المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأول في الأمارات البعيدة التي ظهرت وانقضت - البحور الزاخرة في علوم الآخرة - جـ ٢

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الثاني في أشراط الساعة واقترابها وما يتعلق بذلك

- ‌الباب الأول في الأمارات البعيدة التي ظهرت وانقضت

- ‌ومنها كثرة الزلازل

- ‌الباب الثالث في العلامات العظام، والأمارات القريبة الجسام، التي تعقبها الساعة وفيه اثنا عشر فصلا

- ‌الفصل الأوّل: في المهدي وما يتعلق به

- ‌المقام الأوّل: في اسمه ونسبه، ومولده ومبايعته، وهجرته وحليته وسيرته

- ‌المقام الثاني: في علاماته التي يُعرف بها، والأمارات الدالة على خروجه:

- ‌ومنها: أنَّه يجتمع بسيدنا عيسى، ويصلي سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام خلفه

- ‌ومن الأمارات الدالة على خروجه:

- ‌المقام الثالث: في الفتن الواقعة قبل خروجه:

- ‌منها أنَّه يُحسر الفرات عن جبل من ذهب

- ‌تنبيه:

- ‌الفصل الثاني في الدجَّال وما يتعلق به، والكلام عليه في أربع مقامات

- ‌المقامُ الأول في اسمه ونسبه ومولده:

- ‌المقام الثاني في حليتهِ وسيرتِه:

- ‌ومن صفاته:

- ‌وأما سيرته:

- ‌المقام الثالث: في خروجه وما يأتي به من الفِتن والشبهات [ومعرفة سيره في الأرض]

- ‌أما خروجه:

- ‌المقام الرابع: في سرعة سيره في الأرض ومدّة لبُثه فيها، وكيفيّة النّجاة منه

- ‌أما سيره:

- ‌وأما كيفية النجاة منه:

- ‌الفصل الثالث في نزول سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام

- ‌المقامُ الأوّل: في سيرته وحليته:

- ‌وأما سيرته:

- ‌المقام الثاني: في وقت نزوله ومحله

- ‌المَقام الثالث: في مدته ووفاته:

- ‌الفصل الرابع في ذكر يأجوج ومأجوج وخروجهم من الفتن العظام والمصائب الجسام

- ‌المقام الأول: في نسبهم

- ‌المقام الثاني: في حليتهم وكثرتهم:

- ‌المقام الثالث: في خروجهم وإفسادهم وهلاكهم

- ‌الفصل الخامس خرابُ المدينة وخروج القحطاني والجهجاه والهيشم والمقعد وغيرهم، وكذا هدمُ الكعبة

- ‌الفصل السادس في طلوع الشمس من مغربها

- ‌تنبيهات:

- ‌الفصل السابع في خروج الدابَّة

- ‌المقصدُ الأوّل: في حليتها

- ‌المقصد الثاني: في سيرتها:

- ‌المقصد الثالث: في خروجها

- ‌الفصل الثامن خروج الدخان

- ‌الفصل العاشر في النار التي تخرج من قعر عدن، تحشرُ الناس إلى محَشرهم. وهي آخر العلامات

- ‌تتمة

- ‌خاتمة

- ‌الفصل الحادي عشر في نفخة الفزع، وما يكون فيها من تغير انتظام هذا العالم، وفساد انتظامه

- ‌الفصل الثاني عشر في نفخة الصعق وفيها هلاك كُل شيء

- ‌الكتاب الثالث في المحشر وما يتعلق به إلى أن يدخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ وأهلُ النارِ النَّارَ

- ‌البابُ الأول في نفخة البعث

- ‌الباب الثاني في الحَشْرِ

- ‌فصل

- ‌البابُ الثالث في الوقوف في المحشر، في شدة ما يلقاهُ الناس من الأهوال في تلك الحال

- ‌لطيفة

- ‌لطيفة

- ‌فائدة

- ‌فصلٌ في الشفاعة العظمى

- ‌فصل

- ‌الباب الرابع في ذكر الحساب، وما يليقاه العالم من شدةِ البأسِ والعقابِ

- ‌فصل في حسَابِ البْهَائم

- ‌فصل فى حساب النَّاس والإتيان بالشهود

- ‌فصل في شهادة الأعضاءِ والأزمنة والأمكنة

- ‌فصل في حساب المؤمِن ومَنْ يكلمه الله، ومن لا يكلمه

- ‌فصل في سرعة الحساب، وفيمن يدخل الجنَّة بغيرِ حساب

- ‌الباب الخامس في الميزان

- ‌فائدتان:

- ‌لطيفة:

- ‌فصل

- ‌الباب السادس في ذكر الصراطِ وهو قنطرة جهنَّم بين الجنّةِ والنّارِ وخُلق منْ حين خلقت جهنَّم

- ‌الباب السابع في الحوضِ، والكوثرِ وهما ثابتان بالكتابِ والسُّنّةِ وإجماع أهْل الحق

- ‌فصل

- ‌فصل في شفاعةِ الأنبياءِ، والملائكة، والعلماء والشهداء، والصالحين، والمؤذنين، والأولاد

- ‌فصل في سعة رحمة الله تعالى

الفصل: ‌الباب الأول في الأمارات البعيدة التي ظهرت وانقضت

‌الباب الأول في الأمارات البعيدة التي ظهرت وانقضت

.

وهي كثيرة جدًا منها مُوتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم المصائب في الدين ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أصيب أحدُكم بمصيبة فليذكر مُصيبته بي، فإنكم لن تصابوا بمثلي أبدًا"(1)، قال الشاعر وأحسن:

اصبر لكل مُصيبة وتجلّد

واعلم بأن المرءَ غيرَ مُخَلد

وإذا أصبتَ بنكبة فاصبر لها

واذكر مَصابك بالنبي محمد

وقال الآخر:

تذكرت لمّا فرق الدَّهر بيننا

فسليتْ نفسي بالنبي محمد

وقلتُ لها إن المنايا سبيلُنا

فمن لم يمت في يومه مات في غده

وموت النبي صلى الله عليه وسلم، أول فتح باب الاختلاف حين قالوا: مِنَّا أمير ومنكم أمير، عن عوف بن مالك رفعه:"أعدد بين يدي الساعة مَوتِي، ثم فتح بيت المقدس"(2)، وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عمر مَرفوعًا. وفي الصحيح (3):"ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنكرنا قلوبنا".

(1) ضعيف رواه ابن ماجة (1599)، وعبد الرزاق 3/ 56 (6700)، والطبراني في الأوسط 4/ 365 (4448) وفي المعجم الصغير (612) 1/ 366 وفي الكبير (6718) 7/ 167.

(2)

البخاري (3005) الطبراني في الكبير (18/ 42).

(3)

أحمد (3/ 268) أبو يعلى (3378) الترمذي (5/ 588).

ص: 439

ومنها قتلُ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد صحَّ أنه صلى الله عليه وسلم، ذكر فتنة فمرّ عثمانُ رضي الله عنه، فقال:"هذا يومئذ على الهدى"، وقال لعثمان:"إنَّ الله مُقْمّصُك قميصًا - أي: موليك الخلافة - فإن أرادك المنافقون على خلعه، فلا تخلعه حتى تلقاني"(1). وقال حُذيفة رضي الله عنه: أوّلُ الفتن قتلُ عثمان، وآخرُها خروج الدجال.

زاد ابن عساكر في روايته: "والذي نفسي بيده، ما من رجل في قلبه مثقال حبة من فتل عثمان إلَّا اتبع الدَّجال إن أدركه وإن لم يدركه آمن به في قبره"(2).

وملخص قصة قتله رضي الله عنه، أنهم انتقدوا عليه بعض أمور، منها: أنه ولّى محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما مصر، فلما كان في بعض الطريق إذا بغلام عثمان على ناقته متوجهًا نحو مصرَ فأتوا به فسألوه عن الخبر، فلم يُخبرهم ففتشوه، فَلَقَوا معه كتابًا إلى العامل بمصر، فيه أنك تقتل محمدًا، فرجع محمدٌ إلى المدينة فاجتمع عليه أربعة آلاف أوباش من مُضر وتميم وغيرها، وسألوه عن الغُلام والكتاب، فقال: لا علم لي به فقالوا: إن هذا فِعلُ مروان. وعرفوا خطه، وقالوا: فادفعه لنا. فلم يفعل، فأرادوه على أن يعزل نفسه، فلم يفعل امتثالًا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) رواه أحمد 6/ 75، والحاكم 6/ 103، والطبراني في الكبير 5/ 192 (5561)، والسنة لابن أبي عاصم 2/ 562 (1179).

(2)

"تاريخ دمشق" جزء 39، ص 447.

ص: 440

فحاصروه، فجاءت الأنصارُ إلى الباب، وقالوا: يا أميرَ المؤمنين إن شئت كنا أنصارًا لله مرّتين، فقال: لا حاجة لي في ذلك كُفّوا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهدَ إليَّ عهدًا، وأنا صائر إليه وجاء عليّ كرّم الله وجهه في جماعةٍ من بني هاشم، يريدُ نصره، فقال عثمان رضي الله عنه: كُلُّ من لي عهد في ذمته يكف عن القتال.

فأخذ عليّ عمامته أي عمامة نفسه رضي الله عنه، فرمى بها في صَحن داره وقال: ذلك ليعلمَ أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين.

ومنعوه الماء العذب، فأرسل عليٌّ الحسن والحسين، وعبد الله بن جعفر في فئة من بني هاشم بثلاث قرب من الماء، فحالوا دونهم فحملوا عليهم حتى جُرحَ الحسنُ أو الحسين رضي الله تعالى عنهما، فسال الدم على وجهه وأوصلوه الماء، فلمّا رأوا ذلك، خافوا بني هاشم، وتركوا الباب، ونقبوا البيت من ظهره، وكان عنده في الدار عبيده الكثيرون، فأرادوا أن يمنعوا عنه فقال: من أغمد سيفه فهو حر ومنعهم من ذلك، وكان ممّن دخل عليه الدار: محمدُ بنُ الصديق رضي الله عنهما، فذكر له عثمان بعض مناقبه في الإسلام، وقال: أنشدك الله ألم تعلم ذلك؟ فيقول محمد: نعم، ثم قال: والله يا ابن أخي لو رأى أبوك مكانك لساءه ذلك، فبكى محمد وخرج ولم يحدث شيئا، ثم دخل عليه جماعة فقتلوه في أوسط أيام التشريق، والمصحف بين يديه سنة خمس وثلاثين من الهجرة، عن ثمان وثمانين سنة من

ص: 441

مولده، وقيل: عن تسعين، ورجحه النووي في "تهذيبه"(1)، وقيل اثنان وثمانون. وحكى الواقدي فيه الاتفاق وكانَ ذلك يومَ الجُمعة وقيل: ليلة الجمعة وقيل يوم الأربعاء لثمان عشرة من ذي الحجة، وقيل: يوم التروية، وقيل: لليلتين بقيتا من ذي الحجة، وقيل في أوسط أيام التشريق، كما ذكرناه آنفًا، وقيل أكثر من ذلك، وقيل أقل.

قال ابن عبد الدايم البرماوي: وكان يومئذ صائمًا، ويُروى أنه كان يقرأ في المصحف، فوقعت قطرة من دمه، أو قطرات على قوله تعالى:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] واختلفوا فيمن باشر قتله، فقال كثير لا يُعرف، وقيل: الأسود النخشي من مصر، وقيل: جبلة بن الأيهم من مصر، وقيل: سودان بن حمدان وقيل رومان اليماني، ورومان رجل من بني أسد بن خريمة، وقيل قتله اثنان، وقيل غير ذلك.

وقال ابن باطيش، في كتاب "مزيل الشبهات"، فيما نقله السيوطي في "تنوير الحوالك" عن عبد الله بن سلام قال: أتيت عثمان وهو محصور، فقال: مرحبًا يا أخي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخوخة، فقال: يا عثمان حصَروك؟ قلت: نعم. قال: عطشوك؟ قلتُ: نعم. (فأدلى)(2) لي دلوا فيه ماء فشربت حتى رويت، حتى أني الآن لأجد برده بين ثدي، وبين كتفي، فقال: إن شئتَ نُصِرتَ

(1)"تهذيب الأسماء واللغات"(1/ 322).

(2)

في الأصل: فأدلا.

ص: 442

عليهم، وإن شئتَ أفطرتَ عندنا، فاخترتُ أن أفطر عنده، فقتل في ذلك اليوم (1).

وفي "الإشاعة" للبرزنجي (2): أن عثمان رضي الله عنه رأى في ليلة يوم قتل فيه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له: يا عثمانُ أفطر عندنا، فأصبح صائمًا وقُتل وهو صائم رضي الله عنه، وهو من المقطوع لهم بالجنة.

ومنها وقعة الجمل: روى الحاكم عن علي وطلحة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير:"أتحبُ عليًا أما أنك ستخرج عليه وتقاتلهُ وأنت له ظالم"(3).

وروى الإمام أحمد والحاكم عن عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب حوأب؟ "(4).

وأخرج البزارُ بسند رجاله ثقات، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه:"أيتكن صاحبة الجمل الأدبب؟ " أي بهمزة مفتوحة ومهملة، وبموحدتين الأولى مفتوحة "فتخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب، يُقتل عن يمينها وعن شِمالها قتلى كثيرة، وتنجو بعد ما كادت"(5).

(1) ذكرها ابن شبة في "تاريخ المدينة" بروايات عدة عبد الله بن سلام (4/ 83 - 85).

(2)

ص 11.

(3)

رواه الحاكم 3/ 366 بنحوه.

(4)

أحمد (6/ 52) رواه الحاكم 3/ 120. أبو يعلى في مسنده (8/ 282).

(5)

بلفظه تقريبًا في مختصر المختصر 2/ 362 وفي الفتن لنعيم بن حماد 1/ 83 (188). ابن أبي شيبة (7/ 538) وذكره في مجمع الزوائد (7/ 474) وقال رواه البزار ورجاله ثقات.

ص: 443

وأخرج الإمام أحمد والطبراني، عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لِعليّ:"سيكون بينك وبين عائشة أمرٌ"، قال: فأنا أشقاهما يا رسول الله قال: "لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها"(1).

وأخرج أبو نعيم عن طاوس (بسند (2) صحيح) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لنسائه: "أيتكن تنبحها كلابُ حوأب؟ " فضحكت عائشة رضي الله عنها متعجبة، فقال:"انظري، لا تكوني أنتِ يا حميراء" والحوأب: بفتح المهملة وسكون الواو وبعدها همزة ثم موحدة هو ماءٌ لبني عامر، كما تعرفه.

ومُلخص وقعة الجمل على ما ذكره الحافظ ابن حجر، ملتزمًا صحّة ذلك أو تحسينَه هو أنه لما كان الغد من قتل عثمان رضي الله عنه، خرج عليّ رضي الله عنه، ومعه سفيان الثقفي فدخل المسجد، فإذا جماعَة على طلحة، فخرج أبو جهم بن حذيفة، فقال: يا علي، ألا ترى؟ فلم يتكلم ودخل بيته فأتى بثريد فأكل، ثم قال: يُقتل ابن عمي، ويُغلب على ملكه فخرج فأتاه الناس وهو في سوق المدينة فقالوا له: ابسط يدك فقال: حتى يتشاور الناس، فقال بعضهم: لئن رَجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان، ولم يقم بعده قائم لم يُؤمن الاختلاف وفساد الأُمَّة، فأخذ الأكثر بيده، فبايعوه، وذهب إلى بيت المال ففتحه، فلما

(1) أحمد (6/ 393) الطبراني (1/ 332) وذكره الهيثمي (7/ 474) وقال رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله ثقات.

