المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ليلى والمجنون في الأدب العربي - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثامن

(ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي)

‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

فعلى بركة الله نقول: مجنون ليلى هو حسب المتعارف قيس بن الملوح أحد شعراء العصر الأموي، وأخباره متاحة بوفرة في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، وبدرجة من التفصيل أقل في كتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة وغيره، وهي أخبار متناثرة كديدن أمثالها من أخبار القدماء، وقد اختلف الناس حول وجوده، فمنهم من يثبته ومنهم من ينكره، ومن المنكرين المتشددين في الإنكار الدكتور: طه حسين على عادته في التسرع إلى إنكار بعض الشخصيات، أو الفنون الأدبية دون ترو أو دليل، ففي الجزء الأول من كتابه (حديث الأربعاء) نراه ينكر وجود المجنون مؤكدًا أنه اختراع خيالي من صنع الرواة والإخباريين؛ بُغية تسلية الناس، زاعمًا أن الذين يضيقون بإنكار وجود قيس بن الملوح، إنما يريدون أن يضيفوا إلى المجد العربي مجدًا، ويجعلوا من أمة العرب أشرف الأمم، ومن لغاتهم أحسن اللغات وأدبهم أروع الآداب.

وهو يقصد بذلك أن العرب قليلو المجد، وأن آدابهم لا تبلغ في روعتها آداب غيرها من الأمم. وهذا كلام ينقصه النضج والحصافة والجد، إذ ما علاقة إثبات الدارسين لوجود المجنون أو إنكارهم لهذا الوجود، ما علاقته بتشييد دعائم مجد العرب أو هدمها؟ وهل إثبات وجود هذه الشخصية هو الذي سوف يدعم مجد العرب، بحيث إذا جاء منكر كطه حسين مثلًا أو غيره، فأثبت أنها لم يكن لها وجود حقيقي انهدم ذلك المجد؟ ألا إن الأدب العربي لأدب تافه حقًّا، وفاشل حقًّا إذا كان كل مجده ينحصر في ذلك الأمر.

ص: 197

إن معنى هذا أنه لا يوجد في الأب العربي شيء آخر سوى أشعار ابن الملوح، وهو ما يقول به إلا مجنون فقد عقله.

إن ذلك الأدب حتى في ميدان الغزل، والغزل العفيف وحده دون سواه، لغني بالنماذج الكثيرة، التي لا يعد شعر المجنون بالقياس إليها إلا قطرة على روعة ذلك الشعر المجنوني إن صح اللفظ.

ثم هب أن المجنون قد ثبت أنه من بنيات الخيال والأوهام، وأن شعره ليس له هو نفسه؛ لأنه ليس له وجود حقيقي، فهل يطعن هذا في شعر العرب؟ فمن نظم ذلك الشعر إذن، أليس من نظمه عربيًّا من العرب، ومن ثم فهذا الشعر ينتسب إلى العرب، إذن فلينقص من مجد العرب شيء، كل ما في الأمر أن ذلك الشعر سوف ينسب إلى شخص آخر غير المجنون، ولكنه في نهاية المطاف شخص عربي أم إن هناك احتمالًا آخر؟ ألا يرى القارئ والسامع مدى تفاهة ما كتبه طه حسين وضحالته؟ إن الرجل إنما يريد الإساءة إلى العرب بكل سبيل، ويطلب التمرد والعصيان طلبًا، يريد بذلك الخروج عما هو مقرر في العقول والنفوس، دون أن يقدم دليلًا يثبت به صحة ذلك العصيان، وهو يقيم إنكاره لشخصية المجنون على أن الرواة لم يتفقوا له على اسم ولا نسب ولا على أحداث حياته، لكن هل اتفق الناس فيما يخص كل شاعر من الشعراء القدماء، وبخاصة في الجاهلية وصدر الإسلام على مثل تلك الأشياء؟

