المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

وقد ذكر الأستاذ رفعت سلَّام هذا الكلام في كتابه (المسرح الشعري العربي) الصادر في سلسلة المكتبة الثقافية في مصر، وبالنسبة لموقف شوقي من وقائع التاريخ وحقائقه، والانتفاع بذلك في مسرحياته نراه يلتزم أحيانًا ما نقلته الكتب إلينا بعجره وبجره، كما هو الحال في مسرحية (مجنون ليلى)، التي لاحظ النقاد أنه قد نقل النقاد أنه قد نقل فيها ما كتبه الأصفهاني في كتابه (الأغاني) عن هذا الموضوع دون تصرف تقريبًا، حتى إنه قد نقل ما لم يكن يقبل التصديق منه، رغم ما هو معروف من أن أبا الفرج يورد في (الأغاني) كل ما يصله من روايات، بغض النظر عن صحتها أو لا.

وأحيانًا نرى شوقي يتصرف في المادة التاريخية، التي وقعت له لكن في الأمور الثانوية لا الأساسية، وكذلك في تفسير الحوادث والتصرفات كما هو الحال مثلًا في تقديمه لكيلوباترا في المسرحية التي تتحدث عن مصرعها بوصفها ملكةً مصريةً، كانت تعمل طوال الوقت للحفاظ على استقلال مصر، وإن كنا لا نقر شوقي في هذه النقطة الأخيرة، إذ من الصعب أن نفهم كيف خطر له أن يصير كيلوباترا ملكة مصرية صميمة، رغم أنها لم تكن كذلك يقينًا، بل كانت من قوم يحتلون مصر منذ زمن طويل، وعرفت أسرتها بالفساد والتطاحن على الملك، وتآمر بعضهم على بعض، بل وقتل بعضهم بعضًا، وكذلك رغم ما عرف عنها من انحراف خلقي غير كريم أراد شوقي أن يلبسه تاج الوطنية عبثًا.

‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

ومما أخذه النقاد على إبداعات شوقي المسرحية ما كتبه الدكتور علي الزبيدي في مقاله الآنف الذكر، إذ قال: إن زوال دولة الأندلس قد ألهم شوقي روائع شعره:

يا أخت أندلس عليك سلام

.........................

إلى آخره.

ص: 153

ولكن مأساة المعتمد بن عباد لم تلهمه إلا أقل مسرحياته نجاحًا، حتى إنها المسرحية الوحيدة التي كتبها نثرًا، فلم يتح لها الشعر الذي ينقذها من مصيرها الفاشل، وبدل مأساة اعتماد والمعتمد نرى قصة غرام بنت المعتمد بثينة بالفتى العربي حسون، التي تنتهي نهاية مفتعلة بدخول الحبيبين على المعتمد في سجنه في "أغمات" عند ملك المرابطين في شمال لإفريقيا؛ ليعقدا زواجهما داخل السجن، حتى شخصية المعتمد لم تنل حظها الواجب من عناية شوقي، وكأنما أراد لنا مسرحية ترفيهية تضمد جراحنا لمأساة آخر ملوك العرب على أرض الأندلس.

وهكذا نجد هذه الشخصية المفتعلة بثينة صورة نسائية مكررة من امرأة تحب، بل إنها تحب وتفوز بمن تحب، فلا نجد لها مأساة ولا مواقف تهز الإحساس، وتفجر الحب نحوها أو العطف عليها، لقد كتب شوقي سبع مسرحيات لعبت المرأة في ست منها أدوارًا رئيسة، ولم تبق إلا مسرحية علي بك الكبير، التي بدأ بها أيام كان لا يزال في فرنسا في فجر شبابه، ثم أعاد لنا كتابتها بعد ظهور (مصرع كيلوباترا) ونجاحها، فإننا نجد دور المرأة فيها باهتًا لا يكاد يذكر.

