الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طلوعِ الشمس من مغربها، إلى يوم يُنفخ في الصور" (1). قُلْتُ: وذكر نَحو ذلك القرطبي في "التذكرة" عن الثعلي، وغيره من المفسرين، عن أبي هريرة (2).
تنبيهات:
الأول: تقدم في حديث مسلم: "أن أوَّل الآيات طُلوعُ الشَّمسِ من مغربها"، واستشكل بأنه لو كان طلوع الشمس قبل نزول عيسى، لم ينفع الكُفار إيمانُهم في زمانه، ولا الفساق توبتهُم كما مَرَّ من أن بابَ التوبة يُغلق، ومن المعلوم: أنه ينفعهم زمن عيسى قطعًا، وإلّا لمَا صار الدينُ واحدًا، ولا كان في نزوله كبير فائدة.
وقد اضطرب كلام العلماء من المحدّثين والمفسرين في الجواب عن ذلك، والجمعُ بينَ الأحاديث الواردة في هذا الباب. والحاصل كما في "البهجة" للعلامة أنه أجيب عن ذلك بجوابين:
أحدهما: للبيهقي قال: إن كان في علم الله أن طلوعَ الشمس سابقًا، احتمل أن يكون المراد نفي قبول توبة الذين شاهدوا طلوعَ الشَّمس من مَغربها. فإذا انقرضوا، وتطاول الزمن، وعادَ بعضُهم إلى الكُفر عاد تكليف الإيمان بالغيب، وإن كان في علم الله أنَّ طلوعَ الشمس بعد نزول عيسى، احتمل أن يكون المراد بالآيات في حديث ابن عمرو آيات أُخر غير الدجال ونزول عيسى، أي: وخروج المهدي إذْ هُوَ سابقٌ عليهما قطعًا.
(1) انظر التعليق السابق وفيه كلام ابن كثير على الحديث.
(2)
"التذكرة" ص 793، باب: طلوع الشمس من مغربها
…
قال العلامةُ عن الأخير يَعني كون طلوع الشمس بعد نزول عيسى، وأن المراد بالآيات آيات أُخر هو المعتمد لما مرّ مِن أنَّ بابَ التوبة يُغلقُ من حين طلوع الشمس إلى يوم القيامة، مع أنه قدَّم في "بهجته" طلوعَ الشمس من مغربها أوَّلًا ثُمَّ خروج الدابة ثم المهدي
…
إلخ.
الجواب الثاني: أن خُروجَ الدَّجالِ أوَّلَ الآيات العظام المؤذنة بتغير انتظام أحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت سيدنا عيسى عليه السلام، وطلوع الشمس من مَغربها: هُو أوّل الآيات العظام المؤذنة بتغير انتظام العالم العلوي. وينتهي ذلك بقيام الساعة، وأمّا خُروجُ الدابَّة فإنه يقعُ في ذلك اليوم الذي تطلُعُ فيه الشمس من المغرب قال الحاكم: الذي يظهر أنَّ طلوعَ الشمس يسبقُ خروجَ الدابَّة في ذلك اليوم، أو الذي يقربُ منه (والحكمة في ذلك: أن عندَ طلوع الشمس من المغرب، يُغلقُ بابُ التوبة، فتخرجُ الدابَّة تميِّزُ المؤمن من الكافر تكميلًا للمقصود من إغلاق باب التوبة) (1).
قال العلامة: وهذا كلام في غاية التحقيق، جديرٌ بأن يُتلقي بالقبول، لما فيه من التوفيق قد قرره الحفاظ الأعلام وعلماء الإسلام.
وقال في محل آخر من بهجته: قد ذكر المحققون أن بابَ التوبة
(1) ذكر قول الحاكم ابنُ حجر كما في "الفتح" 11/ 353. وما بين القوسين من كلام ابن حجر ليس من كلام الحاكم.
يغلق بطلوع الشمس من مَغْربها، وهي (1) غيرُ الغلق بالغرغرة، فمَنْ كان على شيء بعده استمر لهُ ذلك فلا يَتَغيَّرُ حالُه كافرًا كان أو عاصيًا فلا يُقبلُ إسلامُ الكافر ولا توبة العاصي، ولا يكتب عملٌ بعد ذلك، لارتفاع الصحف وجفاف الأقلام، ولا (2) يُفتح -يعني باب التوبة- بعد ذلك، وإن ذلك لا يختص بيوم الطلوع، بل يمتدُ إلى يوم القيامة.