إن الاختلاف في تلك الأشياء بالنسبة لهؤلاء الشعراء لكثير، وهذا معروف لدارسي تلك العصور فهم لا يستغربونه، بل يلقونه كثيرًا وطه حسين يلجأ إلى السفسطة حين يريد أن يقرر في النفوس أن القدماء كلهم كانوا يشكون في وجود قيس بن الملوح، ذلك أن الشاكين لم يكونوا يمثلون إلا جزءًا يسيرًا ليس إلا،

ص: 198

لكن طه حسين يخلط بين وجود المنكرين، وبين انتشار الشك بين جميع الدارسين وهذا غير ذاك، لكنها سفسطة طه حسين التي اشتهر بها، وهو يضيف إلى هذا قوله: إن أبا الفرج الأصفهاني كان لا بد أن يروي أخبار المجنون نزولًا على وضع كتابه (الأغاني) ذلك الكتاب الذي كان يتطلب ذكر المجنون وأمثاله تطلبًا، يقصد أنه كان للمجنون أغان تغنَّى في العصر العباسي، وأن طبيعة كتاب الأصفهاني هي تتبع مثل تلك الأغاني، والتحدث عنها وعن أصحابها، والترجمة لهم والاستشهاد بأشعارهم، فكان لا بد لأبي الفرج الأصفهاني ما دام هناك أغانٍ تنسب للمجنون من أن يريد تلك الأغاني، ويترجمها لصاحبها، ومع ذلك كله فإن أبا الفرج قد أعلن وبالغ في الإعلان أنه يخرج عن عهدة هذه الأخبار التي يوردها عن المجنون، ويتبرأ منها، ويضيف العهدة فيها إلى الرواة الذين ينقل عنهم.

فهل هذا هو موقف الأصفهاني لقد قال الرجل في بداية الصفحات التي خصصها للمجنون ما يلي: هو على ما يقوله من صحح وحديثه قيس وقيل: مهدي، والصحيح أنه قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعد بن كعب بن ربيعة إلى آخره، ومن الدليل على أن اسمه قيس قول ليلى صاحبته فيه:

ألا ليت شعري والخطوب كثيرة

متى رحل قيس مستقل فراجع

وأخبر الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: سمعت مَن لا أحصي يقول: اسم المجنون قيس بن الملوح، وأخبرني هاشم محمد الخزاعي قال: حدثنا الرياشي وأخبره الجوهري عن عمر بن شبة أنهما سمعا الأصمعي يقول: وقد سئل عنه: لم يكن مجنونًا ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية النميري.

ص: 199

إذن هناك في رأي الأصفهاني مَن يصحح نسب المجنون، بل إنه هو نفسه يرى أن الصحيح في أمره هو كذا وكذا، بما يدل على أن الأصفهاني لا يرى وهمية المجنون كما يزعم طه حسين، أما ما نقله طه حسين عن إعلان الأصفهاني لخروجه من عهدة الأخبار والأشعار التي تروى للمجنون وعنه، فهذا نص ما قاله الأصفهاني نفسه، وأنا أذكر مما وقع إليه من أخباره جملًا مستحسنة متبرئًا من العهدة فيها، فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرواة إلى غيره، وينسبها من حكيت عنه إليه، وإذا قدمت هذه الشريط برئت من عين طاعن ومتتبع للعيوب، وأول كل شيء هو أن الأصفهاني قد قال ذلك بعدما أورد أخبارًا وأشعارًا كثيرة للمجنون، ولم يقله في مبتدأ كلامه عنه، أي: أن التحرز والتحفظ إنما يختص بما سوف يأتي من كلامه لا بما مضى، ثم إننا لو فلينا عن معنى هذا النص لاتضح لنا أن الأصفهاني إنما يشير إلى الاختلاف الحاصل في ذلك، وأنه غير مسئول عنه، وأنه لم يحاول تمحيصه وتفليته، وأن في بعض تلك الأخبار مبالغات واضحة غير مستساغة، وليس إلى أنه يشك في وجود الشاعر نفسه.

