المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

اتخذت مسرحها خارج هذا العالم الأرضي، وكان المعري وابن شهيد متعاصرين، إذ توفي المعري عام أربعمائة وتسعة وأربعين هجرية، على حين توفي ابن شهيد عام أربعمائة وستة وعشرين من الهجرة.

وقد ظهرت بعد (رسالة الغفران) بفترة طويلة (الكوميديا الإلهية) لـ"دانتي" الإيطالي و (الفردوس المفقود) لـ"مِلتون" الإنجليزي، وقد عثر مستشرق أسباني معاصر على مخطوطتين لترجمتين مختلفتين لقصة (المرار)، خلص منهما إلى نظرية تثبت أن "دانتي" قد بنَى كوميدياه على أصول إسلامية من بينها (رسالة الغفران) وقصة المعراج.

كذلك تركت (رسالة الغفران) تأثيرها على أدب الرحلات إلى العالم الآخر في الأدب العربي الحديث، إذ تأثرت بها قصيدة الزهاوي القصصية المطولة المسماة "ثورة في الجحيم"، ومطولة "شاطئ الأعراف" لمحمد عبد المعطي الهمشري، و"بين النهايتين" لمحمد سعيد السحراوي، و"الأخيران" من شعراء الجيل الثاني لحركة أبوللو في مصر.

‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

؟

والسؤال الآن، هل في أدبنا ملاحم كتلك التي يعرفها كثير من الآداب الأخرى؟

الجواب هو: لم يعرف الأدب العربي هذا اللون من القصص أو الملاحم في شعره القديم، ولكن في العصر الحديث حاول الشعراء العرب استيحاء التاريخ قديمه وحديثه؛ لتصوير البطولات العربية والإسلامية، فكتب الشاعر المصري أحمد محرم، المتوفى عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين للميلاد "الإلياذة" الإسلامية في أربعة أجزاء، يحكي في الجزء الأول منها حياة الرسول بمكة، ثم هجرته إلى المدينة، كما يتناول غزواته وأحداثها وبطولاتها، ويستمر الحديث عن الغزوات والبطولات في الجزئين الثاني والثالث، أما الجزء الرابع فيخصصه للحديث عن الوفود التي

ص: 131

قدمت على الرسول صلى الله عليه وسلم والسرايا التي اتجهت إلى مختلف أنحاء الجزيرة العربية، وقد كتب خليل مطران قصيدة قصصية عنوانها: فتاة الجبل الأسود تصور ثورة شعب الجبل الأسود ضد الأتراك، ومحورها بطولة فتاة تنكرت في زي فتًى واقتحمت موقعًا للأتراك، وقتلت بعض رجالهم، وعندما أسرت اكتشف الأتراك حقيقتها، فأعجبوا ببطولتها، وأطلقوا سراحها.

هذا عن الأدب العربي الفصيح

أما الأدب الشعبي فيمكن القول: أنه قد عرف على نحو ما فن الملاحم، وما زال المنشدون يرددون ملحمة عنترة أبي الفوارس، وتغريبة بني هلال، وهما من القصص الطويلة التي تؤدي فيها الأسطورة والخيال دورًا مهمًّا في تصوير الوقائع والبطولات، هذا باختصار.

أما بالتفصيل فنقول: إنه بالنسبة إلى الأدب الفصيح القديم لا يوجد شيء يمكن أن يقال عنه: إنه ملحمة أو يشبه الملحمة بالمعنى الذي شرحناه هنا، ولقد فاخر ابن الأثير وهو من أهل القرنين السادس والسابع الهجريين في كتابه (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) بما يوجد في آداب الفرس من القصائد الطويلة التي تبلغ الواحدة منها عدة آلاف من الأبيات كـ (الشاهنامه) وما إليها، فكان رد صلاح الدين الصفدي من أهل القرن الثامن الهجري في كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) هو التذكير بما في أدبنا من منظومات، وقصص طويلة أشار إلى بعضها.

