الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العشرون
(المصادر واتصالها بالأدب المقارن)
النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه
المصادر واتصالها بالأدب المقارن.
وقد أصبح واضحًا الآن أنه من لغو القول الزعم بانطواء أدب ما على نفسه واستغنائه بقرائح أدبائه عن استعارة الأفكار والآراء والصور والأجناس الأدبية من الآداب الأخرى، كما أصبح من البديهيات أن الآثار الأدبية ذات الشأن لها أصولها في إنتاج السابقين والمعاصرين، كما أن لها صداها في حياة الأمم وفي قرائح المفكرين، وسوف يكون حديثنا في هذا الدرس عن النواحي الشخصية للكاتب أو للأديب المتأثر، واكتشاف عناصر مقوماته، وعوامل تكوينه، وهذا بدوره يساعدنا على فهم الأدب الوطني بأجمعه، ومدى امتداده في الآداب قديمها وحديثها، قريبها وبعيدها.
وقد ولع مؤرخو الآداب قبل تبلور الأدب المقارن بالبحث عن مصادر الكتاب الذين يؤرخون لهم، لا في الموضوعات والأفكار العامة بحسب؛ ولكن في التفصيلات أيضًا، وإن كانوا قد بالغوا بذلك مبالغة جرت عليهم كثيرًا من الاعتراضات، إذ كان الانطباع الذي يخرج به الإنسان من كتاباتهم أن الكتاب قد انمحت شخصياتهم؛ لأنهم يردونهم إلى الكتاب الذين سبقوهم ولا يكادون يتركون لهم شيئًا ينفردون به، أو يتميزون، كما أنهم قد بالغوا في تصعيد ما ظنوه تأثرًا بالأدباء الآخرين.
ويجبُ أن نَفهم المصادر هنا بالمعنى الأوسع مما اعتيد إطلاقها عليه، فهي تشمل كل العناصر الأجنبية التي تعاونت على تكوين الكتاب والأدباء، وهي ثلاثة أنواع:
منها: ما انْطَبَع في خيالِ الكاتب نَتيجة لما رأى في أسفاره من مناظر طبيعية، وآثار فنية، وعادات وتقاليد قومية، وتلعب الأسفار في ذلك دورًا كبيرًا، من ذلك مثلًا وصف الشعراء العرب للبلاد الباردة في إيران بعد أن رحلوا إليها وعرفوها عقب الفتح العربي إذ رأوا بلادًا تختلف عن بلادهم الحارة القاحلة التي تمتلئ بالرمال والجبال، ولا تجري فيها قنوات أو أنهار، نرى في تلك الأشعار، مناظر الثلوج وقد سدت الأبواب وغطت البيوت، ونجد فيها أمطار الثلوج وكيف يحيا بها المملقون حياة الضنك والبؤس، من ذلك قول عربي ذكر بلاده على مرأى همزان:
وكيف أجيب داعيكم ودوني
…
جبال الثلج مشرفة الرعان
بلاد شكلها من غير شكلي
…
وألسنها مخالفة لساني
وأسماء النساء بها زنان
…
وأقرب بالزنان من الزواني
وهناك شاعر آخر ذم همزان أيضًا، فقال:
قد آن من همزان السير فانطلقي
…
وارحل على شعث شمل غير متفق
أرض يعذب أهلها ثمانية من الشهور
…
كما عذبت بالدهق
فإن رضيت بثلث العيش
…
فارض به على شارئط من يقنع بها يمق
المملقون بها سبحان ربهم
…
ماذا يقاسون طول الليل أرق
تنسد أبوابهم بالثلج فهو لهم
…
دون الرتاج رتاج غير منطبق
حتى إذا استحكمت بردًا غدا طبق
…
من الضباب الذي أوفى على طبق
ينهل منها عليهم دائمًا
…
ديمًا بالزمهرير عذابًا صب من أفق
فويل من كان في حيطانه قصر
…
ولم يحسن رتاج الباب من غلق
الناس من ذي اللحى تهوي أنوفهم
…
فوق الشوارب كالمصدوم بالبلق
ولنا مثل آخر في شاعرنا أحمد شوقي بعد سفره إلى أسبانيا؛ فقد كان لما رأى بها من آثار، ولما اطلع عليه فيها من عادات وأخلاق أثر قوي في إنتاجه الأدبي، في شعره ونثره.
وفي الآداب الغربية يمكننا أن نشير إلى ما كتبه "شاتو بريان" من قصص بعد سفره إلى أمريكا، ورؤيته حياة سكانها الفطريين -يقصد الهنود ولا يقصد الأمريكان الذين نعرفهم الآن، هؤلاء الأمريكان الذين احتلوا تلك البلاد بعد أن هاجروا إليها من أوربا، واستطاعوا أن يقضوا على الهنود الحمر تمامًا، فقتلوا منهم عشرات الملايين حتى خلصت البلاد لهم.
ففي قصص "شاتو بريان" تصويرًا لحياة سكان أمريكا الفطريين، وتقاليد الهنود الحمر الوطنية، ومكن الإشارة أيضًا إلى مدام "ديستال" بعد سفرها إلى ألمانيا ومخالطتها أهلها، وتعرفها على مفكريها.
