسرحية تتكون عنده من الحبكة والشخصية واللغة والفكرة والمنظر والأغنية، وفي رأيه أن الحبكة أهم من رسم الشخصيات، وأساسها عدم تضمين العمل المسرحي أو الملحمي أي عنصر لا يضر العمل حذفه، وألا نحذف من العمل أي عنصر من شأنه أن يصيب العمل بالتفكك والانهيار عند هذا الحذف، كذلك لا بد في رأيه أن يكون كل حدث مترتبًا على الحدث السابق عليه، وبالنسبة إلى الشخصيات ينبغي أن تكون شخصيات حقيقية مما نقابلها في الحياة، وأن ينم كلامها وسلوكها عليها وينسجم معها وأن تكون متسقة مع نفسها، إلى آخر ما كتب ذلك الفيلسوف عن المواصفات التي لا بد من مراعاتها في كتابة المسرحية والملحمة، وهو أساس النقد القصصي عند الأوربيين وعند غير الأوربيين.
ومما قرأناه في المراجع المختلفة يتبين لنا أن فن القصص قديم قدم الإنسان، لم تخل منه أمة وأنه يقوم على سرد الأحداث وتصوير الشخصيات والحبكة، وأنه كان يعتمد في انتشارها على الحكاية الشفوية، ثم تدخل الرسم والكتابة في عملية التسجيل، وكانت الأدوات المستخدمة في هذا قديمًا هي الحجر وجدران الكهوف والجلود وجذوع الأشجار، وكل ما يمكن الاستعانة به في هذا الصدد، وأنه كان وما زال يتغيى التسلية والتعليم والدعاية ونشر القيم التي يتمسك بها المجتمع، فضلًا عن التضليل أيضًا في بعض الحالات.
ويؤكد كاتب مادة نوفل في معجم (المصطلحات الأدبية) باللغة الإنجليزية أن الرواية فن مرن منفتح غير جامد، فهي كما تكتب نثرًا قد تكتب شعرًا، وهي قد
تكون طويلة كما قد تكون قصيرة أيضًا، والمهم ألا تبلغ من القصر ما يحول دون إصدارها في كتاب على حدة، وهي تتأبى على الشكل المحدد والأسلوب المحدد والموضوع المحدد على عكس الأشكال الأدبية الأخرى، فضلًا عن أنها تتسع لعناصر غير قصصية كالرحلات والتراجم والتاريخ والصحافة.
ويمضي الكاتب قائلًا: إن هذا هو السبب في أنها استطاعت أن تزيح الأجناس القصصية الأخرى وتحل محلها. لكني لا أحب أن يكون الكلام هكذا وأوثر أن يقال: إن الرواية مجرد شكل من أشكال الفن القصصي المتعددة كالملحمة والرومانس، التي تشبه عندنا السيرة الشعبية، إذن العناصر في كل هذه الأشكال ولا أقول في كل هذه الأجناس عناصر واحدة، ألا وهي الأحداث والشخصيات والحوار والزمان والمكان والحبكة.
أما أن الملاحم مثلًا كانت تقوم على الخرافات والخوارق وما إلى هذا، على حين أن الرواية وهي فن علماني لمجتمع علماني، كما جاء في المادة المخصصة لها في قاموس (أكسفورد الأدبي) هذه الرواية تتغيى الواقعية أقول: أما أن الملامح كانت كذا وأن الرواية هي كذا، فالرد عليه شديد السهولة، إذ إن القدماء لم يكونوا ينظرون إلى تجسد الآلهة وتعددهم وتصرفهم، كما يتصرف البشر وتخلقهم بأخلاق البشر وتزاوجهم فوق ذلك مع البشر، ولا إلى الخوارق والمعجزات والغرائب والوقائع والشخصيات الأسطورية، على أنها أمور غير حقيقية بل على أن هذا هو الواقع الفعلي.
وإذا اعترض بأن الملاحم كانت تصاغ شعرًا فها هو ذا كاتب المادة يقول: إن الرواية قد تصب في قالب الشعر أيضًا، ثم ها نحن أولاء نعود هذه الأيام فنكتب