الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ثم يؤتى بالصحف وتؤخذ باليمين والشمال قال تعالى: وَإِذَا {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)} [التكوير: 10] قال الثعلبي: أي: التي فِيها أعمال بني آدم نشرت لِلْحسابِ، وإنّما يؤتى بالصُّحفِ إلْزامًا للعبادِ، ورفعًا للجدل، والعناد قال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)} [الإسراء: 13] قال العلامة: معنى {طَائِرَهُ} : عمله، وقال مقاتل، والكلبي: خيره، وشره معه لا يفارقه وهو عين الأوّل.
وأخرجَ العقيلي عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكتب كلها تحت العرشِ فإذَا كانَ يوم القيامة يبعث اللهُ ريحًا فتطيرها بالأيمان والشمائل، أوّل خط فيها {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} (1) [الإسراء: 14] قال قتادة: سيقرأ يومئذ مَنْ لَمْ يكنْ قارئًا في الدُّنيا وقال تعالى:
{فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)} [الإسراء: 71] والفتيل: هو القشر الذي في شق النواةِ، وهذا يضرب مثلاً للشيء الحقِيرِ، وذكرَ مجاهد عن ابن عباسٍ أنَّ المرادَ بالفتيل الوسخ الذي يظْهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته.
(1) رواه العقيلي 4/ 266 من حديث يغنم بن سالم عن أنس وقال: منكر الحديث.
قال العلامة: وإنّما خصَّ القراءةَ بمَن أوتي كتابه بيمينه دُون مَنْ أوتيه بشمَالِه؛ لأنَّ أهل الشِّمالِ إذَا طالعوا كتا، وجدوه مشتملاً على المْهلكاتِ العظيمة، والقبائح الكَاملة فيتولى الخوف، والدهش على قلوبهم، ويثقل لسانُهم فيعجزون عن القراءة الكاملةِ، وأمَّا أصْحابِ اليمينِ إذَا طالعوها ألفوها على الكمالِ فيقْرءون كتابَهم على أحسن الوجعوه، وأتمها، ثمَّ لمْ يقنعْ أحدُهم بقراءته، بلْ يقول لأهلِ المحشر:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] قاله الفخر وأخْرجَ الديْلمي مرفوعًا: "عنوانُ كتاب المؤمنِ يومَ القييامة حُسْن ثناء النَّاسِ عليه" وقاله الفخر (1)، (2).
وخرَّجَ مكي في تفسِيره عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: يا رسول اللهِ كَيفَ يُحاسب حسابًا يسيرا؟ قال: "يؤتى العبد كتابه بيمينِه فيقرأ سيئاته، ويقرأ النَّاسُ حسنَاته، ثم يحول الصحيفة فيحول الله حسناته فيقرؤها النَّاسُ، فيقولون: ما كان لهذا العبد من سيئة"(3) فهذا تفسير قولِه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)} [الانشقاق: 7 - 9] أهله: هم أهلُ الجنَّةِ كما في البهجة.
(1) في (ب): (قاله ابن مسعود).
(2)
رواه الديلمي في مسند الفردوس (4128)، والمناوي في "فيض القدير"(5632) ورمز لَهُ السيوطي بالضعف.
(3)
أخرجه الترمذي (2425).
وأخرجَ الترمذي وحسنه، وابنُ حبان، والبيهقى، والبزار، وابنُ أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعًا في قوله تعالى:{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] قال: "يدعى الرجل فيعطى كتابه بيمينه، ويمد لهُ في جسمه ستون ذراعًا، ويبيض وجهه، ويجعل على رأسِهِ تاج من لؤلؤ يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيدِ فيقولون: اللهمَّ آتنا بهذا، وبارك لنا في هذا حَتَّى يأتيهم فيقول: أبشروا فإنَّ لكلِّ واحد منكم مثل هذا، وأمَّا الكافر فيسود وجهه، ويمد في جسمه، ستون ذراعًا، ويجعل على رأسه تاج من نار فيراه أصحابُه فيقولون: اللهم إنّا نعوذُ بكَ من هذا اللَّهم لا تأتنا بهذا فيأتيهم، فيقولون: اللهم اخزه فيقول: أبعدكم الله فإنّ لكلِّ رجل منكم مثل هذا"(1).