وشيء ثالث أنه لم يقل: إن الخلاف يعم كل ما يتعلق بالشاعر، بل لقسم منه فحسب ثم إن الاختلاف بشأن شخص من الأشخاص أو شيء من الأشياء لا يعني بالضرورة أنه باطل، بل أنه مختلف فيه وهذا كل ما هنالك، ولو كان العلم ومنهجه يقتضيان إنكار كل ما اختلف الناس حوله، إذن لقد بطل كل شيء في الدنيا؛ لأن الناس لم تتفق في أمور الحياة إلا على القليل، وحتى هذا القليل نراهم يختلفون في كثير من تفاصيله.

ولقد مازح المرحوم إبراهيم المازني الدكتور طه حسين ذات مرة في مقال له عن كتابه (في الشعر الجاهلي)، فشكك بنفس الطريقة في وجود طه حسين ذاته تبعًا

ص: 200

لاختلاف الناس بشأن تفصيلات حياته وشخصيته، وللأسف يكرر الدكتور محمد مندور كلام طه حسين عن موقف الأصفهاني من قصة المجنون، وإن كان قد سلب على الدكتور طه أولية التشكيك في هذه القصة قائلًا: إن أكبر مصدر لها وهو أبو الفرج الأصفهاني قد شكك فيها، وفي تفاصيلها، ورواها بكل حذر واحتياط، وذلك كله قبل طه حسين بزمن طويل.

ويبقى الأساس الفني الذي اعتمد عليه طه حسين في إنكار قيس بن الملوح، وهو أن الشعر المنسوب إليه لا يشير إلى شخصية واحدة، ولا إلى نفس واحد، والحق أن هذا دليل منهار، فإن ذلك الشاعر لا يعبق إلى حد بعيد بالأنفاس ذاتها فنًّا ومضمونًا واستيلاءً على القلب، ولست أدري كيف وقع طه حسين في تلك الغلطة المضحكة، اللهم إلا إذا استحضرنا ما كان يسيطر عليه في كثير من كتاباته ومواقفه من عناد ورغبة في الشذوذ مهما يكن من تهافت الاعتبارات، التي يقدمها بين ذلك العناد والشذوذ.

ونص ما قاله هو: هل نستطيع أن نجد للمجنون شخصية ظاهرة بينة في هذه الأشعار الكثيرة المختلفة التي يرويها له أبو الفرج وغيره من الرواة؟ أما أنا فأزعم أن ليس إلى ذلك من سبيل لا أطيل في إثبات هذا الرأي، وإنما ألخص لك ما انتهيت إليه بعد البحث.

أما ذلك البحث الذي أدى بطه حسين إلى ذلك الإنكار، فها هو ذا نسوقه إلى القارئ كما سجله طه حسين قال: كل هذا الشعر الذي يُضاف إلى المجنون لا يخلو من أن يكون شعرًا قد قاله شعر معروف، وأخطأ الرواة فأضافوه إلى المجنون، أو قاله شاعر مجهول ووجد الرواة فيه ليلى فأضافوه إلى المجنون، أو انتحله الرواة أنفسهم أو انتحله المغنون وأصحاب الموسيقى وأضافوه إلى المجنون، ولقد

ص: 201

أجهدت نفسي في البحث عن شخصية ظاهرة مشتركة تظهر في هذا الشعر كله أو بعضه، فلم أوفق من ذلك إلى شيء.

وواضح من هذا النص أن كاتبه وهو الدكتور طه حسين يدور في حلقة مفرغة، إذ يتخذ من نفسه شاهدًا على نفسه دون أن يقدم دليلًا واحدًا على ما يقول، وإلا لقد كان عليه إيراد الأشعار التي يرى أنها لا تعكس شخصية واحدة في الفن أو في المحتوى، ثم يبين لنا دلالتها على ما يريد التدليل عليه، أما أن يكتفي بالزعم الذي لا يثبته شيء سوى زعم له آخر بأنه قد تعب في البحث، فلم يصل إلى شيء، فهذا ليس من البحث العلمي في قليل أو كثير.

