المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الحادي عشر في نفخة الفزع، وما يكون فيها من تغير انتظام هذا العالم، وفساد انتظامه - البحور الزاخرة في علوم الآخرة - جـ ٢

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الثاني في أشراط الساعة واقترابها وما يتعلق بذلك

- ‌الباب الأول في الأمارات البعيدة التي ظهرت وانقضت

- ‌ومنها كثرة الزلازل

- ‌الباب الثالث في العلامات العظام، والأمارات القريبة الجسام، التي تعقبها الساعة وفيه اثنا عشر فصلا

- ‌الفصل الأوّل: في المهدي وما يتعلق به

- ‌المقام الأوّل: في اسمه ونسبه، ومولده ومبايعته، وهجرته وحليته وسيرته

- ‌المقام الثاني: في علاماته التي يُعرف بها، والأمارات الدالة على خروجه:

- ‌ومنها: أنَّه يجتمع بسيدنا عيسى، ويصلي سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام خلفه

- ‌ومن الأمارات الدالة على خروجه:

- ‌المقام الثالث: في الفتن الواقعة قبل خروجه:

- ‌منها أنَّه يُحسر الفرات عن جبل من ذهب

- ‌تنبيه:

- ‌الفصل الثاني في الدجَّال وما يتعلق به، والكلام عليه في أربع مقامات

- ‌المقامُ الأول في اسمه ونسبه ومولده:

- ‌المقام الثاني في حليتهِ وسيرتِه:

- ‌ومن صفاته:

- ‌وأما سيرته:

- ‌المقام الثالث: في خروجه وما يأتي به من الفِتن والشبهات [ومعرفة سيره في الأرض]

- ‌أما خروجه:

- ‌المقام الرابع: في سرعة سيره في الأرض ومدّة لبُثه فيها، وكيفيّة النّجاة منه

- ‌أما سيره:

- ‌وأما كيفية النجاة منه:

- ‌الفصل الثالث في نزول سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام

- ‌المقامُ الأوّل: في سيرته وحليته:

- ‌وأما سيرته:

- ‌المقام الثاني: في وقت نزوله ومحله

- ‌المَقام الثالث: في مدته ووفاته:

- ‌الفصل الرابع في ذكر يأجوج ومأجوج وخروجهم من الفتن العظام والمصائب الجسام

- ‌المقام الأول: في نسبهم

- ‌المقام الثاني: في حليتهم وكثرتهم:

- ‌المقام الثالث: في خروجهم وإفسادهم وهلاكهم

- ‌الفصل الخامس خرابُ المدينة وخروج القحطاني والجهجاه والهيشم والمقعد وغيرهم، وكذا هدمُ الكعبة

- ‌الفصل السادس في طلوع الشمس من مغربها

- ‌تنبيهات:

- ‌الفصل السابع في خروج الدابَّة

- ‌المقصدُ الأوّل: في حليتها

- ‌المقصد الثاني: في سيرتها:

- ‌المقصد الثالث: في خروجها

- ‌الفصل الثامن خروج الدخان

- ‌الفصل العاشر في النار التي تخرج من قعر عدن، تحشرُ الناس إلى محَشرهم. وهي آخر العلامات

- ‌تتمة

- ‌خاتمة

- ‌الفصل الحادي عشر في نفخة الفزع، وما يكون فيها من تغير انتظام هذا العالم، وفساد انتظامه

- ‌الفصل الثاني عشر في نفخة الصعق وفيها هلاك كُل شيء

- ‌الكتاب الثالث في المحشر وما يتعلق به إلى أن يدخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ وأهلُ النارِ النَّارَ

- ‌البابُ الأول في نفخة البعث

- ‌الباب الثاني في الحَشْرِ

- ‌فصل

- ‌البابُ الثالث في الوقوف في المحشر، في شدة ما يلقاهُ الناس من الأهوال في تلك الحال

- ‌لطيفة

- ‌لطيفة

- ‌فائدة

- ‌فصلٌ في الشفاعة العظمى

- ‌فصل

- ‌الباب الرابع في ذكر الحساب، وما يليقاه العالم من شدةِ البأسِ والعقابِ

- ‌فصل في حسَابِ البْهَائم

- ‌فصل فى حساب النَّاس والإتيان بالشهود

- ‌فصل في شهادة الأعضاءِ والأزمنة والأمكنة

- ‌فصل في حساب المؤمِن ومَنْ يكلمه الله، ومن لا يكلمه

- ‌فصل في سرعة الحساب، وفيمن يدخل الجنَّة بغيرِ حساب

- ‌الباب الخامس في الميزان

- ‌فائدتان:

- ‌لطيفة:

- ‌فصل

- ‌الباب السادس في ذكر الصراطِ وهو قنطرة جهنَّم بين الجنّةِ والنّارِ وخُلق منْ حين خلقت جهنَّم

- ‌الباب السابع في الحوضِ، والكوثرِ وهما ثابتان بالكتابِ والسُّنّةِ وإجماع أهْل الحق

- ‌فصل

- ‌فصل في شفاعةِ الأنبياءِ، والملائكة، والعلماء والشهداء، والصالحين، والمؤذنين، والأولاد

- ‌فصل في سعة رحمة الله تعالى

الفصل: ‌الفصل الحادي عشر في نفخة الفزع، وما يكون فيها من تغير انتظام هذا العالم، وفساد انتظامه

