المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الرابع في ذكر الحساب، وما يليقاه العالم من شدة البأس والعقاب - البحور الزاخرة في علوم الآخرة - جـ ٢

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الثاني في أشراط الساعة واقترابها وما يتعلق بذلك

- ‌الباب الأول في الأمارات البعيدة التي ظهرت وانقضت

- ‌ومنها كثرة الزلازل

- ‌الباب الثالث في العلامات العظام، والأمارات القريبة الجسام، التي تعقبها الساعة وفيه اثنا عشر فصلا

- ‌الفصل الأوّل: في المهدي وما يتعلق به

- ‌المقام الأوّل: في اسمه ونسبه، ومولده ومبايعته، وهجرته وحليته وسيرته

- ‌المقام الثاني: في علاماته التي يُعرف بها، والأمارات الدالة على خروجه:

- ‌ومنها: أنَّه يجتمع بسيدنا عيسى، ويصلي سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام خلفه

- ‌ومن الأمارات الدالة على خروجه:

- ‌المقام الثالث: في الفتن الواقعة قبل خروجه:

- ‌منها أنَّه يُحسر الفرات عن جبل من ذهب

- ‌تنبيه:

- ‌الفصل الثاني في الدجَّال وما يتعلق به، والكلام عليه في أربع مقامات

- ‌المقامُ الأول في اسمه ونسبه ومولده:

- ‌المقام الثاني في حليتهِ وسيرتِه:

- ‌ومن صفاته:

- ‌وأما سيرته:

- ‌المقام الثالث: في خروجه وما يأتي به من الفِتن والشبهات [ومعرفة سيره في الأرض]

- ‌أما خروجه:

- ‌المقام الرابع: في سرعة سيره في الأرض ومدّة لبُثه فيها، وكيفيّة النّجاة منه

- ‌أما سيره:

- ‌وأما كيفية النجاة منه:

- ‌الفصل الثالث في نزول سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام

- ‌المقامُ الأوّل: في سيرته وحليته:

- ‌وأما سيرته:

- ‌المقام الثاني: في وقت نزوله ومحله

- ‌المَقام الثالث: في مدته ووفاته:

- ‌الفصل الرابع في ذكر يأجوج ومأجوج وخروجهم من الفتن العظام والمصائب الجسام

- ‌المقام الأول: في نسبهم

- ‌المقام الثاني: في حليتهم وكثرتهم:

- ‌المقام الثالث: في خروجهم وإفسادهم وهلاكهم

- ‌الفصل الخامس خرابُ المدينة وخروج القحطاني والجهجاه والهيشم والمقعد وغيرهم، وكذا هدمُ الكعبة

- ‌الفصل السادس في طلوع الشمس من مغربها

- ‌تنبيهات:

- ‌الفصل السابع في خروج الدابَّة

- ‌المقصدُ الأوّل: في حليتها

- ‌المقصد الثاني: في سيرتها:

- ‌المقصد الثالث: في خروجها

- ‌الفصل الثامن خروج الدخان

- ‌الفصل العاشر في النار التي تخرج من قعر عدن، تحشرُ الناس إلى محَشرهم. وهي آخر العلامات

- ‌تتمة

- ‌خاتمة

- ‌الفصل الحادي عشر في نفخة الفزع، وما يكون فيها من تغير انتظام هذا العالم، وفساد انتظامه

- ‌الفصل الثاني عشر في نفخة الصعق وفيها هلاك كُل شيء

- ‌الكتاب الثالث في المحشر وما يتعلق به إلى أن يدخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ وأهلُ النارِ النَّارَ

- ‌البابُ الأول في نفخة البعث

- ‌الباب الثاني في الحَشْرِ

- ‌فصل

- ‌البابُ الثالث في الوقوف في المحشر، في شدة ما يلقاهُ الناس من الأهوال في تلك الحال

- ‌لطيفة

- ‌لطيفة

- ‌فائدة

- ‌فصلٌ في الشفاعة العظمى

- ‌فصل

- ‌الباب الرابع في ذكر الحساب، وما يليقاه العالم من شدةِ البأسِ والعقابِ

- ‌فصل في حسَابِ البْهَائم

- ‌فصل فى حساب النَّاس والإتيان بالشهود

- ‌فصل في شهادة الأعضاءِ والأزمنة والأمكنة

- ‌فصل في حساب المؤمِن ومَنْ يكلمه الله، ومن لا يكلمه

- ‌فصل في سرعة الحساب، وفيمن يدخل الجنَّة بغيرِ حساب

- ‌الباب الخامس في الميزان

- ‌فائدتان:

- ‌لطيفة:

- ‌فصل

- ‌الباب السادس في ذكر الصراطِ وهو قنطرة جهنَّم بين الجنّةِ والنّارِ وخُلق منْ حين خلقت جهنَّم

- ‌الباب السابع في الحوضِ، والكوثرِ وهما ثابتان بالكتابِ والسُّنّةِ وإجماع أهْل الحق