(2)

في الأصل بخط مغاير: (هذا مرسل)، والحديث أخرجه نعيم في الفتن (1/ 84).

ص: 444

تسامع الناس بذلك تركوا طلحة، فلم يعدلوا به طلحة ولا غيره، ثم أرسل إلى طلحة والزُبير فبايعاه، ثم أنهما ندما على خذلان عثمان، فطلبوا منه أن يقتل قتلة عثمان، فلم يجبهما وذلك لأن قاتله كان غير معلوم، أو كان ينتظر أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه (1) إن قلنا أن قاتله معلوم أو ترك ذلك لما علم أنه يترتب عليه فتنة واختلاف كلمة المسلمين ثم إن طلحة والزبير استأذنا عليّا في العمرة، فأخذ عليهما عهودًا وأذن لهما فلقيا عائشة رضي الله عنها فاتفقا معها على الطلب بدم عثمان، وكان يعلى بن أمية عامل عثمان على صنعاء، وكان عظيم الشأن عنده وكان متمولًا فقدم حاجًا فأعانهما بأربعمائة ألف دينار، وحمل سبعين رجلًا من قريش، واشترى لعائشة جملًا يقال له عسكر بثمانين دينار (2).

وقال ابن عبد البر (3): بمائتي دينار. قال القرطي في "التذكرة"(4) وهو أصح انتهى ..

فكان علي رضي الله عنه يقول: أتدرونَ ممن ابتليتُ بأطوعِ النّاسِ في النَّاسِ: عائشة، وأَدْهَى النَّاسِ: طلحة، وأشد النَّاس: الزبير، وأثرى النَّاس: يَعلى بن أمية، فتوجهوا إلى البصرة فنزلوا بعض

(1) الصفحة التالية ساقطة من (أ) واستدركناها من (ب) و (ط).

(2)

انظر "الإشاعة"(14).

(3)

"الاستيعاب" في ترجمة (يعلى بن أمية) 4/ 1587.

(4)

ص 636.

ص: 445

مياه بني عامر، فنبحت الكلابُ، فقالت عائشة: أيّ ماءٍ هذا؟ قالوا: الحوأب. قالت: ما أظنني إلَّا راجعة. فقال لها الزبير: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلُح اللهُ ذاتَ بينهم.

فقدموا البصرة فتعجب الناس وسألوهم عن مسيرهم، فذكروا أنهم خرجوا غضبا لعثمان، وتوبةً لما صنعوا من خذلانه وقبضوا على عامل علي عليها - ابن الأحنف - فأقبل عليّ لما سمع بخروجهم من المدينة ومعه تسعمائة راكبًا، فنزل "بذي قار"(1) فبلغه أن أهل البصرة أجتمعوا لطلحة والزبير فشق ذلك على أصحابه، فقال: والذي لا إله غيره لتظهرنَّ على أهل البصرة ولنقتلن طلحة والزبير وبعث ابنه الحسن رضي الله عنه وعمارًا رضي الله عنه إلى [أهل](2) الكوفة يستنفرهم، فدخلا المسجد وصعدا المنبر، فكان الحسن في أعلى المنبر وقام عمار أسفل منه، فتكلم عمار وقال: إن أمير المؤمنين بعثنا إليكم نستنفركم، فإن أُمنا - يعني: عائشة رضي الله عنها قد سارت إلى البصرة والله إني أقول لكم هذا ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلانا ليعلم إياه نطيع أو إياها وقال الحسن عليه السلام: إن أميرَ المؤمنين يقول: إني أذكِّر الله رجلا رعى لته حقّا إلَّا نفر، فإن كنتُ

(1) ماء لبكر بن وائل - قريب من الكوفة بينها وبين واسط "معجم البلدان" 4/ 293.

(2)

ليست في (ب).

ص: 446

مظلومًا أعانني، وإن كنتُ ظالمًا أخذ منِّي، والله إن طلحة والزّبير لأول من بايعاني، ثم نكثا ولم أستأثر بمال ولا بدلت حكما. فخرج إليه اثنا عشر ألف رجل، ولما قدم عليٌّ رضي الله عنه، قام إليه قيسُ بنُ سعد بن عُبادة، رضي الله عنهما، وابن الكواء فقالا: أخبرنا عن مسيرك، أوَصيّة أوصاك به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم رأيٌ رأيتَه؟ فقال: أما والله لئن كنتُ أوّل من صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أكون أوّل من كذَب عليه، والله (لأن)(1) يكون عهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ فلا، ولكن ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فجأة ولا قُتل قتلا، ولكن مَكَث في مرضه أيّامًا وليالي، وكلّ ذلك يأتيه المؤذن فيؤذن بالصلاة، فيقول:"مروا أبا بكر فليصل بالناس". ولقد تركني وهو يرى مكاني، وما كنت غائبًا ولو عهد لي شيئًا لقمت به، حتى أنّ امرأة من نسائه صلى الله عليه وسلم أي وهي عائشة رضي الله عنها عارضت في ذلك فقالت: إنّ أبا بكر رجل رقيق إذا قام مقامك لم يسمع الناس، فلَو أمرتَ عُمر فليصل بالناس، فقال:"إنكن صواحبَ يوسف". فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظرنا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولَّاه أمر ديننا، فولّيناه أمر دنيانا، فبايعته في المسلمين وَوفَّيتُ ببيعته، ثم بايعتُ عمر رضي الله عنه ووفيت ببيعته، ثم بايعت عثمان ووفيت ببيعته، فعدا الناس عليه فقتلوه، وأنا معتزل عنهم، ثم

(1) في الأصل: لئن.

ص: 447

ولَّوني، ولولا الخشية على الدين ما أجبتهم، ثم وثب فيها من ليس سابقته كسابقتي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمي - يعني: معاوية - قالوا: صَدَقتَ، فأخبرنا عن قتالك، لهذين صَاحَباكَ في بَدرٍ وحُدَيْبِية وأحُد وأخويك في الدِّين والسّابقة والهجرة - يعني طلحة والزبير - فقال: إنهما بايعاني بالمدينة وخلعاني بالبصرة، ولو أنّ رُجلًا بايَع أبا بكر خلعه لقاتلناه، ولو أنّ رجلًا ممن بايع عمر خلعه لقاتلناه، والله أعلم.

ثم إنّ عليّا رضي الله عنه دعاهم ثلاثة أيام بعد أن اصطف الفريقان، حتى إذا كان اليوم الثالث دخل عليه الحسن والحسين، وعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم، فقالوا: قد أكثروا فينا الجراح، وذلك أنّ قتلة عثمان كانوا متفرقين في العسكرين، فخشوا أن يصطلحوا على قتلهم، فأشبوا الحرب فتسابّ صِبيان العسكرين، ثم ترامَوا ثم تبعهم العبيد، ثم السفهاء فصلى عليّ ركعتين ودعا ربه، ثم قال: إن ظهرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، وانظروا ما حضرت به الحرب من آنية فاقبضوه، وما كان سوى ذلك فهو لورثتهم.

ونادى عليّ الزبير رضي الله عنه فقال: تعالَ ولك الأمان، فخلا به وقال: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأنت تلاوي يدي: "لتقاتلنَّه وأنتَ له ظالم ثم ليُنصرنَّ عليك"؟ قال؟ لقد ذكرتني

ص: 448

شيئًا أنسانيه الدهر، لا جرم لا أقاتلك (1). فقال له ابنه: ما جئت للقتال، إنما جئت للصلح فأعتق غلامك، وقف، فأعتق غلامه، ووقف فلما رأى الحرب نشبت وأيس من الصلح، خرج عن العسكرين، فغلب أصحاب أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه، وبلغت القتلى ثلاثة عشر ألفا وقتل طلحة رضي الله عنه، ثم جمع الناس وبايعهم، وانتهى عبد الله بن يزيد بن ورقاء الخزاعي إلى عائشة وهي في الهودج، فقال: يا أمّ المؤمنين، أتعلمين أني أتيتُك عندما قُتل عثمان؟ فقلتُ: ما تأمرين؟ فقلتِ الزم: عليّا. فسكتت، فقال: أعقروا الجمل، فعقروه فنزل محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما، ورجل آخر فاحتملا هودجها، فوضعوه بين يدي عليّ كرّم الله وجهه، فأمر بها فأدخلت بيتا، ولم يعنفها ولم يوبخها وأكرمها، وردّها إلى المدينة.

وقال في "التذكرة"(2): روى أبو جعفر الطبري قال: لما خرجَت عائشة رضي الله عنها من البصرة طالبة المدينة بعد انقضاء الحرب، جهزها عليّ كرّم الله وجهه جهازًا حسنًا وأخرج معها من أراده للخروج، واختار لها أربعين امرأة معروفات من نساء البصرة، وجهز معها أخاها محمدا وكان خروجها من البصرة يوم السبت غرة

(1) رواه العقيلي في "الضعفاء" 3/ 65، والحاكم في "المستدرك" 3/ 366.

(2)

"التذكرة" 1/ 218.

ص: 449

رجب سنة ست وثلاثين، وشيعها عليّ على أميال، وأمشى بنيه معها يومًا. انتهى.

وذكر الحلبي أنّ عليّا لبّس النّساء في زيّ الرجال، قال لأهل البصرة: إنها امرأة نبيكم في الدنيا والآخرة رضي الله عنها. انتهى، وقال في "الإشاعة" (1): ولمّا ولّى الزّبير - يعني حين القتال - تبعه عمرو بن جرموز فقتله، وجاء بسيفه إلى عليّ فأخذه فنظر إليه وقال: أما والله لرُبّ كربة قد فرجها صاحب هذا السيف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر في "التذكرة" عن الزبير رضي الله عنه أنه لما قال له عليّ ما قال، قال: اللهم إني ما ذكرت هذه إلَّا الساعة، وثنى عنان فرسه لينصرف، فقال له ابنه عبد الله رضي الله عنه: إلى أين؟ قال: أذكرني عليٌّ كلاما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كلا ولكنك رأيتَ سيوفَ بني هاشم حدادًا، يحملها رجال شدادٌ قال له: ويحك تعيرني بالجبن، هلم الرمح، فأخذ الرمح وحمل في أصحاب عليّ، فقال عليٌّ: أفرجوا للشيخ فإنه محرج فشق الميمنة والميسرة وانقلب ثم رجع وقال لابنه: لا أمّ لك، أيفعل هذا جبان؟ وانصرف وقامت الحرب على ساق وبلغت النفوس التراق، واشرأب البلاء وهُدرت الدماء حتى مَلأت القتلى ذلك الفلا ثم فرجت عن ثلاث وثلاثين ألف قتيل، وقيل سبعة عشر ألفًا، فيهم من الأزد أربعة آلاف، ومن ضبة ألف ومائة، وباقيهم من سائر الناس كلهم من أصحاب عائشة رضي الله عنها، وقتل فيها من أصحاب عليّ نحوًا من ألف رجل، وقيل أقل، وقَطع عَلىَ

(1) ص 16.

ص: 450

خطام الجمل سبعون يدًا من بني ضبّة، كلما قطعت يد رجل أخذ الزمام آخر وهو ينشد:

نحن بنو ضبّة أصحاب الجمل

ننازل الموت إذا الموت نزل

والموت أشهى عندنا من العسل

وكانت الراية على الجمل وكانوا قد لبّسوه الأدراع، وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى قريب العصر، لعشر ليال خلت من جمادى الثاني سنة ست وثلاثين (1).

قال في الإشاعة (2): واستأذن على في كرَّم الله وجهه ابن جرموز، فأبطأ عليه الإذن فقال: أنا قاتلُ الزبير. فقال عليّ: أبقتل ابن صفيّة تفتخر؟ فلتتبوّأ بالنار، إنه حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قاتل ابن صفية في النار"(3).

قال: وجاء عمر بن طلحة رضي الله عنهما عليّا كرّم الله وجهه، فقال: مرحبًا بابن أخي إني لم أقْبِضْ مالكم لآخذه، ولكن خفتُ عليه من السفهاء، فخذ مالك، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ

(1)"التذكرة" ص 620 - 621. وكل ما سبق ينظر "الإشاعة" (14 - 15).

(2)

ص 16.

(3)

رواه ابن أبي عاصم في "السنة" 2/ 610، والخلال 2/ 426، وأبو نعيم 4/ 186، والبيهقي في "الاعتقاد" 1/ 373، وأخرجه الحاكم 1/ 367 وصححه.

ص: 451

مُتَقَابِلِينَ (47)} [الحجر: 47]، ثم أمّر ابن عباس رضي الله عنهما على البصرة وانصرف إلى الكوفة.

وعن عروة بن الزبير قال: قلتُ لعائشة: من كان أحبُّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: عليّ بن أبي طالب يعني بعد الصديق لما في الصحيحين أنه أحبُّ الرجال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عروة: فقلتُ: ما سبب خروجكِ عليه؟ قالت: لم تزوّجَ أبوك أمّك؟ قلتُ: ذلك من قدر الله. قالت: وكان ذلك من قدر الله (1)، والله أعلم.

ومنها وقعة صفين: وما أدراك ما وقعة صفين، قد صح عن سيّد المرسلين:"لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة"(2).

وعن عطاء بن السائب قال: حدثني غير واحد أن قاضيًا من قُضاة الشام أتى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين رأيتُ كأن القمر والشمس يقتتلان، والنجوم معهما نصفين، قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر على الشمس، فقال عمر وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النهار مبصرة انطلق فوالله لا تعمل لي عَملًا أبدًا. قال عطاء: فبلغني إنه قُتل مع معاوية يوم صفين (3).

ومُلخَّص الوقعة: أنه لما قُتل عثمان رضي الله عنه وبويع علي، أرسل إلى معاوية أن يَدخل فيما دخل فيه (المسلمون)(4) وينعزل عن

(1) ينظر هذا وما قبله وما بعده "الإشاعة".

(2)

رواه مسلم (157)، والبخاري (3413)، (6707).

(3)

ذكره في بهجة المجالس في القسم الثاني (3/ 145).

(4)

في الأصل المسلمين وما أثبت من المحقق.

ص: 452

العمل، وكان عاملًا لعمر ثم لعثمان على الشام، وكان يرجو أن يُبقيه عليُّ على عمله وقد كان الحسن بن عليّ، وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما أشاروا عليه بإبقائه على الشام حتى يأخذ له البيعة، ثم يفعل فيه ما شاء، فقال عليُّ: هيهات، لو علمت أن المداهنة تنفعني في دين الله لفعلت، ولكن الله لم يرضَ لأهل القرآن بالمداهنة، فبلغ معاوية فحلف أنه لا يلي لعليّ عملًا أبدًا وكان عمرو بن العاص على مصر، فعزله أيضًا فاجتمع عمرو ومعاوية واتفقا على الخروج.

وقد أخرج الطبراني عن شداد بن أوس مرفوعًا: "إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص ففرقوا بينهما"(1)، وكان شدّادُ إذا رآهما جالسَيْن على فراش جلس بينهما، ولما فرغ عليّ من وقعة الجمل ورجع إلى الكوفة أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فامتنع، فقال له أبو مسلم الخولاني: أنت تنازع عليا في الخلافة، وأنت مثله قال: لا وإني لا أعلم أنه أفضل، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتِل مظلومًا، وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه فأتوا عليًا فقولوا له: يدفع لنا قتلة عثمان.