وفي مسرحياته التاريخية (مصرع كيلوباترا) و (أميرة الأندلس) و (قمبيز) نرى المرأة المثالية في حبها، وفي المسرحيات التي تعتمد على ما يشبه الأسطورة باسم (مجنون ليلى) و (عنترة)، نرى المرأة المتدلهة في الحب التي تصارع التقاليد، والعجيب أن التي تصارع التقاليد الأقل مدعاة إلى صراعها هي التي تقود الصراع الأعنف، فليلى تصارع مجرد تقليد ألا تتزوج الفتاة بمن شغف بحبها علنًا، بينما عبلة تصارع تقاليد التفرقة العنصرية والعنجهية القبلية أو الطبقية، ومع ذلك فكل أمورها تسير هينة لينة؛ حتى هونت المسرحية ولينتها، فانزلقت بها من مأساة إلى تراجيديا كوميديا أو فوفيل.

ص: 154

بقيت مسرحية (الست هدى)، وهي ذات وضع خاص بين كل مسرحياته، إنها الوحيدة التي تعالج الواقع المعاصر، ومع ذلك فقد اختار لها أسلوب الشعر لا النثر، هل كان ذلك ليثبت أنه بالشعر يستطيع أن يخرج لنا المأساة والملهاة، أم تراه فعل ذلك لسبب آخر؟ وإنها لظاهرة شاذة حقًّا. فمأساة الأندلس التي حركت أدق مشاعره وأعمقها يكتب عنها مسرحية نثرية، والواقع العادي في حي الحنفي يكتب عنه مسرحية شعرية، ولكن (الست هدى) كوميديا رغم الشعر، وليس شوقي بالنسبة لهذا الواقع فيها بأقرب منه بالنسبة لواقع التاريخ أو الأسطورة، إن حي الحنفي بعيد عنه بعد أيام المماليك، وقمبيز والأندلس وبعد صحراء ليلى وقيس وعنترة وعبلة، ولكن (الست هدى) نفسها واقع في حياة شوقي، إنها المرأة التي يطمع الرجال فيها لمالها، وهي امرأة عادية صادقة تعد نموذجًا من النماذج بين نساء عصرها، إنها امرأة تريد زوجًا؛ لأن امرأة بلا زواج نموذج إنساني غير مألوف، بل هو مستهجن، هدفها في الحياة أن تتزوج ويتتابع الأزواج طامعين في مالها حسبما تقص هي علينا في شريط سينمائي في فصل من فصول المسرحية، والتركيز على الزوج الأخير الذي ظفر بما لم يظفر به من سبقوه، وهو أنه عاش بعد أن ماتت (الست هدى).

ولكن (الست هدى) لم تنهزم؛ لأنها كانت قد أوصت بمالها لبعض صديقاتها وبعض جهات البِر، وخرج الرجل الذي فاز بما لم يفز به غيره في الظاهر صفر اليدين مشيعًا بضحكات النظارة في المسرح، وقد جن جنونه بعد أن كان قد تصور أنه ظفر بما كان يحلم به.

ص: 155

ليس في هذه الكوميديا الناجحة حب ولا صورة لامرأة تحب، وإنما هي صورة امرأة من طراز لم يألف شوقي تصويره في مسرحياته، صورة سيدة من واقع حياة شوقي أسكنها حيًّا يبعد عنه بعد التاريخ والأسطورة، ولكنه استطاع بشاعريته أن ينبضه، كما أنبض التاريخ والأسطورة بالحياة والحيوية الدافئة.

إن (الست هدى) من أنجح ما ألف شوقي، والشعر فيها لا يرتفع إلى مستوى الغنائية العبقرية المتجلية في سائر المسرحيات؛ لأنه شعر عادي يصور الحياة اليومية والمشاعر العادية، ومن هنا نراها ترتفع بحيوية الحوار، وبرسم الشخصيات كشخصية الزوج الأخير و (الست هدى) نفسها عن المستوى العادي في مسرحياتها الأخرى.

إن (الست هدى) نموذج من السيدات في زمانه، يحيا في المسرحية كما يحيى في الواقع وتتخلل السخرية والإيحاءات والتورية حوار المسرح؛ فيرفع من نبضها وحركتها وحيويتها، وتتوالى الأحداث متصاعدةً نحو قمة معلومة في أسلوب هندسي، ومع صعوده تنتقل شخصية (الست هدى) من طور إلى طور، إن مشهد استرجاعها لحياتها حيث تصور طابور الأزواج واحدًا إثر واحد على باب مالها؛ حتى عندما تترحم على الموظف مشهد حي خفيف الروح:

لم أنسه منذ مات يومًا

ما كان أظرف

كان خفيفًا وكان حلوًا

ومن نسيم الربيع ألطف

ونكاد نحس نبرة مأساة وشبه حزن، ثم نراها تردف:

ما كنت أدري إذا تولى

أجيبه أم قفاه أنظف

يرحمه الله مات ما وجدوا

في جيبه قطعة ذهبي

وسبحة من خزانتي سرقت

كانت على الرف من وفاة أبي

ص: 156

فلا نكاد نهم بالأسى حتى نضحك من هذا الذي لم تنسه منذ مات، فلقد كان حريًّا بحبها ولكنه أيضًا حري بسخريتها وضحكنا منه، وسط هذا العرض للأزواج نجد هذا الذي يمثل عليها دور الغيور، وهو مفضوح في حبها لمالها، أو هذا الصحفي المدعي الذي يرفع الناس ويحط من شأنهم، وهو كاذب مدع لا يصدق إلا في أنه يعيش عالةً على (الست هدى)، وسط هذا العرض الذكي الفكه المملوء بالحركة، نكاد نحس مأساة (الست هدى)، ولكن شوقي حريص على تصوير امرأة من نوع جديد، امرأة راضية بالأمر الواقع وكارهة لأن تستغل، فهي تدافع عن نفسها ما استطاعت أن توفق بين أن تكون متزوجة في مجتمع يفرض عليها أن تكون، وبين ألا تكون مستغلة لمالها.

هذا ما قاله الدكتور الزبيدي في مقال له بعنوان: قراءة في مسرحيات شوقي، منشور بجريدة مدى، في الثاني عشر من ديسمبر سنة ألفين وتسع للميلاد.

ولقد أخذ مندور أيضًا على شوقي أنه لم يستطع التعمق الصراع في نفوس أبطال مسرحياته، إذ كانوا سرعان ما يستجيبون للضغط الواقع عليهم من حولهم، دون أن يكون هناك أخذ ورد داخل نفوسهم، وكأن النفس البشرية من الطواعية لمثل تلك الاعتبارات، بحيث لا يحتاج الأمر إلى أكثر من حضور ذلك العامل الضاغط؛ حتى تتم الاستجابة دون توتر ومعاناة، ويضرب لذلك بعض الأمثلة، ومنها أن ليلى في مسرحية (مجنون ليلى) ما إن يترك لها أبوها حرية اتخاذ قرار الزواج من قيس أو عدمه؛ حتى تسارع فتختار وردًا لها قرينا بدلًا من قيس، الذي كانت مدلهة في هواه، والسبب هو أن قيسًا كان قد كتب شعرًا فيها، وفي حبه لها والتقاليد عند العرب تحرم عليهم تزويج بناتهم لمن يشبب ويشهر بهن.

ص: 157

وأنا من رأي الدكتور مندور بل أزيد عليه أنه لو كان ذلك صحيحًا لما ترك لها أبوها حرية اتخاذ القرار، بل لكان أصدر أمره بالرفض المبدئي القاطع، بل لما جرأ قيس على طلب يدها، بل لما فكر منذ البداية في التشبيب أصلًا ما دام يريد الزواج بها، إذ هو بكل تأكيد أنه بتشبيبها سوف يقف حائلًا بينه وبين الاقتران بها، والطريف أننا في مسرحية عنترة مثلًا نشاهد عبلة، وهي تزق عنترة ببعض تمرات من فمها والناس من حولهما يشاهدونهما، فهل كانت التقاليد العربية تسمح بشيء من هذا، وبخاصة بين فتاة حرة هي ابنة زعيم القبيلة، وعبد أسود لا هو زوجها، ولا هو حتى خطيبها؟ وهل كانت التقاليد العربية في الجاهلية تقبل من فتاة كعبلة أن ترد على أخيها الذي كان موجودًا حين كان أبوها يأخذ رأيها في رجل تقدم لطلب يدها، فرفضته، وسخرت به، والذي أنكر هذا الرفض وأراد تحسن الرجل في عينيها، فتقول له ما معناه: ولماذا لا تتزوجه أنت؟

والغريب العجيب أن يكون كل ما رد به أبوها على كل الوقاحة، التي لا يمكن تصور صدورها من فتاة عربية في ذلك الوقت هو:

أزوج الرجال بالرجال

ذاك لعمري منتهى الخبال

وأغرب من ذلك وأعجب أن يجيء تعقيب أخوها المطعون في كرامته ورجولته على النحو البارد التالي:

استهترت أختي فما تبالي

.......................................... ز

وإضافة إلى ذلك يذكر عمر الدسوقي أن ليلى قد أكرهت إكراهًا على التزوج بمن تزوجته، فلم تختره بنفسها على عكس ما جاء في مسرحية شوقي، ويضيف الدسوقي قائلًا: وقد آثر شوقي أن يجعل ليلى ترفض الزواج من قيس حين خيرت في ذلك؛ محافظةً على التقاليد العربية مع أن التاريخ يذكر أنها أكرهت على

ص: 158

الزواج من غيره إكراهًا، ولعله أراد بذلك أن يرفع ليلى إلى مصاف الأبطال؛ لأنها ضحت بحبها في سبيل المجتمع وعاداته وإرضاءً لوالدها وقومها، وقد جعلها شوقي في بيت الزوجية مثالًا للمرأة المتيمة بحبيبها قيس، تعيش بقلبها وروحها معه، وهو في البادية في حين يضمها وزوجها وردًا بيت واحد؛ ولذلك احترم زوجها هذا الحب، فعاملها معاملة الشقيقة للزوجة، فظلت في كنفه عذراء إلى أن ماتت.

من كتاب (المسرحية نشأتها وتاريخها وأصولها) للأستاذ عمر الدسوقي.

وهو ما يعني أن شوقي لم يوفق على أي وضع في تصوير وقع الصراع بين الحب والتقاليد في نفسية ليلى.

وعلى ذكر استغراب البعض من اختيار شوقي للست هدى، التي كانت تعيش في حي الحنفي الشعبي، أبعد ما تكون عن مجال الشعر الأرستقراطي واهتماماته، يرى الدكتور محمد مندور في كتابه (مسرحيات شوقي) أن العبقرية كفيلة بأن تفسر لنا سر نجاح شوقي في معالجة هذا الموضوع رغم تلك الملاحظات، إذ إن المبدع يجد من موهبته وخصوبة خياله، وقراءاته المتنوعة فضلًا عما هو مشترك عام بين بني البشر، مهما اختلفت طبقاتهم الاجتماعية يجد في ذلك كله ما يعوضه عن عدم المررو بتجارب أبطاله المختلفة المنازع والبيئات، وهذا صحيح، وإلا فلو كان مطلوبًا من كل مبدع أن يعيش عيشة أبطاله، إذن فلن يكون هناك إبداع ولا مبدعون إلا في أضيق نطاق، وهو ما تكذبه الشواهد الإبداعية في كل الآداب، والمهم ألا يكون هناك افتعال في اختيار الموضوع، أو اعتساف في معالجته، إذ لكل مبدع مدًى لا يمكنه العمل بنجاح خارجه، وهذا المدى يختلف من مبدع إلى آخر حسب الموهبة والجد والاجتهاد والقراءة، وفتح العين والأذن على تجارب الآخرين، والتعاطف معهم واختزان ذلك كله لوقت الحاجة.

ص: 159

وبالنسبة للحبكة المسرحية لدى شوقي، نجد الدكتور مندور يقرر أنها في بعض المسرحيات تكون حبكة قوية، كما هو واضح في مسرحيات (علي بك الكبير) و (مجنون ليلى) و (عنترة)، إذ نرى في المسرحية الأولى منها كما يقول: كيف وُفق شوقي في استخدام موضوعها الثانوي المتمثل في حب مراد بك لآمال الجارية التي تزوجها علي بك الكبير، والتي ربط شاعرنا موضوعها بالموضوع الأصلي، وهو غدر محمد بك أبو الدهب بسيده علي بك الكبير، إذ كان هذا الحب سببًا في انضمام مراد بك إلى جانب أبي الدهب للتخلص من علي بك الكبير، وقتله كي يفوز بآمال، على حين أننا نفتقد ذلك في بعض المسرحيات الأخرى كمسرحية (مجنون ليلى)، حيث نرى بعض المناظر التي لا صلة بينها وبين مجرى المسرحية.

