الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وإذا رأى المحرم أو غيره) أي: أدرك بأي حاسة كان (شيئاً يعجبه أو يكرهه .. قال) ندباً: (لبيك إن العيش) أي: الكامل، وهو الهنيء الذي لا يعقبه كدر، ولا يشوبه تنغص هو (عيش الآخرة)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أسر أحواله حين رأى جمع المسلمين بعرفة، وفي أشدها في حفر الخندق، ويظهر تقييد لبيك بالمحرم.
وغيره يقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة، كما ورد أيضاً في حفر الخندق.
* * *
(فصل) في سنن تتعلق بالإحرام
.
(ويسن الغسل للإحرام) بسائر كيفياته؛ للاتباع ولو لنحو حائض وإن أراده قبل الميقات، ويكره تركه ولو لحائض، وتأخيره لطهرها أولى.
وإحرام الجنب مكروه، وغير المميز يغسله وليه، وينوي عنه ولو بنائبه.
ويكفي تقدمه على الإحرام إن نسب إليه عرفاً، كأن يغتسل بمكة، ويحرم من التنعيم، ومن عجز عن الماء .. تيمم، ويكفيه تيمم واحد له وللوضوء على المعتمد، كما مر.
وندب لمريد إحرام قص شارب، وأخذ شعر نحو إبط وظفر قبل الغسل، إلا في عشر ذي الحجة لمريد تضحية .. فيكره، فغسل رأسه بنحو سدر، فمسح بحناء لوجه امرأة غير محدة ولو عجوزاً يستر بشرته؛ لأنها مأمورة بكشفه، وخضب كفيها به.
ويكره بعد إحرام (ولدخول مكة) ولو حلالاً.
والأفضل: كونه بـ (ذي طوى): بئر في الزاهر لمار بها، وإلا .. فمن مثلها مسافة، فإن لم يغتسل قبل دخولها .. اغتسل فيها.
ويستثنى من قرب غسله بحيث لم يتغير ريحه، كأن اغتسل لإحرامه من التنعيم ودخل مكة، فلا يسن له الغسل، وكذا يقال في بقية الأغسال، بخلاف من اغتسل بمحل غير
قريب كالحديبية، فيغتسل لدخول مكة وإن لم يتغير ريحه، وهذا إنما هو عند عدم التغير، وإلا .. فيسن مطلقاً.
ويسن أيضاً لدخول حرم مكة وحرم المدينة، ولدخول الكعبة والمدينة ما لم يتقدمها غسل قريب مطلوب.
(ولوقوف عرفة) ويدخل كغسل الجمعة، ورمي أيام التشريق بالفجر، والأفضل: كونه بعد الزوال، وبنمرة.
(و) للوقوف بـ (مزدلفة) والأفضل: كونه بالمشعر الحرام بعد الفجر، ويجوز من نصف الليل.
(ولرمي) الجمار كل يوم من أيام التشريق؛ لآثار وردت في ذلك، ولاجتماع الناس عند ذلك، والأفضل كونه بعد الزوال.
فإن لم يغتسل بعرفة .. ندب لدخول مزدلفة، أو لم يغتسل لوقوف مزدلفة .. ندب لرمي جمرة العقبة، أو لم يغتسل لدخول مكة .. سن لطواف القدوم.
وبالجملة: فيسن عند كل ازدحام واجتماع في طواف وغيره وإن قلنا لا يسن للطواف.
(و) يستحب بعد الغسل (تطييب بدنه للإحرام)؛ للاتباع إلا لصائم وبائن .. فيكره لهما ما لم تكن لهما رائحة يتأذى بها وتوقفت إزالتها على الطيب، وإلا لمحدة .. فيحرم.
وإنما لم يسن لغير ذكر التطيب لنحو الجمعة؛ لضيق وقته ومكانه، فلا يمكنه تجنب الرجال.
وأفضله: المسك وأن يخلط بماء ورد؛ ليذهب جرمه، ويكره الزباد؛ لقول أحمد بنجاسته.
(دون ثوبه) فلا يسن تطييبه، بل يباح كما في "شرح المنهج"، و"المغني"، و"الفتح"، و"م ر".
أو يكره كما في "التحفة"؛ للخلاف القوي في حرمته، ولا تحرم استدامته وإن كان له جرم في بدن أو ثوب بعد الإحرام؛ لخبر عائشة: (كأني أنظر إلى وبيص المسك -أي: بريقه- في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرج بـ (استدامته): ما لو أخذه من بدنه أو ثوبه ثم رده إليه أو مسه بيده مثلاً عمداً .. فتلزمه مع الحرمة الفدية.
