الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن إذا كان "أوديب سوفوكليس" يعاني من مشكلة البحث عن الحقيقة، فإن أوديب توفيق الحكيم كما نبه إلى ذلك الدارسون الذين قاموا بالمقارنة بين المسرحيتين، يعاني من مشكلة الصراع بين الحقيقة والواقع، وقد دخل الأديب الحضرمي المصري علي أحمد باكثير على الخط، فألف هو أيضًا مسرحية بعنوان "أوديب" ذاكرًا أن هدفه من كتابتها هو محاولة تشخيص المشكلة الفلسطينية، وإن حوى العمل إلى جانب هذا هجومًا على البدع التي أخذت تشيع في البيئات الإسلامية منذ العصر الفاطمي، ويقوم على الترويج لها طبقة من المتاجرين باسم الدين.
وفي نفس السياق نجد مسرحية "بكماليون" التي نشرها توفيق الحكيم سنة ألف وتسعمائة وثلاث وأربعين ميلادية، وتأثر فيها بمسرحية تحمل ذات الاسم للكاتب الأيرلندي "برناردشو"، وإن أدار توفيق الحكيم عمله حول فكرة التردد بين مثالية الفن وواقع الحياة عكس "برناردشو"، الذي طرح مشكلة الطبقية، وبالمناسبة فمن الممكن أن يدرس الأدب المقارن مثل هذه التأثيرات في أي مجال من مجالات الإبداع الأدبي، علمًا بأن بعض المقارنين الأدبيين قد وصل بنواحي التأثير والتأثر إلى عدد يصعب إحصاؤه.
دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية
وهذه النماذج الأدبية يمكن أن تنقسم إلى نماذج الشعوب المختلفة، كالفرنسي والألماني والمصري والصيني، أو نماذج المهن والوظائف، مثل: الشيخ والكاهن والفلاح والطبيب والمحامي والصيدلي وحفار القبور والجاسوس والبغي، وقاطع الطريق. أو نماذج التشويه البدنية والنفسي كالمخنث والأعمى والمعتوه والأحدب والمقامر والسكير.
ويستطيع المقارن الأدبي أن يدرس تصوير الأدباء لهذه النماذج الاجتماعية والإنسانية عن طريق تتبعه للصفات المشتركة التي رأوها في هذه الشخصيات، ومدى تأثر بعضهم ببعض، واختلاف بعضهم عن بعض، فمن ذلك مثلًا:
شخصية الفلاح التي تناولها عدد كبير من الأدباء، وصوروا حياته وآلامه ومعاناته، وقد لاحظ بعض الدارسين أن عددًا من الأدباء المصريين والعرب قد تأثروا بالأدب الروسي في تصوير الفلاح المصري.
كذلك من الممكن أن ندرس جوانب التأثر والتأثير بين الكتاب الذين تناولوا شخصية البغي، فبعضهم عد المومس امرأة فاضلة، بل قدمها في صورة ملاك يساعد ويعطي دون انتظار أية مكافأة، مما لا يفعله كثير ممن يتشدقون بالتدين أو بالأخلاق الفاضلة.
ولعل خير مثال على ذلك مسرحية "غادة الكاميليا" لـ"أكسندر دوماس"، وكذلك شخصية نور في رواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب)، ولولا في روايته الأخرى (السمان والخريف)، وقد صور بعض الكتاب المومس في صورة ضحية مغلوبة على أمرها، فلا ذنب لها في سقوطها، بل المسئول عن ذلك المجتمع، الذي دفعها إلى الرذيلة دفعًا، وبعض ثالث عدها آفة اجتماعية لا سبيل إلى إصلاحها، وخطرًا داهمًا على المجتمع الذي تعيش فيه، ومما لا شك فيه أن مسرحية "غادة الكاميليا" كان لها أثر كبير على الكتاب العرب، الذين تناولوا شخصية المومس الفاضلة، ويعد نجيب حداد من الكتاب الذين قلدوا غادة الكاميليا في روايته "إيفون منار أو حواء الجديدة"، التي تأخذ على عاتقها رد اعتبار العاهرة، وتأثر بها بأفكار كل من "رومان رولا" و"ألكسندر دوماس" وغيرهما من الأدباء الفرنسيين.
