الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس
(الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية)
تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية
وسوف نبدأ اليوم بجنس الملحمة:
والملحمة حسبما تقول "الموسوعة العربية العالمية": هي قصيدة قصصية طويلة تدور حول بطولات فائقة لأشخاص غير عاديين في الحرب، أو في السفر، وفي كثير من الملاحم الشعرية الأسطورية قد يكون البطل حسب اعتقاداتهم الوثنية نصف إله، أي: متولدًا من إله وبشر طبقًا لما يؤمنون به من خرافات، ويتناول كثير من الملاحم نشأة شعب أو نمو أمة من الأمم، وقد ألف الملاحمة أناس مجهولون خلال زمن طويل، وإن كان هناك ملاحم أخرى ألفها مؤلف واحد، وتعود أقدم الملاحم الشعرية إلى فترة ما قبل التاريخ، حيث كان يغنيها في البداية شعراء يقومون في ذات الوقت بالعزف على آلة وترية، وكان المنشد يحفظ أوصافًا وحوادث وعبارات ومشاهد معينة، يمكن استخدامها في تأليف الأبيات.
ومن المادة المخصصة للشعر الملحمي في "موسوعة الويكبيديا"، نعرف أن الملحمة قصيدة قصصية شديدة الطول تعود عادة حول أعمال بطولية، ووقائع ذات دلالة لِأُمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات.
ويفرق كاتب المادة بين نوعين من الملاحم: النوع القديم كـ"ملحمة جلجامش" و"ملحمة "الإلياذة"" لـ"هوميروس" الإغريقي، والنوع الأحدث أو الثانوي مثل "الإنياذة" لـ"فرجيل" الروماني و"الفردوس المفقود" لـ"جون ملتون" الإنجليزي. وهذا الأخير هو من إبداع أدباء كبار معروفين استخدموا له لغة أدبية راقية، ونسجوه عامدين على مِنوال تلك الملاحم القديمة، التي كانت في الأصل شفوية غير مكتوبة، وإن كان قد تم تسجيلها كتابةً بعد ذلك فوصلت من ثم إلينا.
ويمضي كاتب المادة مسجلًا الخصائص التي تميز الملحمة عن غيرها من الإبداعات الأدبية، وهي أن يكون بطل الملحمة شخصًا جليلًا ذا مكانة كبيرة بين أبناء وطنه، أو في العالم أجمع ويحظى بأهمية تاريخية أو أسطورية، كذلك ينبغي أن يكون ميدان الأحداث شديد الاتساع بحيث يشمل كثيرًا من الأمم والبلاد المختلفة، وأن تتسم تصرفات البطل بالشجاعة الفائقة؛ حتى لتكون خارقة في كثير من الأحيان، فضلًا عن مشاركة الآلهة والملائكة والشياطين فيها، مع حرص المؤلف على فخامة الأسلوب، والموضوعية في رواية الوقائع، ورسم الشخصيات بكل سبيل.
وعلى وجه العموم، نرى البطل يقوم برحلة يلقى فيها خصومًا، يحاولون إنزال الهزيمة به ليعود في نهاية المطاف إلى بلاده، وقد تغير فلم يعد كما كان، وهو في كل ذلك يعكس الملامح القومية والخلقية، التي تميز أمته، ويأتي من الأعمال ما يميز أهمية قصوى لتلك الأمة، وقد قام كاتب الويكيبيديا في نهاية المادة بتزويدنا بقائمة لأهم الملاحم المعروفة في العالم مرتبةً تاريخية بدءًا من القرن العشرين قبل الميلاد، وهي بالعشرات وتكاد ألا تكون هناك أمة من الأمم القديمة، إلا وقد أبدعت الملاحم.