كذلك يُمكننا أن نشير إلى تأثير مصر في الأدباء الفرنسيين في العصر الرومانتيكي، فقد أثرت فيهم بمناظرها وآثارها وبعادات قومها، وأعيادهم، وانعكس كل ذلك إما بطريق مباشر عن الإنتاج الأدبي لمثل "جيرال دينر فيل"، و"تيوفيل جوتيه"، و"فلوبير"، الذين كان وصفهم لمصر صورة صادقة لأهل عصرهم، وإما بطريق غير مباشر كما في حالة "فلوبير"، فقد أتته أثناء رحلته بمصر، فكرة قصته الخادلة مدام "موفاري"، التي تدور حوادثها في فرنسا، وقد أخذ اسم هذه القصة من اسم صاحب الفندق الذي نزل به في القاهرة فقد كان اسمه "بوفاريه" على أن الجو الذي يسود قصته الأخرى المسماة "سلامبو" يظهر عليه الطابع المصري بالرغم من أن حوادثها تجري في تونس.
على أن مصادر الكاتب لا تقتصر على ما أفاد في أسفاره، بل قد ترجع كذلك إلى مخالطته للبيئات والنوادي التي تهتم بالثقافات الأدبية العامية في أرجاء وطنه
نفسه، ونجد مثل لذلك في الكاتب الفرنسي "موريس ماجر" المتوفى عام ألف وتسعمائة واثنين وأربعين ميلادية، فقد كان لاختلط بنادي مدام "أرني بزو" أكبر تأثير في توجيهه وجهة الثقافة الهندية وتشبعه بها ودفاعه عنها، إذ كان ذلك النادي مركزًا هامًا لتلك الدعاية.
وهناك ممن كان يغشونه الدعاية الهندي "بلافتسكي" الذي تأثر به الكاتب الفرنسي فاعتنق آراءه الدينية مذاهب التناسخ وما تبعه من الرفق بالمخلوقات كلها من إنسان وحيوان، وكانت هذه الآراء الفلسفية محور تفكيره الدينية والاجتماعي، كما يتضح ذلك بالاضطلاع على مؤلفاته النظرية، ودواوينه الشعرية وقصصه، ومنها القصة التاريخية التي تدور حوادثها في الإسكندرية في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الملاديين وعنوانها: قصة الفتاة "بريسلا".
وهناك مثل آخر يتمثل في أبي المعالي نصر الله الذي شجعته النوادي الأدبية في إيران على ترجمة "كليلة ودمنة" من العربية إلى الفارسية مع صبغها بالطابع الفني العربي.
ويلحق بهذا النوع من المصادر تأثير الأصدقاء من الأجانب في الكاتب؛ إما بالمراسلة وإما بالمحادثة الشفوية، وتحديد هذا النوع من التأثير صعب المنال من الناحية العلمية؛ لأنه ليس هناك توثيق له، على الأقل ليس هناك تأثير مبذول للجمهور، ولكن الإشارة إليه، أو النوه به مما يحدد نواحي شخصية الكاتب ويساعد على تعرف تكوينه الأدبي والفني على وجه ما.
وقد ضرب بعض الكتاب مثلًا بذلك بالشاعر الفرنسي "لامرتين" وتأثره بالفيلسوف "إيكستين" عميد الدعوة إلى الثقافة الهندية في عصره، ولم يدر بينه
وبين "لامرتين" إلا محادثات شفوية يستطاع التعرف على آثارها فيما كتب "لامرتين" بعد مقابلته لذلك الداعية؛ ليوضح فيه ما يمت بصلة إلى تلك الثقافة التي ذاع صيتها في فرنسا في القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين، والتي وجدت صداها لدى كثير من الشعراء مثل "هيجو"، و"فيني" وكان عمادها ما قام بين العلماء والمستشرقون من تأسيس مراكز تلك الثقافة في الجامعات وبعض المعاهد هناك، فتهيئ بكل ذلك جو ملائم لتأثيرها الأدبي.
ومما يلحق بهذا النوع من المصادر كذلك، انتشار تقاليد أدبية خاصة في أدب ما، ثم انتقاله إلى أدباء أمة أخرى، فقد شاع مثلًا في الأدب الإنجليزي وصف نوع من الكبرياء والاعتداد بالنفس، وحُبُّ الظهور لدى جماعة من الأغنياء الذين يَتّخذون من هذه الصفات وسيلة إلى القيام بمغامرات عاطفية مع النساء، وهذا ما يقال له:"لادان ديسم"، ولا تتوفر هذه الصفات إلا لطبقة الأغنياء المترفين الذين يبحثون عن مجال يظهر فيه عجبهم واعتدادهم.