وأخرجَ الإمام أحمد عن عائشةَ الصديقة رضي الله عنها قالتْ: قلتُ يا رسولَ اللهِ هل يذكر الحبيبُ حبيبَه يومَ القيامةِ؟ قال: "أمَّا عند ثلاث فلا عند الميزانِ حَتَّى يعلمَ أيثقل أمْ يخف، وعندَ تطاير الكتبِ فإمَّا أنْ يعطى بيمينه أو بشماله، وحين يحرج عنق من النَّارِ"(2) الحديث.
(1) رواه الترمذي (3136)، وأبو يعلى (6144)، وابن حبان (7349)، والحاكم 2/ 242، 243، وأبو نعيم في الحلية 9/ 15 - 16.
قال أبو حاتم في العلل 2/ 89: إسرائيل يرفع الحديث والثوري لا يرفعه والثوري أحفظ.
(2)
رواه الإمام أحمد 6/ 110 (24793)، والآجري فى الشريعة (905).
وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)} [الانشقاق: 11] سعيرا أي: يدعو بالويْل والثبور، ويصْلى حرَّ السعير وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)[الحاقة: 25 - 26] يتمنى إذْ ذاك أنْ لا يؤتى كتابه لمَا فيه من العظائم والقبائح، ويودّ أنْ لا يدْري ما حسَابه لمَا يلقى منْ شدةِ الخجلِ، وبروزِ الفضائح فنسألُ الله العظيم أنْ يسددنا، ويوفقنا لما يرضيه عنّا. لو تفكرت النُّفوسُ فيما بينَ أيديها أو تذكرتْ حسابَها فيما لهَا، وعليها لبعث حزنها بريد دمعها كل وقت إليها فيا لله العجب من جد عند الأنفسِ كالهزلِ ولقدْ أحسنَ من قال:
ومِن عجبِ الأشياء أنكَ تعْلم
…
بأنك مأخوذٌ بمَا تتجرمُ
وأنتَ على ما أنْتَ فيه مقصر
…
ولا مقلع عمَّا عليْكَ يُحَرُّم
كأنكَ في يومِ القِيامةِ آمِنٌ
…
إذَا برزت للمُجْرمين جهنّم
فلا تغتر بالعمر إن طْالَ واعْتبرْ
…
فإنكَ لا تدْري متى يتَصَرَّمُ
وتسكن بيتًا غيرَ بيتِكَ مظلمًا
…
وما فيه مشروبٌ ولا فيه مَطعَمُ
وتتركُ ما قدْ كنتَ فيه محكما
…
وغيرك فيه لو علمت المحكم
وتأتي غدًا منْ بعد يسرك معسرا
…
وما لك دينار ولا لك درهم
فإنْ كنتَ قد قدّمت من قبل صالحًا
…
فإنك مِنْ هولِ القيامة تسْلم
فكنْ مقلعًا وارْجعْ إلى اللهِ واغْتنم
…
بقاك في الدُّنيا فمحياكَ مغنم
أما يحق البكاء لمن قد مضى زمانه، أما يحق البكاء لمن قد ذهبَ أوانُه، أما يحق البكاء لمن طالَ عصيانه؟! نهاره في المعاصي فقدْ زادَ خسرانُه، وليله في الخطايَا فقد خفَّ ميزانُه، وبينَ يديه الحشر العنيف
فيه ذله وهوانه، والحساب العسير ينشر فيه ديوانه، والموقف الطَّويل فيه غمومه وأحزانه، والجحيم الشَّديد فيه من العذابِ ألوانه، ذكر العرض أجرى دموعَ الخائفين وهوْل الحساب قلقل أفئدة التَّائبين.
