الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(باب الأضحية)
(هي) -بضم الهمزة وكسرها مع تشديد الياء وتخفيفها- ما يذبح في الزمن الآتي؛ تقرباً إلى الله تعالى.
والأصل فيها قبل الإجماع: الكتاب والسنة، ومن ذلك (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2]، أي: صلِّ العيد وانحر النسك، وخبر مسلم:(أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين)، وخبر "ما عمل ابن آدم يوم النحر من عمل أحب إلى الله من إراقة الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وإن الدم يقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً"، وخبر "عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم".
ومذهبنا أنها (سنة) في حقنا (مؤكدة) ولو لمن بمنى وإن أهدى؛ لخبر الترمذي: "أمرت بالنحر، وهو سنة لكم" وغيره.
ويكره لمن تسن له تركها؛ للخلاف في وجوبها، ومن ثم كانت أفضل من صدقة التطوّع.
وإنما تسن لحر أو مبعض مسلم رشيد، نعم؛ لأصل قادر بأن ملك زائداً عما يحتاجه يوم العيد وليلته وأيام التشريق ما يحصل به الأضحية كما في (بج)، تضحية عن فرعه من مال نفسه.
ثم هي إن تعدد أهل البيت سنة كفاية.
وتجزئ من رشيد منهم ولو غير من تلزمه النفقة كما في "التحفة" وغيرها، وإلا .. فسنة عين.
وفي "التحفة": يحتمل أن المراد بأهل البيت: أقاربه الرجال والنساء، كما قالوه في الوقف على أهل بيته، ويوافقه ما مر أن أهل البيت إن تعددوا .. كانت سنة كفاية، وإلا .. فسنة عين.
فمعنى كونها سنة كفاية مع كونها تسن لكل منهم: سقوط الطلب بفعل الغير لها، لا حصول الثواب لمن لم يفعل.
وفي تصريحهم بندبها لكل واحد من أهل البيت ما يمنع أن المراد بهم المحاجير؛ لعدم توجه الطلب إليهم.
ويحتمل أن المراد بهم ما يجمعهم نفقة منفق واحد ولو تبرعاً وفرق بين ما هنا والوقف.
وفي (م ر) أهل البيت: من يلزم نفقتهم وإن تعددت البيوت، وأنه لو أشرك غيره في ثوابها .. جاز.
قال (ع ش): ولو بعد نيته التضحية لنفسه.
وفي "التحفة": وهو ظاهر في الميت؛ قياساً على التصدق عنه.
و (لا تجب) الأضحية (إلا بالنذر) كسائر القرب، كـ (لله عليَّ)، أو (عليَّ أن أضحي بهذه أو بشاة)، أو (إن ملكت شاة .. فعليَّ أن أضحي بها)، بخلاف:(إن ملكت هذه .. فعلي أن أضحي بها)؛ لأن المعين لا يثبت في الذمة.
(وبقوله: "هذه أضحية"، أو "جعلتها أضحية")؛ لزوال ملكه عنها بمجرد التعيين، كما لو نذر التصدق بمال عينه، ولزمه ذبحها في وقتها أداء.
وإنما لم يزل ملكه عن قِنًّ نَذَرَ أن يعتقه إلا بإعتاقه وإن لزمه؛ لأن الملك هنا ينتقل للمساكين، وثَمَّ لا ينتقل، بل ينفك عنه اختصاص الآدميين.
وإنما لم يجب الفور في أصل النذور والكفارات؛ لأنها مرسلة في الذمة وما هنا في عين، وهي لا تقبل التأخير كما لا تقبل التأجيل.
وألحق به ما في الذمة، كعليَّ أن أضحي بشاة؛ لأن الغالب هنا التعيين.
وخرج بقوله: (هذه أضحية) نية ذلك بلا لفظ فلغو، ولا يحتاج مع قوله: هذه أضحية لنية، بل لا عبرة بنية خلافه؛ لأنه صريح.
فما يقع في العامة من قولهم: (هذه أضحية) جاهلين ما يترتب على ذلك، بل وإن قصدوا الإخبار .. تصير به منذورة كما في (حج) و (م ر).
لكن قال السيد عمر البصري: محله ما لم يقصد الإخبار، وإلا .. لم تتعين وفي "الأصل" زيادة بسط هنا، ولو زال وقت المنذورة .. لزمه ذبحها قضاء، وتصرف
مصرفها، فإن تلفت أو تعيبت .. فلا شيء عليه إن لم يفرط ولم يؤخرها عن وقتها بلا عذر، أو أتلفها أو قصر .. ضمنها بالأكثر من قيمتها يوم تلفها، ومن مثلها يوم النحر، ولزمه إذا لزمته القيمة أن يشتري بها مثلها جنساً ونوعاً وسِنّاً.
