المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس التاسع عشر

(تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب)

‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

درسنا تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب، وهو مجال آخر من مجالات الأدب المقارن.

والمقصود به: ما يكتبه المؤلفون في كل أدب، وتأثيره على كتاب أو على بيئة أو جنس من البيئات، والأجناس الأدبية في بلد آخر، سواء كانت هذا التأثير لكاتب فرد، أو لطائفة من الكتاب.

ونقطة البدء في هذا البحث: أن نأخذ كاتبًا ما، أو جماعة من الكتاب، أو أدب أمة بأثره، بوصفه مركزًا للإشعاع والتأثير ثم نبحث عن صلتهم بكاتب أو بمذهب أدبي أو بأدب أمة بأثرها بوصفه مركز انعكاس للتأثير، وربما لا نستغني عن اعتبار بعض الكتاب الآخرين وسطاء بين هذا الطرف وذاك، وهؤلاء الوسطاء يلعبون دورًا هامًا في التأثير والتمهيد له بأفكارهم ونقدهم.

وأوّل ما يلفت نظرنا، ويدفعنا إلى استطلاع معالم الصراط الأدبية، هو التشابه في النصوص لكاتبين أو لعدد من الكتاب في آداب مختلفة تشابهًا يجعلنا نَظُنّ أنّ هُناك صلات بين هؤلاء الكتاب، صلات تأثير وتأثر بطبيعة الحال.

ومِن ثَمّ ينبغي على الباحث الكشف عن تلك الصفات وتحديدها، وأول شيء ينبغي الوقوف له أمامه هو تاريخ صدور النصين؛ ليعرف من منهما السابق ومن منهما اللاحق، وقد يغني عن كل ذلك نص واضح من المؤلف يعترف فيه أنه حاكى أو تأثر أو أعجب بأفكار هذا الكاتب الأجنبي أو ذاك، ويكون هذا الاعتراف مفتاح البحث المثمر الأكيد.

ص: 513

هذا ما يقوله الدكتور محمد غنيمي هلال رحمه الله ولكن لي تعليقًا على هذا وهو: أن بعض الكتاب ربما لا يقول الحقيقة لسبب أو لآخر، فقد يحاول بعضهم أن يتفاخر بأنه مطلع على أعمال الأديب الفلاني أو غيره على حين أنه لم يطلع على شيء من ذلك، ربما سمع به، ربما كون انطباعًا عامًا عنه، لكنه يريد إيهام القارئ بأنه يعرفه معرفة جيدة، ومن ثم فحتى لو افترضنا أنه قال: إنه قد تأثر به وقرأه وهضمه وما إلى ذلك، فعلينا ألا نأخذ هذا مأخذ التسليم بل لا بد من أن نضعه تحت مجهر البحث لنتأكد بأنفسها.

وإذا لم يكن هناك نص صريح نستدل به على التأثر الأدبي، وجب التثبت من معرفة قرائن أخرى لإثبات الصلات التاريخية بين الأدباء، فقد يكون التشابه بين النصين خادعًا، فيظن الباحث أنه ثمرة التأثر الأدبي، وما هو في الواقع إلا نتيجة لملابسات متشابهة أوحت بنفس المعاني للكاتبين بدون قيام صلة أدبية بينهما، أو نتيجة حركة فكرية أو اجتماعية عامة، نتج عنها اتحاد اتجاه الكاتبين.

بل قد يكون التشابه الأدبي نتيجة مصادفة أو من المواضيع المشتركة بين القرائح الإنسانية، وهذا صحيح؛ لأنّ البشر على اختلاف أوطانهم وأديانهم وأجناسهم وظروفهم، وأزمانهم، هم في نهاية المطاف بشر؛ مواهبهم واحدة، واهتماماتهم واحدة، وهمومهم واحدة، وآمالهم واحدة

إلى آخره.

