الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فصل) في صدقة التطوع
.
وهي المراد عند الإطلاق غالباً، وهي سنة مؤكدة؛ للأحاديث الشهيرة فيها، منها، الخبر الصحيح:"كل امرء في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس".
وقد تحرم، كأن ظن أن آخذها يصرفها في معصية.
وقد تجب كأن يجد مضطراً ومعه ما يطعمه فاضلاً عنه، لكن قد ذكروا أنه لا يجب بذله له إلا ببدله.
قال في "التحفة": والحاصل: أنه يجب البذل هنا -أي: للمحتاجين- من غير اضطرار بلا بدل، لا مطلقاً، بل مما زاد على كفاية سنة، وثم -أي: في المضطر- يجب البذل بما لم يحتجه حالاً ولو على فقير، لكن بالبدل.
(والأفضل الإسرار بصدقة التطوع)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عدَّ من السبعة الذين يستظلون بظل العرش من أخفى صدقته حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه.
نعم؛ إن أظهرها مقتدى به؛ ليقتدى به، ولم يقصد نحو رياء، ولا تأذى به الآخذ .. كان أفضل.
وجعل بعضهم من الصدقة الخفية أن يبيع مثلاً درهمين بدرهم،
(بخلاف الزكاة) فإظهارها للإمام، وكذا للمالك أفضل.
وقد ذكرت في "الأصل" من يستظل بالعرش، وهم سبعون.
(و) الأفضل (التصدق على القريب)؛ لأنه أولى من الأجنبي، والأفضل تقديم (الأقرب) فالأقرب من المحارم وإن لزمته نفقتهم (والزوج) أو الزوجة، فهما في درجة الأقرب، كما في "الشرح". وفي"التحفة": ثم الزوج أو الزوجة.
(ثم) بعد ما ذكر (الأبعد) من الأقارب، يقدم منهم الأقرب فالأقرب رحماً؛ والرحم من جهة الأب والأم سواء (ثم محارم الرضاع، ثم المصاهرة، ثم الولاء) من الجانبين، كأن زوج عتيقه بعتيقته، فولاء ولدهما له من الجانبين، ثم من جانب.
(و) الأفضل (الجار) فرحمه الجار أولى من رحم لا جوار له، ولذا لم يعطف فيه وما بعده بـ (ثم)؛ لأنهم يكونون من الأقارب وغيرهم والجار الأجنبي أولى من قريب بمحل لا يجوز نقل زكاة المتصدق إليه، وإلا .. قدم القريب.
(و) الأفضل التصدق (على العدوّ) القريب، ثم الأجنبي، والأشد عداوة أولى؛ لما فيه من التأليف وكسر النفس.
(و) على (أهل الخير) و (المحتاجين)؛ إذ هما أولى من غيرهما وإن اختص الغير بقرب ونحوه، وكان عبد الله بن المبارك يخص طلبة العلم بصدقته.
(و) الأفضل كون تصدقه (في) سائر (الأزمنة الفاضلة، كالجمعة) ورمضان، لاسيما عشره الآخر؛ لخبر أبي داوود بذلك، وللعجز عن الكسب فيه.
ويليه عشر ذي الحجة (والأماكن الفاضلة) كمكة، فالمدينة، فبيت المقدس.
والمراد: أنه إذا حصلت تلك الأزمنة والأمكنة .. تأكدت الصدقة فيها، لا أنه يسن التأخير لها إليها.
(وعند الأمور المهمة كالغزو والكسوف والمرض والحج) والسفر؛ لأنها أرجى للقبول وقضاء الحوائج، وكشف الكرب، وعقب كل معصية.
(وبما يحبه)؛ لآية (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران:92].
وتكره برديء عرفاً إن وجد غيره، كمسوس حب، لا بنحو فلس وثوب خلق كما في "الإيعاب"، وبما فيه شبهة.