- ‌فصل

- ‌فصل في شفاعةِ الأنبياءِ، والملائكة، والعلماء والشهداء، والصالحين، والمؤذنين، والأولاد

- ‌فصل في سعة رحمة الله تعالى

الفصل: ‌الباب الرابع في ذكر الحساب، وما يليقاه العالم من شدة البأس والعقاب

‌الباب الرابع في ذكر الحساب، وما يليقاه العالم من شدةِ البأسِ والعقابِ

قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92 - 93] وقال في حق أعدائه: {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} [الرعد: 18] قال الثعلبي: الحساب تعريعف الله عز وجل الخلائق مقادير الجزاء على أعمالِهم، وتذكيره إياهم على ما قدْ نسوه منْ ذلك يدلّ على هذا قوله تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] وقال بعضهم: معنى كونه تعالى محاسبًا لخلقه أنّه يعلمهم ما لهم وما عليهم.

أخرجَ التّرمذي عن أبي برزة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزول قدما عبد يومَ القيامة حَتَّى يُسأل عن أربعٍ، عن عمرِه فيمَ أفناه؟ وعن علمِه ما عمل به؟ وعن مالِه من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه فيمَ إبلاه؟ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح (1).

وأخرج مسلمٌ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ

(1) رواه الترمذي (2417)، والدارمي 1/ 145 (537)، وأبو نعيم 10/ 232، والمزي في تهذيب الكمال 10/ 517.

ص: 795

رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول النَّاسِ يقضى يومَ القيامة عليه رجلٌ استشهدَ، فأتى بهِ فعَرَّفه نعمهُ فعرَفها قال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حَتَّى استشهدْتُ. قال: كذبتَ، ولكنَّكَ قاتلتَ حَتَّى يقال إنكَ جريء فقدْ قِيل، ثمّ أمر به فسحبَ على وجهه حَتَّى ألقي في النَّارِ، ورجلٌ تعلَّم العلمَ، وعلَّمَهُ، وقرأ القرآنَ فأتي به فعرَّفه نعمه فعرَفها. قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلمَ، وعلمتُهُ، وقرأت فيك القرآنَ. قال: كذبت، ولكنّكَ تعلمتَ العلم ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثمّ أُمرَ به فسحب على وجهه حَتَّى ألقي في النار، ورجلٌ وسّعَ اللهُ عليه، وأعطاه من أصنافِ المالِ كلِّه فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيلٍ تحب أنْ ينفقَ فيها إلا أنفقتا فيها لك. قال: كذبتَ، ولكنَّكَ فعلتَ ليقال هو جوادٌ فقد قيل، ثم أمِرَ به فسحب على وجهه حَتَّى ألقي في النَّار"(1).

قال الحافظ ابن رجب في كتابِه "شرح الأربعين النووية": لمّا بلغَ معاوية هذا الحديث بكى حَتَّى غشي عليه فلمّا أفاقَ قال: صدقَ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود: 15، 16] انتهى (2).

فدلّ هذا الحديث الشريف أنَّ أوّل مَنْ يحاسب هؤلاء الثلاثة

(1) صحيح مسلم (1905)، وهو عند الإمام أحمد 2/ 321.

(2)

"جامع العلوم" 1/ 77.

ص: 796

أشخاص؛ لأنّهم مراءون، ولا شك أنَّ الرياء مذمومٌ، وصاحبه من أبوابِ الخيرِ محروم.

أخرجَ الإمام أحمد، وأبو داود، وابنُ ماجه عن أبي هريرةَ رضي الله عنه مرفوعًا:"مَنْ تعلم علمًا مما يُبتغى به وجه اللهِ لَا ينعلمه إلَاّ ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عَرْف الجنَّةِ يومَ القيامة"(1) يعني ريحها.

وأخرجَ الترمذي عن كعب بن مالك رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"من طلبَ العلمَ ليماري به السفهاء أَو يجاري به العلماء، أو يصرف به وجوه النَّاس إليه أدخله الله النَّار"(2). وخرّجه ابن ماجه بمعناه من حديث ابن عمر، وحذيفة، وجابر رضي الله عنه (3). وأخرج الإمام أحمد عن أبي بن كعب رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"بشر هذه الأمّة بالثناء، والرفعةِ، والدين، والتمكين في الأرضِ فَمَنْ عملَ منهم عملَ الآخرةِ للدُّنيا لم يكنْ لهُ في الآخرةِ نصيب"(4).

(1) رواه الإمام أحمد 2/ 338، وأبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وأبو يعلى (6373)، وابن حبان (78)، والحاكم 1/ 160.

(2)

رواه الترمذي (3654)، والطبراني في الكبير 19/ (199).

(3)

رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر (253) ومن حديث حذيفة (259) ومن حديث جابر (254).