ولو نذر التضحية بمعيبة .. لزمه ذبحها وصرفها مصرف الأضحية، ولا تجزئه أضحية، بخلاف ما لو نذر سليمة ثم تعيبت .. فتصح بها، وتثبت لها أحكام التضحية.
(ولا يجزئ) في الأضحية (إلا الإِبل والبقر) الأهلية (والغنم)؛ لأن التضحية بغيرها لم تنقل.
لكن قال -حافظ عصره- ابن حجر: يعكر عليه ما ذكره السهيلي عن أسماء، قالت:(ضحيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل)، وعن أبي هريرة:(أنه ضحى بخيل).
وقال في "التحفة": للاتباع، وكالزكاة، فلا يجزئ غيرها ولا متولد بينها وبين غيرها، بخلاف متولد بين نوعين منها على الأوجه، فيعتبر سنه بأعلاهما كسنتين في متولد بين ضأن ومعز أو بقر، ولا يجزئ إلا عن واحدٍ وإن كان بصورة البقر.
وكالأضحية الهدي، والعقيقة، وجزاء الصيد.
(وأفضلها:) للواحد عند الانفراد، فلا ينافي أنَّ سبع شياه أفضل من البدنة.
(بدنة، ثم بقرة، ثم ضائنة، ثم عنز)؛ لأن كلاً أكثر لحماً مما بعده، ثم شرك من بدنة، ثم من بقرة، ولا تجزئ شاتان لاثنين أضحية عنهما.
(وسبع شياه) من الضأن أفضل من سبع من المعز.
وسبع من المعز (أفضل من البدنة) والبقرة، وإن كان كل منهما أكثر لحماً؛ لطيب لحم الشياه مع تعدد إراقة الدم، بخلاف دون السبع.
فالبدنة أفضل منه، وكثرة الثمن أفضل من كثرة العدد، فسمينة أفضل من هزيلتين وإن كانتا ذكرين، وبلون أفضل، وكثرة اللحم أفضل من كثرة الشحم.
(وأفضلها:) من حيث اللون (البيضاء، ثم الصفراء، ثم العفراء) وهي ما لا يصفو بياضها.
(ثم البلقاء) وهي ما بعضها أبيض وبعضها أسود (ثم السوداء، ثم احمراء).
والمعتمد: تقديم الحمراء على البلقاء.
والفضل في ذلك، قيل: للتعبد، وقيل: لحسن المنظر، وقيل: لطيب اللحم، وورد:"لدم عفراء أحب إلى الله من سوداوين".
والذكر ولو بلون مفضول أفضل من الأنثى ولو بلون فاضل إن لم يكثر نزوانه، إلا .. فأنثى لم تلد أفضل؛ لأنها أطيب وأرطب لحماً منه، فإن ولدت .. فالذكر أفضل منها مطلقاً.
وما جمع ذكورة وسمناً وبياضاً أفضل مطلقاً، ثم ما جمع ثنتين، ويظهر عند تعارضهما تقديم السمن، فالذكورة، قاله (حج).
وظاهره: أنَّ ما فيه بياض وذكورة أفضل من سمينة خلت عنهما.
وقد ينافيه ما مرَّ من أن سمينه أفضل من هزيلتين، وخصي أفضل من ذكر ينزو.
(وشرطها من الإبل: أن يكون لها خمس سنين تامة، ومن البقر والمعز) أن تبلغ (سنتين تامتين، ومن الضأن) أن تبلغ (سنة تامة) أو تجذع، أي: يسقط سنها ولو قبل السنة كالزكاة في جميع ذلك.
لكن في "مسلم": "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم .. فاذبحوا جذعة من الضأن"، وتأوَّله الجمهور بحمله على الندب، ونظر فيه في "التحفة"، فالتي لها سنة مقدمة ولو ندباً على الجذعة.
ومحل تقديم الضأن على المعز: إن استويا.
(و) شرطها أيضاً: حيث لم يلتزمها ناقصة فقد عيب ينقص لحماً حالاً، كقطع فلقة كبيرة مطلقاً، أو صغيرة من نحو أذن، كما يأتي.
