الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصلٌ في الشفاعة العظمى
قال شيخُ الإسلام في الواسطية: وللنّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثُ شفاعات. أمّا الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل المْوقفِ حَتَّى يقضي بينهم بعد أنْ يتراجع الأنبياء آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام حتَّى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم كما يأتي.
والثانية: فيشفع في أهلِ الجنّة أنْ يدخلوا الجنة، فهاتان خاصتان له صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: يشفَع فيمن استحق النَّارَ وهذه الشفاعة له ولسائر النّبيينَ، والصديقين، وغيرهم مِن عِبادِ اللهِ الصالحين، فيشفع فيمن استحق النار أنْ لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرجَ منها (1)، وبعضهم أوصلَ الشفاعات المختص بها صلى الله عليه وسلم إلى عشر، والله أعلم.
وقد مرّ مقدارُ الوقوفِ، وأنّ الشمسَ تدنو من رءوسِ الخلائقِ مقدار ميل، وما يصيبهم من العرقِ من شدة الهولِ، وعظم حر الشمس يومئذ، وقد قالَ بعضُ السلفِ: لو طلعت الشمسُ على الأرض كهيئتها يوم القيامة لأحْرقت الأرضَ، وأذابت الجوامد، ونشفت الأنهار، فإذا حصل ذلك الكربُ العظيم، والبلاء الجسيم
(1)"شرح العقيدة الواسطية" 2/ 583 - 589.
لجميع الخلقِ من إنسٍ، وجن، ووحْش، وطير، والعقول قد ذهلت، وطال مقامهم، واشتد زحامُهم، وسكبت العبرات، وذهبت الأشارات احتاجوا لشفاعةِ سيد العالمِ، وصفوةِ بني آدمَ، وهي الشفاعة الكبرى التي وعده بها أرحم الراحمينَ وهي تعم الخلائقَ أجمعين، وتنقذهم من طُول الوقوفِ، وشدةِ الحر والزحمة في تلك الصفوفِ، ومن الفزع من ذلك اليوم، والقلق، وعظم العطشِ، وكثرة العرقِ، وهي المشارُ إليها في قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قاله جماعةٌ من علماء التفسيرِ، بل زَعم الواحدي أنّه قد أجمعَ المفسرونَ على أنه مقام الشفاعة (1)، وثَمَّ نزاع طويل لسنا بصدد بيانه إذا علمت ذلك فقد أخرجَ البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: أُتِيَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بلحم، فرفعَ إليه الذّراع، وكانتْ تعجبه فنهشَ مِنها نهشةً ثمَ قَال: "أنا سيدُ النَّاسِ يومَ القيامةِ، وهل تدرونَ مِم ذاك؟ يجمع اللهُ الأولينَ، والآخرينَ في صعيدٍ واحدٍ فيبصرهم النَّاظر، ويسمعهم الدّاعي، وتَدْنو منهم الشَّمسُ فيبلغ الناس مِن الفم، والكربِ ما لا يطيقون، وما لا يحتملون.
فيقول بعضُ النّاس لبعض: ألا ترون ما أنْتم فِيه، وما بلغكم؟ ألا تنْظرون إلى مَنْ يشفع لكم إلى ربِّكم؟ فيقول بعضُ الناس لبعض:
(1) تفسير الواحدي 2/ 644.
أبوكم آدم، فيأتُونه فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خَلقكَ اللهُ بيده، ونفخَ فيك مِن روحِه، وأمرَ الملائكةَ فسجدوا لك، وأسْكنكَ الجنّة ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، وما بلغنا؟ فقال -وفي بعضها فيقول-: إنّ ربيِّ غضبَ اليوم غضبًا لم يغضبْ قبلَه مثله، ولنْ يغضب بعده مثله، وإنّه نهاني عن الشجرةِ، فعصيته نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح.
