الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في شهادة الأعضاءِ والأزمنة والأمكنة
.
قال الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: 65] وقال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت: 21].
وأخرجَ مسلم، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: "تدرون ممّا أَضحك؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم قال: "من مخاطبة العبد ربّه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم، فيقول: بلى. فيقول: إنيّ لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين عليك شهودا. فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق باعماله، فيقول: بُعدًا [وسحقًا] (1) لكن فعنكنّ كنت أناضل" أي: أجادل، وأخاصم، وأدافع (2).
وأخرج الإمام أحمد، والطبراني عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا:"إنّ أوّل عظم من الإنسانِ يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرِّجل الشمال"(3).
(1) ساقطة من (أ).
(2)
رواه مسلم (2969)، والنسائي في الكبرى (11653).
(3)
إسناده ضعيف، أخرجه أحمد 4/ 151، والطبري في تفسيره (29215)، والطبراني في الكبير 17/ (921)، وابن أبي عاصم في الأوائل (53).
وأخرج ابن جرير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "يدعى الكافر والمنافق للحساب، فَيعْرِضُ عليه ربُّهُ عَمَلَهُ فيجحد، ويقول: أي رب، وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملَك: أما عَمِلتَ كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول: لا وعزتك. فإذا فعل ذلك ختم على فيه". قال أبو موسى: فإنّي أحسب أوّل ما ينطق منه فخذه اليمين، ثمّ تلى (1) {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: 65].
وأخرج الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"تجيئون يومَ القيامة على أفواهكم الفدام (2)، وإنَّ أوّل ما يتكلم من الآدمي فخذه"(3) فهذا الحديث لم يبين أيّ فخذي المرء ينطق أوّلا، والذي قبله:"إنّ أوّل ما ينطق من الإنسان فخذه اليمين، والذي قبله الشمال"، ولعل ذلك يختلف باختلاف الأشخاصِ على أنّ حديث عقبة جزم بأنَّ أوّل ما يتكلم من الإنسان فخذه من الرِّجل الشّمال، وحديث أبي موسى لم يجزم بل قال: أحسب، وأيضًا حديث عقبة صرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كذلك أبي موسى نعم هو في حكم المرفوع إلا أنَّ حديث عقبة مقدم هنا على حديث أبي موسى لما ذكرنا، ولم أدر ما حكمة نطق الفخذ أولا والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصوّر نفسك أيّها المغرور في ذلك المقام وتأمل في حالتك إذا
(1) رواه الطبري في تفسيره (29212)، ورجاله ثقات، رجال الشيخين.
(2)
الفدام: هو ما يربط به الفم.
(3)
أخرجه أحمد 4/ 446 (20011)، والطبراني في الكبير 19/ 1038.
اشتد الزحام، ونطق أعضاؤك بما لممت به في غابر الأيام، فيا لها من ساعة ما أفظعها، وهتيكة ما أشنعها، شهدت عليك أعضاؤك بما عملت من الجرائم، ونطقت بذلك أبعاضك بما فعلت من المظالم، وانتهكت من المحارم، فهذه لعمري الحسرة العظيمة، والمصيبة الجسيمة، وأنشدوا:
خليلي ما أقضي وما أنا قائل
…
إذ جئت عن نفسي (1) بنفسي أجادل
وقد وضع الرحمنُ في الحْشرِ عدله
…
وسِيق جميع النَّاسِ واليوم باسل (2)
وجيء بجرم النار خاضعة له
…
وتلت عروس عندها ومجادل (3)
فيا ليت شعري ذلك اليوم هل أنا
…
أسامح أم أجزى بما أنا فاعل
فإن أك مجريا فعدل وحجة
…
وإن يك غفران ففضل ونايل
فيا خير مأمول ويا خير راحم
…
ويا خير من ترجى لديه الوسائل
تعطف على العاصين واغفر ذنوبهم
…
فعفوك مأمول وجودك شامل
وصل على خير الأنام محمّد
…
صلاة [بها] تعطيه ما هو آمل
وقُلْتُ في المعنى:
كَفَى حسرة يا نَفْس لو كُنت تعْلمي
…
شهادة أعضائي بما كنت تجرمي
ونادى منَاد الحق ها أنت شاهد
…
عليك وقد ختم العظيمُ على فمي
(1) ورد في هامش الأصل: عن نفسِ: أي: ذاتي أجادل: أي: أسعى في خلاصها لا يهمني غيرها.
