الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
(المواقف الأدبية)
تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا
المواقف الأدبية
وقبل كل شيء أود أن أتريث قليلًا عند مصطلح "الموقف" لنلم بتعريفه؛ إذ هو أساس هذا الدرس، ولا بد من تحرير الأساس قبل أن ننطلق في حديثنا حول بعض الأمور التي تتعلق به، كي يكون كلامًا واضحًا ومحددًا، وقد علمونا في مثل هذه المناسبات أن نبدأ بتعريف اللفظ تعريفًا لفظيًا أولًا قبل أن نتبعه بالتعريف الاصطلاحي، ثم نحاول أن ندرك السر وراء استعمال هذا اللفظ بهذا المعنى الاصطلاحي.
فأما التعريف اللغوي لكلمة موقف:
فقد رجعت فيه إلى طائفة من المعاجم اللغوية القديمة والحديثة، وقد وجدتها جميعًا تذكر أن "الموقف" هو: اسم المكان من وقف، ثم يتبع بعضُها ذلك بالإشارة إلى موقف المرأة أي وجهها، وقدميها أو عينيها ويديها. أما المعاجم الحديثة؛ فإن بعضها يعرف الموقف بأنه: ما يتخذه الإنسان من وضع تجاه مسألة أو شخص أو قضية أو جماعة
…
إلى آخره.
ففي (القاموس المحيط) وهو مثال على القواميس القديمة، نقرأ أنّ الموقف هو: محل الوقوف ومحلة بمصر. ومن الفرس هو: الهزمتان في كشحيه أو نقرة الخاصرة على رأس الكلية، وامرأة حسنت الموقفين أي: الوجه والقدم، أو العينين واليَدين، وما لا بد لها من إظهاره.
وفي معجم (الغني) من المعاجم الحديثة: "موقف" جمع واقف، يقولون عبر عن موقفه بشجاعة، ومعنى ذلك استعداد نفسي، أو رأي إزاء شخص أو قضية ما، يُعبر فيه صاحبه عما يشعر به.
وموقف حَرِجٌ وموقف عدائي، استطاع أن يسيطر على الموقف كليًّة وبصرامة وحزم، الموقف موقف عمل لا موقف كلام، ولها معنى آخر: اتخذ الحزب مواقف حازمة أي: قرارات. يوم الموقف العظيم هو يوم الحشر، موقف السيارات هو محل وقوفها.
وقد بحثتُ في القرآن المَجيد وفي الأحاديث الشريفة؛ فأما القرآن فليس فيه كلمة موقف، وأما في أقوال النبي فهناك بضعة أحاديث بعضها حسن وبعضها ضعيف وبعضها لا يصح، تدل على أن العرب قد عرفوا للفظة الموقف منذ ذلك الوقت المبكر، المعنى المشهور الذي تدل عليه تلك اللفظة الآن.
أي: الوَضْعُ الذي يتخذه الإنسان تجاه قضية أو شخص
…
إلى آخره. وهو معنى لم تورده تلك المعاجم القديمة على خلاف المعاجم الحديثة، وهذا أمر طبيعي إذ إنها إنما وضعت بعدما استفاض استعمال الكلمة في ذلك المعنى.
ويتضح لنا كذلك أن لفظة موقف في الأحاديث التي أشرت إليها يتفق مع المعنى الذي صرنا نستعمله فيه، وفيه وحده في الغالب، وهو الوضع الذي ير في الإنسان فيه وجه، عليه أن يوجهه بالخروج بأكبر قدر من المكاسب، أو على الأقل دون خسائر، أو بأقل القليل بأهون قدر منها. وقد يكون الموقف فرحة أو أملًا أو شعورًا بالإحراج أو حزنًا أو يأسًا أو ضبطًا في وضع مخل
…
إلى آخر تلك الأوضاع وما أكثرها.