فيأتونَ نوحًا فيقولون: يا نُوح: أنت أوّلُ الرسل إلى أهلِ الأرضِ، وقدْ سماك اللهُ عَبْدًا شكورا ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إنَّ ربي غضبَ اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضبَ بعده مثله، وإنه كان لي دعوة دعوتُ بها على قومي نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتونَ إبراهيمَ فيقولون: أنت نبي اللهِ وخليله مِن أهلِ الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إنَّ ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبتُ ثلاثَ كذبات فذكرها نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنْتَ رسولُ اللهِ فضلك اللهُ برسالاتِه وبكلامه على النّاسِ اشفع لنا إلى ربكَ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلتُ نفسًا لم أؤمر
بقتلِها نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسولُ اللهِ، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمتَ الناسَ في المهدِ اشفعْ لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحنُ فيه؟ ألا ترى ما قد بلفنا؟ فيقول عيسى: إنّ ربي قد غضب اليوم غضبًا لمْ يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد.
فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنْتَ رسُولُ اللهِ، وخَاتمُ الأنبياء، وقد غفرَ اللهُ لكَ ما تقدَّمَ مِنْ ذنبك، وما تأخر اشفعْ لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرشِ فأخرُّ ساجدًا لربي، ثم يفتح اللهُ على من محامدِه، وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسَك سلْ تعطى، واشفعْ تشفعْ، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب فيقال: يا محمد أدخِل مِن أمّتك مَنْ لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاءُ النَّاسِ فيما سوي ذلك مِن الأبواب، ثُمَّ قَال: والذي نفسي بيده إنَّ ما بين المصراعينِ من مصاريعِ الجنةِ كما بين مكة وهجر، وكما بين مكّة وبُصرَى" (1).
تنبيهان الأول: قول إبراهيم عليه السلام: "وإنّي كذبتُ ثلاث كذباتٍ ليست هي في نفسِ الأمرِ كذبات، ولكن حسناتُ الأبرارِ
(1) رواه البخاري (3340) و (3361) و (4712)، ومسلم (194)، وأحمد 2/ 435 - 436، والترمذي (2434)، وابن حبان (6465).
سيئاتُ المقربين، ومن ثمّ جاء في بعض الروايات: والله ما جادل بهنَّ إلا عن دين اللهِ هي قوله تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (1) وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله لامرأته حين مرّ على الملك: هي أختي، وهذه ليستْ بكذبات وإنَّما هي صور يخيل لمن لم يمعن النَّظرَ في ذلك أنهَا كذبات، وإلا فقوله:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} إنَّما هو تنبيه لهم لعلهم أنْ يعلموا أنّ ذلك الصنم لا يفعلُ شيئًا وإذا جَزَمَتْ عقولهم أنه لا قدرةَ له على فعلِ شيء بطل أن يكونَ ربَّا يُعْبَدُ بالضرورة فقال سيّدُنا الخليل لهم إنَّ الكبيرَ غضبَ على الصّغار لكوْنها تُعبدُ معه، وذلك ليعتبروا أنّ المعبودَ بحقٍ يغضبُ بعبادةِ غيره مما لا يملك لنفسهِ ضرًا ولا نفعًا، وتأمّل قولَه صلى الله عليه وسلم:"فاسألوهم" كما أنه يقول لهم: أنْتم
(1) قال السجاوندي رحمنا الله هاياه في علل الوقوف (2/ 707): قد قيل على تأويل فعله من فعله وفيه بعد بل هو تعريض على أنه ممكن تعليقه بقوله {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} على التقديم، وتأخير قوله فاسألوهم.
