الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني في الحَشْرِ
وهو لغةً: الجمعُ. تقول: حشرتُ الناس إذا جمعتهم، والمراد به: في القيامة جمع الأجزاء بعد التفرُّق مع إحياء الأبدان بعد موتها هذا مذهب الجمهور.
وزعم بعضُهم: أن الحشرَ: هو الإيجاد والإحياء بعد الإعدام عند البعث.
وأجمع أهل السنة أن الأجساد الدنيوية تعادُ بأعيانها وأعراضها، وتقدمت الإشارة إلى ذلك (1).
واعلم أن موضع الحشر: هو الأرض بالكتاب والسنة. قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} [النازعات: 13، 14] أي: على ظهر الأرض والعربُ تسمى الفلاة وظهر الأرض ساهرة؛ لأن فيها نوم الحيوان وسَهره قال ابن عباس، والحسن وعكرمة:{فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} ، أي: على الأرض. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحُشر الناس يومَ القيامة، على أرضِ بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها عَلَمٌ لأحد"(2)، أي: ليس فيها سكن أو
(1) انظر ص 737، 739.
(2)
رواه البخاري (6521)، ومسلم (2790).
بناء أو أثر لأحد وقيل معناه: أنها لم توطأ قبل ذلك، والحديثُ في الصحيحين عن سهل بن سعد وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: "إنَّكُم مُلاقوا اللهَ حفاةً عراةً غرلًا"(1)، زاد في رواية "مشاة"، وفي رواية قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة، فقال:"أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلًا، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: الآية 104] وإن أوّل الخلائق يُكسى إبراهيم عليه السلام، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذاتَ الشمال، فأقول يا رب أصحابي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبدُ الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ}، إلى قوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117 - 118] قال: فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم"، زاد في رواية:"فأقول: سُحقًا سُحقًا" رواه الشيخان (2). ورواه الترمذي والنسائي بنحوه، قال الحافظُ المنذريّ: الغُرْلُ: بضَم الغين المعجمة وإسكان الراء جَمع أغرل الأقلف.
وأخرج الشيخان عَن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا، يحُشَرُ الناسُ حفاة عُراةً غرلًا فقالت عائشة: فقلتُ الرجالُ والنساءُ جميعًا ينظرُ إلى بعض؟ قال الأمر أشد من أن يهمّهم ذلك، وفي لفظ: من
(1) رواه البخاري (6524) و (6525)، ومسلم (2860).
(2)
رواه البخاري (3349) و (3447) و (2625)، ومسلم (2860) من حديث ابن عباس، وروى الفقرة الثانية البخاري (6583) و (7050) و (7051)، ومسلم (2290) من حديث سهل بن سعد.
أن ينظرَ بَعضُهم إلى بعض (1).
وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناسُ يومَ القيامة عُراةً حفاةً" فقالت أم سلمة: فقلتُ يا رسول الله وا سوءتاهُ!! ينظرُ بعضُنا إلى بعض؟ فقال: "شُغِل الناس"، قلتُ: ما شَغلهم؟ قال: "نَشرُ الصحائف فيها مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل"(2). وأخرج الطبراني بسند رجالُه ثقاتٌ عن سودةَ بنتِ زَمعة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُبَعثُ الناسُ حفاةً عُراةً غُرلًا قد ألجمهُمُ العرقُ وبلَغ شحوم الآذان"(3) فقُلتُ: يبصُر بعضُنَا بعضًا؟ فقال: شُغِلَ الناس، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس: 37].
واعلم أن الكُفار يُحشرون على وجوههم، قال تعالى:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34] الآية وقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} [الملك: 22]
وعن أنسٍ رضي الله عنه أن رجُلًا قال: يا رسول الله قال تعالى {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} الآية أيحشر الكافر على وجهه؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدُنيا قادرًا على أن يُمشِيَهُ على
(1) رواه البخاري" (6527)، ومسلم (2859).
(2)
رواه الطبراني في الأوسط (833).
(3)
رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3066)، والطبراني في الكبير 24/ 34 (91).
وجهه؟ " قال قتادة حين بلغَهُ: بلى وعزة ربنا. رواه البخاري ومسلم (1).