سَأَلَ رجلٌ ذا النونِ (1): ما الذي أنصب العباد وأضناهم؟ فقال: "ذكر المقامِ، وقلة الزادِ، وخوف الحساب". ولِمَ لا تذوبُ أبدانُ العبادِ، وتذهل عقولُهم والعرض على اللهِ تعالى أمامهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم، والملائكة وقوف ينتظرون أمر الجبّار في الأخْيار، والأشرارِ؟! فمثل القوم هذا في نفوسهم، وجعلوه نصبَ أعينهم. إخواني قد شملت الغلة الخلائق حَتَّى سترت عنهم وجوه الحقائق فصار اليقينُ عندهم كالظنونِ فالعاقل يفعل فعل المجنون ولله درّ القائل:
يا أيُّها الراقد كَمْ ترقد
…
قمْ يا حبيبي قد دَنا الموعد
وخذْ من الليل وساعاته
…
حظا إذَا مَا هجع الرُّقَدُ
مَنْ نَامَ حَتَّى ينقضي ليلُه
…
لمْ يبلغ المنزل أو يجهد
قلْ لذوي الألبابِ أهل التقى
…
فنظرة العرض لكم موعد (2)
(1) هو: ثوبان بن إبراهيم، ويقال: الفيض بن أحمد، ويقال: كنيته أبو الفيض وقيل: أبو الفياض. كان مولى لقريش كان أبوه نوبيًا وكان عالمًا فصيحًا، وكان ممن امتُحِنَ وأُوذِيَ وكان أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال وفي مقامات الأولياء، وقال السلميُّ: لما مات أظلت الطير جنازته مات سنة خمس وأربعين ومائتين.
(2)
هذه الأبيات لسعدون المجنون نسبها له صاحب كتاب "عقلاء المجانين" 1/ 122.
فنسأل اللهَ العظيم أنْ يوقظنا، وأحبابنا من سِنَةِ الغفلة، وأن يستعملنا فيما يرضيه كنا بمنه وكرمه.
فوائد
الأولى: قال ابن المسيب: الذي يأخذ كتابَه بشمالِه تلوى يده خلف ظهرِه، ثم يعطى كتابه، وقيل: تنتزع (1) منْ صدرِه إلى خلفِ ظهرِه، وقال مجاهد في قولِه تعالى:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)} [الانشقاق: 10] قال: تجعل شماله وراء ظهرِه فيأخذ بها كتابه (2).
الثانية: يعطى الكافرُ كتابَه بشمالِه من وراءِ ظهره بأنْ تخلع أو يدخلها من صدْرِه أو تلوى، ويعطى المؤمن العاصي كتابه بشمالِه من أمامِه ويعطى المؤمن الطائع كتابه بيمينه من أمامِه.
الثالثة: ورد أنّ أوّل مَنْ يأخذ كتابه بيمينه أبو سلمة بنُ عبدِ الأسدِ، واسمه عبد الله، وهو أوّل من يدخل (الجنة)(3) من هذه الأمّة، وهو أوّل من هاجرَ من مكّة إلى المدينةِ كما بينتُ ذلك في كتابي "تحبيير الوَفا في سيرة المصطفى"، وروي أنَّ أوّلَ من يأخذ كتابه بشماله الأسودُ أخو أبي سلمة المذكور روي أنّه يمد يدَه ليأخذه بيمينِه فيجذبه ملكٌ فيخلع يده فيأخذه بشماله من وراء ظهره.
قُلْتُ: وذلك لأنَّ أبا سلمة رضي الله عنه لمَّا أرادَ الهجرةَ رحل لزوجته أم سلمة إحدى أمّهات المؤمنين رضي الله عنها بعيره، ثم حملها
(1) كذا في (أ)، وفي (ب): تنزع.
(2)
تفسير الطبري 12/ 509/ 36743.
(3)
ساقطة من (ب).