وسر تسمية الشعر الملحمي بهذه التسمية أنه يدور غالبًا حول معارك حربية، وهو ذلك الشعر الذي لا يعبر عن ذات صاحبه، ولكنه يدور حول أحداث أو بطولات وأبطال في فترة محددة من تاريخ الأمة. كما يمزج الحقائق التاريخية بروح الأسطورة والخيال، وتتوارى ذات الشعر في هذا المقام حين يتناول مادته تناولًا موضوعيًّا وليس وجدانيًّا، وهو يصور حياة
الجماعة بانفعالاتها وعواطفها، بعيدًا عن عواطفه وانفعالاته، ولا تظهر شخصيته إلا في أضيق الحدود كما تعنيه عواطف الأبطال وانفعالاتهم أكثر من عواطفه وانفعالاته الخاصة.
وتطول قصائد هذا اللون من الشعر؛ حتى تصل آلاف الأبيات، ولكنها على طولها لا بد لها من وحدة هي حدثها الرئيسي وشخصيتها الرئيسية التي تمضي بالأحداث إلى نهايتها، ثم تتفرع أحداث ثانوية وشخصيات مساعدة.
ومن أقدم ما عرفه تاريخ الأدب العالمي من هذا الجنس الشعري "ملحمة "الإلياذة" و"الأوديسا" لشاعر اليونان "هومر"، وموضوع "الإلياذة" تلك الحرب القاسية بين اليونان ومملكة طروادة، وأما "الأوديسا" فتصور عودةَ اليونانيين إلى بلادهم عقب المعركة، والملحمتان تحكيان ألوانًا من المشاعر المتباينة من الغدر والوفاء والحب والبغض، كما تصور أحداثًا دامية عنيفة، وتحكي أسطورة فتح طروادة بهيكل الجواد الخشبي، كما تحدثنا عن شخصيات الأمراء والقواد مثل: أخيل وأجمنون وأجاكس وهيكتور وغيرهم، وبلغت "الإلياذة" ستة عشر ألف بيت من الشعر على وزن واحد.
وقد عرف الرومان الملاحم على يد شاعرهم جرجيل حين كتب "الإنيادة" مستلهمًا ملحمة "هوميروس" وموضوعها مغامرات البطل "إنياس". وكذلك عرفت الأمم الأوربية عددًا من مطولات الشعر القصصي، جعلته سجلًّا لأحداثها ومواقفَ أبطالها، فأنشودة رونان عند الفرنسيين تصوير لعودة الملك "شارلمان" منهزمًا في إحدى غزواته، ولكنه بالرغم من هزيمته كان مثالًا للبطولة والنبل،
كما عرف الفرس ملحمة "الشاهنامه"، التي تحكي أحداث مملكة الفرس، وكذلك كتب الهنود ملحمة "المهابهاراتا" في مائة ألف بيت، حول صراع أبناء أسرة واحدة على المُلك، مما أدى إلى فنائهم جميعًا.
وقد قل شأن هذا اللون من الشعر في العصر الحديث، إذ لم يعد الإنسان تطربه خوارق الأساطير الممعنة بالخيال بقدر اهتمامه بأحداث الحاضر المعبر عن واقعه وهمومه، وآماله وآلامه، وقد بدأ الشعر الملحمي الغربي بـ"الإلياذة" و"الأوديسا"، ويعتقد الباحثون أن هذين العملين قد كتبهما "هوميروس"، وهو شاعر يوناني أعمى عاش في القرن السابع قبل الميلاد، وبني جزء من كل منهما على التاريخ، والجزء الآخر على الأسطورة المتصلة بحرب طروادة، ووضع النقاد الأدب من الإغريق والرومان قواعد للملاحم الشعرية، مبنية على أسلوب "هوميروس" وأسلوب "فرجيل" أهم تابعيه، وقد نصت هذه القواعد على وجوب بدء الملحمة في منتصف الأحداث، أي: أن تبدأ القصة بعد أن يكون جزء كبير من أحداثها قد وقع، وكان على الشعراء أيضًا أن يكتبوا بأسلوب رفيع، وأن يبدأوا بالابتهال إلى آلهة الإلهام، يطلبون منها الوحي الشعري.
