الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في حسَابِ البْهَائم
قال يحيى بن جعدة: أوّل خلق اللهِ تعَالى يحاسب يومَ القْيامة الدواب، والهوام حَتَّى يقْضي اللهُ بينها حَتَّى لا يذهب شيء بظلامه، ثُم يَجْعلها ترابًا، ثمّ يبعَث الثقلين الإنس والجن فيحاسبهم، فيومئذ يتمنى الكافر {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] وذكر نحوه البغوي عن عبد اللهِ بنِ عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه الحاكمُ عن ابن عمرو قال:"إذا كانَ يوم القياَمةِ مُدت الأْرض مَد الأديم، وحشر اللهُ الخلائق الإنس، والجن، والدواب، والوحوش، فإذا كان ذلك اليوم جعل اللهُ القصاص بين الدّواب حَتَّى يقضي للشاةِ الجماء من القرناء بنطحتها، فإذا فرغَ اللهُ من القْصاصِ بين الدّواب قال لها: "كوني ترابَا" فيراها الكافر فيقول: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} (1)[النبأ: 4].
وأخرجَ ابن جريرٍ، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن أبي هريرة قال:"يحشر الخلق كلهم يومَ القيامة البهائم، والدواب، والطير، وكل شيء فيبلغ من عدلِ الله أنْ يأخذَ للجماء من القرناء، ثمَّ يقول: "كوني
(1) رواه البغوي في "معالم التنزيل"، ورواه الحاكم 4/ 619 وقال: رواته عن آخرهم ثقات غير أن أبا المغيرة مجهول، وتفسير الصحابي مسند.
وله شاهد ضعيف من رواية شهر عن ابن عباس: أخرجه ابن المبارك (353)، الحارث (1122 - بغية)، والطبري 30/ 185، وأبو نعيم في الحلية 6/ 61 ويشهد لبعض الحديث التالي.
ترابا" (1) فذلك حين يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا. وقال مقاتل: يجمع الله الوحوشَ، والهوام، والطير، فيقضى بينهم حَتَّى يقضي للجماء من القرناء، ثم يقول لهم: "أنا خلقتكم، وسخرتكم لبني آدم، وكنتم مطيعين أيام حياتكم، فارجعوا إلى الذي كنتم كونوا ترابا" فإذا التفت الكافر إلى شيء صار ترابًا يتمنى فيقول: يا ليتني كنت في الدنيا في صورة خترير، وكنت اليوم ترابا.
تنبيه: ذكر البغوي عن عبد الله بن ذكوان قال: إذا قضى اللهُ بين النَّاس، وأمر أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النَّار إلى النار قيل لسائر الأمم، ولمؤمني الجن: عودوا ترابا فيعودون ترابا فحينئذ يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا. وبه قال ليث بن أبي سليم: مؤمنوا الجنِّ يعودون ترابا (2): قُلْتُ: والحق أن الجنّ كالإنس يدْخل مؤمنهم الجنة، وكافرهم النار.
قال الإمام العلامة شمس الدِّين محمد بن مفلح الراميني الحنبلي (3)
(1) رواه الطبري 7/ 189، والحاكم 2/ 345 وصححه على شرط مسلم، وروى بعضه أحمد 2/ 301 و 363.
(2)
انظر "معالم التنزيل" 8/ 319.
(3)
هو محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي، ثم الصالحي، الراميني الشيخ، الإمام العالم العلامة، أفضل القضاة: شمس الدين أبو عبد الله، وحيد دهره وفريد عصره، شيخ الإسلام، وأحد الأئمة الأعلام، سمع من عيسى المطعم وغيره، وتفقه في المذهب حتى برع فيه ودرس وأفتى وناظر وصنف وحدث وأفاد وناب في الحكم عن قاضي القضاة: جمال الدين المرداري، وقال ابن القيم لقاضي القضاة الحجاوي سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة: ما تحت=
طيب اللهُ ثراه في كتابهِ الفْروع ما نصه الجنُّ مكلفون في الجملةِ إجماعا، ويدخل كافرُهم النار إجماعا، ويدخل مؤمنهم الجنَّة وفاقا لمالك، والشافعي لا أنَّه يصير ترابا كالبهائم، وثوابه النجاة مِنَ النار خلافا لأبي حنيفة وأطال (1). وقال شيخ مشايخنا العلامة بدر الدين البلباني في عقيدته: والجن مكلفون يدخل مؤمنهم الجنة، وكافرهم في النار (2) انتهى.