وقد يكون من المهم تمييز الأسباب المُختلفة التي أدت إلى التشابه بين الكتاب في الآداب المختلفة، غير أن الوقوف عند مجرد التشابه دون أن تكون هناك صلة تاريخية ليست له أهمية في الدراسات المقارنة"، وهذا كلام الدكتور محمد غنيمي هلال مرة أخرى، وهو صحيح إذا كنا نبحث في مجال التأثير والتأثر، أما إذا كنا نبحث في الأدب المقارن بوجه عام فهناك مدارس أخرى لا تشترط هذا الشرط،

ص: 514

يمكننا على اتجاه هذه المدارس أن ندرس طرفين أدبيين من أدبين مختلفين إذا كان هناك وجه شبه، أو كانت هناك اختلافات، أو أردنا أن نقارن بينهم من حيث القيمة الفنية، أو ما إلى ذلك.

ثم يمضي الدكتور محمد غنيمي هلال قائلًا: وبعد التأكد من قيام الصلاة التاريخية بين الأدبين، يجب أن يمهد الباحث لدراسة مظاهرها التفصيلية ببحوث عامة تسبق التفاصيل المستفادة من النصوص، وموضوع هذه البحوث هو بيان العوامل التي أدت إلى تكوين الصلات بين الكاتبين، أو بين الكُتَّاب، أو بين الآداب بحيث تحققت بفضلها تلك القرابة الأدبية وذلك اللقاح الفكري، ولا تنشأ في العادة صلات قوية بين الآداب إلا إذا سبقتها صلات سياسية، أو اجتماعية، أو فكرية بين شعوب تلك الآداب.

وأمامنا مثل واضح للصلات ذات الآثار البعيدة بين الأدبين: الإيراني والعربي بعد الفتح الإسلامي، فقد كان الغزو العربي فاتحة تنافس بين الشعبين لعبت فيه العناصر الفارسية دورها، إذ حقد الفرس على الدولة الأموية لعصبيتها العربية، وساعدوا العباسيين على إسقاطها، وعلى قيام الدولة العباسية التي حلت محلها، والتي كان لهم فيها نفوذ ضخمة، وما حديث أبي مسلم والبرامكة، وهزيمة الأمين على يد أخيه المأمون، وجيشه، وقيام الدويلات الإيرانية في ظل الخلافة العباسية إلا مظاهر لذلك النفوذ السياسي.

وينبغي ألا ننسى الإشارة -ولو إشارة عابرة- إلى حركة الشعوبية التي كانت مظهر للتنافس بين الشعبي في النواحي الأدبية والفكرية واللغوية، مع تعدد مشاعر هذا التنافس وعمق آثاره.

ص: 515

وقد دَفعت كل تلك العلاقات الشعبين إلى التقارب؛ ليتعرف كل منهما على الآخر، فتعلم كثير من الفرس لغة العرب، وتعلم بعض أدباء العرب لغة الفرس، وبدأ اللقاح الفكري واضحًا بين الأدبين، وذا فروع ثمار كثيرة، وكان التأثير العربي في الأدب الفارسي الحديث أقوى من التأثير الإيراني القديم في الأدب العربي.

ونُحب أن نوضح نقطة هنا حتى لا يساء فهم كلام الدكتور محمد غنيمي هلال في هذا الموضوع، بعد فتح بلاد فارس تبنى الفرس اللغة العربية، وأصبح الأدباء الفرس، والمفكرون الفرس يكتبون باللغة العربية، فكلامه عن تعلم كثير من الفرس اللغة العربية، ربما يفهم منه أن اللغة العربية كانت لغة أجنبية بالنسبة إلى هذا الشعب، لا، بل كانت لغته التي يكتب بها أدباؤه وشعراؤه وعلماؤه ومفكروه

إلى آخره، ومن هنا نجد كثيرًا جدّا جدًّا من الأدباء والشعراء والمفكرين والعلماء الفرس يملئون مكانًا كبيرًا في التراث العربي.