ولعل الحداد كما كتب بعض الدارسين المقارنين هو أول من تطرق لموضوع الدفاع عن البغي في الأدب العربي الحديث.
وهناك مثال آخر على الموضوعات أو النماذج التي يتناولها الأدب المقارن، وهو موضوع الحب المحرم في الآداب العالمية، حيث يمكن تتبع رذيلة ارتكاب المحرم عن طريق نشوء عاطفة آثمة داخل الأسرة، بدءًا من مسرحية "هيبوليت" للشاعر المسرحي الإغريقي "يوربجيس" مرروًا بمسرحية "فِدر" في القرن السابع عشر الميلادي، بقلم الكاتب المسرحي "راسين" وصولًا إلى معالجة نفس القضية مع تغير الأدوار في مسرحية "تحت أشجار الدردار"، للكاتب الأمريكي "جين أونيل"، ومسرحية "اللص" لتوفيق الحكيم، ومن النماذج العامة نموذج البخيل، الذي دارت حوله مسرحية الشاعر اليوناني "مناندر"، وإن لم تصل هذه المسرحية إلينا إلا أن الشاعر الروماني "بلوتوس" قام بمحاكاتها في مسرحية عنوانها "ألولاريا" كما جرى تصوير هذا النموذج في مسرحيات أخرى في بعض الآداب الأوروبية، من أشهرها مسرحية "البخيل" للشاعر الإيطالي "كارلو جولدني". ولدينا أيضًا مسرحية "البخيل" للكاتب الفرنسي "موليير"، التي كان لها أثر كبير على المسرحيين العرب.
كذلك هناك النماذج الأسطورية الخيالية التي تعود إلى حكايات قديمة، أو موغلة في القدم تحورت أو تشوهت أو فقدت معناها الأصلي، ومن هذه النماذج نموذج الشيطان كما في مسرحية "فاوس" لـ"جوته" ومسرحية "مانفرد" لـ"بايرون" اللتين سبقت الإشارة إليهما، وكذلك نموذج الساحرة الشريرة كما في مسرحية "ماكبث" لـ"شكسبير"، ونموذج الشبح كشبح "هاملت" في مسرحية "شكسبير" المسماة بهذا الاسم، وهناك نماذج أسطورية تحولت إلى رمز فلسفي أو اجتماعي وتناولها كل أديب من وجهة نظره الخاصة، التي تتفق مع عصره وظروفه، ومن هذه النماذج نموذج "بكماليون"، وهو فنان من جزيرة قُبرص هام عشقًا بجمال تمثال صنعه بيده.
وهذا الموضوع نفسه نجده في الأدب الروماني القديم في قصة المسخ عند "أوفيد"، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد، وعرض نفس
الفكرة كتاب وشعراء مختلفي الآداب، ومنهم توفيق الحكيم في مسرحيته "بكماليون"، التي نشرها عام ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين ميلادية، وإن كان الحكيم يطرح فيها مسألة التردد بين مثالية الفن وواقع الحياة، وهو ما سبق الحديث عنه مثلما سبق الحديث عن "برناردشو" ومسرحية "بكماليون"، التي عالج فيها مشكلة الطبقية في المجتمع الإنجليزي، ومما لا شك فيه أن الحكيم قد تأثر بكل المصادر الأدبية التي عالجت تلك الشخصية، وتدور مسرحية توفيق الحكيم المسماة "شمس النهار"، والتي نشرها سنة ألف وتسعمائة وخمس وستين حول الفكرة التي تقول: إننا نقدر ونحب من نصنعه أو نعلمه أكثر مما نقدر ونحب من صنعنا هو أو علمنا، وهي نفس الفكرة التي نجدها في "بكماليون أوفيد الروماني"، وتأثر بها عدد من الفنانين والأدباء والشعراء.