فأجاب معاوية أهل الشام، فأرسل إليه معاوية أبا مسلم يطلبُ بدم عثمان، وإنه وليه وابن عمه قال: يدخل في البيعة، كما فعل

(1) الطبراني في الكبير (7161) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 248 وعزاه للطبراني وقال: فيه عبد الرحمن بن يعلى بن شداد ولم أعرفه.

ص: 453

الناس، ثم يحاكمهم إليّ، فتجهز معاوية من الشام وعليّ من الكوفة فالتقيا بصفين فتقاتلوا قتالًا شديدًا حتى بلغت القتلى ثلاثين ألفًا.

قال في "التذكرة"(1): وكان مقام عليّ ومعاوية بصفين سبعة أشهر، وقيل: تسعة أشهر، وقيل ثلاثة أشهر وقتل في ثلاثة أيام من أيام البيض - وهي ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر - ثلاثة وسبعون ألفًا من الفريقين.

ذكره الثقة العدل أبو إسحاق: وفي تلك الليالي ليلة الهَرير جعل يهر بعضهم إلى بعض، والهرير: الصوت يشبه النياح لأنهم ترامَوا بالنبل، حتى فنيت وتطاعنوا بالرماح، حتى اندقت، وتضاربوا بالسيوف حتى انقضبت، ثم نزل القوم يمشي بعضُهم إلى بعض، قد كسروا جفون سيوفهم واضطربوا بما بقي من السيوف وعمد الحديد فلا يُسمع إلَّا غمغمة القوم والحديد في الهام، فلما صارت السيوف كالمناجل، تراموا بالحجارة ثم جثوا على الركب، فتحاثوا بالتراب، ثم تَكَادَمُوا بالأفواه، وكسفت الشمس، وثار القتام، وارتفع الغبار، وضلَّت الألوية والرايات، ومرت مواقيت أربع صلوات لأن القتال كان بعد صلاتهم الصبح، واقتتلوا إلى نصف الليل، وذلك في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين، قاله الإمام في تاريخه، وكان أهل الشام

(1)"التذكرة" 2/ 220.

ص: 454

يوم صفين خمسة وثلاثين ومائة وألف، وكان أهل العراق عشرين أو ثلاثين ومائة ألف، ذكره الزبير بن بكار بسنده عن محمد بن عَمرو بن العاص، وكان ممن شهد صفين وأنكى فيه وهو يقول:

فلو شهدتَ جمل مقامي ومشهدي

بصفين يومًا شاب منها الذوائب

غداة أتى أهل العراق كأنهم

من البحر لجٌ موجه متراكب

وجيناهم نمشي كأن صفوفنا

شهاب حريق رفعته الجنائب

فقالوا لنا: إنا نرى أن تبايعوا

عليًّا، فقلنا: بل نرى أن نضارب

فطارت إلينا بالرماح كماتهم

وطرنا إليهم بالأكُف القواضب

إذا نحن قلنا: استهزموا عرضتْ لنا

كتائب منهم وارتجحت كتائبُ

فلا هُم يولون الظهور فيُدبروا

فرارًا كفعل الخادرات الدرائب (1)

قال ابن شهاب: فأنشدت عائشة رضي الله عنها هذه الأبيات فقالت: ما سمعت شاعرًا أصدق شعرًا منه، قال ابن دحية أبو الخطاب: قوله: بل نرى أنْ نضارب. أن: هنا مخففة من الثقيلة، محذوفة الاسم تقديره أننا نُضارب، وقوله كفعل الخادرات أي الأسود: يُقال أسد خادر كأن الأجمة له خِدر، فمعناه أنهم لا يُدبرون كالأسود التي لا تُدبر عن فرائسها؛ لأنها قد ضُريت بها ودربت عليها، والدربة الضَراوة، يقال: درب يَدْربُ ورفع الدرائب لأنها بدل من الضمير في يُدبروا هم قال ابن دِحية: والإجماع مُنعقد أن

(1) في (ب): (الذوائب) بدلًا من (الدرائب) ثم جاءت على الصواب بعدها باسطر.

ص: 455

طائفة الإمام عليّ كرم الله وجهه، طائفة عدل والأخرى طائفة بغي، هذا كلامه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، لعمار بن ياسر رضي الله عنه، حين جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول:"تقتلك فئة باغية، لا أنالهم الله شفاعتي يومَ القيامة" رواه مسلم في صحيحه.

قال ابن عبد البر: تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"تقتل عَفارَ الفئةُ الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة"(1).

(1) حديث: تقتلك الفئة الباغية صحيح دون الدعاء: (لا أنالهم الله .. إلخ)

عن أبي سعيد الخدري: أحمد 3/ 5، 3/ 28، 3/ 22، 3/ 91 و 5/ 306.

وحديث أبي اليسر عند الطبراني في الكبير 19/ (382) و (383)

وعن عبد الله بن عمرو:

أحمد 2/ 161 (6499) و 2/ 206 (6927)، 2/ 161 (6500) و 2/ 206 (6929) وابن سعد في الطبقات 3/ 253 والنسائي في خصائص علي (168)، والطبراني في الكبير 19/ (759)، وأورده الهيثمي وقال: ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات.

وعن عمرو بن حزم:

أحمد 4/ 199، وأبي يعلى (7175) و (7346)، والحاكم 2/ 155.

وعن حذيفة عند البزار (2689).

وعن عمرو بن العاص:

أحمد 4/ 197، 199.

وأبي أيوب عند الطبراني في الكبير (4030).

وأبي رافع عند الطبراني في الكبير (954).

وعن خريمة بن ثابت: أحمد 5/ 214، 215.

وعن أبي قتادة عند مسلم (2915). =

ص: 456

قال في "التذكرة"(1): وهو من أصح الأحاديث، وقال الإمام أبو المعالي في "الإرشاد" (2): فصل: عليّ رضي الله عنه كان إمامًا حقًا في توليته، ومقاتلوهُ بغاة، وحسن الظنّ بهم يَقتضي أن يُظنَّ بهم قصدُ الخير، وإن أخطئوه، وحسبُك بقول سيد المرسلين لعمّار:"تقتلك الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة" وهو من أثبت الأحاديث (3)، ولمّا لم يقدر معاويةُ على إنكاره لثبوته قال: إنما قتله من أخرَجه، ولو كان حديثًا فيه شك، لرده وأنكره وكذَّب ناقله وزوره،

=وعن أم سلمة:

أحمد 6/ 289، 300، 311، 315.

وابن مسعود عند الخطيب 8/ 275.

وعن أبي هريرة:

الترمذي (3800)، وأبي يعلى (6524).

وعن معاوية:

الحميدي (606)، وعبد الرزاق (1845)، وأبو يعلى (7364)، والطبراني في الكبير 19/ (758) و (759) و (932).

(1)

"التذكرة" 2/ 225 - 222.

(2)

ص (433).

(3)

الحديث ثابت بدون الدعاء كما تقدم.

وينبغي التنبيه على أن هذه الفتنة قد ورد في تفاصيلها ما لا يعرف صحته من ضعفه، فيجب الحيطة في الأخذ بها، ولا يصح الطعن في أحد من الصحابة إذ لم يقاتل منهم أحد إلَّا عن اجتهاد، وقد كان في هذه الواقعة كثير من الدسائس والفتن التي لو علمها أطراف الفتنة لأنكروها ولتغيرت الأمور، ولكن كتاب الله سبق.

ص: 457

ولم يحتج إلى هذه الحجة الداحضة التي لا يعتمد عليها، ومن ثمَّ ألزمَه عليّ رضي الله عنه بقوله: فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزةَ حين أخرجه لقتال المشركين. والله أعلم.

ولما رأى أصحابُ معاوية من أصحاب عليّ العجز - أي عَجزُ أصحاب معاوية عن أصحاب عليّ - قال عَمرو لمعاوية: أرسلوا إلى عليّ بالمصحف، فادعوه إلى كتاب الله تعالى، فإنّ عليًّا يجيبك إلى ذلك، ففعلوا فقال عليّ: نعم، نحنُ أحقُ بالإجابة إلى كتاب الله تعالى، فقال القُراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: يا أمير المؤمنين ما تنتظر إلى هؤلاء ألا نمشي عليهم بسيوفنا، حتى يحكم الله بيننا، فقال سهل بن حنيف: يا أيها الناس، اتهموا رأيكم، فآلى الأمر إلى التحكيم، فحكَّم عليٌّ أبا مولى بعد أن أراد أن يُحَكِمْ ابن عباس، فمنعه أهل الكُوفة، وحكَّم معاوية عَمرو بْنَ العاص، فاتفق الحكمان على أن يخلع كلٌ منهما صاحبه، وكان عَمرو داهية، فقدَّم أبو موسى، فخلع عليًّا ثم قام عمرو فقال: إنَّ أبا موسى خلع عليًّا، وإني نصَّبتُ معاوية، فاختلف الناسُ وأخذ أبو موسى يسبُ عَمرًا ويقول: إنك غدرت، فرجع عليٌّ إلى الكُوفة ومعاوية إلى الشام، ثم تجهز عليُّ لقتال أهل الشام مرة بعد أخرى، فشغله أمر الخوارج، ثم تجهز في سنة تسع وثلاثين، فلم يتهيأ ذلك لافتراق أهل العراق عليه، ثم وقع الجد منه في ذلك في سنة أربعين، وجعل على مقدمته قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما، وكانوا أربعين ألفًا بايعوه على الموت، ثم قُتل سيدُنا

ص: 458

عليّ كرم الله وجهه، وصار الأمر إلى ما قَدَّر الله سبحانه وتعالى (1).

واعلم أن عليًا رضي الله عنه لم تُزينه الخلافة، بل هو زانَها، كما قال الإمامُ أحمد رضي الله عنه، وكان الناس محتاجين إلى علم عليّ رضي الله عنه، حتى قال عُمر رضي الله عنه: آه من معضلة ليس لها أبو حسن.

وروى الإمام ابن الجوزي في "تبصرته"(2) عن أبي صالح قال: قال معاوية بن أبي سفيان لضرار بن ضمرة: صف لي عليًّا فقال: أو تُعفيني يا أمير المؤمنين؟ فقال: بل تصفه لي، قال: أو تُعفيني قال: لا أُعفيك قال: أمّا إذ لابُد، فإنه كان والله بعيدَ المدى، شديدَ القُوى. يقول فَصْلًا ويحكمُ عَدْلًا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحشُ من الدُنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يُعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان والله كأحدِنا يُجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا آتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحنُ والله مع تقريبه لنا وقُربه منا، لا نُكَلِّمه هَيْبةً ولا نَبتديه لعظمته، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعظم أهل الدين، ويُحب المساكين، ولا يَطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيفُ من عدله، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سجوفه، وغارت نجومه، وقد مَثُل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململُ تململَ السليم: أي الذي

(1) إلى هنا ينتهي النقل من "الإشاعة" ص 16 - 18.

(2)

انظر "الاستيعاب"(3/ 43) و"أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين" للكلبي (151) التبصرة (360).

ص: 459

قد لدغته حَيّة ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعُه وهو يقول: يا دُنيا يا دُنيا أليّ تعرّضتِ، أم لي تشوّقتِ، هيهات هيهات، غِرِّي غيري، قَدْ بِنْتُكِ ثلاثا لَا رجعةَ لي فيكِ، فَعُمْرُكِ قصير، وعيْشُكِ حقير، وخطرك كبير، آه من قلّة الزّادِ وبُعدِ السفر، ووحشةِ الطَّريق.

قال: فذرفت دموعُ معاوية، فما يملكها وهو ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، ثم قال مُعاوية: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حُزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزنُ من ذُبح ولدُها في حجرِها، فلا ترقى عبرتها، ولا تسكن حسرتها، ولله درّ القائل:

أهوى عليّا وإيماني مَحبَّتُه

كم مشركٍ دمُه من سيفه وكفا

إن كنتَ ويحك لم تسمع مناقبَه

فاسمع مناقبه مِنْ هل أتى وكفا

قال البرزنجي في "الإشاعة"(1)، عن يزيد بن الأصم قال: سئل عليّ كرم الله وجهه عن قتلى يوم صفين، قال: قتلانا وقتلاهم في الجنة، ويصيرُ الأمرُ إليّ وإلى مُعاوية. وتقدم (2) ما رأى عمرُ بن عبد العزيز من أنّ عليّا ومعاوية أدخلا بيتا، وأجيف عليهما، ثم خرج عليّ وهو يقول: قُضي لي عليه ورَبِّ الكعبة، فلم يلبث أن خرج معاوية وهو يقول: غُفر لي ورَبِّ الكعبة، وقال عليّ رضي الله عنه: إن الله جعل قتلنا إياهم - يعني أصحابَ معاوية - كفارة لذنوبهم، وقال: من كانَ يُريدُ وجه الله منا ومنهم نجا، قال في "الإشاعة"(3) ذكر ابن عساكر أن رجلًا جاء إلى أبي زرعة الرازي، فقال: إني أبغض معاوية قال: لِمَ؟ قال: لاْنه قاتَلَ عليّا بغير حق.

(1) و (2)"الإشاعة" ص (18).

(3)

ص 319.

ص: 460

قال أبو زرعة: ربُّ معاوية ربّ رحيم، وخصمه خصم كريم، فما دخولك بينهما؟

واعلم أن الواجب على كلّ مسلم اعتقاده حسن الظن بالصحابة رضي الله عنهم، والكفُّ عما وقع بينهم، فالخائض في ذلك خائب، والمتعرض لشتمة أحد منهم كاذب، فهم رضي الله عنهم معذورون باجتهادهم، لمُصيبهم أجران، ولمخطئهم أجرٌ واحد، وما أحسن قول القائل:

ونَسكت عن حرب الصحابة فالذي

جرى بينهم كان اجتهادًا مُجردا

فقد جاء في الأخبار أن قتيلَهم

وقاتلهم في جنة الخلد خُلّدا

ومنها وقعة نهروان (1): أخرج ابن جرير عن محنف بن سليم قال: أتينا أبا أيّوب، فقلنا: يا أبا أيوب، قاتلت المشركين بسيفك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جئتَ تقاتل المسلمين؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بقتال ثلاثة: الناكثين والقاسطين والمارقين، فقد قاتلتُ الناكثين والقاسطين، وأنا مقاتل إن شاء الله المارقين، وفي رواية أبي صادق عنه، "عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتل مع عليّ الناكثين، فقد قاتلناهم"(2). يعني في وقعة الجمل، وذلك لأن طلحة والزبير رضي الله عنهما نكثا البيعة، "وعهد إلينا أن نقاتل معه - أي مع علي - القاسطين"، يعني الظالمين وأراد بهم أصحاب معاوية؛ لأنهم ظلموا

(1) انظر "الإشاعة"(19).

(2)

رواه الطبراني في المعجم الكبير 4/ 172 (4549)، وابن عدي في الكامل 2/ 187 (ترجمة الحارث بن حصيرة). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 235 وقال: فيه محمد بن كثير الكوفي وهو ضعيف.

ص: 461

عليّا ونازعوه أمرًا هو أحق النّاس به عند كل منصف، والقاسط هو العادل أي العادلين عن الحق إلى الباطل، "وعهد إلينا أن نقاتل معه المارقين"، وأراد بهم الخوارج، فإنهم مرقوا من الدين.