ومن الواضح أنه ظن المسألة في الطول وحده، وإلا فإن الأمثلة التي ضربها على ما في بعضها من إبداع أدبي جميل ورائع ليست من سبيل الملحمة، ولا الملحمة من سبيلها، وكان ابن الأثير في كتابه المذكور يوازن بين فني النثر والشعر، ويرصد

ص: 132

الفروق بينهما إلى أن أتى إلى مسألة التطويل والتقصير، فقال: إنه مما لا يحسن في الذوق العربي أن يطول الشاعر قصائده، ويشقق المعاني، ويستوفي الكلام فيها مما هو أليق بالنثر، ثم انطلق في موازنة بين العرب والفرس في تلك النقطة، قائلًا: إن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورًا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره، واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي، والكاتب -يقصد: الناثر- لا يؤتى من ذلك، بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله.

وهذا لا نزاع فيه؛ لأننا رأيناه وسمعناه وقلناه، وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النقطة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابًا مصنفًا من أوله إلى آخره شعرًا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بـ (شاهنامه)، وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها، وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر. هذا ما قاله ابن الأثير.

فكان من جراء ذلك أن ألف صلاح الدين الصفدي كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر)؛ للرد على بعض ما جاء في كتاب ابن الأثير السابق الذكر، كما هو واضح من عنوانه، وهذا الرد يجري على النحو التالي.

قال -أي: ابن الأثير- في تفضيل النثر على النظم في آخر الكتاب: إن الشعر إذا أراد أن يشرح أمورًا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره، واحتاج إلى الإطالة من

ص: 133

أن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل والكثير من ذلك رديء غير مرضي، والكاتب لا يؤتى من ذلك بل يطيل في الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه؛ لأننا رأيناه وقلناه، وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النقطة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابًا مصنفًا من أوله إلى آخره شعرًا، وهو شرح قصص وأحوال يكون مع ذلك في نهاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف (شاهنامه) وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العرب بالنسبة إليها كقطرة من بحر.

ثم يعقب صلاح الدين الصفدي، قائلًا: قد ختم ابن الأثير -رحمه الله تعالى- كتابه بهذه النكتة التي مال فيها إلى الشعوبية، وما قال معمر بن المثنى ولا سهل بن هارون ولا ابن غرسيا في رسالته مثل هذا، وقد وجد في أهل اللسان العربي مَن نظم الكثير أيضًا، وإن عد هو الفردوسي عددت له مثل ذلك جماعة: منهم من نظم تاريخ المسعودي نظمًا في غاية الحسن، ومنهم من نظم كتاب (كليلة ودمنة) في عشرة آلاف بيت، ونظمها أبان اللاحقي أيضًا، وأخبرني الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد الذهبي أن مكي بن أبي محمد بن محمد بن أبيه الدمشقي، وقد عرف بابن الدجاجية نظم كتاب (المهذب)، وهو قصيدة على روي الراء سماها (البديعة في أحكام الشريعة).

قلت -أي: قال صلاح الدين الصفدي-: والمهذب في أربع مجلدات، وبعض المغاربة امتدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدة عدتها ثمانية عشر ألف بيت،

ص: 134

ولابن الهبارية كتاب (الصادح والباغ) في ألف بيت كل بيت منها قصر مشيد، ونكتة ما عليها في الحسن مزيد، يشتمل على الحكايات والنوادر والأمثال والحكم، وكلها في غاية الفصاحة والبلاغة ليس فيها لو ولا ليت.

وأما من نظم الألف وما دونه فكثير جدًّا لا يبلغهم الحصر، وأما (الشاطبية) وما اشتملت عليه من معرفة القراءات السبع واختلافها، وتلك الرموز التي ظاهرها الغزل وباطنها العلم، فكتاب اشتهر وظهر، وخلب سحره الألباب وبهر، وأما أراجيز النحو والعروض والفقه، كالذي نظم الوجيز ومنظومية الحنفية وغير ذلك من الطب وغيره من العلوم، فكثير جدًّا إلى الغاية التي لا يحيط بها الوصف.

