الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس في الميزان
قال القرطبي في تذكرته (1): قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمالِ؛ لأنّ الوزن للجزاء فينبغي أنْ يكون بعد المحاسبة فإنَّ الْمحاسبة لتقرير الأعمالِ، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها.
قال العلامة البلباني في "عقيدتِه": ونؤمن بأنّ الميزانَ الذي توزن به الحسنات والسيئات حق، وله لسان وكفتان توزن بهما صحائف الأعمال.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: توزن الحسنات في أحسن صورة والسيئات في أقبح صورة انتهى.
وقال العلامة في "بهجته"(2): الصَّحيح أنَّ المرادَ بالميزانِ الميزان الحقيقي لا مجرد العْدل خلافًا لبعضهم انتهى.
قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء: 47]. وقال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)} [القارعة: 6، 7] أي: راض صاحبها (3){وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 8 - 11] فبئست الأم، وبئس الابن
(1)"التذكرة" 1/ 377.
(2)
انظر "تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان" للعلامة: مرعي (50) بهجة الناظرين (295).
(3)
ورد بهامش الأصل: أو ذات رضًا.
ابنها فنسأل الله العافية. وقال: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 9].
وروي أنَّ داود عليه السلام سألَ ربّه أنْ يريه الميزان فلمَّا رآه غشي عليه فلما أفاقَ قال: إلهي مَنْ ذا الذي يقدر يملأ كفة حسنته فقال: "إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة واحدة". ذكره الفخر (1)، والثعلبي. وقال عبدُ اللهِ (2) بن سلام رضي الله عنه: إنَّ ميزانَ ربّ العالمين ينصب للجنّ والإنس، يستقبل بَه العرش، إحدى كفتيه على الجنة، والأخرى على جهنم لو وضعت السماوات والأرض في إحداهما لوسعتهن، وجبريل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه.
قال العلامة (3): في كلام ابن سلام إنَّ أعْمَال الجنِّ توزن كما توزن أعمال الإنسِ، وهو كذلك ارتضاه الأئمة انتهى.
قال القرطبي: المتقون توضع حسناتهم في الكفةِ النّيرة، وصغائرهم في الكفةِ الأخرى، فلا يجعل اللهُ لتلكَ الصغائر وزنا، وتثقل الكفة النيرة حَتَّى لا ترتفع، وترفع المظلمة ارتفاع الفارغة الخالية. قال: وأمَّا الكفار فيوضع كفرهم، وأوزارهم في الكفةِ المظلمة، وإنْ كان لهم أعمال بِر وضعت في الكفةِ الأخرى فلا يقاومها إظهار لفضل المتقين، وذل الكافرين (4). قُلْتُ: الحق أنَّ الكفارَ لا
(1) ذكره الرازي في "التفسير الكبير" 22/ 176. والبغوي في "تفسيره" 5/ 321.
(2)
انظر "تفسير الرازي"(14/ 28).
(3)
"تحقيق البرهان" 6 ص 64.
(4)
ذكره في "التذكرة" ص 365، وبيان كيفية الميزان ووزن الأعمال فيه.
يقيم اللهُ (1) لهم وزنًا والله أعلم.
وأخرجَ الحاكم وصححه عن سلمان رضي الله عنه، عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "يوضع الميزان يومَ القيامةِ فلو وزن فيه السّماوات والأرض لوسعهن (2)، فتقول الملائكة: يا رب لمَنْ يزن هذا؟ فيقول: لمن شئت من خلقي فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك (3).
وأخرجَ البزار، والبيهقي عن أنس رضي الله عنه: "أنَّ ملكًا من ملائكة اللهِ عز وجل موكل يوم القيامة بميزانِ ابن آدم، فيؤتى به حَتَّى يوقف بين كفتي الميزان، فيوزن عمله، فإنْ ثقل ميزانُه نادى الملك بصوت يسمعه الخلاتق باسم الرجل: ألا سعِدَ فلانٌ سعادةً لا يشقى بعدها أبدا، وإنْ خفت ميزانه نادى الملك: ألا شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا (4).
وذكر الثعلبي، وغيره، وابنُ جرير في "تفسيره"، وابن أبي الدنيا عن حذيفة رضي الله عنه أنَّه قال: "صاحب الميزانِ يومَ القْيامةِ جبريل
(1) جاء بهامش الأصل: من قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا} فخفتها عدم الاعتداد.
(2)
كذا في (أ) والمثبت في (ب)(لوسعتهن)، وفي المستدرك "لوسعت".
(3)
"المستدرك" 4/ 586، كتاب الأهوال. وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(4)
رواه البزار كما في "كشف الأستار" 4/ 160 (3445). وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 174).