وعن أبي سعيد مرفوعًا: "أنَّه يخُرجُ من ضئضيء هذا قومٌ يتلون كتاب الله رطبًا، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرقُ السّهم من الرَّمية، يقتلون أهل الإسلام ويَدَعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ثمود"(1)، وأحاديث الخوارج كثيرة جدًا.

ومُلخّص وقعتهم: أنه لمّا حَكّم عليّ ومعاوية الحكمين قالت القراء: كفر عليّ وكفر معاوية، فاعتزلوا أمير المؤمنين عليّا رضي الله عنه، ونزلوا بحروراء، وهُم بضعة عشر ألفا، فأرسل إليهم عليٌّ ابن عبَاس، فناشدهم الله: ارجعوا إلى خليفتكم، فبم نقمتم عليه؟ أفي قسمة أو قضاء؟ قالوا: نخاف أن ندخل في الفتنة قال: لا تُعجلوا ضلالة العام مخافة فتنة عام قابل، فرجع بعضُهم إلى الطاعة.

وقال آخرون: نكون على ناحيتنا فإن قبل القضية - يعني: التحكيم - قاتلناه على ما قاتلنا عليه أهل الشام بصفين، وإن نقضها قاتلنا معه، فساروا حتى قطعوا النهر، وافترقت منهم فرقة يقتلون الناس، فقال أصحابهم: ما على هذا فارقنا عليّا، فلما بلغ عليّا صُنعُهم، وكان متجهزًا إلى الشام قام فقال: أتسيرون إلى عدوّكم؟ أو ترجعون إلى هؤلاء الذين خلفوكم في ديارهم؟ قالوا: بل نرجعُ إليهم فقال: ابسُطوا عليهم، فوالله لا يُقتتل منكم عشرة، ولا يضر منهم

(1) البخاري (7432) مسلم (1064).

ص: 462

عشرة، فكان كذلك فقال: اطلبوا رجلًا صفته كذا وكذا، أي: وذكر من نعته أنَّ له ثدي كثدي المرأة فطلبوه، فوجدوه على النعت الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: الحمد لله الذي أبادهم وأراحنا منهم، فقال عليّ رضي الله عنه: كلا، والذي نفسي بيده إن منهم لمن في أصلاب الرجال، لم تحمله النساء بعد، وليكونن آخرهم لِصاصًا جرادين.

وفي "الإشاعة"(1) عن ابن عمرو مرفوعًا: "يخرج ناس من المشرق يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، كلما قُطع قرن نشأ قرن، حتى يكون آخرهم يخرج مع المسيح الدجال"(2).

وقال ابن عمر رضي الله عنهما، منْ قتلَهُ الحرورية فهو شهيد، وعن الحسن قال: لمّا قَتل عليّ الحرورية قالوا: من هؤلاء يا أمير المؤمنين؟ أكفّار هم؟ قال: من الكفر فرُّوا، قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكُرون الله إلَّا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيرا، قيل: فما هُم؟ قال: قومٌ أصابتهم فتنة فعَمُوا فيها وصموا. قال في الإشاعة: ومن بقايا هؤلاء القرامطة، وهم الباطنية والإسماعيلية وفتنتهم مشهورة أهلكوا العبادَ والبلاد والله أعلم.

ومنها (3): نزولُ أمير المؤمنين الحسن بن عليّ رضي الله عنهما لمعاوية رضي الله عنه عن الخلافة. أخرج أبو نعيم عن سفيان قال:

(1) هذ وما قبله وبعده (19 - 20).

(2)

رواه أحمد 2/ 198، 2/ 209 والطيالسي 1/ 302 (2293)، ونعيم بن حماد في "الفتن" 2/ 532 (1506)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 53 - 54).

(3)

"الإشاعة" ص 20.

ص: 463

أتيت الحسنَ بنَ عليّ بعد رُجوعه إلى المدينة، فقلت له: يا هلاك المؤمنين، فكان ممّا احتج به عليٌّ أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تذهب الأيام والليالي حتى يجتمع أمر هذه الأمّةِ على رجل واسع السّرم، ضخم البلعوم، يأكل ولا يشبع"(1)، وهو معاوية فعلمت أن أمر الله واقع، قال في النهاية: السرم: الدبر، والضخم: العظيم، ومعناه الشديد الذي يملك الأرضَ كلها.

قال في "الإشاعة"(2): وهو على حقيقته فإن معاوية دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، "أن لا يُشبع الله بطنه"(3)؛ لأنه أرسل يطلبه ليكتب، فقالوا: يأكل، ثم بعث آخر، فقالوا: يأكل. فدعا عليه، فكان يأكل ولا يشبع، كذا زُعم.

وملخص القِصة أنه لما رجع أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه من قتال الخوارج، وتجهز للشام كما مر، قُتل رضي الله عنه في سابع عشر من شهر رمضان، وهو خارج لصلاة الصبح، قتله أشقى الآخِرين، عبدُ الرحمن بن مُلجم عليه غضب رب العالمين، كما هدم ركن الدين الأعظم، وقبح الله كل من مدحه، ضربه الخبيث بسيف مسموم على جبهته، فأوصله دماغه وذلك ليلة الجمعة، سابع عشر رمضان سنة أربعين فبويع للحسن بالخلافة.

(1) الفتن لنعيم بن حماد (422) والعقيلي في الضعفاء الكبير (2/ 175).

(2)

ينظر هذا وما بعده ص 20.

(3)

مسلم (2604).

ص: 464

ولم يظهر أحدٌ في الكوفة خلافه فسار الحسن عليه السلام إلى معاوية بكتائب أمثال الجبال، يريد الشام وخرج إليه معاوية يريد الكوفة، وأرسل عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن رضي الله عنه، يطلب الصلح، فقال الحسن رضي الله عنه: إني أحقن دماء المسلمين، وأنزل عن الخلافة لمعاوية ولكن إنا بنو عبد المطلب، قد أصبنا من هذا المال أي جُبلنا على الكرم والتوسعة على أتباعنا، حتَّى صار لنا عادة، فلا نقدر على الغُلة وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها أي: العسكرين الشامي والعراقي وقد قُتل بعضهم من بعض فلا يكفون إلا بالصفح وعدم الانتقام.

قالا: فإنَّه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فكتب إليه معاوية: أن اطلب ما شئت، واشرط فإني أوفى لك بذلك، وأرسَل إليه ورقا بياضا، وختم في أسفله، وقال: اكتب ما شئت، فشرط الحسن رضي الله عنه أشياء منها: أن يكون له بيت مال الكوفة، وأن يكون له خراج دار أبجرد (1)، وأن تكون الخلافةُ بعد معاوية له ولأخيه الحسين، وفي رواية للمسلمين، يولّون من شاءوا، وأن لا يتعرض لأهل العراق، ولا ينتقم منهم، فنزل الحسن وبايعه.

فقال معاوية: تكلم يا حسن فقام فحمد الله وأثنى عليه وقال:

(1) ذكرها ياقوت في موضعين (دار ابجرد)(درابجرد) ص 2/ 419، 446.

ص: 465

أيها الناس إن الله قد هداكم بأوّلنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن معاوية نازعني أمرًا أنا أحق به منه، وإني تركته حقنًا لدماء المسلمين، وطلبًا لما عند الله، فشهد جماعة من الصحابة أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للحسن:"إن ابني هذا سيّد، وسيصلحُ الله به، بين فئتين عظيمتين من المسلمين، يكون بينهما مقتلةٌ عظيمةٌ"(1)، وسُمّيت تلك السّنة سنة الجماعة لاجتماع الناس، ورَفع القتال من بينهم والله أعلم.

ومنها؛ مُلك بني أمية فهم الذين بدلوا الخلافة ملكًا، وأظهروا في الإِسلام ما لا ينبغي أن يحكى (2)، فيا له من مُلك: كان لأهل الدين والصلاح أذّل وأنكى، فبعد معاوية، ما وَلى فيهم صالحٌ سوى الخليفة التّقى عُمر بن عبد العزيز قيل والناقص، نعم معاوية بن يزيد كان عبدًا صالحًا قدس الله روحه، ما كان أتقاه! وأما أبوه فكان ما أشقاه!! وعن عليّ كرم الله وجهه، لكل أمّة آفة، وآفة هذه الأمّة بنو أميّة (3)، وقال أبو ذرّ رضي الله عنه: إذا بلغَتْ بنو أميّة أربعين رجلًا، اتخذوا عباد الله خَولا، ومالَ الله دَخلا، وكتابَ الله دغلا، وفي لفظٍ ومال الله نحلا، وكتابَ الله نقلا (4) وعن عمر بن مُرة الجهني قال:

(1) رواه البخاري (2704) و (3746) و (7109)، والترمذي (3773)، وأحمد 5/ 37 - 38 (20392)، والنسائيُّ (3/ 107)، وأبو داود (4662).

(2)

في الأصل: يحكا.

(3)

رواه نعيم بن حماد في الفتن 1/ 129.

(4)

رواه الحاكم في المستدرك 4/ 526 من طريق نعيم بن حماد، وفي الفتن 1/ 130.

ص: 466

استأذن الحكم بن أبي العاص على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف صوته فقال:"اءذنوا له حية أو لد حية لعنة الله عليه، وعلى كل من يخرج من صلبه إلا المؤمن منهم، وقليلًا مّا هم"(1) قال في "الإشاعة"(2): وهذا الاستثناء إشارة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وأمثاله منهم انتهى. ويروى أنهم يُعظمون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق، ومن جملة ما وقع في زمنهم ما وقع في زمن أشقاهم: يزيد لا زال غضب الباري عليه يزيد، من قتله السبط الشهيد، وريحانة رسول الملك المجيد، الإمام أمير المؤمنين حسن بن عليّ عليهما السلام، وهو بقية الخلفاء الراشدين فإنَّه وَلي الخلافة ستة أشهر، وهي بقيةُ مدة الخلافة التي أخبر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثمَّ نزل لمعاوية عنها فصارت مُلكَا كما مر وسبب ذلك أن يزيداً زاده الله بُعدًا من رحمته، أرسل إلى زوجة سيدنا الحسن، جعدة الكندية أن تسمَّه ويتزوجها، وأرشاها بمائة ألف درهم ففعلت، فمرض أربعينَ يومًا، وجهد به أخوه الحسين رضي الله عنه، أن يخبره بمن سمّه فأبى وقال الله أشدّ نقمة وأجد كبدي تقطع، وإني لعارف من أين دُهيت، يُشير إلى أنَّه من قِبَل يزيد، ثمَّ قال لأخيه رضي الله عنهما فبحقي عليك لا تكلمتَ في ذلك بشيء وأقسم عليك أن لا تريق في أمري محجمة دم، وقال له إياك وسفهاء الكوفة أن يسخفوك فيخرجوك، والله ما أرى أن يجمع الله فينا النبوة والخلافة، وقد كنتُ طلبت من عائشة أن أدُفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) رواه الحاكم في المستدرك 4/ 528.

(2)

ينظر هذا وما قبله وما بعده ص 22.

ص: 467

فأجابت، فإذا مت فاطلب منها، وما أظن القوم يعني بني أميّة إلَّا يمنعونك، فإن فعلوا فلا تُراجعهم، وادفني عند أمي فاطمة عليها السلام بالبقيع، فمات رضي الله عنه بعد أربعين يومًا والأكثرون كما في الإشاعة أنَّه سنة خمسين، فلمّا مات سأل الحسين رضي الله عنه عائشة رضي الله عنها، فقالت: نعم حبّا وكرامة، فمنعهم عدوُّ الله مروان، وكان إذ ذاك أمير المدينة من قِبَل معاوية، هو ومن معه من بني أميّة، فلبس الحسينُ ومن معه من بني هاشم السلاح وقالوا: نقاتل فقال أبو هريرة رضي الله عنه، والله لا يمنعه إلا ظالم، والله إنه لابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال للحسين: لا تكن أوّل مَن ترك وصيّة أخيك فقد وصّاك بعدم القتال، فما زال به حتى ردّه ودفنوا الحسن بالبقيع، عند أمّه رضي الله عنهما.

وأرسلت جعدة الكندية، عليها غضب رب البرية إلى يزيد تطلبه لما وعدها به فأبى، ولم يتزوّجْها وقال: كيف آمنكِ على نفسي، وقد قتلت ابن بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخسرت الدّنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

وممّا وقع في زمن يزيد العنيد، قتله سيدنا الحسين رضي الله عنه، ذكر في "الإشاعة" (1) عن حضرة الرسالة أنَّه قال صلى الله عليه وسلم: "أمسك يا معاذ وأحص فلمّا بلغت خمسًا: يعني من الخلفاء قال: يزيد لا بارك الله في يزيد، نُعي إلى حُسين وأتُيتُ بتربته، وأخبرتُ بقاتله، والذي نفسي

(1) ينظر هذا وما قبله وما بعده "الإشاعة" ص 24.

ص: 468

بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعوه، وفي لفظ لا ينصروه، إلا خالف الله بين صُدورهم وقلوبهم، وسلّط عليهم شرارهم، وألبسهم شِيَعًا" (1) كذا في الإشاعة.

قُلْتُ: وهذا حديث موضوع فالعجب منه كيف لم ينبّه عليه؟ فقد أورده ابن الجوزي في "الموضوعات"، بلفظ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرعوبًا متغير اللون فقال:"نُعيَت إليّ نفسي، وذكر كلامًا طويلًا، ثمَّ قال أمسك يا معاذ وأحصِ، وتنفَّسَ الصعداء ثمَّ قال يزيد: لا بارك الله في يزيد الطعّان اللعّان، أما إنه نُعي إليّ حبيبي حسين، أتُيت بتربته وأريتُ قاتِله، أما إنه لا يُقتلُ بين ظهراني قوم لا ينصروه، إلَّا عمّهم الله بعقابه، أو قال بعذابه"(2).

قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع بلا شك، واتُّهم بوضعه الأشناني، فليعلم، وجاء من طرُقٍ صحح الحاكم بعضها أن جبريل، وفي رواية ملك القطر: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن الحسين مقتول، وأراه من تُربة الأرض التي يُقتل فيها، فأعطاه لأمّ سلمة وأخبرها أن يوم قتله يتحول دماء فكان كذلك، وشمّ صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: ريح كرب وبلاء.

(1) رواه الطبراني في الكبير 3/ 120 (2861) من طريقين، 20/ 38 (56) وأورده الهيثمي في المجمع 9/ 190 وقال: رواه الطبراني وفيه مجاشع بن عمرو وهو كذاب.

(2)

موضوعات ابن الجوزي 2/ 300 (866). وهو في اللآليء للسيوطي 1/ 453، وفي التنزيه 1/ 415 - 416، وفي الفوائد للشوكاني ص 419 فالحديث موضوع.

ص: 469

وملخص القصة أنَّه لما توفي الحسن رضي الله عنه، أخذ معاوية البيعة ليزيد من أهل الشام وجاء حاجا، فأراد أن يأخُذَها لَهُ من أهل الحجاز، من المهاجرين والأنصار، فامتنعوا وقالوا: إن كان لك رغبة فيها فهي لك، وإن سئمتها فردها على المسلمين، فلمّا مات معاوية رضي الله عنه، وبُويع ليزيد بالشام وغيرها أرسل يزيد لعامله بالمدينة أن يأخذ له البيعة على الحسين فهرب الحسين إلى مكة، خوفًا على نفسه، فأرسل إليه أهل الكوفة أن يأتيهم ليبايعوه، فنهاه ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر له غدرهم وقتلهم لأبيه، وخذلانهم لأخيه، وأمرَه أن لا يذهب بأهله، فأبى فبكى ابن عباس وقال: واحسيناه، وقال ابن عمر نحو ذلك، فأبى فقبّل بين عينيه، وقال: استودعك الله من قتيل.