(4)

رواه أحمد 5/ 134، وابن حبان (405)، والحاكم 4/ 346، والبيهقي في الشعب 5/ 334 و 7/ 287، وأبو نعيم 1/ 255 و 9/ 42، والخطيب في موضع أوهام الجمع 2/ 483 (476)، والضياء 3/ (1152 - 1154).

ص: 797

ولسنا بصدد بيان مذام الرياء، ويكفي فيه أنَّه شرك، فإنّه، الشرك الأصغر كما ثبت ذلك، والله الموفق ولنرجع إلى ما نحن بصدده من أمرِ الحسابِ قال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ نوقش الحسابِ عُذب" قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: فقلت: "أليس يقول الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)} [الانشقاق: 7 - 9] فقال: "إنما ذلك العرض، وليس [أحد](1) يحاسب يوم القيامة إلا هلك" رواه البخاري ومسلم عنها (2).

وعند البزار والطبراني عن ابن الزبير رضي الله عنه نحوه مرفوعًا، وعن عتبة بن عبد الله رضي الله عنه، عنَ النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"لو أنَّ رجلاً يخرُّ علَى وجهِهِ مِنْ يومِ وُلِدَ إلى يومِ يموتُ في مرضاةِ الله عز وجل لحقَرَه يومَ القيامةِ"(3) رواه الطبراني: قال الحافظ المنذري: رواته ثقات إلا بقية قُلْتُ: يعضده ما رواه الإمام أحمد رضي الله عنه بإسنادٍ صحيح عن محمد بن أبي عميرة رضي الله عنه، وكان من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم رفعه: "لو أنّ رجلاً خرّ عَلى وجهه من يومِ ولِدَ إلى

(1) من (ب).

(2)

أخرجه البخاري (103)، (4939)، ومسلم (2876)، وأبو داود (3093).

(3)

رواه أحمد 4/ 185، والطبراني في الكبير 17/ (123)، وأبو نعيم 2/ 15 و 5/ 219، والبيهقي في الشعب 1/ 479 (767)، وأورده الهيثمي 1/ 51 و 10/ 225 و 10/ 358 وقال في الموضع الأول: رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه بقية وهو مدلس ولكنه صرح بالتحديث.

ص: 798

يوم يموت هرما في طاعة الله عز وجل لحقره ذلك اليوم ولودّ أنّه لو رُدّ إلى الدّنيا كيما يزداد من الأجرِ والثوابِ" (1).

وأخرجَ البزار عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "يخرج لابنِ آدم يومَ القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فَيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم من الله عز وجل، فيقول الله لأصغر نعمة أحسبه قال في ديوان النعم خذي ثمنك من عملِه الصالح، فتستوعب عملَه الصالح فإذا أرادَ اللهُ أنْ يرحم عبدًا قال: يا عبدي قد ضاعفتُ لكَ حسناتك، وتجاوزت عن سيئاتِك أحسبه قال: ووهبت لك نعمي"(2).

وأخرج الحاكم وصححه عن جابرٍ رضي الله عنه قال: خرجَ علينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: "خرجَ من عنديَ خليلي جبريل آنفًا فقال: "يا محمد والذي بَعثك بالحق إنَّ للهِ عبدًا من عبادِه عَبَد الله خمسمائة سنة على رأسِ جبلٍ في البحرِ عرضه وطوله ثلاثون ذراعًا في ثلاثين ذراعًا، والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كلِّ ناحية، وأخرجَ له عينًا عذبة بعرض الأصبع تبض بماء عذب فيستنقع في أسْفلِ الجبلِ، وشجرة

(1) رواه أحمد 4/ 185، وابن المبارك في الزهد (34)، والبخاري في تاريخه 1/ 15، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1124)، والطبراني 19/ (562)، وأبو نعيم 5/ 133

(2)

أخرجه البزار في مسند (3444)، وأورده ابن كثير في تفسيره 3/ 541 بإسناد البزار، وقال: غريب وسنده ضعيف. وأورده الهيثمي 10/ 357 وقال: رواه البزار وفيه صالح المري وهو ضعيف.

ص: 799

رمان تخرج في كل ليلةٍ رمانة يتعبد يومه فإذَا أمسى نزلَ فأصاب من الوضوء، وأخذَ تلكَ الرمانة، فأكلها، ثم قامَ لصلاِته، فسألَ ربَّه عند وقت الأجل أنْ يقبضه ساجدًا، وأن لا يجعل للأرضِ، ولا لشيء يفسد عليه سبيلا حَتَّى يبعثه وهو ساجد قال: ففعل.