وقد تكون العوامل التي ربطت بين أدبين أو بين كاتبين هي مجرد وسطاء مهدوا بكتابتهم للتعرف بالبلد أو بالأدب الذي يدعون إليه كما فعل "كارل ليل" في تعريف الإنجليز بالأدب الألماني، وكما فعل "فولتير" في الدعاية لـ"شكسبير"، وكما صنعت مدام "ديستايد" في تعريف الفرنسيين بألمانية وبالأدب الألماني، وكما فعل الشيوعيين عندنا في فترة العشرينات وفي نهاية الأربعينات عندما عرفونا على الأدب الشيوعي والفكر المركسي.

والكُتّاب من الرحالة عامل هام كذلك في هذا النوع من التأثير، وقد كانت إيطاليا كعبة الأدباء في عصر النهضة، وكان هذا سببًا في تعريف أوربا بالأدب الإيطالي، ويدخل في هذا عامل الكتاب الرحالة فيما تم من تأثير بين الأدبين العربي والفارسي كما يقول الدكتور هلال، فنشاط الرحلة بين البلدين بعد الفتح الإسلامي مضرب المثل، وقد آتى ذلك كثيرًا من الثمرات الأدبية، ويكفي أن

ص: 516

نشير في هذا السياق إلى الشاعر العتابي التغلبي الذي كان يرحل إلى إيران لكتابة النصوص الأدبية الإيرانية، وكذلك سعدي الكاتب والشاعر الفارِسي، الذي رحل كثيرًا قبل أن يكتب، وأودع مؤلفاته الخالدة ثمرة تجاربه واطلاعه.

وعِنْدنا كثيرٌ من الرحالة العرب في العصر الحديث، إذ كتبوا عن البلاد التي زاروها وعرفونا بأوضاعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وما إلى ذلك، كما عرفونا بآدابها، وبعضهم أردف ما كتبه في رحلاته إلى تلك البلاد بترجمة أشياء من آداب تلك البلاد، أو كتابة مؤلفاته عنها.

وبعد ذَلك يستطيع الباحثُ أنْ ينتقل إلى مسألة أخص، وهي الطريقة التي وصلت بها المعارف الأدبية إلى الأدب المتأثر، يا ترى هل وصلتها هذه المعارف عن طريق الترجمة؟ أو هل وصلتها عن طريق الاطلاع المباشر عليها في نصوصها الأصلية؟ وما نوع الترجمة التي اطلعوا عليها؟ أكانت وفية للنص؟ أم حدث فيها تصرف؟ وما قيمة ها التصرف؟ وما مسلك الكاتب المتأثر حياله؟.

ذلك أننا ينبغي أن نعرف أن الترجمات لا تؤدي النص الأصلية كما هو، بل كثيرًا ما تدخل عليه أشياء وأشياء، بقصد من المترجم أو غير قصد، فربما لا يَفهم المترجم النص الأصلي فيترجمه خطأ، وربما يكون ذا هوًا فيغير بعض ما فيه من أفكار وآراء، وقد يحذف منها أشياء، وقد يضيف إليها أشياء، وقد يرى أن ترجمة هذا النص لا يليق فيستغني عنه

إلى آخره.

وقد راجعت بعض ترجمات القصص التي أرادت بها إحدى دور النشر أن تنشرها للناشئة العرب؛ فكنت ألاحظ أنه إذا كان هناك كلام على كأس من الخمر في حالة من الحالات استبدل بها المترجم كوبًا من عصير البرتقال مثلًا، وكانت حُجّتهم عندما فاتحتهم في هذا أنهم لا يريدون للنشء العربي المسلم أن

ص: 517

ينظر إلى شرب الخمر على أنه أمر طبيعي، وهنا النية طيبة لكن هناك أحيانًا نيات سيئة، ويقصد الكاتب التعمية على القارئ، فلذلك يغير في النص المترجم التغيير الذي يرى أنه يوصله إلى هدفه، سواء بالإضافة أو بالحذف أو بالتغيير أو

إلى آخره.