ومعروف أنّ الإنسان إذا ما حزبه أمر ما، أو اجتاحه إحساس بالسعادة، وأراد أن يقدم على فعل شيء جراء هذا؛ فإنه إن كان يتحرك وقف ليعطي لنفسه فرصة التفكير المتأني، ومن هنا سموا اتخاذ القرار في مثل تلك الحالة موقفًا، بل لقد عَمّموا إطلاق هذه التسمية بحيث تشمل أيضًا الوضع الذي يستحث الإنسان إلى اتخاذ القرار، وهذا هو الأصل الذي انطلق منه كذلك معنى المصطلح في الأعمال الأدبية من قصة، أو رواية أو مسرحية على ما سوف نرى.
وقد قَلّبتُ في بعض المعاجم الأدبية والنقدية والصوفية، فلم أجد لهذا المصطلح أثرًا في قاموس المصطلحات الصوفية لابن الحمد مثلًا، ولا في معجم اصطلاحات الصوفية كعبد الرازق الكاشاني، ولا في معجم النقد العربي القديم للدكتور أحمد مطلوب.
ولكن ليس معنى هذا أن العرب القُدَماء ولا من سبقهم ممن كتبوا في النقد والبلاغة كالإغريق مثلًا يعرفه مفهوم الموقف على الإطلاق، ففي البلاغة مثلًا: هناك ما يسمونه مقتضى الحال. أي: الظروف التي ينبغي أن يراعيها الخطيب أو
الكاتب عند خطابته أو كتابته، بمعنى السياق الذي يحيط به عندئذ؛ أو فلنقل: الموقف.
وقد أشار إلى هذا الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه (المواقف الأدبية) إذ كتب ما نصه: "وقديمًا ذكر أرسطو الموقف، وهو في سبيل الحديث عن الفكرة في المأساة في كتابه (فن الشعر) إذ يقول: وأعني بالفكرة القدرة على إيجاد اللغة التي يقضتيها الموقف، وتتلاءم وإياه". ففي هذا النص الموقف معناه قديم، ولا يقصد به أرسطو أكثر من مراعاة مقتضى الحال في البلاغة. وهو ما قاله نقاد العرب كذلك من بعده، وإن لم يبلغوا مدى أرسطو في تفصيل وجوه هذا المقتضى على حسب الأجناس الأدبية؛ من مسرحيات، وملاحم، وخطابة، وما يستتبع ذلك من اعتبارات كثيرة فنية.
و"مقتضى الحال" هذا هو ما نص عليه أفلاطون أستاذ أرسطو في كتابه "الفيدروس" حيثُ تَحدّث عن مُرَاعاته في الخطابة قائلًا: فإذا كانت وظيفة الخطابة هي قيادة النفوس بمعرفة الحقيقة؛ فعلى المرء لكي يكون قادرًا على الخطابة أن يعرف ما للنفوس من أنواع، وعلى قدر هذا الأنواع تكون الصفات، وهو ما يختلف به الناس في أخلاقهم، ولكل حالة نفسية نوع خاص من الخطابة؛ فعليّ إذن كي أوجد في النفوس نوعًا من الإقناع، أن أفرق بين كلامهم وطبيعتهم، وإذا توافرت للمرء هذه المبادئ عرف متى يجب أن يتكلم، ومتى يجب أن يمتنع عن الكلام، ومتى يليق به أو لا يليق أن يكون موجزًا، أو مثيرًا، أو مبالغًا. أما قبل الوقوف على هذه المبادئ؛ فلا وسيلة له إلى التعرف على ذلك".
والموقف في معناه السابق عند أفلاطون وأرسطو والعرب؛ ليس من الاصطلاحات الفنية أو الفلسفية، ولا يُستطاع في نطاق هذا العموم لمفهومه أن
نحدد صلاتًا أدبية أو فنية، تَقُوم عَليها دراسات نقدية عميقة ذات شأن سَواءٌ في الأدب القومي أو الأدب العالمي، ولم يُحاول أحدٌ من نُقّاد الأدب ودارسيه أن يقوم بتلك الدراسة في نطاق ذلك المفهوم القديم للموقف. كما أنه بهذا المعنى لا يمكن أن يكون أساسًا للدراسة النقدية المقارنة، وهي الدراسات الحديثة المثمرة. هذا ما قاله الدكتور محمد غنيمي هلال.