ولو نزع ثوبه المطيب ولو بحيث لو رش بماء ظهر ريحه ثم لبسه .. لزمته الفدية في الأصح، ومقابله لا فدية؛ إذ العادة لبسه ثم خلعه، فجعل عفواً، ولا يسع الناس إلا هذا، أو ترك تطييب الثوب رأساً.
بل قال مالك: يمتنع التطيب في الثوب والبدن؛ لخبر فيه، لكن قالوا: إنه منسوخ.
ويندب الجماع قبل الإحرام خصوصاً لمن يشق عليه تركه.
(و) يندب لذكر (لبس إزار ورداء) قبيل الإحرام؛ للاتباع، وكونهما (أبيضين)؛ لخبر:"البسوا من ثيلبكم البياض"، و (جديدين ثم مغسولين) ويندب غسل جديد احتملت نجاسته.
ويسن للمرأة لبس البياض، ويكره لها لبس المصبوغ.
تنبيه: قضية كلام كثيرين كـ"الإيضاح"، و"الروضة": أن التجرد عن المخيط سنة قبل الإحرام، وفي "المجموع" وغيره: أنه واجب، وأطال كل لترجيح ما قاله، وبينت ذلك في "الأصل"، والوجوب غير بعيد.
(و) يسن لبس (نعلين) وكونهما جديدين؛ لخبر: "يحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين"(و) صلاة (ركعتين) فأكثر بعد ما ذكر في غير وقت الكراهة إلا في حرم مكة كما مر؛ لخبر الشيخين: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم).
ولا بد أن ينوي بهما سنة الإحرام، ويغني عنهما غيرهما كفريضة وإن لم ينوهما معها فيسقط طلبهما، بل ويثاب عليهما عند (م ر) على ما مر.
ويقرأ فيهما سورتي (الإخلاص) وأن يصليهما في المسجد إن كان هناك على ما مر في فصل المواقيت.
ثم بعد أن يصليهما (يحرم بعدهما) بحيث ينسبان إليه حال كونه (مستقبلاً) للقبلة عند الإحرام.
والأفضل: أن يحرم (عند ابتداء سيره) في الماشي، أو سير دابته في الراكب متوجهاً لطريق مقصده؛ للاتباع.
(ويسن) لحاج ولو قارناً (دخول مكة قبل الوقوف)؛ للاتباع، ولكثرة ما يفوته لو لم يدخلها قبله من طواف القدوم، وتعجيل سعي وزيارة البيت وكثرة الصلوات في المسجد الحرام، وغير ذلك.
(و) كونه ولو لحلال (من أعلاها) وإن لم يكن بطريقه، ويسمى: ثنية كداء -بفتح الكاف والمد- و (نهاراً) والأفضل: أوله، وبعد صلاة الصبح.
وكون الذكر (ماشياً) و (حافياً) إن لم تلحقه بذلك مشقة، ولم يخف تنجس رجليه، ولم يضعفه ذلك عن الوظائف؛ لأنه أشبه بالأدب، ومن ثم ندب له الأخيران من أول الحرم إن لم يخف شيئاً مما مر.
أما المرأة .. فدخولها في نحو هودجها أفضل. ويسن أن يخرج من ثنية كُدى -بضم الكاف والقصر- وإن لو تكن بطريقه كإلى عرفة، لكن استثناها (سم)، وعبد الرؤوف.
وحكمته: الاشعار بعلو ما يدخله على غيره، وفي الخروج بالعكس.
وينبغي أن يستحضر عند دخوله الحرم ومكة من الخشوع والخضوع والتواضع ما أمكنه، ولا يزال كذلك.
فإذا وصل المدعى .. وقف ودعا، ثم ينطلق نحو المسجد، ويدخل من باب السلام وإن لم يكن بطريقه، فإذا وقع بصره على البيت أو بحيث يراه لو لم يكن مانع من الرؤية .. رفع يديه؛ لخبر فيه: أنه حينئذٍ يستجاب الدعاء، ووقف ودعا، فيقول:
اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وبراً، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبراً، اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، ثم يدعو بما أحب.
(وأن يطوف للقدوم) عند دخوله المسجد مقدماً له على تغيير ثياب لم يشك في طهرها أو لا تليق به، واكتراء منزل وغيرهما؛ للاتباع.