ومن المعلوم أن الكاتب لا يهضم إلا ما يتفق مع ميوله وآرائه في الغالب، ولكن التأثير قد يكون قويًّا؛ فيُغَيّر هذه الميول ويحولها، أو يخلق ميولًا أخرى لتخلفها، ويتوقف كل هذا على قوة المؤثرات، وعلى البيئة الاجتماعية، وعلى مطالب العصر الذي عاش فيه الكاتب، وعلى الدور الذي يلعبه النقد الأدبي في العصر من حيث تنميته الاتجاهات والتيارات الجديدة، ومن حيث ترويجه للأدب المؤثر والترجمة منه، وعندنا مثل ابن المقفع الذي روَّج الأدبي الإيراني لدى العرب؛ ولذا يجب الاطلاع على آراء النقاد وعلى المجلات والجرائد التي هي مظنة لوجود آرائهم وبها نعرف اتجاهات العصر وميول الكتاب الأدبية.

وإذا راعينا حالات الأدب المؤثر -كما يقول الدكتور هلال- فإننا نقول: إنه قد يكون كتابًا أو جملة كتاب مشتركين في اتجاه واحد منتمين لمدرسة أدبية واحدة، وقد يكونون مختلفين، وقد يكون أدب أمية بأسره، ثم إن هؤلاء الكتاب قد يؤثرون بأشخاصهم كما أثرت شخصية "جان جاك رسو" بصراحته وفصاحته وحبه للإنسانية، ودفاعه عن حقوق الإنسان، وبشدة حساسيته، واحتدام عواطفه، حتى صارت شخصيته مثلًا يحتذى في ذاته، ويستشف من كتاباته.

وقد صارت هذه الشخصية ذات شهرة واسعة في الآداب الأوربية، وساعدت على الرواج لتأثيره فيها.

ومثلها شخصية "فولتير" الفيلسوف الفرنسي الساخر المتهكم، وكذلك شخصية "بايرون" الشاعر الإنجليزي الذي كان محل إعجاب بعض البيئات، بما يوحي به

ص: 518

من مظهر كأنه طريد السماء في الأرض، بالإضافة إلى عناده وقلقه الفكري، وتشاؤمه وسخريته اللاذعة.

وقد يكون تأثير الكاتب من جهة أخرى غير جوانبه الشخصية، فتختفي في هذه الحالة العناصر الفردية، التي تحل محلها الاتجاهات العامة من الأفكار والنواحي الفنية، والأجناس الأدبية، ثم نواحي الصياغة والأسلوب، ويمكن أن نضرب مثل برؤساء المذاهب الأدبية مثل:"هيجو"، و"زولا"، ويلحق به بهم في نوع تأثيرهم "جوته" و"شكسبير"، وقد تأثر الأدباء العرب في العصر الحديث ألوانًا من التأثير بهذه المذاهب الأدبية المختلفة.

وقد يَقْتَصِر التأثير على المواقف الأدبية والموضوعات في جملتها، كتأثير الأدب الإسباني في الأدب الفرنسي في العصر "الكلاسيكي" والعصر "الرومانتيكي"، إذ أهدى الأدب الإسباني إلى نظيره الفرنسي موضوعات عامة، ومواقف أدبية تُحْتَذى، ولكن الأدباء الفرنسيين عالجوها مع ذلك بطرقتهم، وأضافوا إليها من ذات أنفسهم ما خرجوا به عن تفاصيل أصولها في الأدب الإسباني، ذلك أن التأثير ليس معناه أن يقلد المتأثر المؤثر، تقليد القرود، والببغاوات؛ بل إنه يمتص منه ما يحتاج إليه وما يراه نافعًا، أو ما يقتنع به، ثم يهضمه، ويتمثله في دمائه الفكرية والأدبية، فيخرج من ناحية أخرى شيئًا مختلفًا قليلًا أو كثيرًا رغم اتحاده مع المصدر المؤثر في الخطوط العامة أو في بعضها على الأقل.

وقد تجتمع لشخصية ما مظاهر كثيرة من التأثير في فترة واحدة، أو على فترات متعاقبة كما هو الوضع في أدب "شكسبير" وشعر "بايرون" مثلًا، إذ أثر "شكسبير" بموضوعات مسرحياته أولًا، ثم بنواحيه الفنية لدى المدرسة "الرومانتيكية" الفرنسية، أما "بايرون" فقد أثر بشخصه، وبمسرحياته، وآرائه في الأدباء الفرنسيين، من أهل المدرسة "الرومانتيكية" أيضًا.