فنحن نمر عليه إذا هبطنا، وإذا خرجنا فنجد له في العلمِ أنَّه يبعث يومَ القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول له الرب:"دْخلوا عبدي الجنَّة برحمتي" فيقول: ربِّ بل بعملي فيقول: "أدخلوا عبدي الجنَّة برحمتي" فيقول: ربّ بل بعملي فيقول: "قايسوا عبدي بنعمتي عليه، وبعمله" فيوجد نعمة البصر قدْ أحاطتْ بعبادة خمسمائة سنة، وبقيتْ نعمة الجسدِ فضلاً عليه فيقول:"أدخلوا عبدي النّار" فيجر إلى النار فنادى: ربّ برحمتك أدخلني الجنة فيقول: "ردوه"، فيوقف بين يديه فيقول:"يا عبدي من خَلقكَ ولمْ تك شيئا؟ " فيقول: أنت يا رب فيقول: "مَنْ قواكَ لعبادةِ خمسمائة سنة؟ " فيقول: أنت يا رب فيقول: "من أنزلك في جبل وسط اللجةِ، وأخرجَ لكَ الماء العذبَ مِن الماءِ المالح، وأخرج لكَ كل ليلةٍ رمانة وإنّما تخرج مرة في السَّنة، وسألته أنْ يقبضك ساجدًا ففعل؟ " فيقول: أنتَ يا رب، قال:"فذلك برحمتي، وبرحمتي أدخلك الجنة" قال جبريل: إنّما الأشياء برحمةِ الله يا محمد" (1).

(1) رواه الحاكم 4/ 278، والبيهقي في الشعب 4/ 150 (4620).

ص: 800

ولقد قلتُ مرتجلاً أشير لتقصيري عن شكر نعمه التي منَّ بها علي:

عسى رحمة المولى الوسيعة في غدٍ

تكون لنا حصنًا من النّارِ يا عدي

فإنْ لم تكنْ لي رحمة اللهِ ملجأ

فإنّي في تلك المصارع مرتدي

فوا أسفي إنْ لمْ تكنْ لي فإنني

على فرط تقصيري مع اللهِ معتدي

وكم نعمةٍ للهِ ضيَّعْتُ شكرها

وقابلتها بالبطش بالرجل واليدِ

وفي بصري ما لو أقمت مجاهدًا

مدى الدّهرِ يأكل المنى في تهجدي

لما كان هذا غير في جنب شكره

كما جاء في نص الحديث المسدد

روينا حديثًا يا منى العين مسندا

يشير لهذا فاتبعْ ذاكَ تهتدي

وأخرجَ البخاري ومسلم عن عائشة الصديقة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَدِّدوا وقَاربُوا وأبشروا فَإنّ لنْ يُدْخِلَ أحدًا الجنةَ عَمَلُهُ" قالوا: ولا أنت يا رسولَ اللهِ؟ قال: "ولا أنا إلاّ أنْ يتغمدني اللهُ برحمته"(1).

ورواه الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعًا بلفظ: "لن يدخل الجنةَ أحد إلا برحمة الله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلَاّ أن يتغمدني الله برحمته"(2) وقال بيده فوق رأسه.

قُلْتُ: فهم بعض أشياخي من حديث الصحيحين هذا من قول النّبي صلى الله عليه وسلم عند إملائه لنا حديث البخاري هذا من صحيحه قال: قوله صلى الله عليه وسلم

(1) أخرجه البخاري (6464)، (646)، ومسلم 8/ 28، والنسائي في الكبرى 12/ 17775. وسيأتي من رواية أبي هريرة ص 841 ت (3).

(2)

أخرجه أحمد في مسند 3/ 52 (11486)، وعبد بن حميد في المنتخب 892.

ص: 801

"إلا أن يتغمدني الله برحمته" أي: فأدخل الجنة بعملي فقلت له: حيث تغمده الله برحمته أي عمل له أدخله الجنة قال: هذا مفهوم الحديث.

قلت: بل المراد لنْ أدخل الجنّة إلا أنْ يتغمدني الله برحمته فيكون الاستثناء راجع لدخولِ الجنّة حسب فتكأكأ الشيخُ حفظه الله تعالى، ولم يبد جوابًا مع عدم ارتضاه لما قلنا.

وأخرج الإمام أحمد، والترمذي عن عائشةَ رضي الله عنها أنّ رجلاً من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقالَ: يا رسولَ اللهِ إنّي ليء مملوكين يكذبونني، ويخونونني، ويَعْصونني، وأضْربهم، وأشتمهم فكيْفَ أنا منهم؟ فقالَ لهُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يحُسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم فإنْ كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لكَ، وإنْ كانَ عقابك لهم بقدرِ ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك، وإنْ كان عقابك إياهم فوقَ ذنوبهِم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قِبَلك" فجعلَ الرّجل يبْكي بين يدي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ويهتف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما لك ألا تقرأ كتابَ اللهِ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47] " فقال الرجلُ: يا رسولَ الله ما أجد شيئًا خيرا من فراقِ هؤلاء يعني: عبيده أشهدك أنّهم أحرار (1).

(1) رواه أحمد 6/ 280، والترمذي (3165)، والبيهقي في الشعب (8586)، ورواية أحمد والبيهقي معها رواية أخرى لصحاب مبهم لنفس الحديث لكن في إسناده أيضًا رجل مبهم آخر، فحديث عائشة أقوى.