إذ يصف أمير الشعراء مثلًا مرور موكب الحسين سيد الشهداء في صحراء الحجاز، وتهليل العرب وتكبيرهم حينما رأوا الموكب، وكذلك مشاهد الجن وندوات غناء الغريض -المغني الأموي- وذلك دون أن يكون للموكب أو المشاهد أو الندوات أي تأثير في سير المسرحية أو في نفوس شخصياتها على الإطلاق، وإن كان الدكتور محمد حامد شوكت يفسر موقف الجن مثلًا بأنه ربما كان تجسيمًا لأوهام عقل قيس السقيم.

كذلك تناول الدكتور محمد حامد شوكت في كتابه (الفن المسرحي في الأدب العربي الحديث) سمة أخرى من سمات المسرح الشوقي، ألا وهي بروز ظاهرة القصائد الغنائية في إبداعات شوقي المسرحية يقول ما نصه: ولا تكاد تخلو مسرحية من مسرحياته عدا الملاهي أو المسرحية النثرية من مقطوعات وضعت لتغنَّى،

ص: 160

موضوعها عاطفة شائعة بين الناس كالهوى والموت، ففي (مصرع كليوباترا) نشيد على الحب والحياة، وآخر عن الموت، وفي (مجنون ليلى) أغان عن الحب، وفي (قمبيز) أناشيد مدح، وفي (علي بك الكبير) أغاني زواج، وجميعها تتشبع تشبعًا عاليًا بالأخيلة والموسيقى والرخامة.

ومن هذه القصائد الغنائية التي وردت في خلال الحوار الأبيات التالية، التي يتغنى فيها قيس بجبل التوباد في مسرحية (مجنون ليلى)، حيث كان هو وليلى يلتقيان في شبابهما، فيرعيان الغنم ويلعبان، ويخطان الرمل:

جبل التوباد حياك الحيا

وسقى الله صبانا ورعى

فيك ناغينا الهوى في مهده

ورضعناه، فكنت المرضعا

وحدونا الشمس في مغربها

وبكرنا فسبقنا المطلعا

وعلى سفحك عشنا زمنًا

ورعينا غنم الأهل معًا

هذه الربوة كانت ملعبًا

لشبابينا وكانت مرتعا

كم بنينا من حصاها أربعًا

وانثنينا فمحونا الأربعا

وخططنا في نقى الرمل

فلم تحفظ الريح ولا الرمل وعى

لم تزل ليلى بعيني طفلة

لم تزد عن أمس إلا أصبعا

ما لأحجارك صمًّا كلما هاج

بالشوق أبت أن تسمعا

كلما جئتك راجعت الصبا

فأبت أيامه أن ترجعا

قد يهون العمر إلا ساعة

وتهون الأرض إلا موضعا

ويرى الدكتور مندور أن تلك المقطوعات الغنائية التي تتخلل مسرحيات شوقي، وإن تكن من الشعر الغنائي الجميل كثيرة ما كانت تبدو دخيلة على الحوار، وكأنها قصائد غنائية قائمة بذاتها، فهي لا تخبرنا بجديد ولا تؤدي إلى تطور في

ص: 161

أحداث المسرحية، وإنما هي تغن خالص بالحب ولواعجه أو حنين إلى الماضي وذكرياته، ولقد يحدث أن نلتقي في بعض المسرحيات العالمية الكبيرة بمنولوجات فيها بعض ما يشبه هذا الغناء، ولكنها تحتوي في الغالب على اعترافات تنبئنا بما نجهل، أو تكشف الستار عن مخبوء أو تضيء بعض حنايا الشخصية المسرحية، وأما مجرد الغناء العاطفي بأشجان النفس أو بمظاهر الطبيعة، وما يختلط بها من مشاعر الشخصيات وذكرياتهم، فذلك ما لم نعد نشهد له وجودًا في المسرح الحديث، بعد أن تخلص من الجوقة التي كانت تردد مثل هذه الأغاني في المسرح اليوناني القديم، والأمثلة لهذه الأغاني كثيرة في مسرح شوقي، حتى لقد استطاع بعض الملحنين أن ينتزعوا بعضها من سياق المسرحيات، وأن يلحنوها منفردة كقصائد قائمة بذاتها، وأن يتغنوا بها.