عليه السلام" (1). وقال الحسن (2): هو ميزان له كفتان، ولسان، وهو بيد جبريل عليه السلام.
تنبيه: اختلف العلماء رحمهم الله هل الميزان واحد أو اْكثر؟ فقال الحسن بن أبي الحسن البصري (3): لكلِّ واحد ميزان لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] وقال بعضهم (4): الأظهر إثبات موازين يوم القيامة لا ميزان واحد لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} وقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} قال: وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعالِ القلوب ميزان، وللجوارح ميزان، ولما يتعلق بالقول ميزان. (5) ورده ابن عطية (6) وقال: الناس: على خلافه، وإنّما لكلّ واحد وزن مختص به، والميزان واحد.
وأجاب بعضهم عن جمع الموازين في الآية فقال: ذلك لكثرة من توزن أعمالهم وهو جمع تفخيم (7).
(1) رواه الطبري في "تفسيره" 5/ 432 (14338). والقرطبي 11/ 293، والديلمي في "الفردوس" 2/ 402 (3786).
(2)
ذكره في "زاد المسير"(3/ 171)"فتح الباري"(13/ 539) اللالكائي (2210).
(3)
ذكره أبو حيان في "البحر المحيط"(4/ 270) والقرطبي في "تفسيره"(1/ 293).
(4)
انظر "تفسير الرازي"(14/ 29).
(5)
انظر "لوامع الأنوار"(2/ 186)، وذكره القرطبي في "تفسيره"(11/ 293).
(6)
"المحرر الوجيز"(7/ 13).
(7)
انظر "تفسير الرازي"(22/ 177).
واختلف العلماء أيضًا في الموزون فقيل: يوزن العبد مع عمله، وقيل غير ذلك، والحق ما قدمناه عن شيخ مشايخنا (1) البلباني: إنَّما الموزون صحف الأعمال، وصححه ابن عبد البر، والقرطبى، وغيرهما (2)، وصوبه العلامة في "بهجته"، وقال الفخر: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوزن يوم القيامة فقال: "الصحف"(3) وهو مذهب المفسرين لقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فعلى هذا فالثقل الذي يكون في الميزان إنَّما يكون في صحائف الأعمال (4)، وحكاه ابن عطية (5) عن أبي المعالي قال: وهذا أقربها.
فائدة: أخرج الترمذي، وابن حبان، وابن ماجه (6)، والحاكم وصححه، والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يصاح برجلٍ مِنْ أمَّتي على رءوسِ الأشهادِ يومَ القيامة"(7) وفي لفظ عند ابن الجوزي في "التبصرة"(8) أنّه قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله عَزَّ
(1) واختاره في "لوامع الأنوار"(2/ 187).
(2)
انظر الطبري في "تفسيره" 9/ 33. بهجة الناظرين مخ 297.
(3)
انظر "تفسير الرازي"(14/ 27، 28).
(4)
ذكره في "تفسيره الكبير" 14/ 25.
(5)
انظر "المحرر الوجين"(7/ 13).
(6)
غير مذكور في (ب).
(7)
رواه الترمذي برقم (2639) كتاب الإيمان. وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه برقم (4300) كتاب: الزهد، وابن حبان في "صحيحه" 1/ 461 (225) كتاب الإيمان، والحاكم في "المستدرك" 1/ 6 كتاب، الإيمان، وصححه ووافقه الذهبى، والبيهقي في "الشعب" 1/ 264 (283)، وقال الألباني في "صحيح الترمذي": صحيح.
(8)
ذكره في التبصرة (2/ 198).
وَجَلَّ يستخلص رجلاً من أمتي على رؤسِ الخلائقِ يومَ القيامة فينشر له" وعند ابن الجوزي: "عليه تسعة وتسعون سجلاً". ولفظ ابن الجوزي بالبناء للفاعل في ينشر ونصب تسعة وتسعين سجلاً. "كل سجل منها مثل مد البصر فيها خطاياه وذنوبه. فيقول له: أتنكر مِنْ هذا شيئا؟ أظلمَك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: "ألك عذر أو حسنة؟ " فيقول: لا يا رب. فيقول الله: "بلى إنّ لك عندنا حسنة، وإنَّه لا ظلم عليك اليوم" فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فتطيش". وفي لفظ:"فطاشت السجلات وتثقل" وفي لفظ: "وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم اللهِ شيء".
قال شيخ مشايخنا الإمام العلامة المتقن المحدث أوحد عصره، ورئيس أهل الحديث في الدّيار الشّامية مفتي السادة الحنابلة الشيخ تقي الدين عبد الباقى (1) والد سيدي شيخ الإسلام .......................