قال في "الإشاعة"(1): وكذلك نهاه ابن الزبير بل لم يبقَ، أحد إلَّا حزن لمسيره كذا قال والمعروفُ عند أهل السير: أن ابن الزُبير رضي الله عنهما، أشار عليه بالخروج، كما في تاريخ "الخُلفاء" للسيوطي وغيره وأما ابن عمر فنهاه أشد النهي، وقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خيره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنك بضعة منه فلا تسألها يعني الدنيا، فأبى فاعتنقه وبكى، وودعه وقال: غَلَبَنا حسينُ بالخروج، ولعمري: لقد رأى في أبيه وأخيه عِبرة وكلَّمه في ذلك أيضًا، جابر بن عبد الله، وأبو سعيد، وأبو واقد الليثي، فلم يُصغ لأحَد، وصمّم على الخروج إلى العراق، فقال له ابن عباس:

(1) ص 25.

ص: 470

والله لأظنك تُقتل بين نسائك وبناتك، كما قُتل عثمان، فلم يقبل منه، فبكى ابن عباس.

قال السيوطي في "تاريخ الخلفاء" وقال ابن عباس له: أقررت عينَ ابن الزبير، ولمّا رأى ابن عباس عبد الله بن الزبير قال له: قد أتى ما أحببت هذا الحسين يخرج، ويتركك والحجاز ثمَّ تمثل وقال:

يا لك من قُنبرة بمعمر

خلالَكِ الجو فبيضي واصفري

وتنقري إن شئت أن تنقري

قال: وبعث أهل العراق إليه الرسل والكتب، يدعونه إليهم، فخرج من مكة متوجهًا إلى العراق في عشر ذي الحجة، ومعه طائفة من أهل بيته، رجالًا ونساءً وأولادًا، ولما بلغ أخاه محمَّد بن الحنفية خروجه، بكى حتى ملأ طستا بين يديه، وقدم أمامه مسلم بن عقيل، فبايعه من أهل الكوفة أثنا عشر ألفًا أو أكثر، وأرسل إليه يزيد اللعين ابن زياد المقبوح، وحرضه على قتله، وأخذوا مُسلمَ بن عقيل فقتلوه، وتفرق المبايعون.

وسار الحسين غير عالم بذلك، فلقي الفرزدق فسأله فقال قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أميّة، والقضاء ينزل من السماء فلمّا قرب من القادسية، تلقاه من أخبره الخبر وأمره بالرجوع، فهمّ بالرجوع، فقالت إخوة مسلم بن عقيل: والله لا نرجع حتى نأخذ لثأرنا أو نُقتل. فقال: لا خير في الحياة بعدكم، ثمَّ سار فلقيه أوائل خيل ابن زياد، زاده الله مقتا، فعدل الحسين رضي الله عنه إلى كربلاء، فجهز إليه ابن زياد عشرين ألف مقاتل، فلما وصلوا إليه

ص: 471

طلبوا منه النزول على حكم ابن زياد والمبايعة ليزيد، فقال دعوني أذهب إلى يزيد فأبى ابن زياد إلَّا النزول على حكمه، فقال: والله لا نزلتُ على حكمه أبدا فقاتلوه، وكان أكثر مقاتليه المكاتبين إليه والمبايعين له، قاتلهم الله، فحارب الحسين رضي الله عنه ذلك العدد الكثير، وجملة من معه من أهله نيف وثمانون، فثبت في ذلك الموقف ثباتًا باهرًا ولولا أنهم أحالوا بينه وبين الماء، مع القَدَرِ المحتوم ما قدروا عليه، ولمّا بلغ القتلى من أهله خمسين، نَادَى أما ذَابُّ يذّبُّ عن حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج يزيد بن الحارث رجاء شفاعة جده، فقاتل بين يديه حتى قُتل، ثمَّ فني أصحابه وبقي بمفرده فحمل عليهم حملة عمه حمزة، وصولة والده عليّ رضي الله عنهم، حتى قتل كثيرًا من شجعانهم، فكثروا عليه وحالوا بينه وبين حريمه، فصاح عليه السلام كُفوا سفهاءكم عن النساء والأطفال، فكفّوا، ثمَّ لم يزل يقاتلُهم حتى أثخنوه بالجراح، فإنَّه طعن إحدى وثلاثين طعنة، وضرب أربعًا وثلاثين ضربة، ومع ذلك غلب عليه العطش، فسقط إلى الأرض فحزّوا رأسه، وذلك نهارُ الجمعة عاشر المحرم عام إحدى وستين، ولما وضع رأسه الشريف بين يدي كافر النفس بن زياد، زاده الله في دركات جهنم هبوطًا أنشد قاطعُ الرأس متبجحًا بذلك، عليه غضب المالك فقال:

أوقر ركابي فضة وذهبا

إني قتلت ملكًا محجبا

قتلتُ خيرَ الناسِ أمَّا وأبَا

وخيرهم إذ يَنسبون نسبا فأمر بضَرب عُنُقه وقال: إذ علمتَ أنَّه كذلك: فلم قتلته؟ فخسر الدنيا والآخرة فلعنة الله عليه، ومن تأمل فيما وقع لهذين السيّدين، من عظيم الاتفاق انبهر، فإن جعدة سمَّت الحسن، طلبًا

ص: 472

للمال، وطمعًا في تزويج يزيد لها فلم يحصل لها شيء من ذلك فخسرت وخابت فلا هي بزوجها ولا هي بمن طمعت فيه، وفاتَها المال وأغضبت رب العباد، وحُرمت شفاعة النّبي الهاد، وقاتِلُ الحسين ظن أن ابن زياد يوقر ركابه فضة وذهبا، فجازاه أن ضرب عنقه ضربا، فخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين فنعوذُ بالله من مَكْرِه ونسأله الثبوت على ذكره.

قال في "الإشاعة"(1): والظاهرُ أنَّه إنما قتله ابن زياد؛ لأنه مدح الحسين، لا لأنَّه قتله، ويدُلّ لذلك أنَّه جعل الرأس الشريف في طست، وجعل يضرب ثناياه بقضيب، ويُدخله أنفه ويتعجب من حسن ثغره، فبكى أنس بن مالك عند ذلك، وقال: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال زيد بن أرقم: ارفع قضيبك فوالله: لطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقبل ما بين شفتيه، وبكى فأغلظ عليه اللعين ابن زياد، وهدده بالقتل، فقال: لأحدثنك بما هو أغيظ عليك من هذا، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، آخذٌ حسنًا على فخذه اليمنى، وحسينا على فخذه اليسرى، ثمَّ وضع يده الكريمة على نافوخيهما، ثمَّ قال:"اللهُمّ إني أستودعك إياهما، وصالح المؤمنين"(2)، فكيف كانت وديعة النبي صلى الله عليه وسلم عندك يا ابن زياد؟

قُلْتُ: وفي التذكرة (3) بعد ذكر البيتين اللذين ذكرناهما آنفًا وزاد فيهما:

(1) ينظر لهذا وما قبله وبعده ص 26.

(2)

الطبراني في الكبير (5/ 5037) قال الهيثمي في المجمع (9/ 197) رواه الطبراني وفيه محمَّد بن سليمان بن بزيع ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. أهـ.

(3)

(2/ 390).

ص: 473

في أرض نجد وحَرّا ويثربا

قال فغضب ابن زياد من قوله وقال: والله لا نلت مني خيرًا أبدًا ولألحقنك به، ثمَّ قدمه فضَربَ عُنقَه فهذا من أكبر الأدلّة على الخبيث، أنَّه إنما قتله لمدحه للحسين، لا لأنّه قتله، ولقد انتقم الله من ابن زياد، فقد روى الترمذي بسند صحيح أنّ رأس ابن زياد لما قتل، وضع رأسه موضع رأس الحسين، وإذا حيّة عظيمة قد جاءت فتفرق الناس عنها، فتخللت الرؤوس حتى جاءت رأسَ الخبيث ابن زياد، فجعلت تدخل من فمه وتخرج من منخره، وتدخل من منخره فتخرج من فمه، فعلَتْ ذلك مرتين أو ثلاثًا قُلْتُ: والذي يظهرُ لي، أن الِّرّ في ذلك أن ابن زياد لما كان يُدخل القضيب في منخر الحسين رضي الله عنه، عوقب بأن سَلَّط الله عليه حيّة، تدخل من فيه، وتخرج من منخره، والجزاء من جنس العمل، والله أعلم.

ولما دخل رأس الحسين قصر الإمارة بالكوفة، أمر بالرأس فوضع على ترس عن يمينه والناس سماطان، ثمَّ أنزله وجهزه مع رؤوس أصحابه، وسبايا آل الحسين على أقتاب الجمال، موثقين في الحبال، والنساء مُكشَّفات الوجوه والرؤوس إلى يزيد الممقوت، ولما نزل الذين أرسلهم ابن زياد بالرأس الشريف أوّل منزل جعلوا يشربون [بالرأس](1) الخمر، كذا في "الإشاعة"(2)، وهو بعيد جدًا، وفي غير "الإشاعة" بإسقاط بالرأس، فخرجت عليهم يدٌ من حائط فكتبت سطرًا

بدم:

(1) في "الإشاعة": على الرأس.

(2)

ص 26 وليس في "الإشاعة""الخمر".

ص: 474

أترجُو أمّةٌ (1) قتلتْ حُسينا

شفاعةَ جدِّه يومَ الحساب

نقله ابن حجر في "الصواعق المحرقة"، وكذا في شرح الهمزية، وزاد بقلم من حديد، فهربوا وتركوه ثمَّ عادوا وأخذوه، ولما قدموا به على يزيد أقام الحريم على درج الجامع، حيث يقام الأسارى والسبي (2)، كذا في شرح "الهمزية"، ومما ظهر يوم قتل الحسين أن السماء أمطرت دمًا، وأن أوانيهم ملئت دَمًا، وانكسفت الشمس، ورميت النجوم، واشتدّ الظلام حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت، وأن الكواكب خربت بعضها بعضا، وأنه لم يرفع حجر إلا رؤي تحته دم عبيط، وأن الرؤوس انقلبت دَمًا، وأن الدُّنيا أظلمت ثلاثة أيام (3).

(1) المقصود بالأمة أفراد الجماعة التي قتلته وإلا فالأمة تأبى ذَلِكَ وترفضه.

(2)

في (ب): (والبس).

(3)

قال ابن كثير تعليقًا على هذه الأقوال: والظاهر أن هذا من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الأمر، ولا شك أنَّه عظيم ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه، وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين رضي الله عنه ولم يقع شيء مما ذكروه فإنَّه قد قُتل أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أفضل منه بالإجماع ولم يقع شيءٌ من ذَلِكَ، وعثمان بن عفان رضي الله عنه قتل محصورًا مظلومًا ولم يكن شيء من ذَلِكَ، وعمر بن الخطّاب رضي الله عنه قتل في المحراب في صلاة الصبح، وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة مثل ذَلِكَ ولم يكن شيء من ذَلِكَ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد البشرية في الدنيا والآخرة يوم مات لم يكن شيء مما ذكروا، ويوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس، فقال الناس: خسفت لموت إبراهيم فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف وخطبهم وبيّن لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته. . إلخ كلامه رحمه الله في التفسير 4/ 43.

ص: 475

قال في "شرح الهمزية"، بعد ذكر ما تقدم: ثمَّ ظهرت فيها أي: الدنيا الحُمرة قال: وقيل احمرت ستة أشهر، ثمَّ لا زالت الحمرة ترى بعد ذلك، وعن ابن سيرين أن الحمرة التي مع الشفق، لم تكن حتى قُتل الحسين. قال الإمام ابن الجوزي وحكمةُ ذلك أن الغضب يؤثر حمرة الوجه، والحقُ منزه عن الجسمية (1) فأظهر تأثير غضبه على من قتل الحسين، بحمرة الأفق إظهارًا لعظم الجناية، انتهى.

واعلم أن يزيدًا قد آذى الله ورسوله واعتدى على أهل بيت النبوة وفعل بهم أفاعيل وقتل منهم يومئذ مع الحسين من إخوته وأولاده وبني أخيه الحسن، ومن أولاد جعفر وعقيل تسعة عشر رَجُلا قال الحسن البصري: ما كان لهم على وجه الأرض يومئذ شبيه ومع ذلك أوقف حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف الأسارى، زاد بذلك عجبًا وافتخارًا فنعوذ بالله من أفعال هذا الخسيس القبيحة، ونحن نعلم بالضرورة أن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم أذية أكبر من قتل أولاده (2)، وسبيْ حرمه، وقد جزم بكفر يزيد جماعة من العلماء، منهم الإمام الحافظ ناصر السنة ابن

(1) تقدم أن هذه الظواهر كلها من اختلاق الشيعة، وما ذكره ابن الجوزي يحتاج إلى تدقيق ونظر، فالجسم لم يرد في إثباته أو نفيه شيء من كتاب أو سنة.

(2)

ورد في هامش الأصل: قوله "ونحن نعلم بالضرورة أن أذية رسول الله كفر، هذا كلام فيه إجمال، وبيان ذلك أنَّه إن فعل ذلك المؤذي للرسول صلى الله عليه وسلم، ومراده أذيته فقد اختلف في كفر فاعل ذلك، وأما إن فعل ذلك من غير قصد أذيته صلى الله عليه وسلم فلا يكفر، ويدل لذلك أخبار كثيرة، منها قصة حاطب بن أبي بلتعة في الصحيحين ومنها قصة مسطح وحسان بن ثابت في تماديهما في حديث الإفك، ومن هذا أخبار كثيرة فيحمل حينئذ على الاستحلال أو كفران النعمة، والله الموفق مؤلفه من خطه نقل.

ص: 476

الجوزي، وسبقه القاضي أبو يعلى، ونقل عن الإمام أحمد مع شدة ورعه، وصرح الجلال السيوطي بلعنه، وقال التفتازاني: لا نشك في شأنه بل في إيمانه فلعنة الله عليه، وعلى أعوانه وفي "شرح العقائد" له ما لفظه والحق أن رضى يزيد بقتل الحسين، واستشباره بذلك وإهانته بيت النبي صلى الله عليه وسلم، مما تواتر معناه وإن كان تفاصيله أحادا، فنحن لا نتوقف في إيمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وعلى أعوانه. انتهى (1).

وكتب الشيخ مصطفى بن محب الدين الحنفي تحت قول ابن الحداد الشافعي: ونكل سريرة يزيد إلى الله قال: قلتُ: بل نلعنهُ عليه لعنة اللاعنين، ولعنة الخلائق أجمعين انتهى.