ويبدو هذا الاعتداد فيما يقومون به في المجتمعات وأمام ذوات المكانة من السيدات من أعمال تظهر فيها البطولة أو الطابع الشخصي، كأنواع الرياضة الخطرة، وكالتأنق في الهندام، وكالتفنن في التظرف، ولا يظهر هذا النوع من الناس إلا في عهود الانتقال التي لا تسيطر عليها ديمقراطية كامنة، على حين تبدوا الأرستقراطية فيها مزلزلة القواعد محقورة، فهم يمثلون آخر مظهر من مظاهر البطولة الأرستقراطية في عهد انحلالها، وما أشبههم بشمس غاربة، أو بكوكب يهوي للمغيب، كلاهما يبد جليل المظهر ولكن لا حرارة فيه، فهو يوحي أول ما يوحي بالأسى، وهذا ما كتبه "بودلير" الشاعر الفرنسي.
وقد انتشر وصف هذا الصنف الاجتماعي من الناس في الأدب الإنجليزي ثم ظهر أثره في الأدب الفرنسي في بعض أشخاص قصص "بالزاك"، وقصص "كريستينة".
ومن هذا النوع من المصادر أيضًا ما يتناقل شفويًّا أيضًا على سبيل المصادفة، فيؤثر في إنتاج كتاب بلد ما، ويوحي إليهم في مؤلفاتهم بالكثير، مثل الاستماع إلى الأغاني الشعبية لأمة ما، أو إلى أناشيد الشعوب الفطرية، أو إلى قصص تنوقلت عن طريق الرواية فوصلت إلى أسماع أدباء في أمم أخرى، ومن ذلك ما يقرره "داستون باري" من أن بعض القصص الشرقية التي أثرت في الحكايات الصغيرة للشباب في العصور الوسطى، انتقلت إلى أمم الغرب من طرق مختلفة منها: طريق المسافرين ومحادثاتهم مع الشرقيين
…
إلى آخره.
والنوع الأخير من المصادر هو المصادر المكتوبة، وهي ما ينصرف إليه المعنى بصفة عامة حين نطلق اسم المصادر، وهي أسهل أقسام المصادر دراسة وأيسرها تحديدًا، إذ مظنة البرهنة عليها الكتابة، وحُجتها متى وجدت لا تدفع، على أن نتنبه إلى أنه لا يكفي المشابهة بين النصوص بل لا بد من أن توجد مع ذلك دلائل التأثر الأدبي، ثم لا بد من شرح الأحوال الأدبية والاجتماعية التي تم فيها التأثر.
نعم ينبغي أن ندرس حياة الكاتب، والبيئة الاجتماعية التي تنشأ فيها، لنشرح على ضوء ذلك ثقافته وميوله نحو بلد ما، أو نحو أدب ما، ولا عيب في تأثر كاتب بكاتب آخر فإن الإبداع في الأدب بمعنى الخلق من جديد جدة مطلقة أمر عسير أي متعذر، بل مستحيل؛ ذلك لأن الكاتب حين يُعمل فكره وتجيش عواطفه لتتوالد أفكاره يعود عند الإنتاج والإبداع إلى ذاكرته فيستوحيها وما
الذاكرة إلا وليدة التجربة والمُشاهدة والاطلاعات المختلفة، وبمقدار حسن هضمه لما اطلع عليه وتمثله له، وإخراجه له إخراجًا يظهر عليه طابعه تكون قيمة إنتاجه الأدبي.
وما أشبه الكاتب في ذلك بالنحلة التي تقع على مختلف الأزهار، وتمتص أنواع الرحيق، وتأكل من كل الثمرات ثم يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، وهذا هو العنصر ذاتي للكاتب في اختراعه.
والأدب المقارن -كما يقول الدكتور غنيمي هلال-: بعيد كل البعد عن انتقاص قدر الكاتب حين يبحث عما غذى به ذاكرته في مطالعاته وفي ألوان ثقافته من مختلفة الآداب، بل غايته من كل ذلك أن يتعرف على روح الكاتب، وينفذ إلى تلك الروح من خلال ثقافته التي هضمها وأخرجها للناس خلقًا جديدًا، وقد أتى يومًا إلى "جوته" صديقه سكرتير "إكرمان" ليهنئه بصدور طبعة جديدة من مؤلفاته كاملة فنظر جوتة إلى أجزاء كتبه مرصوصًا بعضها فوق بعض، وأخذ يشرح لـ"إكرمان" كيف ذخرت مؤلفاته بما اقتبسه من الإغريق والإنجليز والإيطاليين والفرنسيين ثم أضاف إلى ذلك قوله: كل هذا موقع عليه باسم "جوته".
وهذا صحيح، ويمكننا أن نقرر الأمر بالحديث عن أجسادنا، من أين أتت أجسادنا؟ من بذرة بذرها الأب في رحم الأم، ثم أصبحت قطعة من اللحم، ثم أصبحت جنينًا، ثم خرجت إلى الوجود، فأكلت الطعام المتاح لها، وشربت الماء الموجود، وشمت الهواء، وتفاعل هذا كله فكون جسد الإنسان الذي يظل ينمو بما يأكله من طعام جديد، ويشربه من ماء جديد، ويشمه من هواء جديد، وهكذا دواليك، وعلى ذلك يمكننا أن نقيس الإبداع الأدبي.