الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البابُ الأول في نفخة البعث
وقد جاء في الكتاب العزيز آياتٌ كلُّها تدلُّ على نفخة البعث، منها: قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} [يس: 51]
وقوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] وقوله {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)} [المدثر: 8] قال الكلبي وغيره: هي نفخةُ البَعثِ. والناقور: فاعول من النقر.
وقال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} [ق: 41، 42] الآية (قال المفسرون: المُنادي هُو إسرافيل عليه السلام، ينفُخُ في الصور)(1)، ويُنادِي: يا أيتها العظامُ البالية والأوصالُ المتقطعة، واللحومُ المتمزقة، والشعورُ المتفرقة، إن الله يأمرُكُنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء، وقيل يَنفخُ إسرافيلُ وينادي جبريل، والمكانُ القريبُ صخرةُ بيتِ المقدس، قالَهُ جَماعةٌ من المفسرين (2)، وهُيَ وسَط الأرضِ، وقيلَ وسطُ الأرضِ مكة المشرفة،
(1) ليست في (ب)، انظر الدر المنثور تفسير آية سورة ق (45).
(2)
المرجع السابق.
وقال علماء الهيئة: وسطُ الأرض جزيرة أرين، قالوا: هي نُقطَة الأرض كلِّها قفرُها ومعمورُها، وإذا توسَطت الشمسُ الحمل، لمْ يكن في هذه الجزيرة ظلٌ لشيء قائم، وهي أعدل الأرض هواء واعتدالَ ليلُها ونهارُها طول الدهر، لا يزيدُ ولا ينقصُ، ولا ينقصُ من شجرها ورقة.
قالوا: وكاد أن لا يموت فيها إنسان إلّا على مائة عام، وفي هذه الجزيرة أعاجيبٌ شتَّى ليسَ هذا محل ذكرها. واللهُ أعلم.
وتقدم أنّ بيْن النفختين أربعين عام، قال بعضُهم: اتفقت الروايات على ذلك، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"ما بين النفختين أربعون" قالوا: يا أبا هريرة: أربعون يومًا؟ قال أبَيْت قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبَيْت قالوا: أربعون عامًا؟ قال: أبَيْتُ الحديث (1). وقول أبي هريرة (أبيت) فيه تأويلان، فقيل:"أبيت" أي: امتنعت من بيان ذلك لكم، وقيل "أبَيْتُ" أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك (2).
(1) رواه مسلم (2955)، والبخاري (4814).
(2)
قال ابن حجر رحمنا الله وإياه في "الفتح"(8/ 552) أبيت بموحدة أي امتنعت عن القول بتعيين ذلك لأنه ليس عندي في ذلك توقيف، ولابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش في هذا الحديث فقال:"أعييت" من الإعياء وهو التعب، وكأنه أشار إلن كثرة من يسأله عن تبيين ذلك فلا يجيبه، وزعم بعض الشراح أنه وقع عند مسلم أربعين سنة ولا وجود لذلك، نعم أخرج ابن مردويه من طريق سعيد بن الصلت عن الأعمش في هذا الإسناد =
وقال الغزالي: حدثني من لا أشك في علمه ومعرفته، أن سر ذلك وأمره لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لأنه سرٌّ من أسرار الربوبية.
وفي حديث "إنَّ بيْنَ النفختين أربعين عاما"(1)، وفي تفسير الثعلبي عن أبي هريرة رضي الله عنه، في تفسير سورة الزُمر: إن الله تعالى يُرسِلُ مطرًا على الأرض فيترلُ عليها أربعين يوما، حتى يكون فوقَهم اثنى عشر ذِراعًا فيأمر الله عز وجل الأجساد أن تنبت كنبات البقل، حتى إذا تكاملت أجسادهم، كَما كانَتْ قال الله تعالى: ليحى حملة العرش، ليحيي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل فيأخذ الصورَ فيضعه على فيه، ثم يدعو الأرواحَ فيؤتَى بها، تتوهج أرواح المؤمنين نورا، والأخرى ظلمة فيقبضها جميعًا، ثم يُلقيها في الصور، ثم يأمره أن يَنفخَ نفخة البعثِ، فتخرجُ الأرواح كُلُّها كأنها النحل، قد ملأت ما بين السماء والأرض ثم يقول
= أربعون سنة وهو شاذ. ومن وجه ضعيف عن ابن عباس قال ما بين النفخة والنفخة أربعون سنة" ذكره في أواخر سورة ص، وكان أبا هريرة لم يسمعها إلا مجملة فلهذا قال لمن عينها له "أبيت" وقد أخرج ابن مردويه من طريق زيد بن أسلم عن أبي هريرة قال: "بين النفختين أربعون. قالوا: أربعون ماذا؟ قال: هكذا سمعت" وقال ابن القيم: ويحتمل أيضًا علم ذلك لكن سكت ليخبرهم في وقت أو اشتغل عن الأعلام حينئذ. ووقع في جامع ابن وهب "أربعون جمعة" وسنده منقطع. ا. هـ
(1)
أبي داود في "البعث"(42) وذكره في "فتح الباري"(8: 552)(11/ 370)، وقال الحفاظ ضعيف. ويغني عنه الحديث الصحيح في ت (1) ص (732).