أما دكتور محمد حامد شوكت فقد يبدو أن له موقفًا يختلف قليلًا أو كثيرًا عن موقف مندور، إذ يرى أن الحوار في مسرحيات شوقي يتطور في حدود شعر شوقي الغنائي، الذي يصور رواسب الشعر العربي كما كان في أوجه عند أبي تمام والبحتري والمتنبي بالإضافة إلى ذاته وغيرهم، ذلك الشعر الذي يصور أحاسيس الكاتب في لغة منسقة ذات موسيقى وخيال وعاطفة، وحافظ شوقي على نظام القصيدة في البحر والقافية، وفي المسرحيات الأولى يتجلى لون الغنائي المسرحي، ففي (مصرع كليوباترا) مقطوعات كثيرة على نظام القصيدة تكاد تجعل الشعر الغنائي غاية، وكثيرًا ما يسترسل المؤلف في تلك المقطوعات، التي تدور حول الشكوى والنجوى والرثاء والمديح، وقد نجح مسرح شوقي لطبيعة الجمهور المسرحي المحب للغناء وسماع الشعر بل شعر شوقي.

ص: 162

وعلى نفس الوتيرة يشير عمر الدسوقي إلى أن معظم المسرحيات، التي سبقت أعمال شوقي كانت تضع في حسبانها الجمهور المصري المرح، الذي يحب الفكاهة والغناء الجيد، وإن أضاف إلى ذلك أن المسرح المصري ربما تأثر في تلك النزعة الغنائية التي غلبت عليه بالمسرح الإيطالي كما ظهر في عصر الخديوي إسماعيل، علاوةً على انتشار ممارسة المطربين كسلامه حجازي مثلًا لفن التمثيل في بداية عهد مصر بذلك الفن.

كما يبرز الدسوقي ماضي شوقي الشاعر الغنائي بوصفه عاملًا مهمًّا آخر في شيوع القصائد الغنائية في مسرحياته، فيقول: لم يكن من اليسير على شوقي وقد تمرس بالشعر الغنائي طوال حياته أن يبرع في الشعر المسرحي دفعة واحدة، ويجمع بين الصياغة القرائية وحسن الأداء، وبين مقتضيات الفن المسرحي، وهو لم يعالجه من قبل؛ ولذلك نرى فنه المسرحي يتطور بالتدريج كان يكثر من المقطوعات، التي هي من صميم الشعر الغنائي في مسرحياته الأولى (كيلوباترا) و (مجنون ليلى) مثلًا، ولا سيما في مواقف الغزل والثراء والفخر، وقد ابتدأ فنه المسرحي في أول الأمر اقتباسًا، ثم سار نحو الابتكار والتجديد، ومن منهج وصفي تتحرك فيه الحوادث تحت تأثير الصدف، وتوصف به الحوادث والشخصيات وصفًا لا يمثل الحركة على المسرح إلى منهج تحليلي يعمد إلى أن تعبر الشخصيات والحوادث عن نفسها عمليًّا على المسرح.

لقد كان وراء شوقي في أول الأمر ماضيه في الشعر الغنائي، ووراءه كذلك الجمهور الذي يعجب ويطرب لهذا اللون من الشعر، وقد ألف مسرح الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وأضرابهما، وكان يذهب في الغالب إلى المسرح الذي يشهد مأساة حقيقية، وإنما ليستمتع بالأغاني التي تجري على ألسنة الممثلات، ويخلق لها الحوادث خلقًا، ولكن شوقي بجانب هذا قد قرأ كثيرًا من

ص: 163

الأدب الفرنسي، قرأ الأدب التقليدي ممثلًا في "كورنيه" و"راسين" و"موليير"، وقرأ الأدب الإبداعي لدى "هيجو" و"شكسبير" مترجمًا، ونعلم أن "هيجو" قد تأثر بـ"شكسبير" وأن كلًّا منهما قد اتجه نحو التاريخ الأوربي الحديث والقديم، فيكتب "شكسبير"(هنري الرابع) و (هنري الخامس) و (كليوباترا) و (يوليوس قيصر) و (الملك لير)، ويخرج لنا "هيجو مار نيودور" و"كرومويل" من تاريخ انجلترا الحديث، و"هرناني" من التاريخ الأسباني أثناء محاكم التفتيش وغير ذلك.

