الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلات تاريخية حتى يؤثر أحدهم في الآخر نوعًا من التأثير أو يتأثر به، وعلى هذا فالموازنة بين أبي العلاء المعري و"مِلتون" على الرغم من تشابه آرائهما ومكانتهما الاجتماعية، ليست لها في رأي الدكتور هلال قيمة تاريخية؛ لأنها لا تشير إلى أي تأثر أو تأثير بينهما، ولا يجوز في ضوء ذلك أن ندخل في مجال الأدب المقارن أمورًا تخص الأدب ونقده، لمجرد حالة تشابه نرسمها بين أديبين أو عملين إبداعيين، لا نملك دليلًا على وجود أي تفاعل بينهما.
وعلى ذلك، فالأدب المقارن لا يدخل في إطاره تلك الدراسات، التي تبحث عن التشابه أو التقارب الناجم عن مصادفة، وهذا اللون من الأدب المقارن يحافظ بتشدد على موقفه القاضي بإبعاد كل تلك القراءات، التي لا تتناول معالم التأثر والتأثير بين الآداب المختلفة، ولكن كما قلنا وكررنا: ثمة اتجاهات في الأدب المقارن لا تحصر مَيدانه في التأثير والتأثر فقط، بل توسع دائرة ذلك الميدان بحيث تشمل الموازنات التي تقدم بين الأدب القومي والآداب الأخرى.
موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن
ومن الموضوعات التي يتناولها الأدب المقارن كذلك موضوع الترجمة، ومدى دقتها أو ابتعادها عن الأصل، وأثر ذلك على فهم مرام من يؤلف إلى هذا:
ومعروف أن دور الترجمة في التلاقح الثقافي بين الأمم المختلفة هو في الذروة من الأهمية، ومن ثم كان الاهتمام الشديد من قبل الدارسين المقارنين في مجال الأدب بهذه الوسيلة، التي تصل بين الأمم الثقافية، في ضوء هذا ننظر في النص التالي الذي خلفه لنا سيد البيانيين العرب الجاحظ عمرو بن بحر في كتابه (الحيوان)، والذي لا يمكن أن نتهم بالمغالاة في تقدير قيمته.
يقول: وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونانية وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنًا وبعضها ما انتقص
شيئًا، ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو لمعاشهم وفطرهم وحكمهم، وقد نقلت هذه الكتب من أمة إلى أمة، ومن قرن إلى قرن، ومن لسان إلى لسان؛ حتى انتهت إلينا وكنا آخر من ورثها ونظر فيها.
فقد صح أن الكتب أبلغ في تقييد المآثر من البنيان والشعر، ثم قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له: إن الترجمان لا يؤدي أبدًا ما قال الحكيم على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على الجلي، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، والإخبار عنها على حقها وصدقها إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها مثل مؤلف الكتاب وواضعه، فمتى كان -رحمه الله تعالى- ابن البطريق وابن ناعمة وابن قره وابن فهريز وثيفيل وابن هيلي وابن المقفع مثل "أرسطوطاليس"؟ ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟
ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضًا قد تكلم بلسانين علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة وإنما له قوة واحدة؟ فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات، وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه، ولن تجد البتة مترجمًا يفي بواحد من هؤلاء العلماء.
إن الجاحظ في النص السابق إنما يمس قضية في منتهى الخطورة في ميداننا، الذي نحن بصدده هنا، وهي قضية الترجمة التي عليها المعول الأول في التواصل والتلاقح الثقافي بين أمم الأرض، وهو يبرز الشروط التي لا بد من توفرها فيمن يريد التصدي لتلك المهمة، إذا أراد أن يجيء عمله سليمًا ويؤتي ثماره على أحسن وجه، وكلنا يحفظ المقولة الشائعة في ذلك المجال، ألا وهي أن المترجم خائن بمعنى: أنه لا يمكن أن ينقل لنا على وجه الدقة، والقطع والتطابق المطلق ما في النص الذي ينقله إلى لغتنا مهما يكن من عبقريته وتفرده، وإنما كل ما يستطيعه أن يقلل إلى أدنى حد ممكن الفجوة القائمة بين اللغتين والعقليتين والذوقين، أو باختصار بين الثقافتين، ومع ذلك فسوف تظل ثمة نصوص تستعصي على الوصول بها إلى هذه الغاية، وهي نصوص الشعر وما إليها.
وقد استطاع الجاحظ أن يضع يده على مكامل المشكلة في طبيعة اللغات، وطبيعة البشر على السواء، رغم أنه قد قال ذلك منذ نحو اثني عشر قرنًا، لكنها العبقرية الجاحظية.