عليه، وحملَ معها ابنها سلمة بن أبي سلمة في حجرها، ثمّ خرجَ بها يقود بها بعيره فرأته رجال بني المغيرةِ فقاموا إليه، وقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتك هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟! فنزعوا خطامَ البعيرِ من يده فأخذوها منه، وغضبت عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، فقالوا: لا واللهِ لا نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابنه سلمة بينهم حَتَّى خلعوا يده. القصة بتمامها في السيرة، فجوزي الأسود بأنْ خلعَ اللهُ يدَه كما خلعَ يدَ الغلامِ فالجزاء من جنس العمل ولقدْ أشرتْ لأمرِ هذين الأخوين، والتفاوت بينهما في المرتبتين في قولي:
سل الراحم المولى العناية تهتدي
…
وقف بباب مولاك الكريم ووحّد
وكنْ خائفا من مكره وارج عفوه
…
وجد على فعل المكارم تسعد
ولا تغترر يا ذا المحامد والنهى
…
بأسلافك الماضين أهل التهجد
أبو سلمة الأعلا أخو الأسود الشقي
…
كذاك أبو لهبٍ قرابة أحمد
قال القرطبى في "التذكرة"(1): إذا وقفَ النّاسُ على أعمالِهم من الصحف التي يؤمر بها بعد البعثِ حوسبوا بها قال تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8] فدل على أنّ المحاسبَة تكونُ عند إتيان الكتب لأنّ النّاسَ إذا بُعثوا لمْ يكونوا ذاكرين لأعمالِهم قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] فإذا بُعثوا مِن قبورهم إلى الموقف، وقاموا فيه ما شاء اللهُ، وجاء وقتُ الحساب الذي يريد اللهُ أنْ يحاسبهم فيه أمرَ
(1) ص 1/ 387، 388.
بالكتب التي كتبها الكرامُ الكاتبون يذكر أعمال الناس، فيؤتونها فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه، وهم السّعداء، ومنهم من يؤتى كتابه بشمالِه، أو وراء ظهره فأولئك هم الأشقياء فعند ذلك يقرأ كتابه، ويعلم خطأه، وصوابه، وأنشدوا في ذلك:
مثل وقوفك يوم العرضِ عريانا
…
مستوحشًا قلق الأحشاء حيرانا
والنّار تلهب من غيظٍ ومن حنقٍ
…
على العصاةِ ورب العرشِ غضبانا
اقرأ كتابَكَ يا عبدي على مهل
…
فهل ترى فيه حرفًا غير ما كانا
لما قرأت ولن تنكر قراءته
…
إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليلُ: خذوه يا ملائكتي
…
وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
فالمشركون غدًا فى النَّار [في لهب](1)
…
والمؤمنون بدار الخلد سكانا
ومن قصيدة طويلة من كلام الإمام المحقق ابن القيم أودعها في كتابه "طريقُ الهجرتين وباب السّعادتينِ"(2) وهي عظيمة اشتملت على جُلّ أحكام الموقف فمنها:
وَيَا ليْت شعْري كيف حالكَ عندما
…
تطاير كتب العالمين وتقسم
أتأخذ باليمنى كتَابك أم [ترى](3) بِيُسْـ
…
رَاكَ خلف الظَّهرِ منك تسلم
وتقرأ [فيها](4) كل شيء عملته
…
فيشرق منك الوجه أو هو يظلم
تَقول كِتَابي هاؤم [فاقرءوه](5) لي
…
يبشر بالْجنان (6) حقا ويعلم
(1) في "التذكرة" يلتهبوا.
(2)
ص (55).
(3)
في طريق الهجرتين زيادة: ترى تسلم بالياء.
(4)
فيه.
(5)
اقرأوه يبشر بالتاء يعلم بالتاء.
(6)
في (ب): (بالجنات).