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه مرفوعًا: "يحُشرُ الناسُ يومَ القيامة ثلاثة أصنافِ: صِنفَا مُشاةً، وصِنفًا رُكبانًا، وصِنفًا على وجوههم" قيل يا رسول الله: وكَيفَ يمشونَ على وجوههم؟ قال: "إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ على أن يُمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كلَّ حدب وشوك"(2)، وتقدم الكلام على هذا الحديث (3).
وأخرج البزارُ عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: "يبعَثُ الله يوم القيامة ناسًا في صُور الذر، يطؤهم الناسُ بأقدامهم، فيقُال ما هؤلاء الذي في صور الذر؟ فيُقالُ: هؤلاء المتكبرون في الدنيا"(4).
وعند الترمذي والنسائي، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"يحُشرُ المتكبرون يومَ القيامة أمثال الذرّ في صور الرجال، يغشاهم الذل من كلل مكان، يُساقونَ إلى سجن في جهنَّمَ يُقالُ له: بولس تعلوهم نارُ الأنيار يُسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال" قال الترمذي: حديث حسن (5).
(1) رواه البخاري (4760) و (6523)، ومسلم (2806).
(2)
رواه أحمد 2/ 354، والترمذي (3142).
(3)
انظر ص 690 ت (5) وت (1، 2، 3) ص 691، 695 ت (3).
(4)
رواه ابن عدي في الكامل 3/ 121 (ترجمة الحسن بن دينار) من حديث عوف بن مالك. وله شواهد عند البيهقي في الشعب 6/ 288 - 289. ولم أقف على حديث جابر.
(5)
رواه الترمذي (2492)، وقال: حسن صحيح.
ورواه الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ:"يجُاء بالجبارين والمتكبرين يومَ القيامة رجال في صورة الذر، تطأهم الناسُ من هوانهم على الله، حتى يقضي بين الناس، قال: ثنَم يُذهَبُ بهم إلى نار الأنيار"، قال قيل يا رسول الله: وما نار الأنيار؟ قال: "عُصارة أهل النار"(1)، ورواه صاحبُ الترغيب والترهيب.
وأخرج مسلم (2) عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يَدخُل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل هو مالك بن الرهاوي: إنَّ الرَجُل يحب أن يكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنًا فقال: "إن اللهَ جميلٌ يحبُ الجمال الكبر بَطَر الحق وغمط الناس" هذا الحديث وإن كان خارجًا عن الباب، إلَاّ أن له مناسبة ظاهرة؛ لأنه في مَعرض النهي عن التكبر؛ ولهذا بَطل تأويل من زعم أن المرادَ بالكبر هنا: الكبرُ عن الإيمان أو أنه إذا ماتَ لا يكونُ في قلبه كبرٌ حين دُخوله الجنة، بل المرادُ بالكبر هو الارتفاع عن الناس، واحتقارهم.
ويُجابُ عن مفهوم الحديث بما ذكره القاضي عياض، وغيره من المحققين: أنه لا يدخل الجنة دُونَ مجازاة، أو لا يدخُلُها مع أوّل الداخلين (3) (4). وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"إن اللهَ جميلٌ يحُبُ الجمال" قيلَ جميلُ هنا بمعنى مُجمل ككريم وسميع بمعنى مُكرِم ومُسمع.
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد" ص: 35.
(2)
صحيح مسلم (91).
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 359.
(4)
هذا تأويل ويبقى الحديث على ظاهره وسيأتي كلام النووي وهو الصحيح.
وقال القشيري: معناه جليل، وقيل معناه ذو النور والبهجة أي مالكها وقيل: جميل الأفعال بكم والنظر إليكم يكلفكم اليسير، ويُعين عليه، ويثيب عليه الجزيل، ويعفو عن الكثير.
وقال النووي: هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح. وورَد أيضا في حديث الأسماء وقي إسناده مقال، والمختار جَواز إطلاقه على الله سبحانه، ومن العلماء من منعه وهذا المنع ممنوع.
قال العلماء: ما وردَ الشرع بإطلاقه فى أسمائه تعالى وصفاته أطلقناه، وما منع الشرع منعناه، وما لم يَرد فيْه إذن ولا منع لم يقض فيه بحكم، ذكر نحو هذا إمام الحرمين الجويني، ثم قال ولا يُشترطُ في جواز الإطلاق، ورود ما يقطع به في الشرع ولكن: ما يقتضي العمل به (1). وأطال في لأحياة الحيوان". والله أعلم.
(1) الأرشاد ص 143 "مسلم بشرح النووي" 2/ 95. كلام النووي رحمه الله صحيح.