وينبغي أن يأنف من التصدق بقليل؛ إذ ما قبله الله كثير، ولآية (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه) [الزلزلة:5]، وخبر:"اتقوا النار ولو بشق تمرة"، وغيرها.
وأن يتصدق بثويه إذا لبس جديداً غيره، ويقول عند لبسه: الحمد لله الذي كساني ما أواري به سوأتي، وأتجمل به في حياتي.
(و) أن يكون تصدقه بالبسملة و (بطيب نفس، وبشر)؛ لما فيه من تكثير الأجر وجبر القلب، وأن لا يطمع في دعاء المعطى، فإن دعا له .. ندب الرد عليه.
ويكره الأخذ بمن بيده حلال وحرام كسلطان جائر، وتشتد الكراهة وتخف بكثرة الشبهة وقلتها، ولا يحرم إلا ما تيقن حرمته ويمكن معرفة صاحبه.
وإنما لم يحرم؛ لأن الأصل المعتمد في الأملاك اليد، ولم يثبت أصل آخر فيه يعارضه، فاستصحب ولم يبال بغلبة الظن.
(ولا يحل التصدق بما يحتاج إليه لنفقته) إن لم يصبر على الإضاقة (أو نفقة من عليه نفقته)؛ لخبر: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت"، ولأن كفايتهم فرض، وهو لا يترك لسنة، وكالنفقة بقية المؤن.
وخرج بـ (الصدقة): الضيافة، فتجوز ولو بقوته وقوت عياله؛ لتأكدها، حتى ذهب جمع إلى وجوبها.
لكن حمل في "الإيعاب" وغيره الجواز على ما إذا لم يتضرر الممون، أو علم رضاه وكان الضيف محتاجاً.
ولا يرد أن كثيراً من السلف تصدقوا بما يحتاجونه لعيالهم؛ لأنه يحتمل رضاهم وصبرهم.
وإنما تحرم بما يحتاج إليه هو، أو ممونه (في) مؤن (يومه وليلته) وكسوة الفصل، لا بما زاد على ذلك، كما يأتي.
(أو) بما يحتاج إليه (لدين لا يرجو له وفاء) من جهة ظاهرة ولو عند حلول المؤجل.
نعم؛ الواجب لا يجوز تركه لسنة.
ومع حرمة التصدق بما ذكر، يملكه المتصدق عليه؛ لأن الحرمة لأمر خارج عن الصدقة كما في "التحفة" و"النهاية"، بل ألَّف (حج) في ذلك مؤلفاً بسيطاً سماه:"قرة العين ببيان أن التبرع لا يبطله الدين".
وجرى جمع أنه لا يملكه، منهم:(حج) في "الشرح"، و"الفتح"، وعبارتهما:(وحيث حرم التصدق بشيء لا يملكه المتصدق عليه، زاد في "الفتح": كما بينته في "الأصل" مع فروع أخر) اهـ
واعتمده جمُّ غفير منهم: ابن زياد، وبالغ في الرد على (حج)، وألف في ذلك أربعة مؤلفات.
أمَّا إذا ظن وفاءه من جهة ظاهرة ولو عند حلول المؤجل .. فلا بأس بالتصدق، بل قد يسن.
نعم؛ إن وجب أداؤه فوراً؛ لطلب صاحبه أو لعصيانه به ولم يعلم رضا صاحبه بالتأخير .. حرم قبل وفائه.
(ويستحب) التصدق (بما فضل عن حاجته) وحاجة ممونه يومهم وليلتهم وكسوة فصلهم ووفاء دينه مطلقاً.
وفي وجه: (إذا لم يشق عليه الصبر على الضيق) ولا عليهم على الأصح؛ لأن الصديق رضي الله عنه تصدق بجميع ماله، وقبله منه صلى الله عليه وسلم.
فإن شق الصبر عليه .. كره؛ للخبر الصحيح: "الصدقة من كان عن ظهر غنى"، أي: غنى النفس، وهو صبرها على الفقر.