(2)
ورد في هامش الأصل: باسل: أي: بطل وشجاع.
(3)
ورد في هامش الأصل: المجادل: جمع مِجْدَل: القصر. والمراد بالعروس: الجنة، وبالمجادل: قصورها.
فوا خجلتي يا نفسُ في ذلك الملأ
…
إذَا قِيل هذا قد أتى بمحرم
فيا نفس تُوبي واتقي الله وارجعي
…
وصومي وصلي واحفظ الله تسلمي
وقومي على الطاعات وارعي حدودَ مَنْ
…
براكَ [وتوبي](1) واتقي الله واندمي
ونوحي على الذَّنبِ القديم الذي مضى
…
لعلك يا نفسي لدى الله تُرحَمِي
وإن كنتِ نفسي فاذكري الله واحذري
…
محارمه طرا وصلي وسلمي
على المصطفى الهادي الأمين وآله
…
وأصحابه ما عَنَّ لي في ترنمي
قال المفسرون في قوله تعالى حكاية عن المشركين {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]: إنهم إذا رأوا في القيامة مغفرةَ اللهِ تعالى، وتجاوزه عن أهل التّوحيدِ قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشركَ لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد فيقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فيقول اللهُ لهم {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] أنَّهم شركاء ثُمّ يختم على أفواههم، وتشهد جوارحُهم بالكفر.
وأخرج أبو يعلى، والحاكم وصححه عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا كان يوم القيامة يمر الكافر بعمله فيجحدَ، ويخاصم فيقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول: كذبوا، فيقول: أهلك وعشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقول: احْلفوا فيحلفون، ويصمتهم الله، ويشهد عليهم ألسنتهم، فيدخلهم النَّار"(2).
(1) ما بين معقوفتين ساقط من (أ).
(2)
رواه أبو يعلى في مسنده (1392)، والحاكم 4/ 605، وصححه ووافقه الذهبي، وأورده الهيثمي في المجمع 10/ 351 وقال: رواه أبو يعلى بإسناد حسن، على ضعف فيه.
وأخرج الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن حبان، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} [الزلزلة: 4] أي: تشهد على كلِّ عبدٍ وأمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا فذلك أخبارها" (1).
وأخرج الطبراني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تحفظوا مِنَ الأرضِ فإنّها أمكم، وإنّه ليسَ من أحد عامل عليها خيرًا، أو شرًا إلَاّ وهي مخبرة"(2).
وأخرجَ أبو نعيم (3) عن معقل بن يسار مرفوعًا: "ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلاّ ينادي فيه يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد، وأنا فيما تعمل غدًا شهيد، فاعملْ فيّ خيرًا أشهد لكَ به غدًا فإنيّ لو قد مضيت لم ترني أبدًا، ويقول الليل مثل ذلك".
وأخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري أنَّه قال لعبدِ الرحمن: إني أراك تحب الغنم، والبادية فإذا كنت في غنمك، أو باديتك فأذّنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنّه لا يسمع صوت المؤذن جنٌّ ولا إنس ولا شيء إلاّ شهدَ يوم القيامة (4).
(1) أخرجه أحمد 2/ 374، وابن حبان 7360، والترمذي 2429.
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير 5/ 4596.
(3)
"حلية الأولياء"(3/ 303) قال غريب من حديث معاوية تفرد به عنه زيد ولا أعلمه روي مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد.
(4)
أخرجه البخاري 609، 3296، 7548، وأحمد في مسنده 3/ 35، 3/ 43.
فائدة: أخرج الأصبهاني في ترغيبه (1) عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا تابَ العبدُ مِنْ ذنوبه أنسى الله حفظته ذنوبه، وَأنسى ذلك جوارحه، ومعالمه من الأرضِ حَتَّى يلقى الله يومَ القيامة وليس عليه شاهد من الله بذنب" وهذه بشارة عظيمة فنسأل الله سبحانه أن يرزقنا توبةً نصوحا تمحو ما تقدمها من الذّنوب والخطايا بمنه وفضله.
(1)(778) وذكر المنذري في "الترغيب والترهيب"(4/ 94) وعزاه للأصبهاني وضعفه.