‌الفصل الحادي عشر في نفخة الفزع، وما يكون فيها من تغير انتظام هذا العالم، وفساد انتظامه

قال تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)} [ص: 15] أي من رُجوع ومردٍّ وقال: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] فسّر الزمخشريُ المستثنى في هذه الآية من ثبّتَ الله قلبه من الملائكة، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل غير ذلك (1)، وإنما يَحصُل الفزع لشدّة ما يقع من الهول عند تلك النفخة؛ لأنه إذا نفخَ في الصور نفخة الفزع، تزلزلت الأرض، وتحركت السّماء، وتناثرت النجوم، وتفجرت البحار، وذَهلت المراضع، ووضعَتِ الحوامل، وعُطّلَتِ العشارُ -أي: النوقُ الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر - تُركتْ هَمَلًا بلا راع، واختلطتِ الإنسُ والجن، والدواب والوحوش وماج بعضهم في بعض". قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)} [الحج: 1].

وفي البغوي عن أُبي بن كعب قال: ستُ آيات قبل يوم القيامة، بينَما الناس في أسواقهم إذ ذهبَ ضوءُ الشمس، فبيناهم كذلك: إذ تناثرت النجوم فبينا هم كذلك إذ وقعَت الجبالُ على وجه الأرض

(1)"الكشاف" 3/ 429.

ص: 702

فتحركت، واضطربت وفزعت الجن إلى الإنس، والإنسُ إلى الجن، واختلطت الدوابُّ والطيرُ والوحش، وماج بعضُهم في بعض فذلك قوله تعالى:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 5] اختلطتْ {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)} [التكوير: 4] أُهملت {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)} (1)[التكوير: 6] قالَ ابن عباس: أوقِدَتْ فصارَتْ نارًا تُضرم قال أُبي: قالت الجنُ للإنس: نحنُ نأتيكم بالخبر فانطَلَقوا إلى البحر، فإذا هو نارٌ تأججّ فبينا هم كذلك إذ تصدَّعَتِ الأرضُ، صدعةً واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وانشقت السماء انشقاقة واحدة إلى السماء السابعة العليا، فبينا هم كذلك: إذ جاءتهم الريحُ فأماتتهم. انتهى

ولنذكر أمورًا تحصل عند نفخة الفزع، من تغير انتظام هذا العالم: الأول: فيما يُصيب الأرضَ، قد جاء فيها آيات منها قوله تعالى {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: الآية] أي شدة الحركة على الحالة الهائلة، حتى ينهدم كل بناء على وجه الأرض، وهو معنى قوله تعالى:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} [الزلزلة: 1] أي تحركت حركةً شديدةً لقيام الساعة، قال ابن عباس رضي الله عنهما، هي عند النفخة الأولى، وعليه جمهور المفسرين.

وأخرجَ البغوي في "تفسيره"، عن أبي هريرة مرفوعًا: "تقيء الأرض أفلاذ كبدها، أمثال الاسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلتُ، ويجئ القاطع فيقول: في هذا

(1)"تفسير البغوي" 8/ 347.

ص: 703

قَطَعتُ ويجيء السارق فيقول: في هذا قُطعتْ يدي، ثم يَدَعُونَه فلا يَأخذون منه شيئا" (1).

وأخرجه مسلمُ في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} [الزلزلة: 1](2).

وقال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)} [الواقعة: 4] أي رُجَّت وزُلزلت وحُرّكت تَحِريكا شديدًا، حتى ينهدم كُل بناء على وجهها، قالَ المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدَم كل ما عليها، وينكسر كلُ شيء عليها من الجبال، وقال الثعْلبي: تكونُ كالسفينة الموسوقة في البحر، تضربُها الأمواج، وتقلبها الرياح.

ومنها قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)} [النازعات: 6] قال البغوي: يومَ ترجف الراجفة يعني: النفخةُ الأولى تتزلزل ويتحرك لها كُلُ شيء، ويموتُ منها جميعُ الخلق {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} هي: النفخة الثانية، ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة. قال قتادة هما صيحتان: فالأولى تمُيتُ كُلَّ شيء والأخرى تحُيي كُلَّ شيء بإذن الله تعالى (3)، وقال العلامة: ترَجُفُ الراجفةُ، أيّ تُهدُّ الأرضُ بالبناء على الناس، وتذهل المراضع، وتضعُ الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة، فتضربُ

(1)"تفسير البغوي" 8/ 501.

(2)

رواه مسلم (1013) والترمذي (2208).

(3)

"تفسير البغوي" 8/ 326.

ص: 704

وجوهَها وأدبارها، فترجعُ، ويولِّي الناس هاربين مدبرين. انتهى

ومنها قوله تعالى {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)} [الفجر: 21] قال البغوي أي: مرةً بعد مرة زُلزلت فكسر بَعضُها بعضا، فينكسركل شيء على ظهرها من جبال وبناء وشجر، فلم يبق على ظهرها شيء ومنها قوله تعالى:{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)} [الحاقة: 14] قال المفسرون: أي: رُفعت من جميع جهاتها مع الجبال بما يشاءه الله تعالى من ريح أو ملائكة، والمعنى: كسرتا كسرةً واحدةً فصارتا أرضًا مستوية، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.