وفوق ذلك قد أمدنا رحمه الله بأسماء عدد من مترجمي العرب في عز نهضتهم ومجدهم في دولة بني العباس، وقد أثنى على ما تركه لنا الجاحظ في هذه النقطة في موقع الندوي قائلًا: وعلى الرغم من أن آراء الجاحظ عن الترجمة جاءت في القرن التاسع الميلادي، إلا أنها ما زالت صالحة إلى يومنا الحاضر، فبعد مرور عشرة قرون عليها وضع المفكر الروسي "بليخنوف" في القرن التاسع عشر والقرن العشرين شروطًا للمترجم الجيد، وللترجمة الجيدة تتطابق مع الشروط التي وضعها الجاحظ، كما أكد الدكتور سامي الدروبي في النصف الثاني من القرن العشرين على الشروط ذاتها.
وهناك موضوع آخر هام جدًّا يتصل بتلك النقطة، ألا وهو عدم فهم المترجمين والشراح العرب لما قاله أرسطو في كتابه (الشعر) عن الملهاة والمأساة في عالم الإبداع المسرحي، إذ جاء في شرح ابن سينا لذلك الكتاب عن أنواع الشعر عند الإغريق ما يلي: وكان لكل غرض وزن يختص به، فمنها نوع يسمى طراغوزيا له وزن لذيذ يتضمن ذكر الخير والأخيار والمناقب الإنسانية، ثم يضاف جميع ذلك إلى رئيس يراد مدحه، وكانت الملوك يغنَّى بين أيديهم بهذا الوزن، وربما زادوا فيه نغمات عند موت الملك للنياحة والمرثية، ومنها نوع يسمى دثرمبي وهو كترغوزيا، ما خلا أنه لا يخص به مدحة إنسان واحد، أو أمة معينة، بل الأخيار على الإطلاق، ومنها نوع يسمى قوموزيا، وهو نوع تذكر فيه الشرور والرذائل والأهاجي، وربما زادوا فيه نغمات؛ ليذكروا القبائح التي يشترك فيها الناس وسائر الحيوان.
أما ابن رشد فقد استخدم لهذين المفهومين -أي: مفهومي التراجيديا والكوميديا- مصطلحي مديح وهجاء، مما لبس الأمر على القراء والمثقفين العرب طوال تلك العصور إلى أن أعدنا النظر في العصر الحديث إلى الإبداع المسرحي عند الإغريق، وتنبهنا إلى الغلطة التي وقع فيها هذان المفكران العظيمان؛ لعدم وجود نص مسرحي مترجم يمكن على نوره فهم الكلام النظري، الذي خلفه أرسطو في ذلك الموضوع.
وقد نقل ياقوت الحموي في مقدمة (معجم الأدباء) عن جاحظنا قوله: عيوب المنطق التصحيف وسوء التأويل، والخطأ في الترجمة، فالتصحيف يكون من وجوه من التخفيف والتثقيل، ومن قبل الإعراب ومن تشابه صور الحروف، وسوء التأويل من الأسماء المتباطئة أي: أنك تجد اسمًا لمعاني فتتأول على غير المراد، وكذلك سوء الترجمة.
وأورد أبو حيان التوحيدي في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) حوارًا بين متى بن يونس، المتوفى سنة ثلاثمائة وثمان وعشرين هجرية، المترجم الذي كان متعصبًا لليونان وثقافتهم، وأبي سعيد السيرافي النحوي المشهور، المتوفى سنة ثلاثمائة وثمان وستين هجرية، ذكر فيه السيرافي على نحو غير مباشر عدة من المحاذير التي يمكن جدًّا أن تقع في الترجمة من لغة إلى أخرى، بل لا تكاد الترجمة تنفك منها، قال متى: يونان وإن بادت مع لغاتها، فإن الترجمة حفظت الأغراض، وأدت المعاني وأخلصت الحقائق.
قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقومت وما حرفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام، ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام، وإن كان هذا لا يكون وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني، فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.