ولفظ ابن الحداد، نَبرأُ من قتل الحسين وممن أعان عليه أو أشار به ظاهرًا وباطنًا، هذا اعتقادنا، ونكل سريريته. انتهى. ولم نَر مَن ذكر هذه الواقعة إلَّا ولعنَه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والعجب من قوم يزعمون أنهم منصفون يُفتُونَ بالترضى عن يزيد، ويذبون عنه مهما أمكن بل بالغ بعضهم فزعم أن يزيدًا إنما قتل الحُسين بسيف جده فهذه لعمر الله الداهية الدهماء، والمصيبة الصماء، فاعتبروا يا أولي الأبصار ما هذا الخطأ الفاحش؟ والغفلة العظماء، ما أرضى هذا القائل الانتصار ليزيد العنيد، حتى زعم أنَّه قُتل بسيف جده، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال ابن الجوزي في كتابه "السر المصون": من الاعتقادات العامية، التي غلبت على جماعة منتسبين إلى السنة، أن يقولوا أن يزيدًا

(1) ينظر في شأن يزيد بن معاوية كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله في كتبه منهاج السنة (1/ 549).

ص: 477

كان على الصواب، وأن الحُسين أخطأ في الخروج عليه، ولو نظروا في السِير لعلموا كيف عُقدت له البيعة، وألُزِمَ النّاسُ بها، ولقد فعل في ذلك كل قبيح، ثمَّ لو قدَّرنا صحة خلافته، فقد بدت منه بواد كلها توجب فسخ العقد، من رَمْي المدينةِ، ورمي الكعبة بالمجانيق، وقتل الحسين وأهل بيته، وضربه على ثنيته بالقضيب، حمله الرأس على خشبة، وإنما يميل جاهل بالسيرة، عامي المذهب، يظن أنَّه يغيظ بذلك الرافضة، ونقل البرزنجي في "الإشاعة"(1)، والهيثمي في "الصواعق المحرقة"؛ أن الإمام أحمد رضي الله عنه، لمّا سأله ولده عبد الله عن لعن يزيد قال: كيف لا يُلعن مَن لعنه اللهُ في كتابه؟ فقال عبد الله قد قرأتُ في كتاب الله، فلم أجد فيه لعنَ يزيد، فقال الإمام إن الله يقول:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: 22 - 23] الآية وأيّ فساد وقطيعة أشد مما فعلهُ يزيد. انتهى كلامهما.

قُلْتُ: والمحفوظ عن الإمام أحمد رضي الله عنه خلاف ما نقلا، ففي "الفروع" (2) ما نصّه: ومن أصحابنا من أخرج الحجاج عن الإِسلام، فيتوجه عليه يزيد ونحوه، ثمَّ قال: ونص أحمد خِلاف ذلك وعليه الأصحاب ولا يجوز التخصيص باللعنة، خلافًا لأبي الحسين، وابن الجوزي وغيرهما، قال شيخ الإِسلام: ظاهر كلام الإمام أحمد الكراهة.

قُلْتُ: والمختارُ ما ذَهَبَ إليه ابن الجوزي، وأبو حسين القاضي،

(1) ص 30.

(2)

ص 10/ 190.

ص: 478

ومن وافقهما، ثمَّ وقفت على ترجمة يزيد قبحه الملك المجيد، في كتاب "الوافي بالوفيات"، فرأيت فيه ما يشعر بكفر يزيد السفيه، فمن أعظم ما رأيت من قبائحه الفظيعة وفواضحه الشنيعة ما نقله في الكتاب المذكور، عن ابن القفطي أن السبي لما ورد من العراق على يزيد، خرج فلقى الأطفال والنساء من ذرية عليّ والحسين، والرءوس على أسنة الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة العقاب، فلما رآهم أنشأ الخبيث يقول:

لما بدت تلك الحمول وأشرفت

تلك الرءوس على شفا جيروني

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

يعني: أنَّه قتل بمن قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر مثل جده، عتبة وخاله ولد عتبة، ونحوهما فجزمت حينئذ بكفر يزيد، جزمًا ما عليه مزيد، وعلمتُ أن قائل هذا الكلام خارج عن ربقة الإِسلام من غير شك، ولا ريب والله تعالى أعلم.

تنبيه: ذكر القرطبي (1) أن الذي باشر قتل سيدنا الحسين رضي الله عنه هو سنان بن أبي سنان النخعي، وهو جد شريك القاضي قال: ويصدق في ذلك قول الشاعر:

وأي رزية عدلتْ حسينًا

غداة تبيده كفا سنان (2)

وقال خليفة بن خياط: الذي قتل الحسين شمر بن ذي الجوشن، وأمير الجيش عُمر بن سعد، وكان شمر أبرص، وأجهز عليه خولي بن زيد الأصبحي من حمير، حزّ رأسه، وأتى إلى عبد الله بن زياد (3)،

(1)"التذكرة"(2/ 390).

(2)

"التذكرة" ص (2/ 390).

(3)

المصدر السابق.

ص: 479

ومما اشتهر على ألسِنة العامة في نواحي نابلسِ، أن الذي قتل حسين بن علي رضي الله عنهما، هو شمر من قرية، يُقال لها بزاريا على أميال من غربي نابلس، ولا يُعلم لذلك صحة. والله أعلم.

تتمة: روى الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وسط النهار أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم يلتقطه، ويتتبع ذلك فيها، قال: قلتُ يا رسول الله ما هذا؟ قال دم الحسين وأصحابه، لم أزل أتتبعه منذ اليوم، قال عمار فحفظنا ذلك اليومَ، فوجدناه قتل ذلك اليوم (1)، قال القرطبي (2) وهذا سند صحيح لا مَطعن فيه، فانظر هذا المنام ما أصدقه! وانظر للذي زعم أنَّه قُتِل بسيف جده، ما أحمقه!

وذكر القرطبي في "التذكرة" أن رأس حُسين رضي الله عنه لمّا وضع بين يدي يزيد، أمر أن يُجعل في طست من ذهب، وجعل ينظر إليه ويقول:

صَبرْنا وكانَ الصبرُ منا عزيمةً

وأسيافُنا يُقَطِّعنَ كفًّا ومعصما

نُفْلِقُ هامًا من رجال أعزةٍ

علينا وهم كانوا أعق وأظلما (3)(4)

(1) يعني رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم كما صرحت الروايات، والحديث رواه أحمد 1/ 242 و 283، وعبد بن حميد (710)، والطبراني في الكبير 3/ 110 (2822) و 12/ 185 (12837)، والحاكم 4/ 439 وإسناده قوي.

(2)

"التذكرة"(2/ 391).

(3)

البيتان نُسبا إلى الحصين بن الحمام المري. انظر البداية والنهاية 8/ 214،

ومجمع الزوائد 9/ 139.

(4)

"التذكرة" ص 647 - 648.

ص: 480

وقد كذب عدوُّ الله، بل هو الظالم العاقُ المخالفُ لله ورسوله ثمَّ إنه تكلّم بكلامٍ قبيح كأفعاله القبيحة، وأمر بالرأس أن يُصلب بالشام، ولمّا صُلب، اختفى خالدُ بنُ عِمران وكان من أفاضل التابعين، فطلبوه شهرًا حتى وجدوه، فسألوه عن عزلته، فقال: أما تَروْنَ ما نزل بنا؟ وأنشأ يقول في ذلك:

جاءوا برأسك يا ابن بنت محمَّد

مُتزملًا بدمائه تزميلا

وكأنما بك يا ابن بنت محمَّد

قتلوا جهارًا عامدين رَسولا

قتلوك عطشانًا ولم يترقبوا

في قتلك التنزيل والتأويلا

ويُكبِّرون بأن قُتِلتَ وإنما

قَتلوا بكَ التكبيرَ والتَّهليلا

ثمَّ بعثوا برأس الحسين رضي الله عنه إلى المدينة، فدفنوه بالبقيع عند قبر أمه قال القُرطبي: هذا أصحُ ما قيل فيه (1)، وأمَّا المكان المعروف بالمشهد الحسيني من القاهرة ليس الحسين مدفونًا فيه بالاتفاق، وزَعَم بعضُهم أنَّ رأسَه فيه، وردّ عليه بعضهم، وأما شيخُ الإِسلام ابن تيمية (2)، فشدَّدَ النكير في ذلك وأطال في الرد على زاعم ذلك، واللهُ أعلم.

ومنها وقعة الحرّة (3): وحاصلُها أنَّه لمّا صار من يزيد العنيد ما

(1)"التذكرة" ص 648.

(2)

الفتاوى (4/ 508، 510).

(3)

الحرة أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار،. . والحرار في بلاد العرب كثيرة منها: حرة واقم إحدى حرى المدينة وهي الشرقية، وفي هذه الحرة كانت وقعة الحرة المشهورة في أيام يزيد بن معاوية سنة 63 هـ. معجم البلدان 201/ 245، 249. وانظر "الإشاعة" لهذا وما بعده وقبله ص 27.

ص: 481

صار، في حق سبط سيد العالم، أظهر ابن الزبير الخلاف على يزيد، والتجأ إلى مكة وقام أهل المدينة فشاركوا ابن الزبير، في الخلاف وخلعوا يزيد بَعد أن بايعوه، وحاصروا بَني أُميّة الذين كانوا بالمدينة، فأرسل مَروانُ إنّا حُصِرنا ومُنعنا الماء العذبَ فواغوثاه، فوجّه إليهم يزيدُ مسلمَ بن عقبة المرّي، أمرَّ الله عيشه في اثنى عشر ألفا وقال له: ادعُهم ثلاثًا فإن رَجَعوا وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة للجيش ثلاثًا، وأجهز على جريجهم، واتبع منهزمهم (1) فتوجَه إليهم، فوصل في ذي الحجة سنة ثلاث وستين.

فحاربوا وكانَ الأميرُ على الأنصار عبد الله بن حنظلة - غسيل الملائكة - وعلى قريش عبد الله بن مطيع، وعلى غيرهم من القبائل معقل بن سنان الأشجعي، وكانوا اتخذوا خندقًا، فلمّا رأوهم أهل الشام خافوهم وكرهوا قتالهم، فأدَخل بنو حارثة قومًا من الشاميين من جانبة الخندق، فلما سمعوا التكبيرَ في جوف المدينة خافوا على أهلهم، فتركوا القتال ودخلوا المدينة فكانت الهزيمة، فأباح مسلم - لا سلمه الله - المدينة المنورة ثلاثًا، يقتلون الناس، ووقعوا على النّساء وقاتل عبد الله بن مطيع حتى قُتل هو وبنون له سبعة، وَبَعثَ برأسه إلى يزيد.

(1) ينبغي التنبيه أن كثيرًا من تفاصيل هذه الواقعة وأمثالها يستند على روايات لا يوثق بها، فبعض الأحداث الواردة هنا رواها الطبري في تاريخه من طريق أبي مخنف لوط بن يحيى وهو تالف لا يوثق به كما قال الذهبي في الميزان 3/ 419. وأيضًا فإن الشيعة كان لهم دور في صياغة هذه الأحداث تاريخيًا بما يوافق هواهم.

ص: 482

وقُتل من وجوه الناس أكثر من سبعمائة من الأنصار، ومن قريش ومن أخلاط الناس من الموالي والعبيد والصبيان والنساء أكثر من عشرة آلاف، وسَبُوا الذرية واستباحوا الفُروج، وأحبلوا أكثر من ألف امرأة من الزنا، وسمي أولادهن أولاد الحرة، ورَبطوا الخيل بسواري المسجد، وجالت الخيل فيه، وراثت وبالت بين القبر الشريف والمنبر (1)، وتعطل المسجد ثلاثة أيام لم يُصلَ فيه، وجبروا الناس على المبايعة ليزيد، على أنهم عبيد له في طاعة الله ومعصيته، حتى إنه أتي بابن المسيّب يبايع على ذلك فقال: بل على كتاب الله، وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، فأمر بقتله، فقال بعضُ الناس: دعوه فإنَّه مجنون، فتركوه (2) وكل من أبى أن يبايع على أنَّه عبد ليزيد في طاعة الله ومعصيته، أمر بقتله وأما زين العابدين رضي الله عنه، فلم يتعرضوا له، وسَمُّوا مسلمًا هذا مسرفا عليه غضب الله وسخطه.

ثمَّ توجه إلى ابن الزبير، فإن يزيد قال له إذا فرغت من أمر المدينة، توجه إلى مكة وكان مسرفًا مريضًا، فمات في الطريق، وذُهب به إلى أمه الهاوية، فلعنة الله عليه، وكان من شدة كُفره وضلاله يقول: اللهم إني لم أعمل بعد شهادة أن لا إله إلَّا الله عملًا أرجى لي من قتل أهل المدينة (3)، ولئن دخلتُ النار بعدها إني لشقي.

(1) هناك مبالغة في بعض المواضع، منها هذا الموضع فالقتال كان خارج المدينة.

(2)

في (أ): فتركه، والمثبت من (ب)، و (ط).

(3)

ينبغي الحذر في الأخذ بهذه الروايات كما تقدم بيانه.

ص: 483

قُلْتُ: لئن لم يدخل هذا الخبيث النارَ إنها لمصيبة، وأنا لا أشك في كفر هذا الخبيث.

فلما حَضرته اللّعنة وقَرُبَ هلاكه نادى حُصين بن نُمير، وقال له: أمير المؤمنين قُلْتُ: إنما هو خَبيثُ المؤمنين، يعني: يزيد ولاك بعدي، فأسرع السيرَ ولا تؤخر قتال ابن الزبير، وأمرَهُ أن يَنصُبَ المجانيق على مكة، وقال له: إن تعوَّذَ بالبيت فارمه. فذهب وحاصر مكة أربعًا وستين يومًا وجرى فيها قتال شديد، ورمي البيتَ بالمجانيقَ وأخَذ رَجلٌ قبسا في رأس رُمح فطارتْ به الريح، فأحرق البيتَ.

فجاءهم نعي يزيد، وكان بين الحرّة وهلاكه ثلاثة أشهر، فلما عَلموا بهلاكه ذلّت أهل الشام، واجترأ أهل مكة والمدينة عليهم، حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلا أخذ بلجام دابته، فنكِّس عنها فَقالَ أهلُ الشام لبني أُميّة لا ترحلوا حتى تحملونا معكم إلى الشام، ففعلوا.

ومضى ذلك الجيش حتى دخل الشام، فبويع لابن الزبير بالحجاز، وبايع أهل الآفاق كلها لمعاوية بن يزيد رحمه الله: وكان رجلًا صالحًا، فقام خطيبا فقال: أيها الناس إن معاوية نازع هذا الأمر أهلَهُ، وخاض في دماء المسلمين حتى غلب عليه، ثمَّ مات فالله أعلم بما هو صائر إليه، وإن أبي يزيد نازع هذا الأمر أهله وقتل أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الحرمين، ونصب على مكة المجانيق، ثمَّ مات فالله أعلم بما هو صائرٌ إليه، وإنكم قلدتموني هذا الأمر، فوالله لا أذهب بإثمه وتذهبون بنعيمه، ولا أدخل في شيء من دماء

ص: 484

المسلمين وأموالهم (1).