تتمة. ذكر ابن أبي الدنيا حديثًا مُرسلًا: أن الأرضَ تزلزلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضَع يدهُ عليها ثم قال:"أسكني فإنه لم يأن لكِ بعدُ" ثم التفت إلى أصحابه فقال: "إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه"(1)، أي: فارجعوا إليه وتوبوا مما لعلكم اقترفتموه من الذنوب، ثم تزلزت بالناس على عهد عُمرَ بنِ الخطاب فقال: أيها الناس ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده: إن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا (2).

وفي "مناقب عمر" لابن أبي الدُنيا: أن الأرض تزلزلت على عهد

(1) روى بعضه ابن أبي شيبة 2/ 221 بإسناد ضعيف ومرسل.

وروى الطبراني 15/ 109 نحوه عن ابن مسعود من قوله زلزلت الأرض.

(2)

نوادر الأصول 2/ 104. انظر "كشف الصلصة عن وصف الزلزلة" للسيوطي ص (45).

ص: 705

عمر فضرب يده عليها وقال: مالك مالك أما إنه لو كانت القيامة حدثت أخبارها، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا كان يومُ القيامة، فليسَ فيها ذراعٌ ولا شبرٌ إلا وهو ينطق"(1).

وذكر ابن أبي الدُنيا عن أنس بن مالك: أنه دخل على عائشة رضي الله عنها، هو ورجل آخر فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة فقالت: إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف، غارَ الله في سمائه فقال للأرض: تزلزلي بهم فإن تابوا ونزعوا وإلا هَدَمها عليهم، قال: يا أمَ المؤمنين: أعذابًا لهم قالت: بل مَوعظة ورحمة للمؤمنين، ونكالًا وعذابًا وسخطًا على الكافرين، فقال أنس ما سمعت [حديثًا](2) بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أشد فرحًا مني بهذا الحديث (3).

وقال كعب: إنما تزلزل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصى، فترعد فَرَقًا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: أمّا بعدُ فإن هذا الرجف شيء يعاتِبُ الله عز وجل به العباد.

فإن قيل فما لنا نرى بعضَ الأرض تتزلزل دون بعض؟ فالجوابُ ما نقله العلامةُ في "البهجة" عن وهب: أن ذا القرنين أتى على جبل قاف، فرأى حوله جبالًا صِغارًا فقال: ما أنت قال: أنا قاف قال:

(1) انظر "كشف الصلصة عن وصف الزلزلة" ص (46).

(2)

ليست في (أ) واستدركناها من (ب).

(3)

رواه الحاكم 4/ 561، ونعيم بن حماد 2/ 620.

ص: 706

فما هذه الجبال التي حولك، قال: هي عُروقي وليسَتْ مدينة، إلاّ وفيها عرق منها، فإذا أراد الله تعالى أن يُزلزل مدينة، أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك المدينة.

وأخرجَ أبن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: خلقَ اللهُ تعالى جَبَلًا يُقالُ له: قاف محيطًا بالأرض وعروقُه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد اللهُ تعالى أن يزلزل قريةً أمر ذلك الجبل، فيحرك العِرقَ الذي يَلي تلك القرية فيُزلزلُها ويحركها، فمن ثَمَّ تحرّكُ القريةُ دون القرية (1). والله أعلم.

الأمر الثاني: فيما يُصيبُ الجبال وقد جاء في ذلك آيات منها قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)} [الواقعة: 5] أي: فُتِّتَتْ فصارت كالدقيق المبسوس، وهو المبلول. وقال الكلي معني بُسَّت أي: صُيّرت على وجه الأرض (2)، وقال مُجاهد لُتت لَتا وقال الحسن: قُلعتْ من أصولها فذَهَبت. واختلفَ المُفسرون في تفسير الهباء فقال ابن عبّاس: إنَّهُ ما يُرى في شعاع الشمس في الصورة اللطيفة حين تدخل الكُوة (3)، وقيل: الرمادُ يطير من النار، إذا اضطرمت فماذا وقع لم يكن شيئا، ومنه قوله تعالى:{وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل: 14] فسر الثعلبي الكثيبَ بالرمل المجتمع، والمهيل بالسَّيال المتناثر إذا مسه

(1) العقوبات (22) رواه أبو الشيخ في "العظمة" ص: 422، عبد الرزاق (2/ 236).

(2)

انظر: "تفسير البغوي" 8/ 7 - 8.

(3)

رواه الطبري في "تفسيره" 11/ 625.

ص: 707

تتابع. وقوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)} [القارعة: الآية 5] قال البغوي: كالصوف المندوف (1)، وقال الثعلبي: إنّ أوّلَ ما تتغير الجبال تصيرُ رَملًا مهيلا، ثم عِهنا منفوشا، وهُو الصوف المصبوغ، فلا يُقالُ العِهنُ إلَّا للمصبوغ، ثم هباء منثورا.