ولأنه تحية البيت فقدم على تحية المسجد وغيرها إلا لعارض، كفائتة فرض لم تكثر،
وخشية فوات راتبة أو سنة مؤكدة أو مكتوبة أو جماعة، فإن أقيمت فيه جماعة مكتوبة كما في "التحفة"، أو غيرها كما في غيرها .. قطعه ما لم يرج جماعة أخرى مساوية لها.
وتؤخر المرأة طوافها إلى الليل.
ولو منع من الطواف .. صلى التحية، كما لو دخل ولم يرده، ولا يفوت إلا بالوقوف بعرفة.
وإنما يندب لداخل مكة (إن كان) حلالاً، أو (حاجاً أو قارناً ودخل مكة قبل الوقوف) بخلاف معتمر وحاج دخلها بعد الوقوف فمخاطب بطواف الركن، فلم يصح تطوعهما بطواف القدوم ولا غيره قبله، حتى لو قصدا به غير الفرض .. وقع عن الفرض، واندرج فيه طواف القدوم.
نعم؛ لو دخل مكة بعد الوقوف قبل نصف ليلة النحر .. سن له طواف القدوم؛ إذ لا يدخل طواف الركن إلا بنصف الليل.
* * *
(فصل: واجبات الطواف) بأنواعه من قدوم وركن وتحلل ووداع واجبٍ، أو مندوب، أو نذر وتطوّع.
والمراد بالواجبات هنا: ما يشمل الشرط والركن، فالركن النية، والطوافات وغيرهما شروط (ثمانية) بل أحد عشر، فالثلاثة الأول:
(ستر العورة، وطهارة الحدث) الأصغر والأكبر (و) طهارة (النجس) بتفصيلهما السابق في الصلاة؛ لأنه صلاة كما صح به الخبر، وصح أيضاً:"لا يطوف بالبيت عريان".
فلو أحدث أو تنجس بدنه أو ثوبه أو مطافه بغير معفو عنه أو عري شيء من عورته مع القدرة على ستره أثناء الطواف .. تطهر وتستر وبنى وإن تعمد ذلك وطال الفصل كالوضوء، وقيل: يستأنف كالصلاة.
ويعفى عما يشق الاحتراز عنه في المطاف من ذرق الطيور وغيرها، حيث لا رطوبة، ولم يتعمده.
لكن في "المنح"، و"الإيعاب"، و"مختصر الإيضاح": أنه حيث لا مندوحة له عنه لا يضر تعمده.
وفي "الإمداد": قضيةُ تشبيه المجموع ذلك بدم نحو القمل وطين الشارع عدمُ الفرق بين الرطبة وغيرها، وجرى عليه في "مختصر الإيضاح".
والعاري يطوف ولا إعادة عليه.
قال في "الشرح": (والأوجه: أن للمتيمم وإن لزمته الإعادة، وللمتنجس العاجزين عن الماء -ولو شرعاً كذي جبيرة تيمم- طواف الركن؛ ليستفيدا به التحلل، ثم إذا عادا إلى مكة .. لزمهما إعادته) اهـ
وأفهم كلامه: أنه لا يلزمه العود لذلك، وهو مفاد كلام غيره.
ونقل (سم) عن (م ر): أنه لا يجب عليه المجيء فوراً.
قال عبد الرؤوف: وعليه: فمحله مالم يتضيق بنحو عضب، فإن عضب .. أناب فيه غيره؛ لعذره، وإنَّ الكلام في الآفاقي، فالمكي ليس له فعل طواف الركن بالتيمم إن رجا حصول البرء عن قرب.
وفي "الأصل" زيادات، فليطلبها من أرادها.
(و) الرابع: (جعل البيت عن يساره) يقيناً؛ للاتباع، إلا في أعمى .. فظناً؛ لشدة عسره عليه ماراً لجهة الحجر -بكسر الحاء- ولو محمولاً وإِن حعل رأسه لأسفل، أو وجهه للسماء وظهره للأرض أو عكسه، كما لو طاف منحنياً أو حبواً أو زحفاً مع قدرته على المشي.
فإن جعله على يمينه ومشى أمامه أو القهقرى أو أمامه أو خلفه أو على يساره ومشى القهقرى .. لم يصح؛ لمنافاته لما ورد الشرع به.