هذا ما قاله الصفدي

إذن، ففي أدبنا الفصيح القديم لا وجود لهذا الفن الشعري، ولكنا لدينا مع هذا ما يسمى بالسير الشعبية كسيرة عنترة، وسيرة سيف بن ذي يزن، وسيرة الهلالية، وسيرة ذات الهمة، وسيرة حمزة البهلوان، وسيرة فيروز شاه، وسيرة علي الزيبق، وسيرة أحمد الدنف، وهي تقترب جدًّا من فن الملحمة، فهي قصص وهي شديدة الطول حتى لا تتجاوز سيرة عنترة كمثلًا ثلاثة آلاف صفحة وخمسين، إلا أن هذه السير ليست مصوغة كلها شعرًا، بل هي عمل نثري في المقام الأول تكلل أشعار على ألسنة بعض أبطالها، مع تفاوت في مقدار هذا الشعر بين سيرة وأخرى، ومع هذا لا يصح أن نغفل أنها مصبوبة في قالب السجع، الذي يقترب خطوة من الشعر، أي: أن أسلوب السيرة النثرية ليس خاليًا من النغم هو أيضًا.

كذلك لا يوجد لها مؤلف معين، إذ هي من إبداع المخيلة الشعبية، ولعلنا لم ننس أن الملاحم الأولى الموغلة في القدم هي أيضًا عارية عن أسماء مؤلفيها، بل إن من الدارسين من ينفي أن يكون "هوميروس" هو صاحب "الإلياذة" قائلًا:

ص: 135

إنها عمل شعبي عام اكتمل على مدار الزمان، ومن هنا كان أسلوب السير الشعبية مختلفًا عن أسلوب الأدب الرسمي، رغم أنها مكتوبة بالفصحى، إذ هي فصحى تنفح بالنكهة الشعبية من حيث بساطتها، وعدم احتفالها بالصياغة اللغوية بوجه عام.

وفوق ذلك ففي السير تداخل بين الأماكن والأحداث والأزمنة التاريخية، كما هو الحال مثلًا في سيرة عنترة، حيث نرى عنترة في اليمن وفارس والشام ومصر، وحيث تستغرق الأحداث ما يقرب من ستة قرون، وكما هو الحال أيضًا في سيرة الظاهر بيبرس حيث يشتبك العصر العباسي والعصر الأيوبي والعصر المملوكي.

ووجه الشبه بين السير الشعبية والملاحم أنها شديدة الطول، وأن الأبطال فيها يتميزن بالشجاعة الخارقة، كما تختلط الأحداث التاريخية بكثير من الخرافات والأساطير، فضلًا عن اتساع رقعة الأديان التي تتحرك فيه الوقائع والشخصيات، كذلك فالجن والسحر والمعجزات والكرامات والرؤى والنبوءات الصادقة وجودٌ في تلك السير، وقد أشار إليها "روجر ألن" في كتابه " An Introduction to Arabic literature" بوصفها ملاحم شعبية، وللدكتور عبد الحميد يونس ودكتور نبيلة إبراهيم والأستاذ فاروق خورشيد وغيرهم دراسات هامة حول تلك الأعمال.

