الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالإبداع الأدبي مأخوذ من الآخرين، والآخرون أخذوا إبداعاتهم الأدبية ممن سبقهم وهكذا، ولكن بشرط أن نفهم أن الأديب في هذه الحالة آخذ فقط بل إنه يضيف إلى ذلك شخصيته، إذ يعيد تنظيم كل شيء ويخرجه إخراجًا جديدًا، عليه طابعه، وقد يضيف أشياء تبد صغيرة ولكنها هي العبقرية مجسمة.
تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها
وتتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها:
فقد يقصد الباحث إلى البحث عن مصادر مؤلف واحد من مؤلفات كاتب ما، وفي هذه الحالة ربما يكون الكاتب قد استعار من أدب آخر موضوع الكتاب، أو بعض المواقف الخاصة فيه، أو بعض الأفكار والتعبيرات، أما عن الموضوع فيغلب أن يستعار في باب القصص وفي المسرحيات، وقد استعار الأدب الفرنسي الكلاسيكي أكثر موضوعاته المسرحية والقصصية، إما من الآداب القديمة اللاتينية واليونانية، وإما من الأدب الأسباني ومع ذلك صبغها الأدباء الفرنسيون بصبغة وظهر بها طابعهم الخاص.
وقد أفاد كِبارُ كُتّابنا أيضًا مثل الدكتور طه حسين وتوفيق الحكيم من آداب الغرب في ميدان القصص والمسرحيات، وظهرت أصالتهم إلى جانب تأثرهم، بل ظهرت تلك الآثار -كما يقول الدكتور غنيمي هلال- بفضل تأثرهم؛ لأنهم لو لم يتأثروا ويقرءوا ويطلعوا على أدب الآخرين؛ فكيف كانوا يستطيعون أن يبدعوا؟ وكيف كانت عبقريتهم قمينة أن تظهر؟
وقد يكون موضوع الكاتب جديدًا، ولكن لا يستغنى فيه عن أن يستعير بعض المواقف أو بعض الأفكار الخاصة والتفصيلات من أدب لآخر، وقد يدهش القارئ ليرى
أحيانًا البعد شاسعًا بين الكاتب والأدب الذي اقتبس منه، في الزمن والبلد والموضوع، فقد اقتبس الكاتب البلجيكي "مترنك" في مسرحيته التي ظهرت عام ألف وثمانمائة واثنين وتسعين واسمها "بلياس وميليزان" من الشاعر الفارسي الفردوسي في "الشاهنامه" التي يرجع تأليفها إلى أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر الميلاديين.
وإليكم مثلين من "الشاهنامه" استعارهما الكاتب البلجيكي لمسرحيته المشار إليها، ففي المثال الأول يذكر الفردوسي كيف بكر القائد "لياتوس" مرحًا إلى الصيد على صياح الديكة في جمع من رفقته، فلما توغلوا في الغابة بصروا بفتاة فاتنة الخدين رائعة الجمال في طلعة كالبدر، وقامة كشجر السرو فتوجه "لياتوس: قائلًا: أنت يا ذا الطلعة الفاتنة، لماذا جئت هذه الغابة؟ فأجابت: قد ضربني البارحة أبي، فهربت هائمة على وجهه كانت قد عاد ثملًا في جنح الظلام، من حفلة عرس، فما إن رآني حتى علاه الغضب فأخرج خنجرًا ماضيا يريد به أن يفصل رأسي من جسدي، ثم تشرح كيف هرب من مال كثير، وبتاج من ذهب أخذه منها الحرس بعد أن ضربوها بقراب السيف.
وفي المثال الثاني يذكر الفردوسي أن "ذال" البطل ذا الشعور الفضية التي ربته العنقاء فوق ذروة الجل كان يحب "روات بي" وهي الفتاة ذات المحيَّا السحري، وذات يوم قد ذهب إلى قصرها ولم يكن قد رآها من قبل وظهرت "روات بى" ذات العيون السوداء، والخدود الوردية في شرفة من شرفات القصر وقف تحتها ذال فأضاءت بطلعتها الشرفات كلها، وبدت الأرض مثل ياقوتة تحت إشعاع خديها، ثم حلت
ضفائر شعرها ونشرتها فاسترسل، ووصل من أعلى القصر حتى غطى وجه "ذال" كأنه ضفائر مجدولة من المسك، وأخذ "ذال" يغطي شعرها بقبلاته حتى كانت تسمع صوت تلك القبلات من أعلى القصر.
وفي رواية الكاتب البلجيكي نجد أن الأمير "جولوا" يكتشف وهو يصيد في الغابة فتاة جميلة على شاطئ بحيرة، وتلك الفتاة هي "ميلزاند" فيسألها عن سبب بكائها وعما إذا كان قد نالها بالأذى أحد، فتجيبه نعم، فيسألها من؟ فتجيبه كل الناس، فيسألها وماذا نالك منهم من شر؟ فتجيب: لا أريد أن أقول ولا أستطيع، فيسألها من أين أنت؟ فتجيب قد هربت قد هربت، فيسألها: وما هذا الشيء يتلقى بريقه في ماء البحيرة فتجيب: إنه التاج الذي أعطانيه قد سقط أثناء بكائي، فيقول: تاج ومن أعطاك هذا التاج؟ سأخرجه من الماء، فتصيح لا لا لقد زهدت فيه، وأفضل أن أموت في الحال على أن أضعه فوق رأسي.
ثم يذهب باليأس الحبيب إلى البرج الذي تسكنه "ميلزاند" فتطل عليه من إحدى الشرفات وتميل برأسها نحوه، فتتهدل شعورها الطويلة عليه وتسترسل حتى تصل من أعلى البرج إليه، ويقول: إن شعورك تنزل نحوي إنها تنسدل كلها من البرج علي أمسكها بيدي، وأمسها بشفتي، وأحتضنها بذراعي، وأنثرها حول عنقي، لم أر من قبل شعورًا مثلها "ميلزاند"، انظري إنها تهبط من الأعلى وتغمرني حتى قلبي، إنها ترعش وتضطرب وتخفق بيدي كأنها طيور ذهبية.
إن التشابه -كما يقول الدكتور هلال- واضح بين النصين تمام الوضوح، ولا مجال للشك في أنّ الفردوسي كان مصدر الكاتب البلجيكي فيهما، ولا يتسع المقام هنا لشرح الطريق الذي عرف منه "ماترنك" الشاعر الفارسي، ولا لبيان