(و) الخامس: (الابتداء بالحجر الأسود)؛ للاتباع، فلا يعتد بما بدأ به قبله ولو سهواً، فإذا انتهى إليه .. ابتدأ منه.
(و) السادس: (محاذاته) أي: الحجر كله أو بعضه في أول طوافه عند النية إن وجبت، وآخره (بجميع بدنه) أي: بجميع أعلى شقه الأيسر المحاذي لصدره، وهو المنكب.
فيجب في الابتداء: أن لا يتقدم جزء منه على جزء من الحجر مما يلي الباب، واكتفي
بمحاذاة بعضه، كما يكتفي في الصلاة بتوجهه بكل بدنه لبعض الكعبة.
وفي الانتهاء: أن يكون الذي حاذاه آخراً هو الذي حاذاه أوّلاً، أو مقدماً إلى جهة الباب؛ ليحصل استيعاب البيت بالطواف، وزيادة ذلك الجزء؛ احتياطاً، كما يجب غسل جزء من الرأس مع الوجه، فليتنبه له.
فلو لم يحاذه أو بعضه بجميع أعلى شقه، كأن جاوزه ببعض أعلى شقه إلى جهة الباب، أو تقدمت النية على المحاذاة المذكورة، أو تأخرت عنها .. لم تصح طوفته، وكذا ما بعدها إن كان طوافه يحتاج لنية، ولم يستحضرها بعد.
(و) السابع: (كونه سَبْعاً) يقيناً ولو راكباً، فلو ترك خطوة .. لم يجزئه، ولا تقوم عنها كفارة، ولو شك في العدد .. أخذ بالأقل كالصلاة.
نعم؛ الشك بعد الفراغ لا يضر.
ولو أخبره غيره على خلاف ما يعتقده، فإن كان بالنقص .. سن الأخذ به إن لم يؤثر معه تردداً، وإلا .. وجب، وفارق الصلاة بأنها تبطل بالزيادة، أو بالتمام .. لم يجز الأخذ به إلا إِن بلغوا حَدَّ التواتر كما في الصلاة.
ولو شك في شرط كالطهارة بعد فراغه .. لم يضر، وإلا .. ضر إن شك في أصلها كما في الصلاة.
ولا يكره في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لما مر ثَمَّ.
(و) الثامن: (كونه داخل المسجد) وإن خرج إلى الحل على ما في "شرحي الإرشاد" ولو على سطحه، وإن كان أعلى من الكعبة؛ إذ لهوائها حكمها وإن حال بينه وبين البيت حائل.
لكن يكره خلف المطاف؛ للخلاف فيه، فلا يصح خارج المسجد إِجماعاً.
وأول من وسَّعه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عمر ثم عثمان ثم ابن الزبير، ثم الوليد بن عبد الملك ثم المنصور ثم المهدي، وزاد بعضهم المأمون، وعليه استقر، والمراد: ما استقر عليه الآن، لا ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم فقط.
(و) التاسع: كونه (خارج البيت والشاذروان والحجر) بجميع بدنه؛ لآية: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)[الحج:29].
وإنما يكون طائفاً به حيث لا جزء منه فيه، وإلا .. فهو طائف فيه لا به، وكبدنه:
ثوبه المتحرك بحركته عند (حج) لا عود في يده وحامله ودابته.
و (الشاذروان): جدار قصير نقصه ابن الزبير من عرض الأساس لمّا وصل أرض المطاف؛ لمصلحة البناء، ثم سنم بالرخام؛ لأن أكثر العامة تجهله، وهو من الجهة الغربية واليمانية فقط، كما في "الشرح"، وموضع من "النهاية" وغيرهما.
لكن المعتمد كما في "التحفة": ثبوته في جهة الباب أيضاً، كما حرره في "الحاشية"، ونقلت عبارتها في "الأصل"، واعتمده الكردي.
والحاصل: أنه مختلف فيه من جميع الجوانب.
فالإمام والرافعي: لا يقولان به إلا في جهة الباب، وشيخ الإسلام ومن وافقه لا يقولون به في جهة الباب، وأبو حنيفة لا يقول به في جميع الجوانب، وفيه رخصة عظيمة.
بل لنا وجه: أن مس جدار الكعبة .. لا يضر؛ لخروج معظم بدنه عن البيت.
و (الحجر) -بكسر الحاء-: ما بين الركنين الشاميين، عليه جدار قصير، بينه وبين كل من الركنين الشاميين فتحة، ويسمى أيضاً: حطيماً.