قالَ بَعضُهم: والحكمة في طَلوع الشمس من مغربها: أن إبراهيمَ عليه السلام قال للنمرود إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْتِ بها من المغرب، فبُهتَ الذي كفر، وأنَّ السحرة والمنجمة عن آخرهم ينكرون ذلك، ويقولون هو غير كائن، فيطلعها الله يومًا من المغرب ليَري المنكرين قدرته، وأن الشمس في ملكه إنْ شاء أطلعها من المشرق أو المغرب أو لا.
الثاني: قد مرّ في حديث أنس (3) عند ابن مردويه وغيره أن الدواوينَ تُطوي، والأقلام تجف، ولا يزاد في حسنة، ولا يُنقصُ من سيّئة وفي كلام العلامة ولا يكتب عمل بعد ذلك. وفي هذا عندي نظر لاحتمال أن يَحدُثَ على أحد المؤمنين تغير حالٍ من اقتراف ذنب، أو ارتداد ونحوهما.
والجوابُ عن ذلك: أن كلا من أهل الإيمان والمعاصي لا يتغيرُ حاله، إذ ذاك أو إذا عملوا عَمَلًا فأجسامُهم تشهدُ عليهم، كما رأيتهُ مأثورًا عن عائشة رضي الله عنها، ويأتي قريبًا (4) وفيه: "وخلصَت
(1) في (ب): (وهو).
(2)
في (ب): (ولم).
(3)
ص 654 ت (1).
(4)
ص 663 ت (5).
الحفظةُ، وشهدت الأجساد على الأعمال". رواه عبدُ بن حميد والطبراني بسند صحيح عنها والله أعلم (1).
الثالث: قد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما: "يمكث الناس بعد طلوع الشمس من مغربها، عشرين ومائة سنة"(2) وروي عبدُ بن حميد عنه: "يبقي شرار الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة"(3). وأخرج نعيم عن ابن عَمرو "لا تقوم الساعة حتى تعبدَ العربُ ما كان يَعبُدُ آباؤها عشرين ومائة سنة، بعدَ نُزُولِ عيسى ابن مريم، وبعد الدجال"(4).
وروي عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعة حتى يلتقي الشيخان الكبيران فيقول أحدهما للآخر: متى وُلدتَ؟ فيقول: زمن طلعتِ الشمس من مغربها"(5).
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن أبي هُريرة رضي الله عنه
(1) رواه الطبري في "تفسيره" 5/ 411 (14251).
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 112 إلى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 7/ 506، أشراط الساعة لابن حبيب (20)، ونعيم بن حماد في الفتن 2/ 656 من قول عبد الله بن عمرو، وقال الحافظ في الفتح 11/ 354: رفع هذا لا يثبت. انظر الضعيفة (2939).
(3)
وعزاه أيضًا الحافظ 11/ 354 لعبد بن حميد في تفسيره وقال: بسند جيد.
(4)
رواه نعيم بن حماد في الفتن 2/ 599 و 2/ 696 عن عبد الله بن عمرو موقوفًا.
(5)
الحديث في الفردوس 5/ 83 (7529) عن ابن عباس، قال السخاوي في القناعة (62) (وما يروي في التقاء شيخين فيقول أحدهما لصاحبه متي ولدت؟
…
غير صحيح.
"الآياتُ كلُّها في ثمانية أشهر"(1) وعن أبي العالية في ستة أشهر (2) وقد مرّ، لو أن رجُلا نتج مُهرًا لم يركبه حتى ينُفخَ في الصور.
وجمع الحافظ ابن حجر، في "فتح الباري"، وتبعه السخاوي في "القناعة"(3)، والبرزنجي في "الإشاعة"(4)، بما حاصله: أن المدةَ كما في الروايات الأول عشرين ومائة سنة، لكنها تمرُّ مرًّا سريعًا كمقدار عشرين ومائة شهر، كما في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رفعه:"لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر"(5) الحديث، وفيه:"اليومُ كالساعة"، وعلي هذا يكونُ تقاربُ الزمان، وتقاصر الأيام مرتين، مرةً في زمن الدجال، ثم ترجع بركة الأرض وطول الأيام إلى حالها، ثم تتناقص بعد موت سيدنا عيسى عليه السلام، إلى أن تصيرَ في آخر الدنيا إلى ما ذكر والله أعلم.
قُلْتُ: وأحسنُ من هذا ما ذكره الطيبي: أن الآيات -أي أمارات الساعة- على قسمين: قسم يدل على قربها، وقسم يدلُ على حصولها، وأن من الأول الدجال، ونزول عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج، والخُسوف.
(1) السنن الواردة 5/ 990، وإسناده منقطع، وانظر الفتح 13/ 77.
(2)
الفتح 13/ 77.
(3)
"الفتح" 13/ 84، و"القناعة" ص 73.
(4)
ص (168).