(1) هو عبد الباقي بن عبد الباقي بن عبد القادر بن إبراهيم بن عمر بن محمد بالبعلي، الأزهري الدمشقي، المقرئ المشهور بـ"البدر" ثم بـ "ابن فقيه فِصَّه" وهي قرية ببعلبك من جهة دمشق بنحو فرسخ، وكان أحد أجداده يتوجه ويخطب فيها؛ ولذلك اشتهر بها وأجداده كلهم حنابلة. ولد ببعلبك سنة 1005 وقرأ القرآن وأخذ في تعلم الفقه وأجازه علماء مكة. ومن تصانيفه "العين والأثر في عقائد أهل الأثر"، و"رياض الجنة"، و"رسالة في قراءة عاصم" توفي سنة 1071.=
أبي المواهب (1) رحمهما الله تعالى: هذا حديث جليل له وقع في القلوب. قال: وقال أبو الحسن الحراني: لمَّا أملى علينا حمزة الكناني هذا الحديث صاح غريبٌ من الحلقةِ صيحة فاضتْ فيها نفسه قال وأنا ممن حَفَرَ جنازَته، وصلىَّ عليه، وهو جيد الإسنادِ انتهى.
قال العلامة في "بهجته"(2): ثبت بهذا الحديث الصحيح أنَّ الموزون إنَّما هو صحائف الأعمالِ وهذا هو الحق كما قدمنا.
ونقل المفسرون عن مجاهد أنَّ المُرادَ بالميزان العدل (3). قال الفخر: ويروى مثله عن قتادة، والضحاك قال: وحكاه ابن جبير عن ابن عباس، وبه قال الأعمش، وكثير من المتأخرين، وردَّه الفخر (4)، وقال: إنَّ حملَ الموازين على مجرد العدل، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز لاسيما وقد جاءت الأحاديث
= انظر "هدية العارفين" 1/ 497، و"خلاصة الأثر" 2/ 283، و"السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" 2/ 439.
(1)
هو أبو المواهب محمد بن عبد الباقي البعلي الدمشقي الإمام العالم الفهامة، الكامل. ولد بدمشق سنة 1044 ونشأ بها وقرأ القرآن واشتغل بطلب العلم على يد والده وكان غواصًا في العلوم بحرًا لا يدرك غوره، وكوكب زهد على فلك التقى دوره. أخذ العلم عن جماعة كثيرة من دمشق، ومصر، والحرمين. وتوفي سنة 1126 ودفن بقرية مرج الدحداح. انظر "مختصر طبقات الحنابلة"(119)، و"الأعلام" 6/ 184.
(2)
انظر "تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان"(61).
(3)
رواه ابن جرير في "تفسيره "(17/ 33).
(4)
انظر "التفسير الكبير"(14/ 28)(22/ 176).
الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في هذا الباب (1) والمعروف عن ابن عباس خلاف ما ذكره ابن جبير عنه أخرج أبو الشيخ (2) في تفسيره من طريق الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "الميزان له لسان وكفتان".
فالحاصل أنَّ الميزانَ محمول على الحقيقة وأنَّه واحد وأنَّ الموزون صحائف الأعمالِ فإنْ قيل: قد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القَيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة"(3) فقد صرح بأن نفس الإنسان هو الموزون.
فالجواب: إن هذا ضربه صلى الله عليه وسلم مثلا للذي يغتر ببعض الأجسام وهو كناية عن قلة اكتراث الله بالأجسام، فإن اللهَ لا ينظر إلى صوركم وإنَّما ينظر للأعمال والقلوب، فكم من جسم وسيم وهو من أصحاب الجحيم. ومن ثمَّ وَرَدَ "ما أفلح سمين" يروى أنه من كلام سيدنا الإمام الشافعي (4). قال: ما أفلح سمين إلا محمد الباقر. لأن السمن في الغالب إنما ينشأ عن غفلة القلب، وعدم التفكر في أحوال الدَّنيا والآخرة والعاقل لا ينفك في هذه الدار عن توارد الأخبار والتفكر فيما يقوم بأوده في هذه الدار وما يتزود به لتلكَ الأسفار ومن كانت حالته هذه فأنَّى له بالسمن فنسأل الله العافية.
(1) ذكره الفخر في "تفسيره" 14/ 26025.
(2)
ذكره في "الدر" في تفسير آية (7) الأعراف، ويؤيده أثر الحسن عند اللالكائي (2210) و"زاد المسير"(3/ 171)، و"فتح الباري"(13/ 539).
(3)
رواه البخاري برقم (4729) كتاب: التفسير، ومسلم برقم (2785) كتاب: صفة القيامة والجنة والنار.
(4)
انظر "سير أعلام النبلاء" للذهبي 10/ 91 ترجمة الشافعي.