لكن الأشهر: أنه ما بين الحجر الأسود ومقام إبراهيم، وهو أفضل محل بعد الكعبة والحجر.
فلو مشى الطائف بين فتحتيه أو وضع بعض بدنه وهو سائر على جداره القصير .. لم يصح حينئذٍ، فليعد إلى محل الدخول أو الوضع، ثم يبني؛ لأنه وإن لم يكن فيه من البيت إلا ستة أو سبعة أذرع .. فالغالب في الحج التعبد، ولم يثبت الطواف إلى خارجه، فوجب الاتباع.
وليتفطن لدقيقة وهي من قَبَّل الحجر الأسود، أو استلم اليماني، فإنه يدخل في جزء من البيت، فليقر قدميه حتى يفرغ منهما، ويعتدل قائماً، ثم يجعل البيت عن يساره ويسير.
العاشر: عدم صرفه لغيره، كطلب غريم فقط، وكإسراعه خوفاً من أن تلمسه امرأة، فإن شرَّك كأن قصد بمشيه الطواف وطلب الغريم .. لم يضر، ولو دفعه شخص فمشى بدفعه خطوات .. لم يضر؛ لأنه لم يصرفه.
والحادي عشر: النية عندما تشترط محاذاته من الحجر في طواف نذر ونفل غير
قدوم، أمَّا طواف الركن والقدوم وكذا الوداع عند (حج) .. فلا يحتاج لنية؛ لانسحاب نية النسك عليه، لكن تسن.
وفي "المنح": إن كان المراد بالنية: قصد الفعل .. فهو شرط في كل طواف، أو تعيين الطواف .. فليس بشرط في كل طواف، فما المختلف في وجوب النية فيه؟
وقد يجاب بأن المختلف فيه: قصد الفعل، لا مطلق الفعل، كقولهم: يشترط قصد فعل الصلاة، ولا يكفي مطلق قصدها مع الغفلة عن ربطه بالفعل، فطواف النسك يكفي فيه مطلق القصد، وطواف غيره لا بد فيه من قصد الفعل دون التعيين، كنية نفل الصلاة المطلق.
(ومن) أي: وبعض (سننه)؛ إذ هي كثيرة، لأنه يشبه الصلاة، فكل ما يمكن جريانه فيه من سننها لا يبعد ندبه فيه من الإضافة لله وعدد الأسابيع وفراغ القلب والخشوع والتدبر، بل قد يزيد بأشياء.
ومنها: (المشي) فيه ولو لغير ذكر؛ للاتباع، ويكره الزحف والحبو فيه، والركوب فيه لغير استفتاء خلاف الأولى عند (حج)، وحرام عند (م ر).
ويسن كونه حافياً ولو امرأة إلا لعذر كشدة حر .. فيحرم، فإن لم يشتد .. جاز لبس نعلين والحفاء، وندب تقصير الخطا؛ لتكثر خطاه فيكثر الأجر.
وعليه: فأسبوع بسكينة وتؤدة بحيث يطوف غيره أسابيع مع تساوي أوصافهما أفضل.
(واستلام الحجر) ويمينه أفضل (تقبيله) ويخففها بحيث لا يظهر لها صوت، فإن ظهر .. كره.
(ووضع جبهته عليه)؛ للاتباع في الثلاثة، ويسن تكرير كل منها ثلاثاً في كل طوفة، والأوتار آكد، ولا يقبل ما استلم به كيده إلا عند العجز عن تقبيل الحجر.
لكن في "التحفة": أن الذي دلت عليه الأخبار، وصرح به ابن الصلاح، وتبعه جمع: أنه يقبلها، فإن عجز عن الأخيرين أو عن الأخير فقط بأن لحقه أو لحق غيره بذلك مشقة تذهب خشوعه .. اقتصر على الاستلام في الأولى، أو عليه وعلى الوضع في الثانية، ثم قبل ما استلم به، فإن عجز عن استلامه بيده وغيرها .. أشار إليه بيده اليمنى فاليسرى، فبما في اليمنى فبما في اليسرى؛ للاتباع، رواه البخاري، ثم يقبل ما أشار به.
تنبيه: من علم أنه بنحو استلام الحجر يعلق به شيء من طيبه .. امتنع عليه، فليتنبه لذلك.
(واستلام الركن اليماني) بيده؛ لما صح: (أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يدع استلامة الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة).