ص: 519

كذلك أثرت المواقف العامة المسرحية والشعرية في كُتابنا المحدثين صنوفًا من التأثير، وقد قلنا: إن نقطة البدء هي التشابه في نصين لكاتبين مختلفين تشابهًا لا يحتمل أن يكون سببه غير التأثير واللقاح الفكري نتيجة لتبادل الصلات التاريخية، والمقصود التشابه بمعناه الواسع الذي لا يقف عند حد الأفكار الجزئية أو المحاكاة المُباشرة.

فقد لا يهتم الكاتب الذي خضع للتأثير بمحاكاة أفكار سابقة له محاكاة مباشرة، بل يستفيد من الأثر الأدبي الذي أعجب به ويستلهمه روحه في مؤلفاته، وتتراء تلك الروح تفي الطابع العام الذي الذي يصبغ به فكرته، وقد ينعكس ذلك في مرآة شعره، أو في نوع الموضوعات التي يعالجها.

ومثل ذلك الشاعر الفرنسي "بودلير"، عندما تأثر بالكاتب الأمريكي "إدجر ألن بو" فإن الذي يريد أن يحدد مجال التأثير والتأثر بينهما لا يبحث عنه في تفاصيل أفكار، ولكن في الاتجاهات ونوع الخيال بصفة عامة، ويستعان بذلك بالمادة النقدية التي كتبت عن هذين المؤلفين، وعما أبدعاها، لكي يستطاع بعد ذلك إلى الوصول إلى القواعد العامة للصلات الفكرية والأدبية بينهما.

والكلام عن الاستعانة بالمادة النقدية التي كتبت حول الطرفين الأدبيين الذين نريد أن نقارن بينهما كلام مهم، ذلك أن الباحث المقارن لا يستطيع أن يقوم وحده بكل شيء، والحياة كلها تعاون، فأنا أمد يدي لمن حولي وهم بدورهم يمدون أيديهم إلي، وبهذا الطريقة نستطيع أن نبلغ أهدافنا وغاياتنا.

ومن الواضح -كما يقول الدكتور هلال- أن التأثر قد يكون في الجنس الأدبي، أو في الأفكار والإحساسات، أو في الناحية الفنية في الصياغة والأسلوب، أو في استعارة شخصية واحدة من مسرحية اشتهر صاحبها باختراع تلك الشخصية، كشخصية

ص: 520

السيد وخادمه المستعارين في الأدب الفرنسي، كما في "بوم مارشي" عن "سيرفانس" الإسباني في قصته المسماة:"دونكي خوتة".

ولا يصح أن تصرفنا أقوال كاتب وتصريحاته عن أن ننقدها لنرى مدى صدقها في ملكة خيال الكاتب الذي مكن أن يكون قد تأثر بها، فقد نق د "فولتير" "ويليم شكسبير" نقدًا شديدًا وقال عنه: إنه رغم عبقريته ليس عنده شيء من الذوق، يقصد الذوق الفني، وبالرغم من ذلك فإنه قد تأثر به، مثلًا نراه قد تأثر به في اهتمامه بالناحية التاريخية في مسرحياته، وفي استعارته منه للمواقف التي يتبادل فيها أبطاله ضربات الخنجر، وبجعله الأشباح بعضًا لشخصياته المسرحية. وقد حذر عبد الرحمن الجامي قراءه من الاطلاع على الفلسفة اليونانية رغم أنه هو قد تأثر بها تأثرًا عميقًا.

إذًا فالأدب المقارن يهتم بدراسة الصلة بين الكتاب أيًّا كان مظهرها، سواء كانت بالترجمة، أو بالتقليد، أو بإنتاج شخصي تظهر فيه ألوان التأثير من خضوع للكاتب المؤثر، أو تحويرها بما يتفق وذوق الكاتب أو مرور العصر، أو من تمرد عليه

إلى آخره.