وواضح من هذه النصوص مدى وعي علمائنا القدامى بأن المترجمين لا يمكنهم نقل الأصل على وجهه، الذي أبدعه فيه صاحبه إلى اللغة التي يترجمون إليها، مهما بذلوا وسعهم واستفرغوا كل جهدهم. أي: أنهم كانوا على علم بطبيعة الترجمة وحدودها، وأن ما يؤديه المترجمون لا يمكن أن يجيء مطابقًا للنص الأصلي، وهذا ما يعنيه الأوربيون حين يتحدثون عن صعوبة الترجمة، فيقولون على سبيل المجاز:" the Translator is a traitor " أو " Le Traducteur est un traître " أي: المترجم خائن، بمعنى: أنه من الصعوبة عليه بمكان الخلاص تمامًا من الأخطاء، مهما احترز وبذل من جهد
وفتح عينيه طول الوقت، وقبض على زمام اللغتين اللتين يعمل بينهما، ومهما راجع ونقح، ذلك أن المترجم الأدبي وهو الذي يهمنا هنا، إنما يحاول الدخول إلى عقل إنسان آخر، واقتناص خواطره وانفعالاته وأفكاره ودقائق معانيه، وأنَّى له ذلك، والسياق الذي يعمل هو فيه يختف عن السياق الذي أبدع فيه صاحب النص نصه! والخلفية الثقافية والفنية والأدبية التي ينتمي إليها المبدع تختلف عن خلفيته هو، والظروف الشخصية تختلف في حالته عن حالة من يترجم منه.
كما أن الأديب لا يقول في إبداعه كل شيء، ولا يكون واضحًا في ذهنه كل شيء، بل تظل هناك زوايا وخبايا، ومناطق مظلمة أو معتمة أو مغبشة أو تغشيها الظلال على الأقل، ومعان وأحاسيس رواغة تستعصي على القنص، وأقصى ما يمكنه عمله إزاءها هو أن يشير ويومئ، فإذا أضفنا إلى هذا أن العمل الأدبي ليس كلمات وجملًا ناجزة فحسب، بل ثغرات ومساحات متروكة أيضًا، وأنه يقوم على الإيجاز والتكثيف والتقديم، والتأخير والمجازات والاستعارات والكنايات والتوريات، وأن فيه كثيرًا من العبارات والصور والتراكيب والألفاظ والألوان البديعية، والإيحاءات التي لا تقابلها عبارات وصور وتراكيب وألفاظ، وإيحاءات في اللغة المنقول إليه، أو على الأقل لا تقابلها مقابلة مباشرة، علاوة على أن إشاعات كل لفظة، والتاريخ التي تحمله على ظهرها، والتقاطعات والعلاقات اللفظية التي ترتبط بها تختلف عن إشعاعات اللفظة التي تقابلها على الناحية الأخرى، والتاريخ الذي تحمله على ظهرها والتقاطعات والعلاقات التي تربطها بغيرها من الألفاظ والعبارات.
وإذا عرفنا فوق ذلك أن مبدعه كثيرًا ما يقصد الغموض قصدًا إن لم ينح نحو الاستغلاق نحوًا، تلذذًا منه أو فلسفة أو تفلسفًا، وأن الشعر إلى جانب هذا كله
يقوم ضمن ما يقوم على الوزن والقافية والتقطير الشديد، والتصرف في اللغة تصرفًا واسعًا تحت ضغط المساحة الضيقة التي يتحرك فيها، والقيود الثقيلة التي تطوق قدميه ويديه، تبين لنا أن الترجمة ليست أبدًا بالمسألة الهينة، وهذا كله إن لم يتعمد المترجم الخيانة تعمدًا؛ كي ينقل شيئًا آخر غير ما في النص، وربما عكس ما في النص وكثيرًا ما يحدث هذا لغرض في نفس يعقوب، أو على الأقل قد يقتحم ذلك الميدان اقتحامًا دون أن يكون مؤهلًا له، فلا تكون معرفته باللغة التي يترجم منها كافية لتمكينه من أداء المطلوب، كما هو الحال في كثير ممن يتصدون لتلك المهمة الشاقة، ولا يأخذون في اعتبارهم حجم المشكلة التي يحاولون النهوض بأعبائها، وهذا أيضًا لون من الخيانة، وإن كان أقل في الفداحة من الناحية الخلقية من اللون السابق، ويدخل في الخيانة أيضًا أن يقوم شخص ما بالترجمة دون أن يبذل الجهد المطلوب الذي يستطيعه لو أراد.
ويقول "بروس ميتزجر" في دراسة له بعنوان: " Trials of the Translator": إن المترجم بالغًا ما بلغ الجهد الذي يبذله والتركيز الذي يقوم به، فإن النتيجة لا تأتي أبدًا وفاق المطلوب، ولا يمكن أن تحظى برضى الجميع فضلًا عن أن يكون الراضي هو المترجم ذاته إذا كان ذا حساسية وضمير، ذلك أن النص يحتوي في كثير من الأحيان على عدد من الشيات الدقيقة المتقاربة، وعلى المترجم أن يوازن بين تلك الشيات؛ ليختار منها ما يراه أقرب إلى ما في النص، ومن ثم يصف الساخرون عملية الترجمة بأنها فن القيام بالتضحية المناسبة.