ص: 802

قال الترمذي: حديث غريب، لكن قال الحافظ المنذري: إسناده يعني الترمذي، وإسناد الإمام أحمد متصلان، ورواتهما ثقات، وفيه عبد الرحمن بن غزوان يكنى أبا نوحٍ احتج به البخاري، وبقية رجال الإمام أحمد احتج بهم البخاري ومسلم (1). قُلْتُ: فيكون هذا الحديث صحيحًا والله أعلم.

وقال صلى الله عليه وسلم لوصيفٍ لهُ: "لولا القصاص لضربتك بهذا السواك" رواه أبو يعلى بإسنادٍ جيد (2).

وأخرج البزار بإسنادٍ حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "منْ ضربَ مملوكَهُ سوطًا ظلمًا اقتص منه يوم القيامةِ"(3).

وأخرجَ الإمامُ أحمد بسند حسن عن عبدِ الله بن أُنيس رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر العباد يومَ القياَمة" أو قال: "الناس عراة غُرلاً بُهْمَا" قال: قنا: يا رسول اللهِ وما بهما؟ قال: "ليس معهم شيء، ثمّ يناديهم بصوتٍ يسمعه من بَعُد كما يسمعه مَن قَرُب: أنا الديان أنا الملك لا ينبغي لأحدٍ مِنْ أهلِ النَّارِ أنْ يدخل النَّار وله عند أحدٍ مِنْ أهلِ الجنَّة حقٌّ حَتَّى أقصّه منه، ولا ينبغي لأحد

(1)"صحيح الترغيب والترهيب" 2/ 566 باب: القضاء وغيره.

(2)

رواه أبو يعلى (6928) من حديث أم سلمة، قال الهيثمي 10/ 353: إسناده جيد.

(3)

رواه الطبراني في الأوسط (1445)، وأخرجه البزار 3454، قال المنذري 4/ 218: رواه البزار والطبراز، وإسناده حسن. وكذا حسنه الهيثمي 10/ 353.

ص: 803

من أهل الجنة أنْ يدخل الجنة ولأحدٍ من أهل النّار عنده حق حَتَّى أقصّه منه، حَتَّى اللطمة" قال: قلنا: كيف وإنّما نأتي عراة غُرلاً بُهْمًا؟ قال: "الحسنات، والسيئات"(1).

وأخرجَ مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"المفلس مِنْ أمّتي مَنْ يأتي يومَ القيامة بَصلاةٍ وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإنْ فنيتْ حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خَطاياهم فطرحت عليه، ثمّ طُرحَ في النّارِ"(2).

وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسولَ الله هل نرى ربَّنا يومَ القيامة؟ فقال: "هل تُضارونَ في رؤيةِ الشمس في الظهيرةِ ليستْ في سحابةٍ؟ " قالوا: لا قال: "فهل تُضارون في رؤيةِ القمرِ ليلةَ البدرِ ليس في سحابة؟ " قالوا: لا قال: "فوالذي نفْسي بيده لا تُضارون برؤية ربّكم إلا كما تُضارون في رؤية أحدهما فيلقى العبد ربّه فيقول: أي فل. -يعني: فلانا بمعنى يا فلان حذفت [منه](3) الألف، والنون لغير ترخيم كما قاله الأزهري (4) وغيره.

(1) رواه أحمد 3/ 495. وقال الهيثمي 1/ 133 وقال: عبد الله بن محمد ضعيف [يعني ابن عقيل] قلت: لكنه قد توبع كما فصل في ذَلِكَ الحافظ في تغليق التعليق 5/ 355.

(2)

رواه مسلم (2581)، والترمذي (2418)، وابن حبان (4411) و (7359).

(3)

من (ب).

(4)

انظر لسان العرب مادة: فل.

ص: 804

انتهى - ألم أُكْرِمك، وأُسَّوِدك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ " - بمثناة فوق، فراء ساكنة فهمزة مفتوحة أي: تصير رئيسًا، وتربع أي: تأخذ ما يأخذه كبير الجيشِ، وهو ربع المغانم، ويقال له: المرباع قاله المنذري (1). فيقول: بلى يا رب فيقول: "أظننت أنكَ مُلاقِيِّ؟ " فيقول: لا يقول: "فإنيّ أنساك كما نسيتني" ثم يلقى الثاني فذكر مثل الأول، وكذا الثالث فيقول للثالث: "أظننت أنكَ مُلاقِي؟ " فيقول: أي يا رب آمنت بك، وبكتابك، وبرسلك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع فيقول: "هاهنا إذًا لا، ثمَّ يقول:"الآن نبعثُ شاهدًا عليك، فيتفكَّرُ في نفسهِ منْ ذا الذي يشهدُ عليَّ؟ فيُخْتَمُ على فيه، ويقالُ لفخذِهِ: "انطقي" فتنطقُ فخذهُ، ولحمهُ، وعظامهُ بعمله، وذلكَ ليعذرَ من نفسهِ وذلك المنافقُ وذلكَ الذي يَسْخَطُ اللهُ عليهِ"(2).