وقال العلامة في "البهجة" وبعضهم جعلَ مؤمني الجنِّ كالبهائم في أنَّه إذا حَاسبهم الله تعالى يعودون ترابا، والصواب لا. وقال في موضع آخر: وقال بعضهم: لا ثواب للجنِّ إلَاّ النَّجاة مِنَ النَّارِ، ثم يقال لهم: كونوا ترابًا مثل البهائم، وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه ابن حزم إلى أنْ قال: والصواب أنهم يثابون على الطاعةِ، ويعاقبون على المعصيةِ، وهو قول ابن أبي ليلى، ومالك، ونقل عن الأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد، وهو مذهب أحمد، والشافعي، وسئل ابن عباس: هل لهم ثواب؟ فقال: نعم لهم ثواب، وعليهم عقاب، وعن عمر بن عبد العزيز: أن مُؤْمِني الجن حول الجنة. وقال الضحاك: يأكلون في
= قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح. وقال ابن كثير: وجمع مصنفات منها على "المقنع" نحو ثلاثين مجلدًا، وله كتاب "الفروع" في الفقه وهو من أجل الكتب وأنفعها، وله حاشية على "المقنع"، و"النكت" على "المحرر"، وله في أصول الفقه توفي ليلة الخميس: ثاني شهر رجب سنة ثلاث وستين وسبعمائة بسكنه بالصالحية. وقال ابن كثير توفي عن خمسين سنة.
انظر "معجم المحدثين" للذهبي 1/ 265. وانظر "الوفيات" للسلامي 2/ 253.
(1)
انظر "الفروع" 1/ 653.
(2)
نقل شيخ الإسلام رحمنا الله وإياه الإجماع على أن كفار الجن في النار (11/ 306).
الجنَّةِ، ويشربون. وقال مجاهد: يدخلونها ولكن لا يأكلون، ولا يشربون، ويلهمون التسبيح والتقديس، فيجدون فيه ما يجد أهل الجنة من لذيذِ الطعام والشراب. وقال بعض العلماء: إنا نراهم في الجنةِ، ولا يرونا عكس الدنيا. انتهى (1).
وأخرج الإمام أحمد، وأبو نعيم عن عمران الجوني قال: حدثت أنّ البهائم إذا رأت بني آدم قد تصدعوا من بين يدي الله صنفين صنفًا إلى الجنةِ، وصنفًا إلى النَّارِ تناديهم البهائم الحمد لله الذي لم يجعلنا اليوم مثلكم لا جَنّة نرجو، ولا عقاب تحاف (2).
وأخرجَ البخاري عن ابن عمر مرفوعًا: "دخلت امرأة النَّار في هزة حبستها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل مِنْ خَشاش الأرضِ حَتَّى ماتت"(3) فظهر أنه يقتص من الإنسانِ للبهائم. وأخرجَ مسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لتُؤَدَّنّ الحْقوق إلى أهلها يوم القيامة حَتَّى يقاد لَلشاةِ الجلحاء أي: التي لا قرون لها من الشّاةِ القرناء"(4) ورواه الإمام أحمد بلفظ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1) قال شيخ الإسلام في الفتاوى (19/ 39) ويروى أنهم في ربض الجنة نراهم من حيث لا يروننا. اهـ.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 2/ 311.
(3)
رواه البخاري (2365، 3318، 3482)، ومسلم (2242).
(4)
رواه أحمد 2/ 235، 323، 372، 411، ومسلم (2582)، والترمذي (2420) وابن حبان (7363)، والجماء: التي لا قرن لها، وقال النووي في "شرح مسلم" 16/ 137: القصاص من القرناء للجلحاء ليس هو من قصاص التكليف، إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابلة.