ومن تلك النماذج الأسطورية أيضًا نموذج "برومسيوس"، إله النار لدى الإغريق، وقد تناوله العديد من الشعراء في شعرهم، وكذلك بعض كتاب المسرح في مسرحياتهم بدءًا من الشعراء الإغريق، ووصولًا إلى الكتاب الأوربيين في عصر النهضة الأوربية، وكذلك تأثر بهذه الأسطورة الشاعر التونسي المعروف أبو القاسم الشابي في ديوانه (أغاني الحياة)، وكذلك الشاعران المصريان عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد على سبيل المثال، كما يقال لبعض دارسي الأدب المقارن.
أما نموذج الشيطان فهو نموذج دخل إلى الأدب، فاتخذه الشاعر الإنجليزي "جون ملتون" الذي عاش بين عامي ألف وستمائة وثمانية، وألف وستمائة وأربعة وسبعين، أساسًا لملحمته
الفردوس المفقود، كذلك يعبر الرومانسيون على لسان الشيطان عن آرائهم فيما ينتابهم من مخاوف وأحزان وشكوك، ويبدو واضحًا جليًّا أثر هذه الشخصية في الأدب الروسي الرومانسي عند "درمن توفن" الروسي، في قصيدته عن الشيطان التي تأثر فيها إلى حد بعيد بالشاعر الإنجليزي "بايرون"، أما "فيكتور هيجو" فقد جعل الشيطان ممثلًا للإنسانية كلها عند ابتعاده عن الله -جل وعلا- ولعباس محمود العقاد قصيدة عنوانها "ترجمة شيطان" تحدث فيها عن شيطان ناشئ سئِمَ حياة الشياطين، وتاب عن صناعة الإغواء، إلا أنه لم يستطع التخلص من طبيعته الإغرائية إلى آخر الشوط، والقصيدة في مجملها تضم الكثير من آراء العقاد وتطلعاته الفلسفية، التي ساقها على لسان الشيطان، وهو فيها متأثر إلى حد كبير بالرومانسيين الأوربيين، حسبما وضح عدد من الدارسين المقارنين ممن تناولوا ذلك العمل.
وثم مجال آخر يتعلق بدراسة الشخصيات المتميزة، وتناوله بالبحث الدارسون المقارنون ومنه شخصية جحا، التي تعود إلى المصادر الشعبية، وأصبحت موضوعًا تتناوله الآداب العالمية بمختلف ألوانها، إذ نجده في الأدب الشعبي المصري، وفي الأدب الشعبي التركي، وفي الأدب الشعبي القوقازي، والأدب الشعبي الفارسي، وهو في كل ذلك رمز للإنسان البسيط خفيف الظل، الذي يعبر عن رأيه في شجاعة منتقدًا أوضاع السلطة الحاكمة الفاسدة أو المستبدة، حاملًا ملامح كل أمة ينتمي إليها حسبما لوحظ أي: أنه على الإجمال خير معبر عن الوجدان الشعبي، وموقفه من عصور القهر والظلم.
ومن تلك النماذج أيضًا شخصية شهرزاد بطلة قصص ألف ليلة وليلة، التي نقلت إلى الآداب الأوروبية، وأصبحت رمزًا للاهتداء إلى الحقيقة عن طريق القلب والعاطفة، وعن هذه القصص أيضًا انتقل موضوع علاء الدين والمصباح السحري إلى
الآداب المختلفة، ومنها كذلك أخذ توفيق الحكيم مسرحيته "شهرزاد" التي نشرها سنة ألف وتسعمائة وأربع وثلاثين، وطه حسين روايته "أحلام شهرزاد"، التي نشرها سنة ألف وتسعمائة واثنتين وأربعين ميلادية.