أو مآلاً كـ (أن لا تكون جرباء وإن قل) الجرب أو رجي زواله؛ لأنه يفسد اللحم والودك وينقص القيمة.
وحذف في "التحفة" نقص القيمة؛ إذ العيب هنا ما ينقص اللحم لا القيمة، وألحق به الشلل والقروح والبثور.
(ولا شديدة العرج) بأن تسبقها الماشية للمرعى الطيب، ومثله بالأَوْلى كسر بعض الأعضاء.
(والعجفاء) وهي التي ذهب مخها من الهزال، بحيث لا يرغب في مثلها غالباً؛ لما صح:"أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والكسيرة".
وفي رواية: "والعجفاء التي لا تنقى" من: (النقي) -بكسر النون وسكون القاف- وهو المخ.
(ولا مجنونة) أي: ثولاء -بفتح المثلثة- إذ حقيقة الجنون: ذهاب العقل ولا عقل لها؛ للنهي عنها، ولأنها تترك الإكثار من الرعي فتهزل.
وفي "القاموس"(الثول): استرخاء أعضاء الشاة خاصة، وكالجنون يصيبها فلا تتبع الغنم.
(ولا عمياء ولا عوراء) وإن بقيت الحدقة، وتجزئ عمشاء وعشواء، وهي: التي لا تبصر ليلاً، ومكوية.
(ولا مريضة مرضاً يفسد لحمها) أي: يوجد هزالة، أمَّا اليسير من غير الجرب .. فلا يضر، وما ذكر هو ما ينقص لحمها مآلاً؛ لأنها ينقص لحمها به.
(و) أمَّا ما ينقصه حالاً .. فهو (أن لا يبين شيء من أذنها وإن قل) ذلك المبان على الأصح في "الروضة"، وعبارتها: ولا تجزئ مقطوعة الأذن، فإن قطع بعضها ولم يبن بل بقي متدلياً .. لم يمنع على الأصح.
وقال القفال: يمنع وإن أبين، فإن كان كثيراً بالإضافة إلى الأذن .. منع قطعاً، وإن كان يسيراً .. منع أيضاً على الأصح؛ لفوات جزء مأكول، وضبط الإمام الكثير بما يلوح من بعد، وإلا .. فيسير) اهـ
ولا يضر قطع بعضها من غير إبانة وشقها وثقبها من غير أن يذهب منها شيء، ولا فقد قرن وكسره.
(أو) من (لسانها أو ضرعها أو أليتها) وإن قل، بأن لم يلح من بعد؛ لنقص جزء مأكول، وللأمر في خبر الترمذي باستشراف العين والأذن، وتجزئ مخلوقة بلا ألية ولا ضرع؛ إذ الذكر بلا ضرع والمعز بلا ألية، بخلاف فاقدة الأذن؛ لأنها عضو لازم غالباً.
وألحق الذنب بالألية، لكن اعترض بأنه كالأذن، بل فقده أندر.
ورجح في "التحفة": أنه لا يضر قطع شيء قليل من الألية؛ لتكبر.
ووجهه (ع ش): بأن الألية وإن صغرت هي كبيرة بالنسبة للأذن، وقطع اليسير من عضو كبير لا يضر، ولو شك فيما قطع أهو كثير أم يسير؟ لم يضر.
(و) شرطها أيضاً: أن (لا) يبين (شيء ظاهر من) عضو كبير، نحو (فخذها) بخلاف غير الظاهر، وهو: ما لا يلوح من بعد؛ لأنه بالنسبة إليه غير بَيِّن.
(وأن لا تذهب جميع أسنانها) وإن لم تؤثر فيها نقصاً، بخلاف ذاهبة أكثرها إن لم يؤثر نقصاً في الاعتلاف.
قال (سم): لا يضر فاقدة اسنان خلقة، وكأن الفرق أن فقدها بعد الوجود مؤثر، بخلاف فقده خلقة.
ولا يجوز التضحية بحامل على المعتمد؛ لأن الحمل ينقص لحمها، وزيادة اللحم بالجنين لا يجبر عيباً كعرجاء سمينة، وتجزئ قريبة عهد بالولادة كما في "التحفة".
(وأن ينوي التضحية بها)؛ لأنها عبادة، وكونها (عند الذبح)؛ لأن الأصل اقترانها بأوّل الفعل (أو قبله) وإن لم يستحضرها عنده.
نعم؛ المعينة ابتداء بنذر لا تجب لها نية أصلاً؛ اكتفاء بالنذر عن النية، لخروجها عن ملكه.