"يقتص للخلق بعضهم من بعض حَتَّى للجماء من القرناء، وحتى للذرة من الذرة"(1). ورواته رواة الصحيح.
وأخرج الإمام أحمد أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"ليختصمن كلّ شيء يومَ القيامةَ حَتَّى الشاتان فيما انتطحتا"(2) وإسناده حسن، ورواه أيضًا هو، وأبو يعلى عن أبي سعيدٍ (3). إذا علمت ذلك تبين لك أن حشرَ البهائم حقٌ.
وقد جرى بين العلماء في ذلك نزاع، وها نحن نذكر طرفًا مِنْ ذلك مبرهنين، ومحققين على ما نعتمد عليه إنْ شاء الله تعالى. قال ابن دحية (4) في كتابه "الآيات البينات" (5): اختلف النَّاسُ في حشرِ البهائم، وفي جريان القْصاصِ بينها، فقال الشيخ أبو الحسن الأشعري (6): لا تجوز المقاصة بين البهائم لأنَّها غيرُ مكلفةٍ، وما ورد في ذلك من الأخبارِ نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"يقتص للجماء من القرناء ويسأل العود لم خدش العود". فعلى سبيل المثل، والإخبار عن شدة التقصي في
(1) رواه أحمد 2/ 363، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1967) وقال: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم.
(2)
رواه أحمد 2/ 390 وسنده ضعيف، ويغني عنه ما سبقه.
(3)
رواه أحمد 3/ 29، وأبو يعلى (1400)، وأورده الهيثمي في "المجمع" 10/ 349، وقال: رواه أبو يعلى وأحمد بنحوه، وإسناده حسن.
(4)
هو أبو الخطاب عمر بن الحسن ابن دحية الكلبي الأندلسي المتوفى سنة 633 هـ ترجمته "سير أعلام النبلاء"(22/ 389).
(5)
ص (286).
(6)
هو أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري اليماني المتوفى سنة 324 هـ.
الحساب، وأنّه لابد أنْ يقتص للمظلوم من الظالِم وقال الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني: يجري القصاص بينها، ويحتمل أنها كانتْ تعقل هذا القدر فى دار الدنيا.
قال ابن دحية: وهذا جار على مقتضى العقل والنقل؛ لأنَّ البهيمة تعرف النفع والضر فتفر من العصا، وتقبل للعلف، وينزجر الكلب إذا زجر، وإذا انشلى استشلى، والمطير والوحش تفر من الجوارح استدفاعًا لشرها. فإنْ قيل: القصاص انتقام، والبهائم ليستْ مكلفة، فالجواب أنها ليستْ بمكلفة لكن الله تعالى يفعل في ملكهِ ما أراد كما يسلط عليهم في الدّنيا التسخير لبني آدم، والذبح لما يؤكل منها، ولا اعتراض عليه سبحانه، وأيضًا فإن البهائم إنَّما يقتص لبعضها من بعض لا أنها لا تطالب بارتكاب نهي ولا مخالفة أمرٍ لأنّ هذا ممَّا خصَّ اللهُ به العقلاء.
ولمَّا كثر النّزاع في ذلك وكان فيه نوع إشكال على العقولِ نظرنا فإذا هو سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فنظرنا في القرآن فإذا فيه {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 5] والحشر هو الجمع كما مر ونظرنا في السّنة فإذا هي مشحونة من الأخبار الصحيحةِ، والآثار الصريحة في ذلك ممَّا ذكرناه آنفًا فتحققنا أنَّ الحق الذي لا محيد دنه هو القول بما صرحت به السنة الغراء ولا التفات لِمَنْ خالفها.
قُلْتُ: وإذا تأمل العاقل في أحوالِ الحيوان انكشف له عن حقيقة
ذلك، ولاح له البرهان، فانظرْ في حال النملة كيف تحمل قوتها وتدخره لزمن الشتاء؟! وانظر إلى النحلةِ تجد أمرًا يذهل العقول فإنَّها تجني من الأنوارِ والأزهار، وتتنزه عن النجاسات والأقذار، وتطيع لواحد من جملتها وهو أكبرها شخصًا وهو أميرها، ثم انظر إلى ما ألهمهَا الله مِنَ العْدلِ، والإنصاف فإنَّ كبيرها يقتل كلّ من وقعَ على نجاسة، أو خالفَ أمرًا أمر به، ثمَّ تأمل في بنيانها بيتها من الشمع، واختيارها الشّكل المسدس؛ لأنَّه أوسعُ الأشكالِ، وأحواها وكم في ذلك من حكمةٍ تدق على فهم كلّ ذي فهم.