فلزم بيته إلى أن مات رحمة الله عليه، وذلك بعد أربعين يوما، وقيل ستة أشهر وهو آخر من تولى من بني أبي سفيان، وكان قتل الحسين، ووقعة الحرة، ورمي الكعبة بالمنجنيق من أعظم الشنائع التي وقعت في زمن يزيد، ثمَّ قتله الله هو وجنوده وأعوانه، فقُطع دابرُ القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، ثمَّ بَعد موت معاوية بن يزيد رحمه الله، بايع أهل الآفاق كُلها لابن الزُبير رضي الله عنه، وانتظم له المُلكُ بأرض الحجاز واليمن ومصر والعراق، وجميع المشرق كله، وجميع بلاد الشام حتى دمشق، ولم يتخلف عن بيعته إلا بنو أميّة، ومَن يهوى هواهم وكانوا بفلسطين، حتى أن مروان هَمّ بالرّحلة إلى مكة ليبايعه، فمنعه بَنو أميّة وبايعوه بالخلافة، وخرج بمن أطاعه إلى دمشق وقاتل الضحاك بن قيس المبايع لابن الزبير، فاقتتلوا بمرج راهط فقُتل الضحاك وغلب مروان على الشام، ثمَّ توجه إلى مصر فحاصر عامل ابن الزبير بها، حتى غلب عليها في ربيع الآخر سنة خمس وستين ومات في تلك السنة، فكانت مدته ستة أشهر وعهد لابنه عبد الملك، فقام مقامه وكمل له ملك الشام ومصر والمغرب، ولابن الزبير ملك اليمن والحجاز والعراق والمشرق، إلا أن المختار بن أبي عبيد غلب على الكوفة، وكان يدعو إلى المهدي من أهل البيت ويقول: إنه محمَّد بن الحنفية فأقام على ذلك سنتين.

(1) أورد ابن كثير خطبة معاوية بن يزيد في البداية والنهاية 8/ 257 بسياق مختلف ليس فيه ذِكر لمعاوية بن أبي سفيان ولا لابنه يزيد. وانظر "الإشاعة" ص (29).

ص: 485

ثمَّ سار إليه مُصعب بن الزبير أمير البصرة لأخيه عبد الله بن الزبير، فحاصر المختار حتى قتله في شهر رمضان سنة سبع وستين، وانتظم أمر العراف كله لابن الزبير، فدام ذلك إلى سنة إحدى وسبعين فسار عبد الملك إلى مُصعب فقاتله حتى قتله في جمادى منها وملك العراق كلّه، ولم يبق مع ابن الزبير إلا الحجاز واليمن فقط، فجهز إليه الحجاج بن يوسف الثقفي الخبيث عدوّ الله، فحاصره في سنة اثنتين وسبعين إلى أن قتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكان مجموع مدة ابن الزبير رضي الله عنه، تسع سنين وشيء، ثمَّ اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، ثمَّ بعده على ابنه الوليد، ثمَّ ولي الأمر بعده أخوه سليمان، ثمَّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ثمَّ يزيد بن عبد الملك، ثمَّ هشام بن عبد الملك، فكلهم أولاد عبد الملك إلا عمر رضي الله عنه، فإنَّه ابن أخيه، ثمَّ بعد هشام تولى ابن أخيه الوليد بن يزيد (1) الجبار العنيد، فقد ورد في مسند الإمام أحمد: ليكونن في هذه الأمة رجلٌ يقالُ له الوليد، لهو على هذه الأمّة أشد من فرعون لقومه (2).

وقال ابن فضل الله في "المسالك": الوليدُ بن يزيد الجبار العنيد، فرعون ذلك العصر الذاهب، والدهر المملوء بالمعائب، يأتي يوم

(1) انظر "الإشاعة"(31).

(2)

المسند عن عمر (1/ 18) والبيهقيُّ في "الدلائل"(6/ 505) مرسلًا، والحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة (4/ 494) وأورده ابن حبَّان في المجروحين (1/ 125) وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 46).

ص: 486

القيامة، يقدمُ قومه فأوردهم النار ويردُ بهم العار، وبئس الورد المورود، والمردى في ذلك الموقف المشهود، ورشق المصحف بالسهام ولم يخف الآثام، وذلك أنَّه استفتح في المصحف الشريف فخرج، {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15]، فمزّق المصحف وقال:

أتوعدني بجبار عنيد

وإني فيك جبار عنيدُ

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليدُ

وكان قد استباح الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيه، حتى راودَ أخاه سليمان عن نفسه ليفجر به، وله معائب وفضائح كثيرة جدًا، حتى أنَّه أراد الحج ليشرب الخمر فوق سطح الكعبة المشرفة، فقام عليه ابن عمه يزيد بن الوليد فقتله، وقام عليه مروان الحمار بن محمَّد بن مروان، ولّما مات وُلي أخوه إبراهيم، فغلبه مروان، واختل أمرُهم حتى غلب على الملك بَنُو العباس وقتلوهم أشد القتلة، فسبحان من لا يزول ملكه، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] فلله الأمَر من قبل ومن بعد.

فكان انقراض مُلك بني أميّة في ثنتين وثلاثين بعد المائة.

ثمَّ قام من بني العباس أوّل خليفتهم السَفَّاح، ثمَّ أخوه المنصور، ثمَّ ولده المهدي، ثمَّ ولده الهادي، ثمَّ أخوه الرشيد، ثمَّ ولده الأمين، ثمَّ أخوه المأمون، وهو الذي امتحَنَ الإمام أحمد، ثمَّ المعتصم، وهو الذي ضرب سيدنا الإمام أحمد ثمَّ ولد المعتصم: الواثق، وكان أخبث من أبيه ثمَّ أخوه المتوَكّل فأظهر السنة رحمه الله ورضي عنه، ثمَّ قتله ولده المنتصر، فلم يَقُمْ بعده إلا اليسير ثمَّ المستعين، ثمَّ المعتز، ثمَّ

ص: 487

المهتدي، وكان صالحًا مأمونًا فقُتل، وقام من بعده المعتمد إلى أن صارت النوبة إلى المستعصم، وذلك أول فتنة التتار الظلمة الفجار، فقد أخرج الأئمة الأبرار عن النبي المختار "أن قتال التتار من علامات الساعة".

أخرج الستة إلا النسائي "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا، نعالُهم الشعر، وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين، حُمر الوُجوه ذلف الأنوف، كأن وجوههم المَجانّ المُطرقة"(1).

وفي رواية عند البخاري: "لا تقومُ الساعَةُ حتى تقاتلوا خُوزا وكِرمان من الأعاجم، حُمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين وجوههم المجان المطرقة نعالُهُم الشعر"(2)، وفي لفظ "عراض الوجوه نعالهم الشعر"، على ظاهره ويحتمل أن يكون من جلود مشعرة غير مدبوغة، ويحتمل أن يكون المرادُ وفور شعرهم، حتى يطأوها بأقدامهم قاله المناوي في "تخريج المصابيح".

وقوله (حُمر الوجوه) أي بيضُ الوجوه مشربة بحمرة، قاله في "الإشاعة"(3)، وقوله (ذلف الأنوف) بالذال المعجمة في رواية الجمهور قال صاحبُ "المشارق"(4) وهو الصواب، ويُروى بالمهملة،

(1) رواه البخاري (2928، 3587)، ومسلم (2912)، وابن ماجه (4097)، وأحمد 2/ 530.

(2)

رواه البخاري (3590)، وأحمد 2/ 319، وابن حبَّان (6743)، والحاكم (4/ 523).

(3)

ص 35.

(4)

مشارق الأنوار للقاضي عياض (1/ 270).

ص: 488

وهُو بضم الذال وسكونِ اللام جمع أذلف كأحمر، معناه فُطس الأنوف كما في الرواية الأخرى أي قصارها، مع انبطاح وقيل: غُلظُ أرنبة الأنف قاله النوويّ (1)، والمجانّ: بفتح الميم، وتشديد النون جمع مجن بكسر الميم: هو الترس والمطرقة بضم الميم، وسكون الطّاء وحُكي فتحها، وتشديد الراء.

قال النوويّ (2) عن الأوّل: أعني سكون الطّاء: هُو المشهور في الرواية، وكتب اللغة ومعناه أن وجوههم عريضة كما في الرواية الأخرى، ووجناتهم ناتئة كالترس المطرقة، وقوله "حتى تقاتلوا خوزا" قال في "النهاية" (3) بالخاء المعجمة والزاي: جبل معروف وهو من بلاد الأهواز، من عراق العجم، بحيث قيل أنَّه صنف منهم وكِرمانُ صنفٌ في العجم، قال السخاويُّ: وهي بلدةٌ معمورة من بلاد العجم بين خراسان وبحر الهند، ويروى خوراء بالراء المهملة وهو من أرض فارس، وصوّبه الدارقطني. والله أعلم.

ولما خرج التتار خرَّبوا البلاد، وأبادوا العباد، وأظهروا الفساد. قال السبكي في "طبقاته" (4): لم يكن منذ خلق الله الدنيا فتنة أكبر من فتنة التتار، فإنهم خربوا المساجد، وحَرقوا المصاحف والكتب، وقتلوا الرّجال وسبَوا النساء وبقروا بطُون النساء. فأخرجوا أولادهن، وقتلوهم.

قال السخاوي: ولم تزل بقاياهم يخرجون إلى أن كان آخرهم

(1) و (2) شرح مسلم (18/ 37).

(3)

"النهاية"(2/ 87).

(4)

طبقات الشافعية 1/ 329.

ص: 489

تيمور الأعرج، فطرق الديار الشامية وعاث فيها وحرَقَ دمشق، حتى جعلها خاوية على عروشها ودخل الروم والهند وما بين ذلك، وطالت مدته إلى أن مات وتفرق بنوه في البلاد.

قال في "الإشاعة"(1): وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أوّل من يسلبُ أمّتي ملكَها بنو قنطورا"(2).

قال السخاوي: وقنطورا بالمد والقصر: قيل كانت جارية لإبراهيم الخليل عليه السلام، فولدت له أولادًا فانتشر منهم الترك حكاه ابن الأثير (3)، وجزم به في القاموس. والله الموفق.

ومن علامات الساعة نار الحجاز التي أضاءت أعناق الإبل ببصرى، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

روى البخاريُّ في صحيحه والحاكم في المستدرك، عن أبي هريرة مرفوعًا:"لا تقوم الساعة حتى تخرجَ نارٌ من أرض الحجاز، تضيء أعناق الإبل ببصرى"(4).

وأخرج الإمام أحمد، وابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن أبي ذرّ مرفوعًا:"ليت شعري متى تخرج نار من جبل وِراق، تضيء لها أعناق البخت ببصري كضوء النهار؟ "(5).

(1) ص (36).

(2)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 304، وعزاه للطبراني في الأوسط وقال: فيه مروان بن سالم وهو متروك.

(3)

"النهاية"(4/ 113).

(4)

رواه البخاري (7118)، ومسلم (2902) 4/ 2227، والحاكم 4/ 443.

(5)

رواه أحمد 5/ 144، والبزار في مسنده (430)، وابن حبَّان (6841)، =

ص: 490

قال نور الدين السيد علي السمهودي، في "تاريخ المدينة" (1): وقد ظهرتْ هذه النّارُ بالمدينة واشتهرتْ اشتهارًا بلغ التواتر، وتقدمها زلازلٌ مهولة، وأشفق أهلُ المدينة منها غاية الإشفاق، والتجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم (2)، وكان ابتداء الزلزلة بالمدينة، مستهل جمادى الآخرة، آخر جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وستمائة أي: فيكون قبل قتل المستعصم (3) وخراب بغداد بسنتين، قال لكنها كانت خفيفة واشتدت يومَ الثلاثاء وظهرت ظهورًا عظيما، ثمَّ إنه لما كانت ليلة الأربعاء ثالث الشهر أو رابعه، في الثلث الآخر منها حدثت زلزلة عظيمة، انزعجت القلوبُ لهيبتها، واستمرت بقية الليل إلى يوم الجمعة، ولها دَويٌّ أعظم من الرعد، فتموجت الأرض وتحركت الجدران، حتى وقع في يوم واحد دون ليله ثماني عشرة حركة فأسكنت ضحى يوم الجمعة.

ولما كان نصفُ النهار ظهرت تلك النار، فثار من محلّ ظهورها دخان متراكم غشي الأفق سواده فلما تراكمت الظلمات، وأقبل الليل سطع شعاع النار، وظهرت بقريظة بطرف الحرة، ترى تلك النار على هيئة البلد العظيم، عليها سور محيط على شراريفَ وأبراج، ومنابر

= والحاكم 4/ 490، وابن أبي شيبة 7/ 471.

(1)

هو كتاب "وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى".

(2)

الالتجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به والسير على نهجه هو المشروع، أما إذا قُصِدَ الالتجاء إليه بدعائه فهذا لا يُشرع كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة.

(3)

في (أ) المعتصم وهذا خطأ والصواب (المستعصم) كما في (ط)، و (ب). وذلك أنَّ وفاة المعتصم كانت سنة 227 هـ.

ص: 491

ورجال، يقودونها لا تمر بجبل إلَّا دكته.

ويخرج من ذلك مثل النهر أحمر وأزرق، له دوي كدوي الرَّعد يأخذ الصخور من بين يديه، وينتهي إلى مَحطّ الرَّكب العراقي، واجتمع من ذلك ردم كالجبل العظيم، فانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك كان يأتي المدينة نسيم بارد.

قال في "الإشاعة"(1): وشوهد لهذه النار غليان، كغليان البحر، قال القاضي سنان فطلَعْتُ إلى الأمير وكان عز الدين منيف (2)، فقلت له: قد أحاط بنا العذابُ فارجع إلى الله تعالى فأعتَقَ كل مماليكه، ورد على الناس مظالمهم، وأبطل المكس، ثمَّ هبط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبات في المسجد ليلة السبت، معه جميع أهل المدينة حتى النساء والصغار، وباتوا يتضرعون ويبكون، وكشفوا رؤوسهم واعترفوا بذنبوهم، واستجاروا بنبيهم (3)، فصرف الله تلك النار عنهم، ذات الشمال فسارت من مخرجها ببحر عظيم من النار، واستمرت مدة ثلاثة أشهر. قال المطرزي: كانت تذيب الحجر، ولا تحرق الشجر، وهذا من العجائب.

وذكر القسطلاني: أن هذه النار لم تزل مارة على سبيلها حتى اتصلت بالحرة، ووادي الشظاة، وهي تسحق ما والاها وتذيب ما

(1) الإشاعة ص 39.

(2)

عز الدين منيف بن شيحة الحسيني كان أمير المدينة عند ظهور نار الحرة بالمدينة، انظر "تحفة السخاوي"(1/ 429).

(3)

انظر الصفحة السابقة.

ص: 492

لاقاها من الشجر الأخضر والحصى من قوة الحرّ، وإن طرفها الشرقي آخذ بين الجبال، فحالت دونها فوقفت وإن طرفها الغربي وهو الذي يلي الحرم، اتصل بجبل يقال له وعيرة على قرب من شرقي أحد، ومضت في الشظاة التي في طرفه فطفئت قال: وأخبرني من أعتمد عليه أنَّه عاين حجرًا ضخمًا من حجارة الحرة، كان بعضه خارجًا عن حدّ الحرم فعلقت بما خرج منه، فلما وصلت إلى ما دخل منه في الحرم طفئت وخمدت، قال: فهذا أولى بالاعتماد من كلام المطرزي: إنها كانت تحرقُ الحجر دونَ الشجر وإن رجلًا مد إليها نبلًا فأحرقت النصل، ولم تحرق الخشب فإن المطرزي لم يُدرك هذه النار.

قال المؤرخون: واستمرت هذه النار مدة ظهورها تأكل الحجارة والجبال، وتسير سيرًا ذريعا في واد يكون مقداره أربعة فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه قامتان ونصف، وهي تجري على وجه الأرض فيذوب الصخر حتى يبقى مثل الماء، فإذا جمد أسود بعد أن كان أحمر ولم يزل يجتمع من هذه النار [الحجارة](1) الذائبة في آخر الوادي، عند منتهى الحرة حتى قطعت في وسط وادي الشظاة، إلى جهة جبل وعيرة، فسدت الوادي المذكور بسد عظيم، من الحجر المسبوك أعظم من سد ذي القرنين.