وقال الأشموني في "المنار"(250) حيث قال: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ} تام، أي فعله من فعله، أبهم إبراهيم عليه السلام الفاعل تعريضًا للمعنى المقصود الذي أراده، فرارًا من الوقوع في الكذب فهو منقطع عما بعده لفظًا ومعنى، فهو تام، قاله الكسائي، وقوله:{كَبِيرُهُمْ هَذَا} جملة من مبتدأ وخبر، استئنافية لا تعلق لها بما قبلها، أو هي بأن هذا الصنم المشار إليه أكبر الأصنام، وهذا صدق محض، بخلاف ما لو جعل {كَبِيرُهُمْ} فاعلًا بفعله فإنه يحتاج إلى تأويل ذكروه، وهو حسن؛ لأنه من المعاريض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب" ومن جوز الكذب في إبطال باطل وإحقاق حق فهو حسن جائز بالإجماع. ا. هـ
في غرور بعبادتِكم مَنْ لا يدفع عن نفسِه، ولا قدرة له على النطق ليخبركم عَمّن فعلَ به ما فعل، ويا سبحانَ اللهِ إذا كانَ لا يدفع البأسَ عن نفسِه فكيف يدفعه عن غيره؟! على أنّ الكسائي قرأ {بَلْ فَعَلَهُ} ، ووقف على {فَعَلَهُ} ، ثم قال:{كَبِيرُهُمْ هَذَا} أي: فعله من فعله، وأنت خبير أن الوجه في القراءةِ الأولى والله أعلم.
وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} إنما أرادَ الفرارَ من حضورِ عيدهم، ومناكرهم، وعكوفهم على الأصنام، ولو قيل: إن سيدَنا الخليل لمَّا نظر نظرةً في النّجوم فقال: أيُّها الملكُ الكريمُ أنت بحالي عليم، فهؤلاء عبادك ضلُّوا، وأضلُّوا، وعكفوا على أصنامهم، وولوا وما منهم ذو فطنةٍ ولب سليم، وأنا لا أقدرُ على منعهم من عبادةِ الأصنام فإنيِّ سقيم لكان له وجهٌ والله الموفق.
وقوله عليه السلام: لمّا أتاه أعوان ذلك الملك، وكان عادته إذا أعجبته امرأة إنْ كانتْ ذات بعلٍ قتلهُ وأخذها، وإنْ لم تكن ذات بعل أخذها فقالوا: لإبراهيم: ما تكون هذه لك؟ فقال: "هي أختي" وقد صَدَقَ فإنَّها أختُه في الإسلام.
وقال البغوي: هذه تأويلاتٌ لا حاجة إليها إذ يجوز أن يكونَ اللهُ أذنَ لهُ في ذلك لقصدِ الصَّلاح، وتوبيخهم، والاحتجاج عليهم كما أذن ليوسفَ عليه السلام في قصةِ الصواع ولسنا بصدد تحرير هذا المقام وفي هذه الإشارة ما يفصح عن المرادِ والله أعلم (1).
(1)"تفسير البغوي" 5/ 325.
التنبيه الثاني: زعمَ الغزالي في "الدُّرةِ الفاخرةِ" أنَّ بين إتيانِ أهل الموقفِ آدم، وإتيانهم نوحًا ألف سنة، وكذلك كل في بينه وبين الذي يليه ألف سنة، وهذا باطلٌ ومن ثَمّ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: لم أقف لذلك على أصلٍ قال: وقد أكثر في هذا الكتابِ من إيرادِ أحاديث لا أصول لها فلا يغتر بشيء منها. انتهى (1).
وفي حديث أبي هُريرةَ رضي الله عنه مرفوعًا: "ثم يأتوني فإِذا جاؤني خرجتُ حَتَّى آتي قدامَ العرَشِ فأخرُّ ساجدًا فلا أزالُ ساجدًا حَتَّى يبعثَ اللهُ مَلَكًا فيأخذ بعضدي فيرفعني فيقول اللهُ عز وجل: أنتَ محمد؟ فأقول: نعم وهو أعلم، فيقول: ما شَأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعةَ فشفعني في خلقَكَ، واقض بينهم قال: فيقول: قد شفّعْتك ائتهم، واقض بينهم.
قال صلى الله عليه وسلم: فأنصرف حَتَّى أقف مع النَّاسِ فبينما نحنُ وقوفُ، إذْ سمعْنا حسًا من السّماء شدِيدًا فهالنا، فنزل أهلُ سماء الدنيا بمثل من في الأرضِ من الجِن والإنس حَتَّى إذَا دَنوا مِن الأرضِ أشرَقت الأَرضُ لنورِهم، فأخذوا مصافهم فقلنا: أفِيكم ربنا؟ فقالوا: لا وهو آت.