أما في العصر الحديث فقد ظهرت بعض الأعمال الشعرية العربية التي أطلق عليها ملاحم، رغم أنها لا تتطابق والملاحم القديمة التي نعرفها، إلا أن فيها مع ذلك

ص: 136

بعض السمات التي تصلها على نحو ما بها، فهي أعمال قصصية طويلة يقع بعضها في عدة آلاف من الأبيات، كملحمة "راديب" لبولس سلامة اللبناني النصراني، الذي لم تمنعه نصرانيته الإعجاب ببطولة ختم النبي صلى الله عليه وسلم والعكوف على سيرته وشخصيته، يدرسهما ويستوحيهما؛ حتى أخرج لنا في نهاية الأمر عملًا ملحميًّا يصور بطولاته صلى الله عليه وسلم وإنجازاته الخارقة، على حين يكتفي البعض الآخر بعدة مئات من الأبيات، كـ"ترجمة شيطان"، التي صور بها العقاد ما حاق بنفسه عقب الحرب العالمية الأولى، من شكوك في قدرة البشرية على مصارعة عوامل الشر والانتصار عليها، ويأس من انتصار الخير في دنيانا هذه؛ بسبب الأهوال وألوان الدمار، والتقتيل التي أنزلتها تلك الحرب ببني الإنسان.

والأولى تتناول سيرة بطل عربي مسلم مشهور بالشجاعة غير الاعتيادية، وله إنجازاته الحربية التي أسهمت في تغيير مجرى التاريخ، وهو الصحابي الجليل علي بن أبي طالب على حين تحكي الثانية قصة الشيطان في تمرده المستمر على رب العباد، وعمله على بث الغواية في كل مكان، رغم معرفته بما ينتظره من عقاب رهيب في نهاية المطاف، فهي إذن تدور حول قضية فلسفية ودينية خطيرة، هي قضية الخير والشر والصراع بينهما، ووقوع الإنسان بين شقي الرحى، وقد أثارت قصيدة العقاد إعجاب ناقد كالدكتور زكي نجيب محمود إلى أبعد مدى؛ حتى إنه ترجمها إلى الإنجليزية ترجمة مرموقة في تقدير من اطلعوا عليها، كما لفت النظر إلى أن العقاد بقصيدته

ص: 137

هذه قد فتح في الشعر العربي فتحًا، سبق به قصيدة الأرض الخراب لإليوت، تلك القصيدة التي كان لوقعها من الدوي ما جعلها معلمًا من معالم القرن العشرين الأدبية.

وكما يرى القارئ، فإن في هاتين الملحمتين العنصر الخارق

وهناك أيضًا ملحمة "عبقر" لشفيق المعلوف، و"محمد" لعلي شلق، و"الإلياذة" الإسلامية لأحمد محرم، الذي جاء عمله أقرب إلى السرد التاريخي منه إلى الملحمة، رغم أن الأسلوب الذي كتب به ذلك العمل أسلوب شعري، إذ ينقصه البناء القصصي تمامًا، فهو من هذه الناحية يشبه أرجوزة ابن عبد ربه التي بلغت أربعمائة وخمسًا وأربعين بيتًا في تعديد مآثر الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث بقرطبة، وأرجوزة ابن المعتز في الخليفة العباسي المعتضد بالله، والتي نيفت على أربعمائة بيت من نحو عشرين بيتًا، وإن كان عمل محرم أطول من ذلك كثيرًا جدًّا.

ولا مانع أن تعد تلك الأعمال الحديثة من الملاحم، ما عدا "الإلياذة" الإسلامية؛ لافتقارها إلى أهم عناصر الملحمة وهو العنصر القصصي، ولا ريب أن من الصعب استمرار ملامح جنس أدبي ما دون تغيير أو تعديد أو تطوير طوال كل هاتيك القرون الشاسعة، وهناك مقال لـ"ماتيا كافانيا" يتناول بعض الأعمال الأدبية الفرنسية المعاصرة، فيعدها من الملاحم رغم أنها لا تتوفر فيها كل العناصر الملحمية، ذلك أن هذه الأعمال قد ساهمت في إحداث ذلك التغيير، الذي كان من جرائه أن أصبحت الملاحم تُكتب نثرًا، بعد أن كانت على الدوام تصب في قالب الشعر علاوة على غلبة الطابع العاطفي عليها.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 138