ومع مرور الزمن أُهمِلت قواعد الملاحم الشعرية اليونانية والرومانية، وقام الشعراء خلال العصور الوسطى بكتابة الملاحم الشعرية بأسلوب طبيعي، ومن الملاحم المهمة في العصور الوسطى "الملحمة الإنجليزية""بيولف" في القرن الثامن الميلادي، والفرنسية "أغنية رولان" في القرن الثاني عشر الميلادي، والأسبانية "قصيدة السِّيد" حوالي عام ألف ومائة وأربعين للميلاد، وفي القرن السابع عشر قام الشاعر الإنجليزي "جون ملتون" بتقليد "هومر" و"فرجيل" في ملحمته الشعرية
"الفردوس المفقود"، ومع بداية القرن الثامن عشر أسهم رواج الأدب النثري الواقعي، وخصوصًا الروايات في تراجع الشعر الملحمي، وكذلك كَتَبَ الهنود ملحمة "المهابهاراتا"، وتعد "المهابهاراتا" أطول قصيدة في العالم، حيث تتكون من مائتين وعشرين ألف بيت مقسمة إلى ثمانية عشر فصلًا، وقد كتبت القصيدة باللغة السنسكريتية، وهي اللغة القديمة المقدسة للهند، وتُرجمت إلى عدد من اللغات الهندية الحديثة؛ لأن القصة التي ترويها ذات شعبية واسعة في الهند كلها، وقد عرضت عدة صيغ للقصة التي ترويها القصيدة في التلفاز الهندي، وفي تلفازات عدد من الأقطار الأخرى.
وتعني كلمة "المهابهاراتا" الملك العظيم باهارتا، وتتحدث القصيدة عن المنافسات والنزاعات والمعارك، التي دارت بين الكوارافاس والبندافاس، وهما فرعان من أسرة بهارتا الحاكمة، وينحدر الكوارافاس من أبيهم الذي عرف باسم دريت رشترا، وكان دريتارشتا أعمى؛ ولذا فشل في أن يكون ملكًا واعتلى العرش بدلًا منه أخوه بندو الذي ينحدر منه البندافاس، وتنازل بندو عن العرش فيما بعد؛ ليصبح راهبًا متدينًا، وتولى دريت رشترا زمام الملك، ونشأ أبناؤه الكوارافاس وأبناء عمهم بندو الخمسة معًا، ولكن المنافسات كانت تحتدم دائمًا بين الأسرتين، وبعد نزاع مرير تم إرسال البندافاس إلى المنفى.
وتواصل القصيدة وصف مغامراتهم الكثيرة، ومن ضمنها إقامتهم في بلاط الملك دوروبادا، وهناك تزوج كل من الأخوين المنفيين ابنة الملك التي كانت تعرف باسم دراوبادي، وخلال فترة المنفى قابل البندافاس كرشنا، واعترفوا به
فيما بعد تجسيدًا لمعبودهم فشنون، الذي ساعد بقوته ونصائحه في تقويتهم في معاركهم التالية ضد الكوارافاس.