والمعينة عن نذر في ذمته أو بالجعل تحتاج لنية عند الذبح، وتجوز مقارنتها للجعل أو الإفراز، أو لتعيين ما يضحى من واجبة أو مندوبة.
وفرق بين المنذورة والمجعولة؛ بأن الجعل فيه خلاف في لزومه، فاحتاج لنية، ويجوز أن يُوكِّل مسلماً مميزاً في النية والذبح، أو كافراً في الذبح فقط.
وكالأضحية سائر الدماء.
ولا يضحي أحد عن غيره بلا إذنه في الحي، وبلا إيصائه في الميت، فإن فعل ولو جاهلاً .. لم يقع عنه، ولا عن المباشر.
وفي "التحفة": (ومرَّ أن للأصل التضحية عن موليه، وعليه فلا يقدر انتقال الملك للمولى، أي: كالعقيقة عنه؛ إذ لو انتقلت إليه .. لامتنع التصدق بها كسائر أمواله.
ثم قال: وللولي إطعام المولي منها) اهـ
وإنما جاز وفاء دين الغير حياً أو ميتاً بغير إذنه لا التضحية عنه؛ لأنها عبادة، والأصل منعها عن الغير إلا لدليل، بخلاف وفاء الدين.
ويفرق بينها وبين الصدقة بأنها تشبه الفداء عن النفس، فتوقفت على الإذن، بخلاف الصدقة، ومن ثم لم يفعلها عنه وارث ولا غيره وإن وجبت.
بخلاف نحو حج وزكاة وكفارة فلا فداء فيها، فأشبهت الديون.
ولا تضحية لرقيق بسائر أنواعه؛ لعدم صحة تبرعه في المكاتب، ولعدم إمكان ملك غيره، وصحتها من المبعض، إنما هي بما فيه من الحرية.
نعم؛ إن أذن السيد فيها للمكاتب .. صحت منه، ووقعت عنه؛ لأنه يملك، وفيما لو أذن السيد لقنه أن يضحي عن نفسه كلام في "الأصل".
ولو قال لأجنبي: ضحِّ عني، فضحى عنه .. صح، وكان ثمنها قرضاً.
وقوله: ضحِّ عني متضمن لاشترائها له وذبحها عنه بالنية، كما لو قال: اشتر لي كذا، ولم يعطه شيئاً .. فاشتراه.
(ووقت التضحية) يدخل (بعد طلوع الشمس يوم النحر، و) بعد (مضي ركعتين وخطبتين خفيفات) بأن يمضي من الطلوع أقل ما يجزئ من ذلك وإن لم يخرج وقت الكراهة ولم يذبح الإمام.
فلو ذبح قبل ذلك .. لم يجز، وكان شاة لحم لخبر الصحيحين:"أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل ذلك .. فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك .. فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء".
نعم؛ مرَّ: أنهم لو وقفوا في العاشر .. حسبت الأيام للذبح على الوقوف.
والأفضل: تأخير ذبحها إلى إرتفاع الشمس قدر رمح، ومضي ما مر.
بل صوب الأذرعي: أنه لا يدخل إلا بذلك؛ بناء على أن صلاة العيد لا يدخل وقتها إلا بالارتفاع المذكور.
ويمتد وقت التضحية ليلاً، لكنه مكروه لغير عذر ولا مصلحة، ونهاراً (إلى أخر أيام التشريق) فلو ذبح بعد غروب شمس آخرها .. لم تقع أضحية ما لم تكن منذورة فتقع قضاءً كما مر.
(ويجب) في أضحية التطوّع (التصدق بشيء من لحمها) يقع عليه الاسم.
قال (ع ش): (ولا بد من كون له وقع كرطل) فيحرم أكل جميعه؛ إذ المقصود إرفاق المساكين، ولا يحصل بمجرد الذبح، ولا يبعد هنا كما في "التحفة" جواز إخراج الواجب من غيرها ولا يجب له لفظ مملك، بل يعطيه ذلك، بخلاف الكفارة؛ إذ المقصود هنا مجرد الثواب، وهو حاصل بمجرد الإعطاء، وفي الكفارة تدارك الجناية بالإطعام، فأشبه البدل، والبدلية تستدعي التمليك.