وأخرج البخاري عنه أيضًا قال: إنّ النّاس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ قال: "هل تمارون في القمرِ ليلة البدرِ ليسَ دونه سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول اللهِ قال: "هل تمارون في الشمس ليسَ دونها سحاب؟ " قالوا: لا قال: "فإنكم ترونه، كذلك يحشر النّاس يومَ القيامة فيقول: مَنْ كانَ يعبدُ شيئًا فليتبعهُ، فمنهم مَنْ يتبع الشمسَ، ومنهم مَنْ يتبع القمرِ، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى

(1)"صحيح الترغيب والترهيب" 3/ 429، كتاب: البعث وأهوال القيامة.

(2)

رواه مسلم (2968)، وابن حبان (4642) و (7445).

ص: 805

هذه الأمّةُ فيها منافقوها فيأتيهم اللهُ فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: هذا مكاننا حَتَّى يأتينا رَبُّنا فإذا جَاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: أنت ربُّنا فيدعوهم، ويضرب الصِّراط بين ظهراني جهنّم فَأكونُ أوّل من يجوز من الرّسل بأمَّته.

ولا يتكلَّمُ يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ:"اللهُمَّ سَلِّم سلِّم، وفي جهنمَ كلاليبُ مثل شوك السّعدان" أي: وهو نبت له شوك معقف فقال صلى الله عليه وسلم: "هل رأيتم شوك السّعدان؟ " قالوا: نعم. قال: "فإنّها مثلُ شوكِ السعدان غير أنَّه لا يعلم قدر عظمها إلَاّ الله تخطف النَّاس بأعمالِهم فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل أي: يصرع وقيل يقطع.

قال المنذري: المعنى أنه يقطعه كلاليب الصراط حَتَّى يهوي في النار (1). انتهى.

ثمّ ينجو حَتَّى إذا أرادَ الله رحمة من أراد من أهل النارِ أمر الله الملائكةَ أنْ يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم فيعرفونهم بآثار السجود. وحرّم الله على النار أن تأكل أثرَ السّجود. فيخرجون من النّار، وقد امتُحشوا - أي: بضم التاء وكسر المهملة فشين معجمة أي: احترقوا، وقال الهيثم: هو أن تذهب ألنار الجلد وتبدي العظم انتهى.

فيصب عليهم ماء الحياةِ فينبتون كما تنبت الحبة - أي: بكسر الحاء المهملة هي بزر البقول والرياحين وقيل: بزر العشب وقيل: نبت في الحشيش صغير وقيل: جميع بزور النبات وقيل: بزر ما

(1)"صحيح الترغيب والترهيب" 3/ 432، كتاب: البعث وأهوال يوم القيامة.

ص: 806

ينبت من غير بذر، وما بذر تفتح حاؤه ذكره الحافظ المنذري - في حميل السيل أي: زبد السيل، وما يلقيه على شاطئه، وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الميم "ثمّ يَفْرغ اللهُ مِن القضاء بين العبادِ"(1) الحديث.

وفي الصحيحين عن أيى سعيدٍ قال: قلنا: يا رسول اللهِ هل نرى ربنا يوم القيامة؟ وذكر الحديث وفيه: "فإذا كان يومُ القيامة أذَّن مؤذِّن: لتتبع كل أمّة ما كانت تعبد. فلا يبقى أحدٌ كان يعبد غيرَ اللهِ من الأصنامِ والأنصابِ إلَاّ يتساقطون في النّارِ حَتَّى إذا لمْ يبقَ إلاّ مَنْ كان يعبد اللهَ مِنْ بر وفاجر وغُبَّرِ أهلِ الكتابِ" أي: بقاياهم، وهو بغين معجمة مضمومة فموحدة مشددة مفتوحة جمع غابر.

"فيدعى اليهودُ فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنَّا نعبدُ عُزير ابن اللهِ فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ اللهُ مِنْ صاحبة ولا ولدٍ، فماذا تبغون؟ قالوا: عَطِشنا يا ربَّنا فاسقنا فيشار إليهم: ألا تَرِدونَ؟ فيحشرون إلى النَّار كأنها سراب يحْطِمُ بعضُها بعضا، فيتساقطون في النار، ثمَّ يدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن اللهِ فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون؟ فيقولون: يا ربنا عطشنا فاسقنا فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار. حَتَّى إذا لم يبقَ إلَاّ مَن كان يعبد الله من برّ وفاجر أتاهم الله في أدْنى صورة من التي رأوه فيها. قال: فما تنتظرون؟ تتبع كلُّ أمّةٍ ما

(1) رواه البخاري (806) و (6573)، وهو أيضًا في مسلم (182).