وفي عالم "الأدب الغربي" يُلاحظ الدكتور محمد غنيمي هلال أن البحوث التي تدخل في هذا الباب قد كثرت كثرة لافتة للنظر ومع ذلك؛ فإنه يكتفي بذكر بعض الأمثلة التي يمكن أن تكون مجالًا للدارسين، فمثلًا لقي كثير من كتاب العرب حظًا كبيرًا لدى أدباء الفرس، فتأثر هؤلاء الأدباء الفرس بهم تأثرًا عميقًا، ولكن كان هذا التأثر في صورة اتجاه عام أدبي أو فني، فنجد أن عبد الحميد الكاتب في العصر الأمور ومن تبعوه في الرسائل والإطناب فيها وصياغتها الفنية، قد أثروا بطريقتهم في هذا الجنس الأدبي في الأدب الفارسي.

ص: 521

وظهرت آثار ذلك التأثير واضحة كل الوضوح فيما وصلنا من الرسائل الفارسية الديوانية، وكذلك في الرسائل الشخصية، وأوضح مثل لذلك ما احتواه من رسائل كتاب (التوسل إلى الترسل) الذي جمعه بهاء الدين البغدادي في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي.

وهناك مثل آخر هو تأثير الهمذاني والحريري في القاضي حميد الدين البلخي، الذي تكلمنا عنه في دروس سابقة فقلنا: إنه احتذى بهذين الكاتبين في إبداع جنس المقامة في الأدب الفارسي، وإن لم يأت بعده من يواصل الطريق، فكان هو البداية وكان هو أيضًا النهاية، إذ لم يجد جنس المقامة في الأدب الفارسي مرتعًا خصبًا يساعده على البقاء والنمو.

وعندنا أيضًا تأثير "جوته" في الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي والأدب العربي، وقد ظهر أول تأثير لجوتة في الأدبين الأولين بظهور قصة "آلان فيرتر" سنة ألف وسبعمائة وأربع وسبعين ميلادية، التي تُرجمت إلى الفرنسية بعد ذلك بعامين، وإلى الإنجليزية بعد ذلك بخمسة أعوام، واستقبلت في هاتين اللغتين استقبالًا طيبًا وتعددت ترجماتهما، وكان لنجاحها أكبر تأثير فيما انتشر في ذلك العهد عند "الرومانتيكيين" بما يُسمى بداء العصر "لومال دوسيكل"، والمقصود به القلق الفكري وضيق النفس بمتاعب الحياة وشرورها.

وقد ظهر أثر ذلك في الأدب الفرنسي عند "شاتو بريان"، في شخصية "رينيه"، وعند "تشاترتون" في مسرحيته، وعند "ألفريد ديفنيه" في مسرحية "تشاترتون"، كما ظهرت في الأدب الإنجليزي في كثير من المؤلفات اللورد "بايرون"، وفي أشعار زميله "الرومانتيكي شيرلي"، وقد طغى تأثير "بايرون" و"شيرلي" في إنجلترا حتى نسي بهما تأثير "جوته" نفسه.

ص: 522

وبينما كان الفرنسيون يستطلعون النواحي الفنية لـ"جوته" إذا بـ"تومس كارليل" يَطْلُع على قومه بزعم جديد، وهو أن جوتة حكيم يدعو إلى الخلق القويم، والمُثابرة في خدمة الحق وأداء الواجب، وقد ظلت هذه الناحية الخلقية من أدب "جوته" هي الناحية التي يراها الأدباء من الإنجليز مدة نصف قرن، وذلك بتأثير ما كتبه "كارليل" عن ذلك الأديب والفيلسوف الألماني.

وقد أوحى هذا كله للأدباء الإنجليز بكثير من القصص التربوية والخلقية والدينية، ذلك أن "كارليل" قد وضع "جوته" في مرتبة الملهمين، بل الموحى إليهم، وجعله واحدًا من المدافعين الأشداء عن الخلق والدين، وبهذه الطريقة لم يكن الإنجليز يعرفون شيئًا عن جوانب السخرية والدعاية إلى الاستمتاع بالملذات عند جوته.