وشيء آخر في هذا الكلام هو أن طه حسين لا يستطيع للأسف التفرقة بين النحل والانتحال، فنراه يقول: إن الرواة والمغنين انتحلوا كذا وكذا من الأشعار على حين أن المقصود هو أنهم قد نحلو المجنون تلك الأشعار لا أنهم انتحلوها، إذ الانتحال هو استيلاء الشخص على شعر الغير ونسبته إلى نفسه لا نسبته إلى شخص ثالث، كما يتوهم الدكتور طه، وقد وقع بعد ذلك مرارًا في هذه الغلطة، حين ألف كتابه (في الشعر الجاهلي) بعد عشر سنوات تقريبًا من مقالاته، التي نشرها في الصحف، ثم جمعها في (حديث الأربعاء) ومنها مقاله عن مجنون ليلى، ومعنى هذا أنه قد استمر على الأقل نحو عقد من الزمان يكرر ذات الخطأ الفادح دون أن يتنبه.

نخرج من هذا بأن المجنون ليس شخصية وهمية، ولكن من الممكن أن يكون شعره قد اختلطت به أشعار الآخرين، وأن تكون أخباره قد دخلتها المبالغات على ما يحدث في مثل تلك الحالة، وهذا ما يراه أيضًا الدكتور محمد غنيمي هلال الذي يؤكد أنه لا يجد فيما قاله عنه المشككون من الرواة دليلًا يقطع بعدم وجوده، وإن

ص: 202

كانت بعض أخباره يظهر فيها التمحل والاختراع أو المبالغة والإسراف، إذ متى كانت المبالغة في الأخبار دليلًا على عدم وجود صاحبها، ومعروف أن كل من نبغ في أمر أو شذ فيه يحاط كما يقول الدكتور هلال بهالة من الأساطير في حياته أو بعد مماته، وبخاصة أن أخبار المجنون قد وصلت إلينا عن طريق الرواية، والروايات تصيب وتخطئ، ولا ينبغي أن نتخذ الخطأ في بعضها ذريعة لإنكارها كلها، وإلا لتعرضت أكثر شخصيات عظماء التاريخ للشك والارتياب، وما قاله الدكتور هلال صحيح تمام الصحة. أما أن نعتمد في إنكار وجود مثلًا على ما ورد في بعض أخباره في كتاب (الأغاني) من أن أحدهم قد مر ببطون بني عامر بطنًا بطنًا يسألهم عن المجنون، فلم يجد أحدًا يعرف عن أمره شيئًا، فهو كلام مضحك.

إذ مَن ذا الذي لديه مثل ذلك الفراغ الطويل والصبر العجيب حتى لا يطوف ببطون بني عامر كلها سائلًا في كل بطن عن الشاعر، وكأنه يؤدي مهمة مقدسة، وهل كان الناس ليتركوا مثل ذلك الملحف في السؤال والبحث، فلا يجعلوه هدفًا لعبثهم وتهكمهم إن لم يكن لشتمهم واتهامهم إياه في عقله؟ بل كيف سكت بنو عامر فلم يصلنا عن أحد منهم أن رجلًا أتاهم ذات يوم، فجعل يطوف بهم بطنًا بطنًا يسألهم عن مدى صحة الوجود التاريخي للمجنون، فأجمعوا كلهم على بكرة أبيهم أنه ليس له وجود، وبالمناسبة فهناك من الباحثين من يصف قيس بن الملوح وغيره من الشخصيات، التي تتضمنها أخباره بأنها شخصيات شبه تاريخية، وصاحب هذا الكلام هو كاتب المادة الموجودة في "الموسوعة الإيرانية إنسيكلوبيديا إيرانيكا" باسم:"ليلى أو مجنون"، ومعنى ذلك أنه لا ينكر وجود المجنون وأصحابه على سبيل القطع

ص: 203

مثلما لا يثبته على سبيل القطع أيضًا، بل يضعها كما يقول المعتزلة في حق مرتكب الكبيرة: في منزلة بين المنزلتين.