ومنها قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] قال العلامة عن بعض المفسرين معناه: أنه إذا كانت الجبالُ هباء منبثا يُسيِّر اللهُ ذلك الغبارَ بينَ السّماء والأرض كالسحاب، قال وظاهر كلام الزمخشري: أنها تسيرُ كالسحاب، فإذا نظرَ إليها الناظرُ حسبها واقفة ثابتة في مكان واحد، وهي تمر مرًا حثيثا كما يمرُ السّحابُ (2). قال الرازي: وليسَ في الآية ما يَدُلُ إلى أين تسير، فيُحتمل أن يُقال: إن الله عز وجل يُسيرها إلى الموضع الذي يُريده ولم يُبيِّن ذلك الموضع لخلقه، [قال] (3) والحقُ أن الله تعالى يسيرُّها إلى العدم؛ لقوله تعالى:{يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105].

قال العلامة: قلت أحسن من هذا وأظهر، أن يستدل على ذلك بقوله تعالى:{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)} [النبأ: 20] قال مكي: أي: لا شيء كما أن السراب لا شيء.

ومنها قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)

(1)"تفسير البغوي" 8/ 513.

(2)

"الكشاف" 3/ 429.

(3)

ليست في (أ) واستدركناها من (ب).

ص: 708

فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} [طه: 105

-107].

قال الفخر: وصفَ الله سبحانه وتعالى الأرضَ بأوصاف أحدها كونها قاعًا وهو المكان المطمئن من الأرض، وقيل منتقع الماء، وثانيها صفصفا: وهو الذي لا نباتَ عليه، وقيل: أن القاع والصفصف الملساء المستوية.

وثالثُها، ورابعها: كونها لا ترى فيها عِوَجًا وَلَا أمتا (1) قال الزمخشري: الأمتُ النّتوّ [اليسير](2) والعوج، ظاهر ويحصل بهذه الأربعة أوصاف أن [الأرض](3) تكون في ذلك اليومِ ملساء خاليةً من الارتفاع، والانخفاض، وأنواع الانحراف والاعوجاج، وقال في قوله تعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47] أي ظاهرة ليس عليها [من العمارات ولا من الجبال والأشجار شيء فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها](4) ما يستُرها، وهُو المرادُ بقوله تعالى:{لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} [طه: 107].

فائدة: في تبديل الأرض، وأين يكون الناس يومئذ؟ قال العلاّمة: اختلف المفسرون في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] الآية المراد بالتبديل: هل هو تبديل ذات أم

(1)"الشرح الكبير" 22/ 117.

(2)

ليست في (أ) واستدركناها من (ب).

(3)

ليست في (أ) واستدركناها من (ب).

(4)

ليست في (أ) واستدركناها من (ب).

ص: 709

تبديل صفات؟ قال البيضاوي: التبديلُ يكون في الذات كقولك: بدلتُ الدراهم بَالدنانير، وعليه قوله:{بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} (1)

قلتُ: قد نص الإمام أحمد نوَّر الله ضريحه في "الأجوبة القرآنية"(2) ما نصه: قالتِ الزنادقة في قوله {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] فما بال جلودهم التي قد عصت احترقت، وأبدلهم الله تعالى جلودا غيرها، فلا نرى إلا أن الله عز وجل يعذب جلودًا لم تُذنب، حيث يقول:{بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} ، فشكوا في القرآن، وزعموا أنه مُتناقض، قال فقلت: إن قول الله عز وجل {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} ليس يَعني جلودًا غير جلودهم، وإنما معنى {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} ، تبديلها: تجديدها؛ لأن جُلودَهم إذا نضَجتْ جددها اللهُ وذلك لأنّ القرآن فيه خاص وعام، ووجوه كثيرة وخواطر، يعلّمها الله العلماء. انتهى بحروفه.

ومنه يعلم ما فيما ذكر. قال البيضاوي: وفي الصفة كقولك: بدلت الحلقة خاتما إذا أذبتها وغيرت شكلها، وعليه قوله تعالى:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] والآية تحتملهما (3).

قال الجلال السيوطي: اختلفت الأحاديث والآثار في الأرض المبدّلة، وقد وقع الخلاف قديمًا للسلف في ذلك، وهل التبديل تغيير

(1)"تفسير البيضاوي" 3/ 356.

(2)

"الرد على الجهمية والزنادقة" ص (86) تحقيق د. عميرة.

(3)

"تفسير البيضاوي" 3/ 356.

ص: 710

ذاتِها أو صفاتها فقط. انتهى

فالقائلون بأنه تبديلُ ذات، منهم ابن مسعود (1) قال: تبدلُ الأرضُ كلها نارًا يوم القيامة.

قال كعبُ الأحبار، وأُبيّ بن كعب (2): تصير السموات جنات، ويصيرُ مكان البحر نارًا، وتبدل الأرضُ غيرها، أي مما لم يكن بحارًا، فقد ورد: أن ما يصير نارًا من البحر، يعود على بقية الأرض، فيدعها جمرة واحدة من نار.

فإن قِيلَ في هذا حجة لمن زعم أن الجناتِ لم تخُلق بعد؛ لأنّ السّموات حيث قلتم إنها هي الجنة، فالجنة غير موجودة الآن، وكذا النار.

فَالْجَوَابُ: إن السموات تضاف إلى الجنة كما أن البحار تضاف إلى النار، لا أنّ الجنة هي السموات، بل السموات تصيرُ من جملة الجنة، وأن البحارَ تصيرُ نارًا وتضاف إلى النار، فتكون من جملة النار والله الموفق.