ثم بما فيها كما مر، ثم يقبل ما استلم به، فإن عجز .. أشار إليه كما مر بما مر في الحجر بترتيبه، ثم قبل ما أشار به خلافاً "للشرح".
ويباح تقبيل الركنين الشاميين وغيرهما من أجزاء البيت حتى الركن اليماني.
وخص ركن الحجر بالاستلام والتقبيل؛ لأنه فيه الحجر، وعلى قواعد إبراهيم.
واليماني بالاستلام؛ لكونه على قواعد إبراهيم، والشاميين ليس فيهما شيء مما ذكر.
(والأذكار) المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من الصحابة، الشاملة للدعاء، فإن ذلك ولو ضعيفاً أفضل من القراءة، وهي أفضل من غير المأثور.
ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم إلا: "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة لي بخير" بين اليمانيين.
والمشهور: تشديد الياء من عليَّ، لكن قال ملا علي قاري: إنه تحريف، بل بالتخفيف.
فيقول أول طوافه: (باسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
وقبالة باب البيت: (اللهم البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار، ويشير إلى مقام إبراهيم بقلبه).
وعند الانتهاء إلى العراقي تقريباً: (اللهم إني أعوذ بك من الشرك والشك والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق وسوء المنظر في الأهل والمال والولد).
وعند محاذاته الميزاب: (اللهم أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، واسقني بكأس نبيك محمد صلى الله عليه وسلم شراباً هنيئاً مريئاً لا أظمأ بعده أبداً، اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب).
وبين الشامي واليماني: (اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وعملاً متقبلاً، وتجارة لن تبور، يا عزيز يا غفور).
والمعتمر يقول: (عمرة مبرورة).
فإن لم يكن في ضمن نسك .. نوى بالحج معناه اللغوي، وهو: القصد.
وعند اليماني: (باسم الله، والله أكبر، اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم ربنا آتنا
…
إلخ، اللهم قنعني
…
إلخ).
وندب الإسرار في ذلك إلا لتعليم الغير كالمطوفين .. فيجهر به المطوف، وفي "الأصل" هنا ما ينبغي مراجعته.
ويسن ما مر من الأذكار وغيرها (في كل مرة) وثلاثاً.
(ولا يسن للمرأة) والخنثى (الاستلام والتقبيل) ووضع الجبهة (إلا في خلوة) المطاف عن غير النساء بأن تأمن مجيء ونظر الرجال ولو نهاراً.
(ويسن للرجل) أي: الذكر، ويكره لغيره ولو ليلاً كالاضطباع (الرمل) -بفتحتين- وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخطا، وهز الكتفين دون الوثوب، والعدو، ويقال له: الخبب.
والصبي الذي لم يقدر عليه يفعله عنه وليه، ويرمل الحامل بمحموله، ويحرك الراكب دابته.
وإنما يسن بثلاثة شروط:
الأول: كونه لذكر كما مر.
الثاني: كونه (في الثلاثة) الأطواف (الأول) مستوعباً به البيت، ويمشي في الأربعة الأخيرة على هينته؛ للاتباع فيهما.
وسببه: قول المشركين لما دخل صلى الله عليه وسلم بأصحابه معتمراً سنة سبع قبل فتح مكة بسنة: وهنتهم حمَّى يثرب، أي: لم تبق فيهم طاقة بقتالنا، فأمرهم به؛ ليروا قوّتهم وجلدهم، وشرع مع زوال سببه؛ ليتذكروا ما كانوا فيه من الضعف بمكة، ثم نعمة ظهور الإسلام وعزه وتطهير مكة من الشرك على ممر السنين.
ويكره تركه، وقضاء الرمل في الأربعة الأخيرة؛ لما فيها من تفويت سنتها من الهينة.
والثالث: (في طواف بعده سعي) مطلوب أراده، كطواف معتمر -ولو مكياً أحرم من الحرم- وحاج مفرد، أو قارن قدم مكة قبل الوقوف أو بعده بعد نصف ليلة النحر.
ولو رمل في طواف قدوم على نية أن يسعى بعده ولم يسع .. رمل أيضاً في طواف الإفاضة؛ لأنه بعده سعي.
(و) يسن لِذَكر (الاضطباع فيه) أي: في جميع الطواف الذي يعقبه سعي مطلوب وإن لم يرمل؛ للاتباع، ويكره تركه.