ويجب أن يعطيه (نيئاً) طرياً لا مطبوخاً ولا قديداً لمسلم حر أو مبعض في نوبته، أو مكاتب -والمعطي غير سيده- فقير أو مسكين ولو واحداً، ولا يكفي جعله طعاماً ودعاء المسكين أو إرساله إليه؛ لأن حقه في تملكه لا في أكله، ولا مما لا يسمى لحماً كجلد وكبد، وكذا ولد ولو قلنا بجواز التضحية بالحامل؛ لأنه يشبه اللبن، ولأنه يجب مما يقع عليه اسم التضحية أصالة، والولد ليس كذلك، وإنما لزم ذبحه معها؛ تبعاً.
وتردد البلقيني في الشحم، وقياس ذلك: أنه لا يجزئ كما في "التحفة".
ولفقير التصرف فيه ببيع وغيره، أي: لمسلم، بخلاف الغني إذا أرسل إليه شيء أو أعطيه، فإنما يتصرف فيه بنحو أكل وتصدق وضيافة؛ لأن غايته أنه كالمضحي.
والقول بأنهم -أي: الأغنياء- يتصرفون فيه بما شاؤوا ضعيف وإن أطالوا في الاستدلال له، وإنما جازت لهم؛ لآية (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج:36].
قال (ع ش): لأنه أطلق القانع والمعتر، فشمل الغني وغيره، وجوز (م ر) كون الغني هنا من تحرم عليه الزكاة، والمسكين من تحل له.
ولا يجزئ ما يهديه عن الواجب، وفي وجه لا يجب التصدق بشيء منها.
ويكفيه في الثواب إراقة الدم، والأفضل في أضحية التطوّع أن يقتصر على أكل لقم منها، والأفضل كونها من الكبد.
ولا يزيد على الثلاث ويتصدق بالباقي جميعه، ثم أكل الثلث ويتصدق بالباقي، ودونه أكل ثلث والتصدق بثلث وإهداء ثلث.
ويثاب في الأولى على التضحية والتصدق بالكل، وفي الأخيرتين على التضحية بالكل وعلى التصدق بالبعض.
نعم؛ إن ضحى عن غيره كميت أوصى بها .. تصدق وجوباً بجميعها.
(ولا يجوز بيع شيء منها) أي: أضحية التطوّع، ولا إتلافه بغيره، ولا إعطاء الجزار أجرته منها ولو جلدها، بل مؤنته على الذابح، ويحرم نقلها كالزكاة، ويكره ادخار شيء من لحمها.
(ويتصدق) حتماً (بجميع المنذورة) والمعينة عن نذر في ذمته والمجعولة حتى نحو جلدها.
وإنما لم تتعين الزكاة بإفراز قدرها بنيتها؛ لأن حق الفقراء شائع في جميع المال، بخلافه هنا، فإنه لا حق للفقير في غير المعينة.
ويكره شرب لبن أضحية واجبة أو مندوبة فاضل عن ولدها، وهو ما لا يضره فقده ضرراً لا يحتمل كمنعه نموه كأمثاله، كما أن له ركوبها، لكن لحاجة؛ كأن عجز عن المشي ولم يجد غيرها ولو بأجرة، ولا أثر لوجود استعارة غيرها للمنة والضمان، وإركابها لمحتاج بلا أجرة، لكن يضمن نقصها بذلك.
ويسن له التصدق بلبنها، وله جزُّ صوفها إن أضرها والانتفاع به كجلد مندوبة.
(ويكره) لمريد التضحية عن نفسه، أو إهداء شيء من النعم (أن يزيل شيئاً من شعره أو غيره) كظفره وسائر أجزائه الظاهرة إلا الدم على خلاف فيه (في عشر ذي الحجة) وما بعدها من أيام التشريق إن لم يضح يوم العيد.
(حتى يضحي)؛ للأمر بالإمساك عن ذلك في خبر مسلم.
وحكمته: شمول المغفرة والعتق من النار لجميعه، لا التشبه بالمحرمين، وإلا .. لكره نحو الطيب.
وقيل: يحرم ما لم يحتج إليه، وعليه أحمد.
فإن احتاج .. فقد يجب، كقطع يد سارق وختان بالغ، وقد يسن كختان صبي، وقد يباح كقلع سن وجعه.
ولو تعددت ضحيته .. انتفت الكراهة بالأولى؛ بناء على لأصح عند الأصوليين: أن الحكم المتعلق على معنى كلي يكفي فيه أدنى المراتب لتحقق المسمى فيه، فيشمل المنذورة المتعددة، فتنتفي الكراهة بأولهن. وإلا .. لم يتحقق المسمى فيها؛ لأن القصد: وجوب المغفرة وقد وجد.