وقد تأثر شوقي بكل هذا إذ رأى أعلام الأدب الأوربي يتجهون إلى التاريخ، فلجأ إليه يستقي منه موضوعات مسرحياته، ورأى النزعة القومية الطبيعية غالبة على المدرسة الفرنسية المعاصرة تسايرها في وجهتها، وإحياء التاريخ المصري فرعونيًّا أو عربيًّا أو إسلاميًّا كان يعده شوقي اتجاهًا قوميًّا، ورأى أن جمهوره لا يزال ميالًا إلى الغناء، فأكثر من مقطوعاته الغنائية، فضلًا عن أنه لم يستطع هو نفسه التخلص من فنه الغنائي، الذي مارسه طول حياته في قصائده، أضف إلى كل هذا أن شوقي كان بعيدًا عن حياة الشعب؛ لأنه كان حبيسًا في قفص من ذهب، مقيدًا بقيود القصر وغل الحاشية، ولم يكن يدري شيئًا عما يعانيه شعب مصر من مذلة وهوان وفاقة، وإذا درى فقلما كان يحس بتلك الآلام أو يتذكرها، وليس له بها عهد، ولا ريب أن بُعده عن الشعب جعله لا يتجه أي وجهة واقعية أو اجتماعية في مسرحياته، اللهم إلا في روايته الأخيرة (الست هدى).

ونحن نعلل هذا الاتجاه الأخير بكثرة تردده على المسرح وإدراكه ما يطلبه الجمهور، وما يقتضيه التنويع في فنه، ثم لتلك النهضة الاجتماعية الشعبية ممثلةً في الصحافة والمسرح، ولقد سبق أن سمعنا الدكتور مندور يقرر أن تلك القصائد الغنائية التي تتضمنها مسرحيات شوقي تناسب طبيعة ذوق الجمهور العربي والمصري.

وإن الإنسان ليتساءل مجرد تساؤل: ما دامت الجوقة في المسرح الإغريقي كانت تقوم بذلك الدور، ألا يمكن النظر إلى صنيع شوقي هذا بوصفه تطويرًا لدور

ص: 164

الجوقة، إذ بدلًا من استجلاب جوقة من خارج المسرحية؛ لتؤدي هذا الدور يقوم بطل المسرحية ذاته بالتعبير عن مشاعره بنفسه، مما يعجب الجمهور المشاهد في بعض البلاد؟ إنه مجرد تساؤل واستفسار ليس إلا.

بل لقد كتب الدكتور مندور بأننا نصر على أن مآسي شوقي المسرحية لو أتيح لها الموسيقيون والمغنيون، الذين يستطيعون تحويلها إلى أوبرا لأصابت نجاحًا كبيرًا، ومن منا لا يطرب لأنا أنطونيو وأنطونيو أنا، أو جبل التوباد حياك الحيا، أو تلفتت ظبية الوادي أو غيرها من المقطوعات التي لحنها وغناها المطرب محمد عبد الوهاب؟

فما بالنا لو لحنت كل تلك المآسي من مطلعها إلى نهايتها، ومثلت بالغناء وكلها مآس تصلح بموضوعاتها ولوحاتها وأشعارها لأن تكون أوبرات رائعة مستوفية لكافة العناصر، وبذلك يستمر المسرح المصري الغنائي في تطوره الغنائي، وبكل ما ابتدأه سلامه حجازي وسيد درويش.

وبالمثل نرى مندور يقول في كتابه عن المسرح في ذات الموضوع: لن نمل القول: بأن مسرحيات شوقي خليقة بأن تلقى أكبر النجاح لو أنها لحنت، وتغني بها وقدمت للجمهور كمسرحيات غنائية، فعندئذٍ لن تلوح المقطوعات الغنائية دخيلة عليها، بل ستزيدها جمالًا وتزيد من متعتنا الروحية بسماع هذا الشعر الرائع ملحنًا منغمًا كفن جميل مكتف بذاته.

والواقع أن كلام مندور هذا يعني أنه من الممكن جدًّا تطوير نظام المسرحية الغربية على نحو أو على آخر، وهو ما أردت الإيحاء به حين أوردت التساؤل الآنف الذكر، وإن وضع مندور نصب عينيه أثناء هذا التطوير فنًّا غربيًّا آخرَ هو فن الأوبرا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 165