وعن على كرم الله وجهه، تُبدل الأرض أرضًا من فضة، والسموات سموات من ذهب (3).

وقال ابن جرير ومحمد بن كعب: تُبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. (4) لحديث الشيخين من مرفوع أبي سعيد

(1) ابن جرير (13/ 733) و "الدر المنثور" تفسير آية (48) سورة إبراهيم.

(2)

ابن جرير (13/ 735)"حلية الأولياء"(5/ 370) عن كعب الأحبار.

(3)

"صفة الجنة" لأبي الدنيا (62)، وابن جرير (13/ 733، 734)

(4)

"تفسير الطبري" 7/ 481.

ص: 711

الخدري "تكون الأرض يومَ القيامة خُبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده، كما يتكفأ أحدكم خبزته، في السُّفْرةِ (1) -جمع سفرة- نُزُلا لأهل الجنة"(2) النزل: هو الطعام الذي يُؤتى به الضيف أوّل نزوله، وسيأتي.

وفي "الإرشاد": تُبدلُ الأرضُ يومَ القيامة خبزة، فيأكل المؤمن من بين رجليه، ويشرب من الحوض.

وقال عكرمة: تبدَّلُ الأرض أرضَا بيضاء مثل الخبزة، يأكل منها أهل الإسلام، حتى يفرغوا من الحساب.

قال الحافظ ابن حجر: يُستفادُ منه أن المؤمنين لا يعاقبون بالجوع زمن الموقف (3).

والقائلون بأنه تبديل صفة منهم ابن عباس وغيره قالوا: تبديلُ السموات ذهاب شمسها وقمرها، وانكدار نجومها وتبديل الأرض ذهابُ جبالها وأنهارها وأشجارها.

أخرج البيهقيُ عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى:

(1) في البخاري ومسلم (السَّفَر) قال الحافظ: قال الخطابي: يعني خبز الملة الذي يصنعه المسافر، فإنها لا تدحى كما تدحى الرقاقة، وإنما تقلب على الأيدي حتى تستوي، وهذا على أن السفر بفتح المهملة والفاء، ورواه بعضهم بضم أوله، جمع سفرة وهو الطعام الذي يتخذ للمسافر، ومنه سميت السفرة. ا. هـ فتح الباري (11/ 373).

(2)

البخاري (6520)، ومسلم (2792).

(3)

"فتح الباري" 11/ 374.

ص: 712

{تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] قال يُزادُ فيها وينقص، وتذهب آكامها من أماكنها، وجبالها وأوديتها وشجرها، وما فيها، وتمدّ مدّ الأديم العكاظي، أرضٌ بيضاء مثل الفضة، لم يسفك فيها دَم، ولم تعمل فيها خطيئة والسموات تذهب شمسها وقمرها [ونجومها](1)، ويدل لهذا حديث أبي هريرة "تبدل الأرضُ غير الأرض، فيبسطها ويمدّها مَدَّ الأديم العكاظيّ لا ترَى فيها عوجا ولا أمتا، ثم يزجر الله الخلق زجرةً واحدةً فإذا هُم في هذه المبدلة، في مثل مواضعهم الأولى من كان في بطنها كان في بطنها، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها"(2).

وهو ظاهرُ ما في حديث مسلم، عن سهل بن سعد "يحُشَر الناس يومَ القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النِقي ليس فيها معلَمٌ لأحد"(3).

قوله "عُفرا" العفر بياض يقرب إلى الحمرة، و"النقي" بكسر القاف هو الحواري، وقوله "ليس فيها معلم لأحد"، أي: ليسَ لأحد فيها علامة أو مسكن أو بناء، أو أثر.

وفي "شعب الإيمان" للبيهقي في قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ

(1) زيادة من "الدر المنثور" تفسير آية سورة إبراهيم (48).

(2)

رواه إسحاق 1/ 88، والطبري 13/ 252 و 23/ 14، وأبو الشيخ في العظمة 3/ 828 (386).

(3)

رواه البخاري (6521)، ومسلم (2790)، وابن حبان (7320).

ص: 713

فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)} [الحاقة: 14] قال: "تَصيرُ الأرض غَبرةً في وجوه الكفار"(1).

واختلفوا في التبديل هل هو قبل يوم الحساب أم بعده؟ فقيل: قبلَ يومِ الحساب وقيل والناسُ على الصراط لحديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها قلت: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] فأين يكونُ الناسُ؟ قال: على الصراط (2).

وفي الترمذي عنها قلتُ أين الناسُ يا رسول الله؟ قال: "على جسر جهنم"(3).

وأخرجَ عنها أيضًا وقال حسن صحيح قالت يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، قال الله:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فأين يكون المؤمنون يومئذ؟ قال: "على الصراط يا عائشة"(4).

وأخرج مسلم عن ثوبان، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائمًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه حَبر من أحْبار اليهود فقال: السلامُ عليكَ يا محمد، وذكر الحديث وفيه فقال: أين يكونُ الناس

(1) الحاكم (2/ 500).

(2)

أحمد (40/ 78)(41/ 477)(42/ 25)، ومسلم (2791) والترمذي (3121)، وابن ماجه (4279)، وابن حبان (7380).

(3)

رواه الترمذي (3242).

(4)

التزمذي (3242) وقال: حسن صحيح.