ويُضيف الدكتور هلال إلى ذلك أنهم قد خفي عليهم جانب التجديف والإلحاد في كتاباته، وهذه النقطة أحب أن أقف عندها بشيء من التفصيل، ذلك أنما قرأناه عن "جوته" أو قرأناه له لا يدل أبدًا على أنه كان ملحدًا، ربما كان المقصود أنه كفر بالنصرانية التثليثية، وكان يحب الإسلام، فلعل هذا كان السبب في أن الكتاب الأوربيين الذين نقل منهم الدكتور هلال هذه العبارة يكتبون هذا الكلام عن الأديب والفيلسوف الألماني.

أنا لا أظن أنه كان ملحدًا ولا مجدفًا، فإن الرجل تكلم فإن الرجل تكلم عن الله سبحانه وتعالى كلامًا عظيمًا، ولكن من وجهة نظر قريبة جدًّا أو متأثرة تأثرًا شديدًا بالقرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ومن ثم قال من كتب عنه: إنه ربما أسلم، بل إن بعضهم يقول إنه ينظر إليه على أنه مسلم، فكيف يتفق هذا ما ذاك.

أغلبُ الظن -كما قلت- أن الدكتور هلال قد انساق إلى هذه العبارة بما قرأه عند الكتاب الأوربيين عندما تناولوا هذا الجانب العقدي من كتابات "فلهلن جوته".

ص: 523

وظلت فرنسا تهتم أولًا بالناحية الأدبية المسرحية "فاوست" التي تُرجمت إلى الفرنسية عام ألف وثمانمائة وثمانية وعشرين، ونسج الكتاب الفرنسيين على مناولها في التأليف مناظر مسرحية غنائية مثل:"فاوست ومارجريت" لـ"شارل جونوا"، ومثل: لعنة "فاوست" تأليف "بيرليوز".

فلم يلتفت الفرنسيين أول معرفتهم بحوثه إلى الناحية الفلسفية في مؤلفاته، ولكن سرعان ما تنبهوا إليها فأصبح "فاوست" رمز الشخصية "الرومانتيكية" لا في حرصها على حل معضلات هذا العالم فحسب؛ بل أيضًا في تطلعها إلى عالم خير من الذي نحن فيه، حيث ترتوي بالمعرفة غرائز الإنسان وتسموا عواطفه فيزهد في الملذات وفي دواعي الهوى ويرقى إلى الكمال.

كما أن الشيطان يمثل في مسرحية فاوست عنصر الشر تمثيلًا فلسفيا فيه من الحرية الفنية، ما أوحى إلى كثير من الكتاب بالتخلص من الكلاسيكية.

كذلك رأى أصحاب نظرية الفن للفن في "جوته" الفنان المثالي، فقد رمى "تيوفيلي جوتيه" مثلًا إلى محاكاته في مجموعة أشعار "إيمو إيه كرميه"، ثم تعمق ناحيته الفلسفية أصحاب المدرسة البرنسية ومن لف لفهم إذ رأوا في "جوته" آثارًا للفلسفة الهيلينية ومن هؤلاء:"لكونت ديريل"، و"أنتون فرنس".

وآخر مرحلة أثر فيها "جوته" في الأدب الفرنسي كان تأثيره بحياته وشخصيته نفسها، لا بمؤلفاته وأفكاره، ففي أشعاره ومسرحياته مآخذ ونقص إذا اعتبرت في نفسها، ولكنها إذا وضعت موضعها من حياة مؤلفاها؛ فإنّها تمثل ألوانًا طيبة من تلك الحياة الغنية الذاخرة، ومن ثم فإنها تؤلف مجموعًا متناسقًا حيًّا لا مأخذ عليه.

وبهذا المعنى نراه قد أثر في كثير من كتاب فرنسا، وهو ما يلخصه ما قاله "أندريه جيد" من أن "جوته" يرتفع فوق أنقاض نفسه، فكل ذرة تسقط منه تقع مستقيمة تحت قدميه لتشغل مكانها في قاعدة تمثاله الخالد.

ص: 524