ص: 807

كانتْ تعبد قالوا: يا ربَّنا فارقنا الناسَ في الدنيا أفْقَرَ ما كنا إليهم ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربُّكم. فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا (مرتين أو ثلاثا) حَتَّى إنّ بعضهم ليكاد أن ينقلبَ فيقول: هل بينكم وبينه آيةٌ فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاءِ نفسه إلا أذنَ له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتِّقَاءَ ورياءً إلا جعلَ ظهره طبقة واحدة. كلّما أرادَ أنْ يسجدَ خرّ على قفاهُ، ثم يرفعون رءوسهم وقد تحوَّل في صورته التي رأوه فيها أوّلَ مرةٍ فقال: أنا ربُّكم فيقولون: أنت ربُّنا ثم يضرب الصراط على جسر جهنم، وتحلّ الشفاعة، ويقولون: اللَّهُمَّ سَلِّم سَلِّم" (1). الحديث.

تنبيه: قد تقدم أنّ أوّل مَنْ يحاسب العلماء، والمغازون، وأرباب الأموالِ والسعة، ومما ينبغي أنْ يعلم أنّ أوّل ما يحاسب عليه العبد الصلاة. أخرج ابن المبارك، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"أوّلُ ما يحاسب به العبد يوم القيامَة الصلاة يقول الله لملائكته: "انظروا لِصلاة عبدي أتمها أمْ نقصها فإنْ كانتْ تامة كتبت له تامة، وإنْ كان ينقص منها شيئًا قال الله: انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ

(1) رواه البخاري، ومسلم (182)، وأحمد 2/ 275 و 2/ 533، وابن حبان (7429).

ص: 808

الأعمال على ذلك" (1).

وأخرج النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أول ما يحاسب عليه العبد صلاته، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء"(2).

فإن قيل: قد ورد في التنزيل أن الناس لا يُسألون قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} [الرحمن: 39]. فالجواب: أنّ هذا معارضٌ بقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93].

ويجاب عن الآية الكريمة بأنّهم لا يسئلون سؤال استفهام لأنّه تعالى عالم بكلِّ أعمالهم، وإنما يُسألون سؤال تقرير فيقال لهم: فعلتم كذا (3). قال في "البهجة" قال الحسن، وقتادة: لا يُسألون عن ذنوبهم لأن الله تعالى حفظها عليهم، وكتبتها الملائكة وأجيب بأنّهم لا يُسألون سؤال استفهام، بل سؤال تقرير، وقيل سَيُسألون في موطن دون موطن رواه عكرمة عن ابن عبّاس نظيره قوله تعالى:{وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات: 36] وفي آية أخرى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} [الزمر: 31]. فللناس يوم القيامة

(1) ابن المبارك في الزهد (915)، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم 1/ 394.

(2)

أخرجه أحمد 1/ 388، والبخاري 8/ 138، ومسلم 5/ 107، وابن ماجه 2615، والترمذي 1396.

(3)

"الدر المنثور" 4/ 199.

ص: 809

حالات والآيات مخرجة باعتبار تلك الحالات ومن ثمَّ قال إمام أهل السنة سيدنا الإمام أحمد أعلى الله شأنه في الدارين في أجوبته القرآنية قال في كلامه على هذه الآية الكريمة: أوّل ما تبعث الخلائق على مقدار ستين سنة لا ينطقون، ولا يؤذن لهم في الاعتذار فيعتذرون، ثُم يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون (1) فذلك قوله تعالى:{رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:]، الآية فإذا أذنَ لهم في الكلامِ تكلموا، واختصموا فذلك قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} [الزمر: 31] عند الحساب وإعطاء المظالم، ثم يقال لهم بعد ذلك:{لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق: 28] أي: عندي: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28] يعني: في الدّنيا فإنَّ العذاب مع هذا القول كائن انتهى.

فائدة: اختلف العلماءُ عن المسؤول عنه، والمسؤول فقال ابن عباس: عن لا إله إلَاّ الله، وقال الضحاك: عن خطاياهم، وقال القرطبي: عن جميع أقوالهم وأفعالهم (2): {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92 - 93]. قال الفخر: ولا معنى لقولِ من يقول: إن السؤال إنّما يكون عن الكفر والإيمان، بل السؤال واقع عنهما، وعن جميع الأعمالِ لأن اللفظ عام

(1) الرد على الزنادقة والجهمية" 1/ 7.

(2)

"التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" ص 323، باب: ما جاء في سؤال الأنبياء.

ص: 810

يتناول الكل (1)، والضمير في قوله: لنسألنهم عائد على جميع المكلفين الأنبياء وغيرهم، ومما يدل على سؤالهم صريحًا قوله تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: 6]. قال: فهذه الآية تدلّ على أنّه تعالى يحاسب كلّ عبادِه لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا مرسلين أو مرسلاً إليهم، ويبطل قول من زعم أئه لا حساب على الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام ولا الكفار انتهى.