وإنْ تكن الأخرى فإنك قائل .... ألا ليتني لم أوته فهو مغرم
ولعمري إنّ المقام بتلكَ المحال، والزحام بين النساء والرِّجال، وقد اشتد الزّحام، وطالَ المقام، وصفت الأقْدام، وجمع الخاص والعام، إنَّه لمن المصائبِ العظام، والنوائبِ الجسام، وحريٌّ من صور نفسَه في ذلك الجمع الغفير أنْ يتركَ الطعام، ولذيذَ المنام، ويتشبث بذيالِ المصطفى عليه الصلاة والسلام.
فيا مَنْ غفلَ عن آخرته حَتَّى اشتعلَ الرأس شيبًا، وحال سواد لمته، تذكر وقوفك بين يدي الله عريانا وقد ضاقَ بك الفضاء، ونزلَ بكَ مرّ القضاء، وظهرت جرائمك على رءوسِ الأْشهادِ، ونودي ها فلان قدْ خسرَ، وخاب، وسلك به غير طريق العبادِ، فيا لها من خجلة ما أعظمها بين يدي الجبار، فحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل، ولقد كنت قلتُ في هذا المعنى مستغيثًا بالنّبي صلى الله عليه وسلم من هولِ ذلك، وأشكو لهُ مِنْ أسبابِ تلك المهالك:
إليكَ أشكو رسول اللهِ (1) مِنْ وجلي
…
نأى شبابي سُدًى واحتاط بي أجلي
(1) الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق؛ فيما لا يقدر عليه إلا الله، كالاستغاثة والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله من شفاء المرضى، وتفريج الكُرُبات، ودفع الضر، فهذا نوع غير جائز، وهو شرك أكبر، وقد كان زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه لا يُستغاثُ بي، وإنَّما يستغاث بالله" فنهى صلى الله عليه وسلم أن يُستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته؛ حمايةً لجانب التوحيد وسدًا لذرائع الشرك، وأدبًا وتواضعًا لربه، وتحذيرًا للأمة من وسائل الشرك، في الأقوال والأفعال؛ فإذا كان هذا فيما يقدر عليه =
نأى الشباب وجاء الشيبُ يخبرني
…
بأنّني راحلٌ للقبرِ وا خجلي
ضيَّعت عمري سدى في اللهو وا أسفي
…
حَتَّى دنا الموتُ منّي وانقضى أمَلي
حَتَّى متى أصحبُ التّسويفَ في سفري
…
وفي حضوري وعمري باد في مللي
إذا عزمت على فعل الرشاد دَنا
…
مِن الفؤادِ مُنَاد الهمِّ والكسلِ
أشكو لمولاي تقْصيري ولهوي في
…
دارِ البلاء ومَا لاقيت من عللي
وما اعتراني من الخطبِ العظيم وما
…
أحلّ بي منْ ضروبِ الحزنِ والنكل
وا خجلتي من مقامٍ لسْتُ أنكره
…
إذا بدَا لي على رؤوسِ الملا زللي
يا سيدي يا رسولَ اللهِ خذْ بيدي
…
إنّي أتيتُ بلا علمٍ ولا عملِ
حسبي افتقاري وذلي ثمّ مسكنتي
…
وطول حزني وحي سيد الرسلِ
محمد المصطفى المبعوث من مضر
…
المرتضى سيد الآتين والأولِ
صَلىّ عليه إله العرش ما صدحتْ
…
ورقُ الحمامِ على الأغصانِ بالزجلِ (1)
كذا الصحابة والآل الكرام ومَنْ
…
نحا طريقتهم مِنْ سائرِ المللِ
وكنْ إلهي معِيني إنّني وجلٌ .. لولا اعتقادي بأنّ الله نعم ولي
محمد الحنبلي يرجو الخلاص إذا
…
ما حاسب النَّاس ذاك الواحد الأزلي
= النبى صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يُستغاثُ به بعد مماته، ويُطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله، وإذا كان لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى.
(1)
جاء في هامش الأصل: وفي نسخة بخطه النظم القديم هذا:
صلى عليه إله العرش ما صدحت
…
ورق الحمام وما القول القديم تُلى