وبهذا التفصيل جمعوا بين الأحاديث المختلفة الظواهر، كهذا الحديث، وخبر أبي بكر السابق.
نعم؛ يلزم الموسر -وهو هنا من معه زائد على كفاية سنة- المواساة لأهل الحاجات بما زاد على كفاية سنة بنحو إطعام جائع، وإكساء عار، وتجهيز ميت لا تركة له، وغير ذلك مما به دفع ضرورات المسلمين.
(ويكره) للمتصدق (أن يأخذ صدقته) أو نحوها، كزكاته وكفارته ونذره (ممن أخذ) ذلك (منه ببيع أو غيره)؛ لأن (العائد في صدقته كالكلب العائد لقيئه) كما في الحديث.
وخرج بـ (يأخذ) المشعر بالاختيار: ما لو ورثها، فلا يكره له التصرف فيها، وما لو أخذها من غيره .. فلا يكره.
ولو بعث لفقير صدقة أو زكاة .. لم يملكه إلا بقبضه، فإن لم يأخذ الصدقة .. سن له التصدق بها على غيره؛ لئلا يكون في معنى العائد في صدقته.
(ويحرم السؤال على الغني بمال أو حرفة) تليق به ولم تشق عليه مشقة لا تحتمل عادة، ويكفيه وممونه دخلها.
فإن اختل شرط من ذلك .. جاز له السؤال، وله أن يسأل ما يحتاج إليه بعد يوم وليلة إلى وقت يعلم فيه تيسر ما يكفيه بسؤال أو غيره، وهذا في غير سؤال ما اعتيد سؤاله بين الأصدقاء كقلم وسواك، وإلا .. فلا حرمة مطلقاً في سؤاله.
ولا يحرم على الدافع الدفع ولو لمظهر فاقة مع علمه بغناه وإن كان الدفع لغيره أفضل.
ومن أعطي لوصف ظن اتصافه به كفقر أو صلاح، بأن توفرت له القرائن أنه إنما أعطي لذلك، أو صرح له المعطي بذلك، وهو باطناً بخلافه، أو به وصف باطناً، لو اطلع عليه المعطي لم يعطه .. حرم عليه الأخذ، ولا يملك ما أخذه.
وكذا لو علم إنما أعطاه؛ لباعث الإلحاح، أو الحياء منه أو من الحاضرين، ولولاه لما أعطاه .. فهو حرام، يلزمه رده.
ويكره السؤال بوجه الله تعالى ما يتعلق بالدنيا، لا ما يتعلق بالآخرة، كتعليم خير.
(والمن بالصدقة) حرام (يبطلها)؛ لآية (لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى)[البقرة:264]، ولخبر مسلم:"ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم"، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال:"المسبل، والمان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة".
(وتتأكد) الصدقة (بالماء)؛ لخبر: "أي الصدقة أفضل؟ قال: "الماء"، أي: إن كان الاحتياج إليه أكثر من الطعام، وإلا .. فهو أفضل، ولخبر: "من أطعم جائعا .. أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً على ظمأ .. سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، ومن كسى مؤمناً عارياً .. كساه الله من خضر الجنة" رواه أبو داوود، والترمذي باسناد جيد.
(والمنيحة) وهي: الشاة ونحوها اللبون، بأن يعطيها المحتاج؛ ليأخذ لبنها ما دامت لبوناً، ثم يردها إليه؛ لما في ذلك من مزيد البر والإحسان.
ويستحب أن لا يخلي يوماً من الصدقة بشيء وإن قل؛ لما مر، ولخبر البخاري:"ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وفيه ملكان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً".
وأخذ الزكاة للفقير أسلم من أخذه الصدقة والهدية؛ إذ الزكاة لكل فقير ولو عاصياً.
والصدقة والهدية قلَّ أن يسلم آخذها من أمر لو اطلع عليه المعطي .. لم يؤثره بها، والله سبحانه أعلم.
* * *