قال (بج): (أيُّ فائدة لشمول العتق لها مع أنها لا تعود إلا منفصلة تطالب بحقها كعدم غسلها من الجنابة؟ فقياسه هنا عودها لتوبيخه على عدم شمول المغفرة لها) اهـ
أمَّا من لم يرد التضحية .. فلا يكره له إزالة نحو شعره وإن سقط عنه الطلب بفعل غيره من أهل بيته.
ويسن أن يذبح ضحيته يوم النحر وإن تعددت، وأن يذبحها بنفسه إن كان يحسنه؛ للاتباع.
نعم؛ الأفضل لغير ذكر أن يوكلَّ فيه، فإن لم يرد الذبح بنفسه .. ندب له أن يشهدها؛ لما صح من أمر فاطمة رضي الله عنها بذلك، وأن تقول: (إن صلاتي ونسكي
…
) إلى (وأنا من المسلمين)، ووعدها بأنه يغفر بأوَّل قطرة كل ذنب عملته، وأَنَّ هذا لعموم المسلمين.
وتكره استنابة كافر كتابي وصبي لا حائض، لكن إنابتها خلاف الأولى؛ لما مر من ندب التوكيل لغير ذكر فيه.
ويسن لغير إمام أن يضحي في بيته وبمشهد أهله، وله إذا ضحى عن المسلمين أن يذبح بنفسه في المصلى عقب الصلاة ويخليها للناس.
ويسن تحديد الشفرة والذبح بقوة، والاستقبال للذابح وبمذبحها؛ لأن القبلة أشرف الجهات، وذلك في الضحية والهدي آكد منه في غيرهما، ولأن الاستقبال في العبادات مستحب، بل واجب في بعضها، والتسمية والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح، وإرسال السهم والجارحة؛ لقوله تعالى:(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)[الأنعام:118]، (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) [المائدة:4] وللاتباع، ولأن كل محل سن فيه ذكر الله فيه ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، وتركهما مكروه؛ لتأكدهما.
ولا تحل ذبيحة كتابي للمسيح مثلاً، ولا ذبيحة مسلم لمحمد عليه الصلاة والسلام، أو للكعبة أو غيرهما مما سوى الله؛ لأنه مما أهل به لغير الله، بل لو ذبح تعظيماً لمن ذكر .. كفر، فإن ذبح للكعبة؛ لكونها بيت الله أو لرسول أو ولي لكونه رسول الله، أو وليه .. جاز.
قال في "الروضة": وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل: أهديت للحرم أو للكعبة.
ويحرم الذبح تقرباً إلى سلطان أو غيره عند لقائه؛ لما مر، فإن قصد الاستبشار بقدومه .. فلا بأس، أو ليرضي غضباناً .. جاز؛ لأنه لا يتقرب به إلى الغضبان، بخلاف الذبح لنحو الصنم.
ولو ذبح للجن .. حرم إلا إن قصد التقرب إلى الله؛ ليكفيه شرهم .. فيسن، بل لو ذبح لا بقصد التقرب إلى الله ولا إلى الجن، بل لدفع شرهم .. فهو كالذبح لإرضاء غضبان، أفاده في "الروض" و"شرحه" ونقل في الأخيرة عن أبي مخرمة وغيره الحرمة، ولكن ما مر عن "شرح الروض" من عدمها هو القياس، كما مر.
ويندب في الإبل وسائر ما طال عنقه كالنعام والوز النحر في (اللَّبة) -بفتح اللام- أي: الثغرة أسفل العنق بقطع الحلقوم والمريء؛ للاتباع، ولأنه أسهل لخروج روحها.
وينحر البعير قائماً معقولاً ركبته اليسرى، وإلا .. فباركاً، وأن ينحر البقر والغنم والخيل ونحوها مضطجعة مشدودة القوائم إلا الرجل اليمنى .. فتترك؛ لتستريح بتحريكها، ولو عكس .. حلَّ، لكنه خلاف الأفضل.
ويندب أن يزيد على قطع الحلقوم والمريء والودجين، وقطع الأوّلين واجب، والأخيرين مندوب، وأن يتركها حتى تموت، وأن تسقى قبل الذبح ثم تضجع برفق، وأن لا يحد الشفرة ولا يذبح غيرها قبالتها، وأن يكبر قبل التسمية وبعدها عند الذبح ثلاثاً، فيقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد؛ لأنه في أيام التكبير، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: اللهم هذه منك وإليك، فتقبل مني.
* * *