قال العماد بن كثير (2): أخبرني القاضي صدر الدين الحنفي قال: أخبرني والدي صفي الدين مُدرس مدرسة بصرى: أنَّه أخبرَهُ

(1) ليست في (أ).

(2)

انظر البداية والنهاية 3/ 182، 183.

ص: 493

غيرُ واحد من الأعراب كان بحاضرة بلد بصرى: أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء تلك النار، مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى"(1).

قال في "الإشاعة"(2): وقد كان إقبال هذه النار من جهة مشرق المدينة في جهة طريق السوارقية، وهناك حبس سيل فإنَّه بين حرة بني سليم والسوارقية، أي: مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الإمام أحمد وأبو يعلى "يوشك نارٌ تخرجُ من حبس سيل تسيرُ سيرَ بطيئة الإبل تسيرُ النهارَ وتقيم الليلَ"(3). واللهُ أعلم.

ومنها ظهور الرّفض واستبداد الرافضة بالملك، وإظهار الطعن واللّعن علي جناب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وهذا من أعظم الفتن وأقبح المحن وموت السُنن.

وقد أخرج الإمام أحمد، وأبو يعلى والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا:"يكون في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة، يرفضون الإِسلام فإذا رأيتموهم فاقتلوهم، فإنهم مشركون"(4)، ولفظ الطبراني بإسناد حسن عنه: كنتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده عليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سيكون في أمتي قومٌ ينتحلون

(1) سبق تخريجه.

(2)

ص (39).

(3)

رواه أحمد 3/ 443، وأبو يعلى (934)، وابن حبَّان (6840)، والحاكم 4/ 489.

(4)

رواه أحمد 1/ 103 عن علي، وأبو يعلى عن ابن عباس (3586)، وعن علي (6749)، والطبراني عن ابن عباس (12997) وليس في مسند ابن عباس عند أحمد.

ص: 494

حبَّ أهل البيت، لهم نبز (1) يسمون الرافضة فاقتلوهم فإنهم مشركون" (2)، وقال الإمام عليّ كرّم الله وجهه: "يهلك فينا أهل البيت فريقان، محبٌ مُفرط وباهت مفتر" وفي لفظ:"يهلك فيّ رجلان مُحبٌ مفرط يُقرظني بما ليس فيّ، ومبغض مفرط يحمل شنآني على أن يبهتني"(3) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه خشيش وابن أبي عاصم والأصبهاني عنه كرم الله وجهه.

وصحّ: "أنّ من أشراط الساعة أن يلعن آخر هذه الأمة أوّلها"(4).

ومنها: خروج دجالين كذّابين كلهم يدعي أنَّه نبيُ كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو داود، والترمذي وصححه وابن حبَّان، وهو طرف من حديث أخرجهُ مسلم عن ثوبان: أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "سيكونُ في أمتي كذابون كلهم يزعم أنَّه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي"(5).

وفي رواية عند البخاري "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، دعواهما واحدة، وحتى يُبعث دجالون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنَّه رسول الله"(6). وفي حديث ابن الزُبير "إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابًا، منهم الأسود العنسي صاحب صنعاء، وصاحبُ

(1)(النَّبَزُ) بالتحريك (اللقب)"النهاية" لابن الأثير 5/ 8.

(2)

رواه الطبراني (12998)، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 95 السنة لابن أبي عاصم (979).

(3)

"مسند أحمد" 1/ 160، السنة لابن أبي عاصم (984، 987).

(4)

الترمذي (2210) تاريخ بغداد (3/ 158)(12/ 396).

(5)

رواه مسلم (157)، والبخاري (3413)، وأحمد 2/ 236.

(6)

رواه البخاري (6935) و (7121).

ص: 495

اليمامة يعني مسيلمة" (1)، أي وقد خرج غيرهما من الدجالين كابن صياد، إن قلنا إنه ليس هو المسيح الدجال كما سنظهره بعد.

وخرج في زمن أبي بكر طليحة بن خويلد فادعى النّبوة ثمَّ تاب ورجع إلى الإِسلام، كذا في فتح الباري للحافظ ابن حجر (2) لكن: عند ابن عساكر أنَّه خرج في عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم فوجه إليه ضرار بن الأزور فشجُّوا طُليحة وأخافوه ثمَّ جاءهم موت النبي صلى الله عليه وسلم، فأرفض الناس إلى طليحة، واستطار أمره أي: ثمَّ أسلم كما بينته في كتابي "تحبير الوفاء في سيرة المصطفى"، تبعًا لابن الجوزيّ فعلى هذا: يكون نسبة خروجه إلى زمن أبي بكر لاستطارة أمره فيه، وتمام ظهوره، والله الموفق.

وتنبأت أيضًا سجاح، فتزوجها مسيلمة بعد أن تجهزتْ لقتاله، فصنع لها مكيدة ودعاها إلى الدخول عليه وأمر أعوانه أن يكثروا من أدعاق البخور، والروائح النفيسة لعلمه أنّ النساء متى مَا شمَّت الرائحة الطيبة هاجت، فلما دخلت عليه لأجل الصلح، وشمّت تلك الروائح الطيبة، هاجت شهوتها فدعاها للزواج فأجابت، فأمهرها أن وضع عن قومها الصلاة، فقال شاعرهم:

أضحت نبيّتنا يُطاف بها

وأصبحت أنبياء النَّاس ذكرانا

(1) روي ذَلِكَ عن جابر عند أحمد 3/ 345، وابن حبَّان (6650)، وحديث ابن الزبير عند أبي يعلى (6820).

(2)

فتح الباري 13/ 87.

ص: 496

ثمَّ بعد قتل مسيلمة رجَعتْ إلى الله، وأسلمتْ فسبحان من يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.

وخرج المُختار في زمن ابن الزبير، فإنَّه كان يدَّعي أنَّه يوحى إليه وكان يكتب في مكاتيبه: من مختار رسول الله، فجهز له عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا، فقتله.

وخرج المتنبي الشاعر المشهور الذي طار شعره في الآفاق، ثمَّ تابَ ورجع إلى الله. وخرج جماعة في زمن دولة بني العباس، منهم: بهبود اللّعين، لعنه الله خرج في خلافة المعتمد، فإن بهبود اللعين أفسد في العراق، وأهان آل الرسول.

وفي خلافة المكتفي خرج "يحيى بن زكرويه القرمطي"، ثمَّ بعده أخوه الحُسين، وظهرت شامة في وجهه، فزعم أنها آيته وجاءه ابن عمه عيسى بن مهرويه، وزعم أنّ لقبه المدثر، وأنه المعْني في السورة، ولقب غلامًا له "المطوّق بالنور"، وظهر على الشام، وعاثَ ودُعي له على المنابر، ثمَّ قتل.

وخرج في خلافة المقتدر "أبو طاهر القرمطي"، الذي قلع الحجر الأسود، وكان يقول:

أنا الله والله أنا

يخلقُ الخلقَ ويُحييهمْ أنا

وفي خلافة الراضي ظهرَ [محمد بن علي الشَّلْمغاني المعروف بابن أبي العزاقر](1)، وقد شاع أنَّه يدعي الألوهية، وأنه

(1) في الأصل [محمد بن علي الشملغاني المعروف بابن أبي العراق] والمثبت من كتاب "الأعلام" 6/ 273.

ص: 497

يُحيى الموتى فقُتِلَ وصُلب، وقُتِلَ معه جماعة من أصحابه.

وظهر في خلافة المطيع قوم من التناسخية، فيهم شاب يزعم أن روح علي انتقلت إليه، وامرأته تزعم أن روح فاطمة انتقلت إليها، وأخر يدعى أنَّه جبريل، فضربوا فزَعمُوا أنهم من أهل البيت، فأمر مُعزُ الدولة بإطلاقهم.

وفي خلافة المستظهر سنة تسع وتسعين وأربعمائة ظهر رجل بنواحي نهاوند، فادّعى النّبوّة، وتَبِعهُ خلقٌ فأخذ وقُتل.

وخرج جماعة بالمغرب من الرجال والنساء فمنهم رجل تسمى بـ"لا" وحرّف الحديث المشهور: "لا نبيّ بعدي"، وجعله إخبارًا منه صلى الله عليه وسلم بأنّه "لا" أي مُسمَّى هذا الاسم نبي بعده، ويقول أن "لا" في الحديث مبتدأ ونبي خبره، وامرأته ادعت النبوة، فذكروا لها الحديث فقالت: إنما قال لا نبيّ بعدي، ولم يقل لا نبيّة.

والحاصل: أنَّه ظهر جَماعةٌ ممن أخبر عنهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما مُطلق الكذابين، لا يكادون يُحصَونَ أن يدخلوا تحت حصر، ومِن هذا القسم من يدَّعي أنَّه مهدي، وهؤلاء أيضًا كثيرون.

قال في الإشاعة (1): إنَّ رَجُلًا في زمانه كان اسمه عبد الله، واسم ابن له محمدٌ، ولقبُه مهديا فادعى أن ابنه المهدي المنتظر، فاتبعه أجلاف الأكراد وسفهاؤهم وعوامُّهم، فاستولى على بعض القِلاع ثمَّ ركب عليه عامل "الموصل" فقتل منهم جماعة، وهرب ابنه إلى بعض

(1) الإشاعة ص 121.

ص: 498

النواحي، وحُبس هو فادعى أن ابنه قد غاب وأنها الغَيبة الأولى له، فإن للمهدي غيبتين، كما في بعض الروايات كما يأتي ثمَّ أخذوا ابنه أيضًا، وأرسلوا بهما إلى تنور.

قلتُ: وفي زماننا هذا في آخر سنة سبعٍ وثلاثين بعد المائة والألف جاء رجُلٌ من نواحي البصرة إلى دمشق المحروسة يزعم أنَّه من أهل البيت، وأظهر أنَّه من السُوّاح، وأنه من أشياخ طريقة الصوفية فاجتمع عليه بعض الناس وأخذوا عليه الطريقة الصوفية، فلمّا تمكَّن مِنهُم واستمال قلُوبهم، أظهر لهم أنَّه نبيٌّ، وأن محمدًا كان جَبّارًا، وطعن في رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الرسول بحق، فظهر هذا القول من فلتات ألسنة من دَخل في طريقته، لقلة علمه وعقله وأظهره لبعض أصدقائه، فقال لمريده: ينبغي أن تجمعني بهذا لعلّ الله ينفعني به، فاجتمع به وأظهر له أنَّه من أتباعه، فحينئذٍ أظهرَ له هذا القول الفاسد، فأخبر به الناس فاجتمعوا لأجل قتله، فعلم بذلك وهرب تحت الليل لعنه الله وقد رأيتُه بعيْنَي رأسي "وكان هذا اللعين أسمر طوالًا حلو المنظر، طويل القامة، حسن العينين، مربي شعره وكان يظهر التذلل والخشوع، حتَّى إذا تكلم ترى في كلامه أثر الخوف اجتمعتُ به وتكلمت معه، واستفتاني بعض أحكام وسألنا عن مسائل ولم أر فيه قابلا لأني تفرست في أن تَذلُلَهُ نفاق فوافق ما في نفسي وزعم أن اسمَهُ السيِّد مُحمد وذكر من كان يجتمعُ به في خلواته أنَّه كان يقذف سيدتنا عائشة، ويتكلم كلامًا قبيحًا فلعنَةُ الله عليه؛ إن كان صدر منه مثل ما بَلَغَنَا عنه، وقد أخبرنا شيخنا الشيخ إسماعيل

ص: 499

العجلوني (1) أن رجلًا شهد عليه أنَّه يتكلم بكلام قبيح آنف من ذكره في هذا الكتاب، فنعوذ بالله من مكره واللهُ أعلم.

ومنها فتح بيت المقدس، ففي الحديث "أعدد بين يَدَي الساعة ستًا موتى، وفتحُ بيتِ المقدس"(2)، وقد فتح مرتين: مرةً زمن عمر رضي الله عنه، ومرة زمن الأكراد الأيّوبيه، فتحه السلطان صلاحُ الدّين رحمه الله، وفي تاريخ الحنبلي: أنَّ بيت المقدس تغلب عليه الإفرنج بعد الملك صلاح الدين مدة يسيرة، وكان فتوحه على يد الملك الناصر، فيكون فتح ثلاث مرات.

ومنها زوالُ ملك العرب، فعن طلحة بن مالك "من اقتراب الساعة هلاكُ العرب أي زوال ملكهم" رواه الترمذيُّ (3).

ومنها كثرة المال، وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، "لا تقوم الساعة حتَّى يكثُرَ المالُ فيكم فيفيض، حتى يهم ربُ المالِ من يقبلُ صدقته، وحتى يَعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرَبَ"(4) أيْ: لا حاجة لِي فيه قال في "الإشاعة"(5): وهذا وقع في زمن عثمان رضي الله عنه، وكثرت الفتوح حين اقتسموا أموال الفرس والروم، ووقع في زمن عمر بن عبد العزيز: أنَّ الرجل كان يَعرضُ ماله للصدقة فلا يجد من يقبل صدقته، وسيقع ذلك في زمن المهدي وعيسى، والله أعلم.

(1) انظر: "سلك الدرر" للمرادي.

(2)

انظر: "مسند أحمد" 6/ 25.

(3)

انظر "السنن" 5/ 724 (3929). قال الترمذي: هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث سليمان بن حرب.

(4)

البخاري (73)، ومسلم كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة (157).

(5)

ص (49).

ص: 500

ومنها أن تزولَ الجبالُ عن أماكنها أخرج الطبراني عن سمرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى تزول الجبال عن أماكنها".

ونقل الجلال السيوطي، في "تاريخ الخلفاء" (1): أن في سنة اثنين وأربعين بعد المائتين، في خلافة المتوكل، سار جبلٌ باليمن عليه مزارع لأهله، حتى أتي مزارع آخرين، وفي سنة ثلاثمائة في خلافة المقتدر، سار جبلُ بالدينور في الأرض، وخرج من تحته ماء كثير غرق القرى. ومنها فُقدان الصَّحابة رضوانُ الله عليهم. ففي الحديث "لا تقوم الساعة حتى يُلتَمسُ الرجلُ من أصحابي، كما تُلتمس الضالة، فلا يوجد". رواه الإمام أحمد عن علي مرفوعًا (2).

ومنها وقوعُ ثلاثِ خسوفات:

أخرج الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها، "سيكون بعدي خسفٌ بالمشرق، وخسفٌ بالمغرب وخسفٌ في جزيرة العرب" قيل: تُخسفُ الأرض وفيهم الصالحون قال: "نعم إذا أكثر أهلها الخبث"(3) وفي حديث حُذيفة بن أُسيد اطّلَعَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتذاكر الساعة فقال:"إنها لن تقوم حتى تَرَوا قبلهَا عشرَ آيات"، فذكر منها ثلاثة (4) خسوف خسفًا بالمشرق وخسفًا بالمغرب، وخسفًا بجزيرة العرب.

(1)(296).

(2)

رواه أحمد 1/ 93، وابن عديّ في الكامل 1/ 425 من رواية الحارث عن علي، وهو ضعيف.

(3)

رواه الطبراني في "الأوسط"(3647) بإسناد فيه ضعف لكن يشهد له ما بعده.

(4)

في الأصل ثلاث والصواب ما أثبتناه.

ص: 501