ص: 714

يوم تُبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "في الظلمة دونَ الجسر"(1).

قال العلامة: هذا حاصل ما قاله كُلٌ من الفريقين.

ووجه الجمع بين القولين: ما أشار إليه صاحبُ "الإفصاح" من أنه لا تعارُضَ بينَ هذه الآثار فإنَّ الأرض والسموات تُبدَّل مرتين الأولى: أنَّه سبحانه يغير صفاتها قَبل نفخة الصعق، فتنتشرُ كواكبها وتكسف كسها وقمرها، وتصيرُ كالمُهل، ثم تكشط عن رؤوسهم ثم تسيرُ الجبالُ، ثم تموجُ الأرض ثم تصيرُ البحارُ نيرانًا ثم تنشق الأرضُ من قُطرٍ إلى قطر، فتصيرُ الهيئة غير الهيئة والبنيةُ غير البنية، ثُمَّ إذا نُفخَ في الصورِ نفخةَ الصعق طُويتِ السماء ودُحيت الأرضُ، وبُدّلتِ السماء سماء أخرى، وهو قوله تعالى:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] وبُدلت الأرض وتمدُّ مَدَّ الأديم العكاظي، وأعيدت كما كانت، فيها القبورُ والبشرُ على ظهرها، وفي بطنها، وتُبدَّلُ الأرضُ تبديلًا ثانيًا، وذلك إذا وقفوا في المحشر، فتبدَّلُ لهم الأرضُ التي يُقالُ لها الساهرة، يحاسبون عليها، وهي أرضُ عَفراء وهي البيضاء من فضة، لم يُسفك عليها دم حرام قط، ولا جرى عليها ظلم قط، وحينئذ يقومُ الناس على الصراط، وهو لا يسمعُ جميعَ الخلائق، صمان كان قد يُروى (2) أن مسافته ألف ممنة صعودًا وألف سنة هبوطًا،

(1) رواه مسلم (315)، والحاكم 3/ 481، وابن حبان (7422)، وابن جرير (13/ 738، 739).

(2)

القرطبى في التذكرة (215) سيأتي في ص 881 ت (2).

ص: 715

وألف سنة استواء لأن الخلق أكثر من ذلك، فيقومُ من فضل منهم عن الصراط على من جهنم، وهي كالهالة الجامدة، وهي الأرض التي قال عبد الله: إنها أرض من نار، يعرقُ فيها البشر فإذا حُوسب الناس عليها، أعني الساهرة، وجاوزوا الصراط، وحصل أهل الجنات من وراء الصراط وأهل النار في النار، وقام الناس على حياض الأنبياء يشربون، بُدلتِ الأرض كقرصة النقي، فأكلوا من تحت أرجلهم، وعند دخولهم الجنة كانت خبزة واحدة أي: قُرصًا واحدًا، يأكلُ منه جميعُ الخلق ممن دَخل الجنة وأدْمُهم زيادة كبد ثور الجنة، وزيادة كبد النون قال الحافظ ابن حجر: لا تَنافي بين أحاديث تبديل الأرض، وأحاديث مَدِّها والزيادة فيها والنقص منها؛ لأنّ ذلك كله يقعُ لأرض الدنيا، لكن أرض الموقف غيرها فإنهم يزجرون من أرض الدنيا بعد تغييرها، بما ذكر إلى أرض الموقف قال: ولا تنافي أيضًا بين أحاديث مصيرها خبزة ونارًا وغبارًا بل يجمع بأن بعضَها يَصيرُ خُبزة، وبَعضها نارًا وبعضَها غبارًا، وأن النار هي: أرض البحر خاصةً، لكن مرّ أن الأرض تصيرُ كلها نارًا يوم القيامة (1). وقد يُجاب كما في البهجة: بأن أرضَ البحرِ تكون نارًا في الابتداء بطريق الأصالة، ثم البقية بالتبعية. انتهى.

وتعقب البدر العيني الحافظ ابن حجر: بأن لفظ الحديث تكونُ الأرضُ يومَ القيامة خبزة، وفيما قال: يَعني ابن حجر: ارتكاب المجاز

(1)"فتح الباري" 11/ 376.

ص: 716

فلا يصارُ إليه إلّا عند تعذر الحقيقة، ولا تعذر هُنا من كون الأرض خبزة؛ لأن القدرة صالحة لذلك قال: بل الجوابُ الشافي هنا أن "يقالَ أن المرادَ من كون الأرض نارًا هي أرض البحر، كما في حديث أُبيّ ابن كعب رضي الله عنه، تصيرُ السمواتُ جنانا - وتصيرُ الأرض خبزة، ويصيرُ مكانُ البحر نارًا (1) والمراد من كونها غبرة الجبال، فإنها بعدَ أن تُدك تصير غبارًا في وجوه الكفار. انتهى (2)

فعلى كلام العيني أنَّ السموات تصيرُ جفانًا كما في الحديث، ولعل المرادُ من ذهب أو كالذهب، ليجمعَ بين الأحاديث والأرض خبزة أي بيضاء كالفضة، والجبالُ غُبارًا، ومكان البحر نارًا. والله أعلم.