(5)
رواه أحمد 2/ 537 - 538، وأبو يعلي (6680)، وابن حبان (6842) وليس في مسلم من حديث أبي هريرة، لكنه ورد في حديث النواس بن سمعان وقد تقدم.
تنبيه: ولعل المؤلف رحمنا الله وإياه نقله من الفتح حيث عزاه ابن حجر إلى مسلم في ثنايا الشرح وعزاه في موضع آخر إلى أحمد وهو الصحيح.
ومن الثاني: الدخان وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تخرج من قعر عدن تحشر الناس، فيكون المراد بالمدة الطويلة باعتبار الأوّل، والقصيرة باعتبار الثاني، لكن الخبر ناطقٌ، بأن العشرين ومائة سنة، بعد طلوع الشمس.
تتمة: ذكَر الحَليمي: أن أوّل الآيات الدجّال، ثم نزول عيسى، ثم طلوعُ الشمس من مغربها.
قُلْتُ: والصّوابُ عندي أن أوّل الآيات خروجُ المهديّ، ثم الدجال، ثم نزول عيسى، ثم خروجُ يأجوج ومأجوج، إلى آخرها على نسق ما ذكرنا.
وأما خُروجُ السفياني فإنه وان كان قبل خروج المهدي، لكن لم يعد العلماء خروجه آية، وإنما: هو علامةٌ لخروج المهدي، والله الموفق.
الرابع من التنبيهات: زعم جماعة من العلماء أنه إنما يمتنعُ قبولَ الإيمان والتوبة وقت طلوع الشمس، أي في تلك الحالة، وأما مَن تاب بعد ذلك، أو أسلم قُبِلَ ذلك منه. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1) ما حاصله: الذي دلت عليه الأحاديث الثابتة الصحاح والحسان: أن قبول التوبة منفيًا بطلوع الشمس من مغربها، ومفهومها أنها بعد ذلك لا تُقبل بل قد جاء في بعض الروايات، التصريحُ بعدم القبول كما عند الإمام أحمد والطبريّ والطبراني عن مالك بن يخامر،
(1) انظر "الفتح" 11/ 354 - 355.
عن معاوية وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو رفعوه "لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طُبعَ على كل قلب بما فيه وكُفي الناسُ العمل"(1).
وفي حديث ابن عباس عند ابن مردويه السابق (2): "فإذا أغلق ذلك الباب، لم تُقبل بعد ذلك توبة، ولا تنفع حسنة" وعند نعيم بن حماد عن ابن عمر: "فيناديهم مناد يا أيها الذين آمنوا: قد قُبل منكم، ويا أيها الذين كفروا: قد أغلق عنكم بابُ التوبة، وجَفَّتِ الأقلام وطُويتِ الصُحف"(3).
ومن طريق يزيد بن شُريح وكُثير بنُ مرة، إذا طَلعت الشمسُ من المغرب، يُطبَع على القلوب بما فيها، وتُرفع الحفظةُ، وتؤمر الملائكة أن لا يكتبوا عَملًا (4). وأخرجَ عبد بن حميد، والطبري بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها: إذا خَرَجتْ أوَّلُ الآيات -تعني: طُلوع الشمس من المغرب- طُرحت الأقلام وطُويت الصُحف، وخَلصَت الحفظة، وشهدت الأجسادُ على الأعمال (5).
(1) الحديث أخرجه أحمد 1/ 192، والطبراني في الأوسط (59)، والطبري 8/ 98، بإسناد حسن. وانظر مسند أحمد 4/ 99، والبزار 3/ (1054)، وشعب الإيمان 5/ 444، ومجمع الزوائد 5/ 251.
(2)
انظر ت: (1)، ص (657).
(3)
رواه نعيم بن حماد في "الفتن" 2/ 654 وإسناده ضعيف.
(4)
رواه نعيم بن حماد 2/ 653 مقطوعًا.
(5)
كذا في الفتح 11/ 355 وقال: بسند صحيح. انظر: ص 660 ت (1).
وعن ابن مسعود (1) رضي الله عنه قال: الآيةُ التي تُختمُ الأعمال بها طلوعُ الشمس من مَغربها.
قال: فهذه آثار يشدُ بعضها بعضًا، مُتَّفقة على أنه إذا طلعتِ الشمسُ من المغرب أُغلقَ بابُ التوبة، ولم يُفتحْ بعدَ ذلك ولَا يَختصُّ ذلك بطلوعها، بل يمتدُ إلى يوم القيامة، ويؤيده ما يأتي: أنَّ إبليسَ يخرُ ساجدًا، وأن الدابَّة تقتُله، فإنَّه لا يموتُ إلّا عند الفراغ من العمل، والله أعلم.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 467، والطبري 8/ 101 بإسناد قوي.