الله تعالى: وعزتي وجلالي لترجِعَنَّ كل رُوح إلى جَسدِها فتدخُلُ الأرواح من الخياشيم، ثم تمشي مشيَ السُمِّ في اللديغ ثم تشققُ الأرض عنهم سراعًا، فأنا أوَّلُ من تنشقُ عنه الأرض، فتخرجون مِنها إلى ربكم، تنسلون (1).
وفي الثعلبي في تفسير سورة الأعراف، وفي تفسير ابن عطية (2)، عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم، إذا مات الناسُ كلُّهم في
(1) ابن جرير (3/ 611 - 613)(15/ 419)(18/ 132، 133)(2/ 330، 331)(16/ 30)(17/ 110)(24/ 35)(29/ 41، 42)(30/ 26، 31) الأحاديث الطوال للطبراني (36) وأبو الشيخ في "العظمة"(388، 389)، "البعث والنشور"(669)، "البداية والنهاية"(19/ 310، 313)، "الدر المنثور" عند تفسير آية (68) الزمر، وذكره في "إتحاف السادة المتقين"(14/ 435، 431) وتكلم على الحديث ودرجته. وأيضًا ابن كثير في "البداية والنهاية".
أما الألباني فقد قال في ضعيف الترغيب (2224) هو حديث طويل جدًا في نحو ثمان صفحات لا أعلم له شبيهًا فهو إسناد ظلمات بعضها فوق بعض، مما لا يشك الباحث أنه حديث مركب.
(2)
"المحرر الوجيز" سورة الأعراف آية (57) ونسبه إلى الطبري بدون إسناد. الطبري في تفسير الآية المذكورة من رواية أبي هريرة قال الشيخ أحمد شاكر معلقًا. هذا الخبر عن أبي هريرة، رواه بغير إسناد، وكنت أظنه من رواية السدي في الأثر السالف، ولكني شككت في ذلك، فآثرت أن أضع له رقًا مستقلًا وأيًا ما كان فإني لم أجد نص هذا الخبر في شيء من مراجعي. وحديث أبي هريرة في البعث رواه مسلم في صحيحه. انظر الحديث مساق بنصه في ت (1) ص (732).
النفخة الأولى، أمُطر عليهم أربعين عامًا كمني الرجال من ماء تحت العرش، يدعي ماء الحيوان فينبتون من قبورهم، بذلك المطر كما ينبت الزرع من الماء، حتى إذا استُكمِلتْ أجسادهم، نفخَ فيهم الروحُ ثمَّ تلقي عليهم نَومةً فينامون في قبورهم، فإذا نفخَ في الصور [النفخة] (1) الثانية:[قامُوا](2) وَهم يجدونَ طعم النوم في أعينهم (3)، كما يجدُ [هـ](4) النائم [إذا](5) استيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون:{يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52][فناداهم المنادي: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (6) [يس: الآية 52].
وأما قوله تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] ففي كونه من كلام الله على لسان الكفار، أو من كلامه على لسان الملائكة، قولان للمفسرين (7). قال مجاهد: إن للكافرين هجعة قبل يوم القيامة، يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل
(1) غير موجود في الطبري.
(2)
في الطبري "عاشوا".
(3)
في الطبري زيادة: رؤوسهم.
(4)
غير موجودة في الطبري.
(5)
في الطبري: "حين".
(6)
زيادة من الطبري.
(7)
القول الأول لمجاهد كما سيأتي في سياق الأثر وابن أبي يعلى وقتادة، كما أخرجه عبد الرزاق (2/ 144، 145) في قوله: {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} قال أولها للكفار، وآخرها للمسلمين، قال الكفار {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} وقال المسلمون: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون. والقول الثاني للحسن كما في الأثر الذي أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 543) ويكون الكفار والمجيبون الملائكة.
القبور، [يقول الكافر: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيقول المؤمن إلى جنبه {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ] (1) قاموا مذعورين عجلين ينظرون ما يراد بهم.
تنبيه: اختلف الناسُ هل البعث إعادة بعد تفريق؟ أو إيجاد معدوم؟
قال التفتازاني في "شرح عقائد النسفي": والبعثُ هو أنَّ الله يبعثُ الموق من القبور، بأن يجمعَ أجزاءهم الأصلية ويُعيدُ الأرواحَ إليها حق .. وذكر آيات تدل على ذلك. ثم قال: وأنكره الفلاسفة بناءً على امتناع إعادة المعدوم بعينه، وهو أنه لا دليل لهم عليه يُعتد به، غير مضر بالمقصود؛ لأن مرادنا أن الله تعالى يجمعُ الأجزاء الأصلية للإنسان، ويُعيدُ روحَه إليه سواء سمي إعادة المعدوم بعينه، أو لم يسمّ. وبهذا يسقُطُ ما قالوا إنه لو أكل إنسان إنسانًا بحيث صارَ جزءاً منه فتلك الأجزاء إما أن تُعادَ فيهما وهو محال أو في أحدهما فلا يكون الآخر معادًا بجميع أجزائه، وذلك لأنّ المعاد إنما هو الأجزاء الأصلية، الباقية من أول العُمر إلى آخره، والأجزاء المأكولة فَضلة في الأكل لا أصلية. انتهى
وتقدم الكلامُ على ذلك مُبينا قال: عكرمة رحمه الله: إنَّ الذين
(1) زيادة من "الدر المنثور" ولفظه في الزهد ولهناد يخالف ما في الدر عند تفسير آية (52) يس، وما سبق هنا.