لكن يلاحَظ أنه لم يحاول أن يسوق الحيثيات التي دفعته إلى إصدار هذا الحكم، ومن (سير أعلام النبلاء) للحافظ الذهبي نقرأ في ترجمة قيس بن الملوح ما نصه: المجنون قيس بن الملوح وقيل: ابن معاذ، وقيل: اسمه بحتري بن الجعد، وقيل: غير ذلك من بني عامر بن صعصعة، وقيل: من بني كعب بن سعد، الذي قتله الحب في ليلى بنت مهدي العامرية، سمعنا أخباره من تأليف ابن المرزبان، وقد أنكر بعضهم ليلى والمجنون، وهذا دفع بالصدر، فما مَن لم يعلم حجة على من عنده علم، ولا المثبت كالنافي، ولكن إذا كان المثبت لشيء شبه خرافة، والنافي ليس غرضه دفع الحق، فهنا النافي مقدم، وهو كلام علمي إلى مدى بعيد، ولكن أخبار المجنون ليست من الخرافات في شيء، اللهم إلا بعض المبالغات كما شرحت آنفًا، أما شعره فيقول الذهبي في الحكم عليه: وشعره كثير من أرق شيء وأعذبه، وهو ما يدل على أن ذلك الشعر ذو ماء واحد، وينفح بعبق واحد كما قلنا، ومعروف أن قيس بن الملوح ينتمي إلى العصر الأموي، طبقًا لأخباره وأسماء الولاة والشخصيات التاريخية الشهيرة التي يرد ذكرهم فيها.

ويقول الحافظ الذهبي: إنه كان في دولة يزيد وابن الزبير، ومن ثَم فحكايته حتى لو صدقنا أنها حكاية خرافية لا يمكن أن تنتمي إلى ما قبل تلك الفترة، فضلًا عن أن تسبق الإسلام، كما يدعي إبراهيم العريس في مقال له بجريدة الحياة اللبنانية بتاريخ الرابع عشر من شهر ديسمبر سنة 2009 عنوانه: ألف وجه لألف عام مجنون ليلى على الطريقة الفارسية، صورة حضارات مشتركة، إذ يقول: إن

ص: 204

حكاية ليلى والمجنون في الأصل حكاية عربية، تنتمي من دون ريب إلى عصور ما قبل الإسلام، حتى وإن كان ثمة تخمينات وفرضيات تقول: إنه أعيد الاشتغال عليها شعريًّا ورواية حتى من بعد ظهور الإسلام، وهذه نظرية يدعمها طه حسين في كتابه الشهير، والمثير الجدل (في الشعر الجاهلي).

انتهى كلامه.

ولقد بحثت في كتاب طه حسين المذكور، فلم أجده قال هذا الكلام، وكل ما عثرت عليه هو قوله: للعرب خيالهم الشعري، وهذا الخيال قد جد وعمل وأثمر، وكانت نتيجة رده وعمله وإثماره هذه الأقاصيص والأساطير، التي تروى لا على العصر الجاهلي وحده، بل عن العصور الإسلامية التاريخية أيضًا، وقد رأيت في فصولنا التي سميناها (حديث الأربعاء) أَنَّا نشك في طائفة من هذه القصص الغرامية، التي تروى عن العذريين وغيرهم من العشاق في العصر الأموي، يجب حقًّا أن نلغي عقولنا كما يقول بعض الزعماء السياسيين؛ لنؤمن بأن كل ما يروى لنا عن الشعراء والكتاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح؛ لأنه ورد في كتاب (الأغاني) أو في كتاب الطبري، أو في كتاب المبرد أو في سفر من أسفار الجاحظ، ولا وسيلة بينه وبين زعمه إبراهيم العريس، كما هو ظاهر جلي.

والعجيب في قصة ليلى والمجنون، أنها رغم تشكيك بعض الباحثين في تاريخيتها قد حظيت باهتمام بالغ في الآداب والفنون غير العربية، ربما لم تحظ بها أية قصة عربية سواها.

فنقرأ مثلًا في مقال إبراهيم العريس السابق الذكر ما يلي: الحكاية بالتأكيد عربية إذن، ولكن من الواضح في الوقت نفسه أن شعوبًا أخرى وكتابًا آخرين من غير العرب قد اشتغلوا عليها وطوروها وحولوها إلى أجزاء من تراثهم الأدبي والعاطفي،

ص: 205