ومن هذه الشخصيات كذلك شخصية "دنجوان"، التي يصعب الآن معرفة الموطن التي نبتت فيه، وكل ما يعلمه المقارنون أن أقدم مسرحية تناولت هذه الشخصية الأسطورية هي مسرحية "ساحر إشبيلية"، التي ألفها "ترسو دي مولينا" في القرن السادس عشر والسابع عشر للميلاد، وتبعه جمع من كتاب أوربا وشعرائها، منهم "موليير" الفرنسي و"بايرون" الإنجليزي و"بولدون" الإيطالي و"هوفمان" الألماني، ويرمز "دنجوان" إلى الإنسان المستهتر المخادع الذي لا هم له إلا التغرير بالفتيات، وتحطيم قلوبهن، ثم هجرهن دون عودة، وصور بعض الكتاب "دنجوان" بالصورة التائب الذي يلاحقه عذاب الضمير على ما فعل من خطايا، إلى غير ذلك من الصور التي رسمتها أقلام عدد من الكتاب والشعراء لهذه الشخصية، كل طبقًا لرؤيته الخاصة.
وقد تعرضت لأسطورة "دنجوان" كثير من الأبحاث، التي تمتاز بالغنى والدقة منها البحث الذي كتبه "جاندورن ديبجون"، وعنوانه "أسطورة دنجوان من أصولها إلى الرومانسية".
وبالمثل كان لشخصية كليوباترا حظ موفور في الآداب العالمية، ففي الأدب الفرنسي هناك مسرحية "كليوباترا الأسيرة"، التي كتبها الشاعر الفرنسي "جول" في القرن السادس عشر، وظهر بعدها مسرحية "كليوباترا" للشاعر الإنجليزي "صمويل دانيال" في القرن السادس عشر أيضًا، كما تناولها الشاعر الإنجليزي "وليم شكسبير" في مسرحيته "أنطونيو وكليوباترا"، التي تأثر بها عدد غير قليل من
المبدعين في الآداب المختلفة، إذ تناولها بعد "شكسبير" أدباء فرنسا وإنجلترا وغيرهما من البلاد الأوروبية، وفي مصر نجد مسرحية "مصرع كليوباترا" لأحمد شوقي، الذي دافع دفاعًا مستميتًا عن تلك المرأة، وجعل منها ملكة وطنية تحب مصر، وتعمل على صالحها وتضحي بحبها من أجله.
ومن الشخصيات التاريخية في الأدبين العربي والفارسي، يمكن للدارس المقارن أن يذكر على سبيل المثال شخصيتي ليلى العامرية وحبيبها قيس بن الملوح العامري، المعروف بمجنون ليلى، ولقصة حبهما حديث طويل بما نُسب إليهما من أحداث، تعرفها كتب الغزل العفيف وكتب التصوف، والمعروف أن أحمد شوقي له مسرحية عنوانها "مجنون ليلى"، كما أن لصلاح عبد الصبور مسرحية من الشعر الحر هي "ليلى والمجنون".
وهذه النماذج والشخصيات وغيرها لا تعدو أن تكون موضوعًا واحدًا من الموضوعات، التي يمكن أن يتناولها الباحث المقارن من زاوية التأثر والتأثير بين الآداب المختلفة.
والواقع -كما سبق أن وضحنا- أنه ليس شرطًا أن يدرس الأدب المقارن التأثير والتأثر بين الآداب المختلفة، فهذا إنما يشكل بعضًا من مهمته، وليس مهمته كلها، وفي هذه الحالة يكشف الأدب المقارن عن مصادر الأصالة في الأدب القومي، وما دخل عليه نتيجة تلاقحه مع الآداب الأخرى، ولا شك أن جوانب التأثر كثيرة ومتعددة، فالأدب كائن حي يؤثر ويتأثر، يأخذ ويعطي، وهذه سنة الوجود الإنساني، وهنا يوضح الأدب المقارن خط سير الآداب في علاقاتها بالآداب الأخرى، ومدى تقاربها في الأفكار مبينًا لنا أهمية التأثير والتأثر في تقوية الأدب القومي، وكذلك في العمل على تقارب الشعوب وخروجها من عُُزلتها، وبذلك يكون للأدب المقارن أهمية كبرى في دراسة المجتمعات وتفهمها.