يَغرقونَ في البحر [و](1) تقتسم لحومهم الحيتان، [ولا](2) يبقى [منهم](3) شيء إلَاّ العظام (4)[فتلقيها](5) الأمواج [إلى الساحل](6)، فتمكثُ [العظام](7) حِينا، [ثُمَّ تصيرُ نخرةً](8)، ثم [تمر](9) بها الإبل فتأكلها، ثم تسيرُ الإبل فتبعر، ثم تجئ (10) قوم فيترلون، فيأخذون ذلك البعر فيوقدونه ثم تخمدُ تلك النار، فتجيء الريحُ فتُلقي ذلك الرمادُ على الأرض، فإذا جاءت النفخةُ (11) {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] [يخرجُ](12) أولئك وأهل القبور سواء (13).
وقال العلامة: قال العلماء: إن الله تعالى محمع ما تفرق من أجساد الناس من بطون السباع، وحيوانات الماء وبطن الأرض، وما أصابَ (النيرانُ)(14) منها بالحرق والمياه بالغرق، وما أبلته الشمسُ
(1) في العظمة ساقطة وفي الدر هم الذين.
(2)
في العظمة والدر "فلا".
(3)
في العظمة: "معهم".
(4)
في العظمة زيادة تموج.
(5)
في الدر: فتقلبها.
(6)
في الدر والعظمة "حتى تلقيها على البر".
(7)
زيادة من العظمة والدر.
(8)
في العظمة والدر "حتى تصير حائلة نخرة" وفي العظمة حائلًا.
(9)
في العظمة والدر "فتمر".
(10)
في الدر والعظمة زيادة بعدهم.
(11)
في الدر والعظمة زيادة قال الله.
(12)
في الدر والعظمة "فيخرج".
(13)
انظر الدر المنثور تفسير آية (68) الزمر، وكتاب العظمة (237).
(14)
في (ب): (النار).
وذَرته الرياحُ، فإذا جمعها وأكمل كُلَّ بدنٍ منها، ولم يبق إلا الأرواح نُفخَ في الصور، وأمر إسرافيل عليه السلام فأرسلها بنفخة من ثقب الصور فترجعُ كلُ روح إلى جسدها {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]، هذا وقد دلَّ على قيام الناس من الأجداث الكتاب والسنة، وإجماع الأمة قال تعالى:{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7].
وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6] والمرادُ: يقومون من مصارعهم، حيث كانوا في سائر أقطار الأرض، وأوّلُ من يَنشقُ عنه القبرُ النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج مُسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"أنا سيّدُ ولد آدم، وأوّل من ينشقُ عنه القبر، وأوّل شافع وأوّل مشفع"(1)، وفي البخاري:"أنا أوّل من يَرفعُ رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا بموسى عليه السلام متعلقٌ بالعرش، فلا أدري أكذلك كان؟ أم بعد النفخة"(2).
وفي بعض ألفاظِ البخاري "فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفَاقَ قبلي أم جُوزي بصعقة الطور؟ ".
وأخرج الحكيم الترمذي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم، ويمينهُ على أبي بكر، وشماله على عُمر فقال: هكذا
(1) رواه مسلم (2278).
(2)
رواه البخاري (4813).
نبعثُ يوم القيامة (1).
وفي الثعلبي عن أبي هُريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "ثم تنشقُ عنكم الأرض، وأوّل مَن تنشق عنه الأرض أنا فتنسلون سِراعًا إلى ربكم، عن سِنّ الثلاثين، وفي لفظ كأنكم أبناء ثلاث وثلاثين {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر: 8]، فتقفون في موقفِ واحد سبعين عامًا حفاةً عُراةً غرلا بهُما، لا يَنُظرُ اللهُ إليكم، ولا يقضي بينكم، فتبكي الخلائقُ حتى تنقطع الدموع، ويلجمهم العرق" الحديث وفي حديث على بن معبد "فتخرجون منها شبابًا كُلكم أبناء ثلاث وثلاثين"(2).
وفي البهجة: للعلاّمة اللسان يومئذ بالسريانية.
قُلْتُ: ويحتاج إلى توقيف ثابت عن المعصوم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1) رواه الترمذي (3669)، وابن ماجه (99)، وابن أبي عاصم في السنة (1418)، وابن عدي 3/ 379 (ترجمة سعيد بن مسلمة)، وابن حبان في المجروحين 1/ 321، والحاكم 3/ 71 و 4/ 312. "نوادر الأصول" ص:38. قال الذهي في الميزان 8/ 73: قال الدارقطني في غرائب مالك: لا يصح.
(2)
انظر: "تفسير القرطبي" 17/ 28.