الأمر الثالث: فيما يُصيبُ السماء وفيها آياتٌ منها قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)} [المعارج: 8] قال عكرمة: كالزيت وقيل القار المُذاب، وقيل ما أُذيب من الفضة والنحاس (3)، وقوله {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)} [الطور: 9] قال مُجاهد (4): تَدورُ دَورًا وقال قتادة: مورها تحركها، والضحاك استدارتها، وقيل تتكفَأ تكفُّؤ السفينة حتى تذهبَ ولا تكون شيئًا وقوله {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)} [الرحمن: 37] قال بعض المفسرين: انشقاقها في المحشر، وأنها تصيرُ أبوابًا لترول الملائكة، وقال ابن

(1) في (ب) تقديم وتأخير بين الجملتين، انظر ابن جرير (13/ 735) وفيه عن كعب وفي الحلية (5/ 370) عن كعب الأحبار. الدر المنثور تفسير آية إبراهيم (48).

(2)

"عمدة القاري" 19/ 64.

(3)

انظر "الدر المنثور" تفسير آية المعارج (8).

(4)

الطبري (21/ 572).

ص: 717

جرير: تذوبُ السماء فتصيرُ ذائبة حمراءَ كالدهن الذائب، حين يُصيبها حّرَّ جهنَّم. (1)

وقال مكي في تفسير {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} [الانفطار: 1]: وذلك يومَ القيامة يكونُ لونُها لون الورد الأحمر وهو تفسير ابن عباس (2).

وأما الدّهانُ: فقال مجاهد والضحاك الدهان والدهن: شيء واحد. وقيل: الدهان الجِلد الأحمر وقال زيد بن أسلم تكون كعكر الزيت.

وقوله: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)} [الحاقة: 16] أي: ضعيفة مسترخية، بعد إحكامها وقوتها، {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] أي: جوانبها، وحافَّاتها واحدة رجا مقصور، وذلك أن السماء مَسكنٌ الملائكة، فإذا انشقَّتِ أنتقلوا إلى جوانبها، وقال الضحاك: تكونُ الملائكة على حافاتها، حين يأمرهم الرب جل جلاله، فيُحيطون بالأرض ومن عليها (3).

الرابع: فيما يُصيب الشمس والقمرَ قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} [التكوير: 1] أي كُسفت وذهب ضوءها (4). وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن ذلك بعد نفخة الفزع وقبل قيام الساعة،

(1)"تفسير الطبري" 11/ 598 - 599.

(2)

انظر "الدر المنثور" تفسير آية (37) الرحمن.

(3)

انظر "الدر المنثور" تفسير آية (16، 17) التكوير.

(4)

انظر "الدر المنثور" آية (1) التكوير.

ص: 718

وهوَ قول أُبي بن كعب (1) وبه قال بعضهُم: وظاهرُ كلام جمع من المفسرين أن ذلك يومَ القيامة قال ابن عبّاس تكويرُها إدخالُها في العرش، ولا شك أن ذلك لا يكون إلا في يوم القيامة، فهي موجودةٌ فيه ثُمَّ يذهبُ بها بعدَ ذلك إما إلى إدخالها في العرش كما قال ابن عباس والضحاك (2)، أو إلى النار كما قال الزمخشري (3)

يُروى في الشمس والنجوم أنها تطرح في جهنّم ليراها من عَبدها كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] الآية قال بعضهم: يؤخذ بالشمس والقمر فيلقيان في جهنمَّ.

وقال عطاء بنُ يسار: يجمع بينهما يومَ القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نارَ الله الكبرى.

وقال على وابن عباس، يدخلان في نور الحجب (4).

وفي البغوي عن ابن عباس: يكور الله الشمس والقمر والنجوم يومَ القيامة في البحر، ثم يبعثُ عليها ريحًا دبورا فتضرمها فتصيرُ نارا (5).

فَإِنْ قُلْتَ: قد مرّ أنه يذهب بالشمس والقمر إلى العرش، وأنه يذهبُ بهما إلى البحر، وأنه يذهب بهما إلى الحجب، وأنه يذهب بهما إلى النار، فهل هذا إلا كالتناقض.

(1) ابن جرير (24/ 128).

(2)

انظر "تفسير القرطبي" 19/ 225 و"تفسير أبي السعود" 9/ 114، و"روح المعاني"30/ 50.

(3)

"الكشاف" 4/ 549.

(4)

هذه النقول أوردها القرطبي في تفسيره 19/ 97.

(5)

"تفسير البغوي" 8/ 346.

ص: 719

قُلْتُ: الأمر دائر أنه يذهب بهما إلى أحد شيئين إمّا إلى النار وإمّا إلى العرش، وأما البحرُ فإنه داخل في النار على رأي من زعم أنه النار، أو يصير نارًا ويضافُ إلى النار وأمّا الحجب فإنَّها داخلة في كونهما يُكوّران، ويُذهبُ بهما إلى العرش، فإنا نعني بالحجب هي ما دون العرش، فظهر ما قلنا أنه يُذهَبُ بهما إمّا إلى العرش، ولا فرق بين أن يُكَوّرا ويدخلا فيه، أو يُدخلا في نور حجبه أو إلى النار.

والجمعُ بين القولين: بأن يُكوّرا في النار أولا؛ ليراهما من عَبدهما من دون الله تبكيتا لهم، وصغارًا وهوانا ثم يذهب بهما إلى العرش، هذا ما يظهر والله أعلم. وقد أشار إلى بعضه في البهجة.