قال العلامة رحمه الله تعالى: يمكن الجواب أن يقال لا حساب على الأنبياء حساب مناقشة، قال النسفي في "بحر الكلام": الأنبياء لا حساب عليهم، وكذلك أطفال المؤمنين، والعشرة المبشرون بالجنّة هذا في حساب المناقشة.

قُلْتُ: الحديث المارّ يدلّ على أنّ كل من لم يدخل النار لا يناقش في الحساب، فإنّ من نوقش الحساب عُذِّبَ، وأمّا حساب العرضِ فلا يمتنع حَتَّى على الأنبياء وغيرهم، وهو أنْ يقال: فلعلت كذا وعفوت عنك، وحساب المناقشة لم فعلت كذا.

وقال القرطبي: وهذا العموم -يعني: عموم الآية- مخصوص بأحاديث: "من يدخل الجنة بغيرِ حساب" كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى. وقالَ شيخُ مشايخنا الإمام العلامة المتقن شيخ الإسلامِ محمد الأنصاري الخزرجى الحنبلى المعروف بالبلباني قدّس الله روحه في

(1)"التفسير الكبير" 19/ 214.

ص: 811

"عقيدته" ما نصه: ويحاسب المسلمون المكلفون إلاّ مَنْ شاء الله أنْ يدخل الجنّة بغيرِ حساب، وكلّ مكلف مسئول ويسأل مَنْ شاء مِنَ الرّسل عن تبليغ الرسالةِ، ومَنْ شاء مِنَ الكفارِ عن تكذيب الرّسلِ. قال: فالكفار لا يحاسبون فلا توزن صحائفهم، وإنْ فعلَ كافرٌ قربة من نحو عتق أو صدقةَ، أو ظلمه مسلم رجونا له أن يخفف عنه العذاب انتهى.

ولعل مراده غير عذاب الكفر، وأما عذاب الكفرِ فلا (1).

وقال شيخُ الإسلامِ قدسَ اللهُ روحَه في عقيدته الواسطية: ويحاسب اللهُ الخلقَ، ويخلو بعبدِه المؤمن، ويقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتابِ، والسّنة. قال: وأمَّا الكفار فلا يحاسبون محاسبة مَنْ توزن حسناته وسيئاته، فإنَّهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى فيوقفون عليها، ويقررون بها. انتهى (2).

وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه: "ما مِن عبد يخْطو خطوة إلاّ ويسأل عنها مَا أرادَ بها"(3).

وعن أبي هريرةَ مرفوعًا: "إن أول ما يسأل عنه يومَ القيامةِ أنْ

(1) والصحيح أن الكافر يقدم على الله وقد استوفى جميع ماله من أعمال فيعذب في الآخرة على كفره إلا من خصه الدليل كأبي طالب.

(2)

انظر العقيدة الواسطية بشرح ابن عثيمين 2/ 570.

(3)

رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 376 و 4/ 107 و 8/ 212، وهو في الفردوس 4/ 16 (6047).

ص: 812

يقالَ لهُ ألمْ أصحح جسمَكَ، وأرويكَ مِنَ الماء الباردِ؟ والذي نفسي بيده من النّعيم الذي تُسألون عنه يومَ القيامة ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد" (1). أخرجه البغوي.

وأخرج الإمامُ أحمد، والبيهقي، وأبو نعيم عن الحسن مرفوعًا:"ثلاث لا يحاسب بهن العبد ظل خص يستظل به، وكسرة يشدّ بها صلبه، وثوب يوارى به عورته"(2) وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود مرفوعًا في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8] قال: الأمن والصحّة (3) ويروى: "أشد الناسِ حسابا الصحيح الفارغ، وما كثر مالُ رجلِ إلا كثر حسابه"(4) والحاصل أنَّ العبدَ يُسْأل عن كلِّ شيء، ولقدْ أحسن من قال في ذلك:

ولو أنا إذا متنا تُركنا

لكَان المْوتُ راحة كلّ حي

ولكنا إذا متنا بُعثنا

ونسأل بعده عن كلِّ شيء (5)

والظاهر أنّه أرادَ بكلِّ شيء لم يرد الشرع باستثنائه والله تعالى أعلم.

(1) روى أوله الترمذي (3358)، والطبري 30/ 288، والحاكم 4/ 153، رواه دون أوله الترمذي (2369)، والحاكم 4/ 1045، والبيهقي في الشعب 4/ (4604).

(2)

الزهد ص 12 وهو مرسل، الفردوس (2494) ضعفه الألباني في الضعيفة (2134).

(3)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4615) 4/ 149، وهناد في الزهد 2/ 364 (694).

(4)

الزهد لابن المبارك (1326) من قول معاوية بن قرة.

(5)

"ديوان على بن أبي طالب" وهو من البحر الوافر.

ص: 813