وبعد رجوع البندافاس من المنفى اقتسموا المملكة مع أبناء عمهم الكارافاس، ولكن ذلك لم يحقق سلامًا دائمًا، وقد لعب أكبر الأخوين البندافا ويودهشترانرد مع أحد الكورافا، الذي كان يطلق عليه اسم دوريودانا، ولقي دوريودانا عونًا من عمه شاكوني، وكان دائمًا يستعمل الزهر المشحون، وبسبب ذلك فقد يودهشترا كل شيء بما في ذلك زوجته دراوبادي، ومرة أخرى أجبر البندافاس على الذهاب إلى المنفى، وامتدت محنتهم حتى معركة كوركشترا الكبرى، التي نشبت بين عامي ثمانمائة وخمسين وستمائة وخمسين قبل الميلاد على أرجح الظنون بالقرب من عاصمة الهند الحديثة دلهي، وقد قتل كل أمراء الكورافاس في هذه المعركة؛ وبذا أصبح يودهشترا ملكًا، واستمر في حكمه حتى شعر أنه قد أتم مهمته في الحياة، وهنا تنازل عن العرش، وبدأ رحلة الصعود إلى السماء هو وإخوته البندافاس الآخرون وزوجتهم دراوبادي، وقد رافقهم في هذه الرحلة كلب كان يمثل معبودهم دارما، وهو إله الواجب والقانون الأخلاقي في الأساطير الهندية، وبعد مغامرات عديدة اتحد البندافاس مرة أخرى في السماء في خاتمة المطاف.
وتشكل هذه القصة التي تكون الموضوع الرئيسي "للمهابهاراتا" نحو ربع القصيدة فقط، وتتخللها كثير من الحكايات الأخلاقية والأساطير والطرائف، المليئة بالتعاليم الدينية والمبادئ الفلسفية الهندية، كما تشتمل أيضًا على مقاطع على مقاطع عن فن الحكم والحكومة الصالحة، وتحتوي كذلك على عدد من القصص الشعبية الأخرى بما في ذلك (قصة نالاود أمايانتي)، و (قصة سفتري وساتياوال)، و (قصة راما)، و (قصة شاكونتالا)، وتقدم معركة كوركسترا فرصة لدراسة الاستراتيجية
العسكرية، ولكن الفكرة الرئيسية "المهابهاراتا" تتعلق بالواجب الأخلاقي، والسلوك القويم من وجهة النظر الهندية.
وقد أتاح الصراع الطويل والمعقد الذي مزق أسرة بهارتا الملكية الفرصة لبيان الواجبات والسلوك المتوقع للملك، كما أنها أيضًا تبين مثاليات السلوك للرعايا والجند، ورهبان الدين والناس الذين يعانون من المحن والبلايا، وجرى التقليد على اعتبار العالم القديم فياسا هو مؤلف "المهابهاراتا"، ولكن الأرجح أنه جمعها فقط، فالملحمة تبدو كمجموعة كتابات لمؤلفين متعددين، عاشوا في أزمنة مختلفة، إذ الأجزاء القديمة يرجع عمرها في الغالب إلى نحو ألفين وخمسمائة عام، بينما يمكن تتبع بعضها إلى وقت متأخر يرجع إلى عام خمسمائة ميلادية.
وقد تطورت أهمية كرشنا في التفكير الهندوسي بصفته إلهًا رئيسيًّا في هذه الملحمة في الفترة بين مائتين قبل الميلاد ومائتين بعده، ونتيجة لذلك يمكن استخدام "المهابهاراتا" لتتبع انتشار، وتطور الفكر الفشنافي نسبة لإله فشنو في الهندوسية، وقد صار الإله فشنو معبودًا ذاتيًّا لعابديه عبر ظهوره في صورة كرشنا الناصح والصديق للأمير أرجونا في "المهابهاراتا"، وتوجد اليوم نحو ألف وثلاثمائة مسودة "المهابهاراتا" تختلف عن بعضها اختلافًا كبيرًا، وكلها يظهر الملحمة في شكلها المتأخر؛ لأن أقدمها يرجع إلى القرن الخامس عشر الميلادي.
وأشهر الإضافات "للمهابهاراتا" هي الباجا فجيتا، الموجودة في الكتاب السادس، وهي الآن أكثر النصوص الهندوسية المقدسة شهرة، وتحكي الباجا فجيتا كيف أن أرجونا الأمير الثالث للبندافا كانت له شكوك وهواجس عما إذا كان يتعين عليه محاربة بني عمومته الكوارافاس أو لا، وقد قام كرشنا متحدثًا