وروى أبو نعيم (1) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت عند كعب الأحبار وهو عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال كعب: يا أميرَ المؤمنين ألا أخبرك بأغرب شيء قرأتهَ في كتب الأنبياء عليهم السلام أنَّ هامة جاءت إلى سليمان بنِ داود عليهما السلام فقالت: السّلام عليك يا نبي اللهِ فقال: وعليكِ السّلام يا هامة أخبريني كيف لا تأكلين من الزرع؟ قالت: يا نبي اللهِ إنّ آدم أخرج مِنَ الجْنةِ بسببه فقال: فكيف لا تشربين الماء؟ قالت: [لأنَّ الله أغرق](2) قوم نوح فيه فمن أجل ذلك لا أشربه فقال لها سليمان: كيف تركت العمران، وسكنت الخراب؟ فقالت؛ لأنَّ الخرابَ ميراثُ اللهِ فأنا أسكن ميراثَ اللهِ قال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
(1)"الحلية"(5/ 391).
(2)
في "الحلية": لأنه غرق فيه.
قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)} [القصص: 58] فالدُّنيا ميراث الله كلها (1).
قال سليمان: فما صياحكِ في الدور إذا مررتِ [عنها]؟ (2) قالت: أقول: ويل لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد. قال: هما بالكِ لا تخرجين في النَّهار؟ قالت: من ظلم بني آدم (3) أنفسهم. قال: فأخبريني ما تقولين في صياحك؟ قالت: أقول: تزوّدوا يا غالفين، وتهيّؤا لسفركم سبحان خالق النّور. قال سليمان (4): ليس في الطيورِ طير أنصح لابن آدم، وأشفق عليه من الهْامة، وما [على](5) قلوب الجهال أبغض [منها](6). فانظر كيف تعرف أنَّ أمام النَّاس شدائد.
وذكر في حياة الحيوان أنّ سيّدنا سليمان عليه السلام مرّ على حمامة تغرّد فقال: أتدرون ما تقول هذه الحمامة؟ فقالوا: لا فقال: إنها تقول: يا ليت هذا الخلق ما خلقوا، وليتهم إذ خلقوا علموا لما خلقوا، وليتهم إذ علموا عملوا بما علموا، وأنشدت في ذلك ارتجالاً أبياتًا منها:
يا ذا النهى قد جاء في خبر
…
نرويه عن من قبلنا سبقوا
(1) في "الحلية" زيادة (قال: قال سليمان ما تقولين إذا جلست فوق خربة؟ قالت: أقول أين الذين كانوا يتمتعون بالدنيا وينعمون فيها.
(2)
في "الحلية"(عليها) وهو الصحيح.
(3)
في "الحلية" زيادة: على.
(4)
في "الحلية" زيادة عليه السلام للهامة على ابن آدم أشفق وأحذر عليه و)
(5)
في "الحلية"(في).
(6)
في "الحلية" من الهامة.
إن ابن داود النّبي رأى
…
حمامة قد حفّها الوَرَقُ
تقول في تغريد نغمتها
…
يا ليت هذا الخلق ما خلقوا
والحاصل أنَّ الله سبحانه وتعالى له حِكَمٌ يدقّ فهمها عن إدراك أولى الألباب فالواجب على كلّ موفق التسليم للنصوص الواردة فى الكتاب العظيم، وفي سنة نبيه الكريم حيث ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المقبولة، فإنْ طابقت العقل فبها ونعمت، وإلا علمنا أنَّ ذلك العقل الذي لم يدرك كنه ذلك إنّما لم يدرك ذلك لانحراف فيه لا أنَّ الحديث الثابت عن حضرة الرسالة يرد لعدم قبول عقل بعض الناس له، والله سبحانه وتعالى أعلم.