ولو تركه في بعضه .. أتى به في باقيه، والصبي يفعله به وليه، ويسن أيضاً في السعي، ويكره تركه وفعله في الصلاة كسنة الطواف.
وهو: جعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على منكبه الأيسر مكشوفاً، كدأب أهل الشطارة المناسب للرمل، وسن فعله ولو فوق المحيط من الثياب.
وفي "المختار": (الشاطر): الذي أعيا أهله خبثاً، والمراد هنا من عنده نشاط.
(والقرب من البيت) للطائف الذكر؛ تبركاً به، ولأنه مقصود، وأيسر لنحو الاستلام، لكن يبعد قليلاً بحيث يأمن دخول شيء من بدنه أو ثيابه في هواء الشاذروان.
نعم؛ يتوقى التأذي والإيذاء لنحو الزحام مطلقاً، ويتوقى الزحام الخالي عنهما إلا أوله وآخره.
وغير الذكر يطوف في حاشية المطاف إذا لم يأمن مخالطة الذكور، فلو فات الرمل مع القرب لنحو زحمة، ولم يرج لو صبر فرجه يمكنه الرمل فيها عن قرب عرفاً .. تباعد عنه، ورمل إن أمن لمس النساء.
لكن يبعد بحيث لا يخرج عن المطاف كما نقله (سم) عن (م ر)، واعتمده (حج) في غير "الإيعاب"، وقال فيه: وإن خرج عن المطاف.
ولا يراعى فيه خلاف المالكية، فإن لم يأمن لمسهن مع البعد .. قرب.
وإنما كان الرمل أولى من القرب؛ لأنه متعلق بذات العبادة، والقرب متعلق بمكانها، والمتعلق بذاتها أفضل.
(والموالاة) بين الطوفات لذكر وغيره؛ للاتباع، وخروجاً من خلاف موجبها، ومن فرق كثيراً بلا عذر .. ندب له الاستئناف مطلقاً، ثم إن كان لعذر .. فلا كراهة، بل في
"الإيعاب": ولا خلاف الأولى، وإلا .. كره.
قال الكردي: هذا الراجح.
ومن قطعه .. فالأولى كونه عن وتر، وعند ركن الحجر.
(وركعتان) فأكثر (بعده) والأفضل؛ للاتباع، رواه الشيخان، فعلهُما خلف المقام وإن بعد ثلاث مئة ذراع، والأفضل: ان لا يزيد ما بينهما على ثلاثة أذرع، والمراد: خلفه بحسب ما كان.
أمَّا الآن .. فقدامه ثم في الكعبة فتحة الميزاب فبقية الحجر فالحطيم فوجه الكعبة فبين اليمانيين فبقية المسجد فدار خديجة فمكة فالحرم، ولا يفوتان إلا بموته، لكن يسقط طلبهما بأي صلاة بعد الطواف، كما مر عند غير القائل بوجوبهما.
والأفضل لمن طاف أسابيع: فعلهما بعد كل، ويليه إذا أخرهما أن يصلي لكل منها ركعتين، ويجزئ للكل ركعتان، ويجهر بهما بلطف من غروب إلى طلوع شمس، وينوي بهما سنة الطواف، ولا تتأدى بركعة، ويدعو بعدهما وبالمأثور أفضل، ومنها ما ذكرته في "الأصل".
فرع: من سنن الطواف: السكينة والوقار وعدم الكلام إلا في خير، كتعليم جاهل إن قل وسجدة تلاوة لا شكر؛ لأنه صلاة، وهي تحرم فيها، ورفع اليدين إن دعا، وإلا .. جعلهما تحت صدره كالصلاة، والطواف بعد الصبح لا يفوت به فضيلة الجلوس بعدها كما في حديث:"من صلى الصبح ثم قعد يذكر الله إلى أن تطلع الشمسن ثم صلى ركعتين .. كان له أجر حج وعمرة تامتين".
قال كثير منهم الشهاب الرملي وملا علي قاري: المراد بـ (من قعد) في الحديث: استمر على ذكر الله، والطواف فيه الذكر والطواف، فقد جمع بين الفضيلتين.
واعترض ذلك في "التحفة" بما لا يلاقيه.
ومن المحبوب فيه السلام على أخيه، وسؤاله عن حاله، ويحترز عما لا يليق به في هذا المحل من نحو ضحك وأكل.
ولا يبصق إلا بثوبه ولا يشبك ولا يفرقع أصابعه، وغير ذلك مما لا يطلب في الصلاة.
* * *