إلا أنّ هُناك الآن نَظرِيّة نقدية مُهِمّة تُسَمّى نَظرية السِّياق، وتقتضي هذه النظرية أنْ يُفهم النّص في سياقه الذي أبدع فيه، كي يتسنّى فهمه فهمًا صحيحًا، أو على الأقل كي يتسنى فهمه فهمًا أفضل، صحيح أن الغاية من هذه النظرية ليست هي الغاية المفهوم مراعاة مقتضى الحال في البلاغة والنقد القديم، لكن الأمرين مع ذلك يتقاطعان، فضلًا عن أنهما ينطلقان من نقطة واحدة ألا وهي نقطة السياق؛ الذي بدونه في النظرية المذكورة لا يمكن فهم النص أصلًا، أو في أقل القَليل لا يمكن فهمه الفهم الدقيق.
والذي بدونه في مفهوم مقتضى الحال، لا يمكن إصابة الهدف المتهيئ من وراء عملية الإبداع، أو على الأقل لا يمكن إصابته على وجه الدقة.
ثم يضيف هلال مبينًا بداية استعمال هذا المصطلح بمعناه النقدي، الذي نحن بصدده الآن فيقول: وأوّل مَنْ بَحَث في المواقف الأدبية في المسرحيات هو الناقد والشاعر الإيطالي "كارلو جوزي" في القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، وقد انتهى إلى حصر المواقف المسرحية في جميع أنواع المسرحيات، وفي كل الآداب في ستة وثلاثين موقفًا.
وقد ناقش المسألة الشاعر الألماني "جوته" مع صديقه وأمينه "إكرامان" فأقرّ العدَدَ الذي انتهى إليه "كارمن جوزي" ثم جاراهما ناقد فرنسي هو جورج
بوتيه، في كتاب له عنوانه (المواقف المسرحية الستة والثلاثون) وظهرت الطبعة الأولى منه عام ألف وثمانمائة وخمسة وتسعين، والثانية عام ألف وتسعمائة وأربعة وثلاثين.
وفي كل هذه الدراسات لم يتحدد معنى الموقف الأدبي، ولا الموقف المسرحي، تحددًا فنيًّا مثمرًا، عميقَ الدّلالة والأثر، وتُعَدّ دراسات جورج بورته حصيلة لما سبقها من دراسات، وفيها يخلط بين الحدث والموضوع والعواطف والشخصيات، دون إبانة عن معنى عام، يَرجعُ إليه الموقف، وبه يتحدد؛ فمثلًا من بينَ المواقف التي يعدها "جورج بورتي" مُنافسة بين أشخاص غير متكافئين، ومُنافسة الأقارب، ومُحاولات تتسم بالجرأة، وقتل أحد الأقارب المجهولين، والاختطاف، والزواج ممن لا يحل الزواج منه، والزواج غير المشروع الذي يسبب جرائم القتل، وجرائم الحب غير الإرادية، وواضح أنه في المواقف السابقة يفهم من الموقف معنى الحدث العامة.
وهذه الأقسام بالإضافة إلى غموضها متداخلة؛ فالاختطاف مثلًا يدخل في المحاولات المتسمة بالجرأة، وواضح أنّ الأقسام الثلاثة الأخيرة متداخلة بعضها مع بعض، هذا إلى أنه يمكن أن تندرج منافسة الأقارب، ومنافسة الأشخاص غير المتكافئين في المنافسة المطلقة، وهي التي أفردها بعد ذلك موقفًا خاصًّا، ثم عَدّل مع ذلك مواقف ليست في الحقيقة سوى عواطف للشخصيات مثل: الحقد على الأقارب، والطمع والغيرة الخاطئة والجنون. فمثل هذا التقسيم إذا ما يصلح أساسًا لتحديد التأثير الفني للمواقف.
ثم إنّ هذا التقسيم غير شامل؛ فإنّ المَوَاقِفَ لا تتفاوتُ على حسب الأجناس الأدبية والمذاهب الفنية فحسب، بل تتفاوت كذلك على حسب موقف الكاتب