كذلك وقعت على مقال في الترجمة الأدبية بقلم فرانسواز ويلمار ( Françoise Wuilmart) عنوانه: " La traduction littéraire bien comprise، وفيه أن الترجمة نوعان ترجمة
علمية، وتتطلب أقصى قدر من الحيادة والموضوعية، وترجمة أدبية وهنا مكمن الصعوبة، ذلك أن النص الأدبي إنما يعكس نظرة المبدع إلى الحياة والعالم وهي نظرة فردية ملونة تتمحور حول ذات صاحبها، فتعطي النص نكهته وصوته المتفرد، فضلًا عن أن النص في حد ذاته نسيج معقد من الكلمات، والروابط والتراكيب والإيقاعات والأنغام لا يقول كل شيء، بل أترك أشياء كثيرة لا يتحدث عنها حديثًا صريحًا، مكتفيًا بالإيماء والحديث الضمني.
ثم إن هناك عقبتين تواجهان المترجم في النصوص الأدبية هما الإطار الثقافي، الذي ينتمي إليه المبدع، واللغة التي يكتب بها يقصد اختلافهما عن نظيرهما عند المترجم، مما يجعل التقاطه لما في النص من شيات وتلوينات مسألة صعبة.
ومما يتناوله الأدب المقارن أيضًا كتب الرحلات، إذ إن هذا النوع من الكتب إذا كان يدور حول بلد أجنبي، فإنه يقوم بتقديم صورة لذلك البلد وشعبه للقراء المحليين، وهذا ميدان من ميادين الأدب المقارن، ومن ذلك على سبيل المثال صورة مصر في كتابات من زاروها، وكتبوا عنها من الأدباء الأوربيين مثل "جيرار دونلفال" و"فلوبير" من فرنسا، و"ريتشارد بير ستيوارت" من بريطانيا، أو صورة فرنسا في عيون الرحالة العرب، مثل: رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وأحمد زكي شيخ العروبة، ومحمد حسين هيكل ومصطفى عبد الرزاق وطه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف فرنسيس، وغيرهم، فمثل هؤلاء الرحالة هم المِرآة التي عن طريقها تعرف أممهم البلاد والشعوب الأخرى، وإلا فمن أين يستمد القراء معلوماتهم وانطباعاتهم، وأحكامهم عن تلك البلاد والشعوب؟
لقد تركت "مدام دستيل" مثلًا بلدها فرنسا إلى ألمانيا أيام نابليون واستبداده، فجاءت كتاباتها عن ألمانيا عاكسة لمشاعرها الخاصة، إذ وجدت فيها جوًّا تتنفس فيه بحرية، فصورته بصورة مثالية وجعلتها جنة الباحثين عن تلك الحرية، وكان لتلك الصورة أثر قوي على قرائها الفرنسيين رغم ما فيها من افتقار إلى الدقة، ورغم ما يوشيها من مبالغة غير قليلة، وبخاصة أن الكاتبة لم تكن تختلط في ألمانيا إلا برجال الأدب ورجال السياسة هنا وهناك، وهؤلاء لا يمثلون الشعب الألماني كله في جميع حالاته، مثلما أن الأماكن التي اختلطت بهم فيها لا تمثل ألمانيا كلها، بل قطاعًا صغيرًا منها فحسب.
ويدرس الأدب المقارن صورة هذا البلد أو ذا في كتابة ذلك الأديب أو هذا، ثم يمضي فيتتبع تأثير تلك الصورة على كتابات الكتاب الآخرين في بلاده بغض النظر عن لون هذه الكتابات قصة كانت، أو رحلة أو شعرًا أو مسرحية مثلًا، وسواء زار أولئك الكتاب المتأثرون ذلك البلد، أو اكتفوا باستقاء صورته مما قرأه الأديب الذي تأثر به، ومن الطبيعي أن تجيء صورة البلد الذي كتب عنه أدباء من بلاد أخرى على غير الحقيقة، أو فلنقل: إن تلك الصورة لا بد أن تختلف من أديب إلى آخر تبعًا لاختلاف ظروف كل منهم عن ظروف الآخرين، إذ الحقيقة الكاملة المطلقة لأي شيء إنما يعلمها الله والله وحده، أما نحن البشر فلا نعرف منها إلا جانبًا واحدًا فقط، وملونًا في الغالب لون نفسياتنا ومواقفنا وثقافتنا وتجاربنا وتطلعاتنا ومخاوفنا إلى آخره، اللهم إلا ما كان متعلقًا بالأرقام الوقائع التي لا يمكن المماراة فيها وما أشبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.