وذكر الإمام المحقق ابن القيم في كتابه "مفتاح دار السعادة"(1): أنه أجتمع جماعةٌ من الكبراء والفضلاء يومًا فقرأ قارئ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)} [التكوير: 1، 2، 3] حتى بلغَ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)} [التكوير: 14] وفي الجماعة الإمام أبو الوفا ابن عقيل، فقال له قائل: يا سيدّي: هب أنه نُشر الموق للبعث والحساب وزُوِّج النفوس بقرنائها للثواب والعقاب، فما الحكمة في هدم الأبنية وتسيير الجبال، ودك الأرض، وفطر السماء، ونز النجوم، وتخريب هذا العالم وتكوير شمسه، وخسف قمره؟ فقال الإمام ابن عقيل على البديهة: إنما بناء لهم الدار للسكنى

(1)(3/ 182).

ص: 720

والتمتع، وجعلها و [جعل](1) ما فيها للاعتبار والتفكر، والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر، فلما انقضت مدة السكنى، وأجلاهم من الدار خَرَّبها لانتقال الساكن عنها، فأراد أن يُعلمهم بأن (2) في إحالة الأحوال، وإظهار تلك الأهوال [وإبداء ذلك الصنع العظيم، بيانًا لكمال قُدرته ونهاية حِكمته، وعظمة ربوبيَّتِه وعِزّ جلاله وعظمِ شأنه](3)، وتكذيبًا لأهل الإلحاد وزنادقة المنجمين، وعباد الكواكب، والشمس، والقمر والأوثان ليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، فإذا رأوا [مثال](4) آلهتهم قد انهدَم، وأن معبوداتهم قد انتثرت، [والأفلاك التي زعموا أنها وما حوته هي الأربابُ المستوليةُ (5) على هذا العالم، (6)، قد تشققت وانفطرت، ظهرت [حينئذ](7) فضائحهم، وتبين كذبهم، وظهر أن العالَم مربوبٌ محدَثٌّ مُدبر له رب يصرفه كيف يشاء تكذيبًا لملاحدة الفلاسفة القائلين بقدمه، فكم لله من حكمة لهدم هذه الدار، ودلالة على عظيم قدرته وعزته، وسلطانه وانفراده بالربوبية، وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره وإذعانها لشأنه فتباركَ اللهُ ربُّ العالمين.

(1) زيادة في "مفتاح دار السعادة".

(2)

في "مفتاح دار السعادة" زيادة (لكونين كانت معمورة بهم و).

(3)

ما بين القوسين ساقط من "مفتاح دار السعادة".

(4)

غير موجود في "مفتاح دار السعادة".

(5)

في (ب): المتولية.

(6)

ما بين القوسين ساقط من "مفتاح دار السعادة".

(7)

ساقط من "مفتاح دار السعادة".

ص: 721

الخامس: فيما يُصيبُ النجومَ قال اللهُ تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)} [التكوير: 2]{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)} [الانفطار: 2] ومعناهما سقوطُ الكواكب إلى الأرض، وقد جاء أنها تسقط عند موت الملائكة الذين كانوا يحبسونها، وهي مُعلقة بين السّماء والأرض وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إذا صارَت السماء كالمُهل تتناثر النجوم، وتسقط كسُها وقمرها.

السادسُ: فيما يُصيبُ البحار قال الله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)} [الانفطار: 3] أي: فاضَتْ ومُلئت قال الضحاك والربيع بنُ خثيم وغيرهما: تفجيرُها فيضها (1)، وقال الغزالي: قد تفجر بعضها في بعضٍ حتى امتلأ عالم الهواء ماء.

وقال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)} [التكوير: 6] وهو بمعنى الأوُل عند الضحاك والرَّبيع وقال مجاهد: فُجر بَعضُها على بعض، فاختلطَ العذبُ والمالح، فصارت بحرًا واحدًا وقاله الضحاك أيضًا، ومُقاتل. وقيل: معنى "سُجّرتْ" يَبِسَتْ حتى لم يبقَ من مائها قطرة قاله الحسنُ وقتادة وقيل: معنى "سُجّرت" أُضْرمت نارًا قاله ابن عباس ووهب وسفيان (2)، وابن عطية وابن زيد، وفي "البهجة" للعلامة: يمكن الجمع بين الأقوال المتقدمة بأن يُقال: إنَّ البحار تفيضُ

(1) انظر "الدر المنثور" تفسير آية (3) الانفطار.

(2)

انظر "الدر المنثور" تفسير آية (6) التكوير.

ص: 722

أولاً لكثرة فيضها فتصير بحرًا واحدًا، ثم تَنشف (1) حتى لا يَبقى منها قطرة، ثم بعد ذلك يُضرمُ مكانُها نارًا وفي ذلك آياتٌ دالاتٌ على كمال قدرته ووجوب وحدانيته، لا إله إلا هُو الفعال لما يُريد، وفي "تفسير مكيّ" (2) عن ابن عباس: جَهَنَّمُ في البحر الأخضر تكوَّر الشمسُ والقمرُ فيه. والله أعلم.

(1) كذا في (ب) والمثبت في (أ): تنشق.

(2)

"الهداية في بلوغ النهاية".

ص: 723