ثم ينزلُ أهلُ السمواتِ على قدرِ ذلك التضعيف حَتَّى ينزل الجبارُ في ظللٍ من الغمامِ والملائكةِ ولهم زجل من تسبيحهم يقولون: سبحانَ المَلِك ذي المَلَكوتِ ربِّ العرشِ والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائقَ ولا يموت، سبوح قدوس رب
(1)"الفتح" 11/ 434.
الملائكةِ والروح قدوس قدوس، سبحانَ ربِّنا الأعلى سبحان ذي الجبروتِ والْملكوت والكِبرِياء والسلطان والعظمة سبحانه أبدَا أبدًا.
فنزل جلَّ ذكره، ويحمل عرشَه (ثمانية)(1) وهم الآن أربعة أقدامهم على تخومِ الأرض السفلى والسموات في حجرهم والعرش على مناكبهم، فيضع الله جَلَّ ذكره كرسيه حيث شاء من الأرضِ، ثم ينادي نداء يسمعه الخلائق: يا معشرَ الجنِّ والإنْسِ إنيِّ أنصتُ منذُ خلقتكم إلى يومِكم هذا أسمعُ كلامَكم، وأبصرُ أعمالكم فأنْصتوا لي فإنّما هي صحائفكم، وأعمالكم تقرأ عليكم فمن وَجَدَ خيرًا فليحمد اللهَ ومَنْ وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلَاّ نفسه" (2).
تنبيه: أوردَ الفخرُ على نزول الملائكةِ سؤالاً وهو أنّه قد ثبت أنّ الأرضَ بالقياس إلى السماءِ كحلقةٍ في فلاةٍ من الأرضِ فكيفَ بالقياسِ إلى العرشِ، والكرسي فملائكة هذه المواضع بأسرِها أين يسعها؟ وأجاب بعضُ المفسرينَ عن ذلك بأنَّ الملائكةَ تكونُ في الغمام انتهى.
قُلْتُ: يرد أنَّ الكرسي يضعه اللهُ جلَّ ذكره حيث شاء من الأرضِ مع أنَّ السموات السبع، والأرضين السبع بالنسبةِ إليه كحلقة ملقاة في فلاة فالأحسن في الجواب ما أجابَ به العلامة أنَّ اللهَ تعالى
(1) في (ب): (ثمانية يومئذ).
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره 2/ 330، وأبو الشيخ في العظمة 3/ 829، وإسحاق بن راهويه في مسنده 1/ 89.
يزيدُ في سعةِ الأرض كيْفَ شاء إذ هو على كلِّ شيءٍ قدير، وأمره بينَ الكافِ والنُّون {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثُمَّ يؤتى بالجنةِ والنَّارِ إلى المحشرِ كما قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)} [الشعراء: 90 - 91]، ومعنى أُزلفت: قربت من المحشرِ حَتَّى يراها كلُّ أحدٍ مِنْ أهلِ المحشرِ، وبروز النَّارِ: ظهورها في المحشر وانكشافها، وعندَ ذلك يكون الفزع الأكبر لأنَّ اللهَ تعالى يأمر بالجْنَّةِ فتزخرف، وتزلف، ويؤتى بهَا، ولها نسِيم طيب أعبق ما يكون فيوجد ريحها من مسيرةِ خمسمائة عام كما يأتى، فترد النّفوس، وتحيى القلوب إلَاّ مَنْ كانتْ أعمالهم خبيثة، فيمنعون ريحها، فتوضع عن يمينِ العرشِ.
ثمَّ يُؤْمَرُ بإتيان النَّارِ فيؤتى بها تُقَاد بسبْعين ألف زمام في كلِّ زمامٍ سَبْعون ألف حلقة لو جُمعَ حديدُ الدّنيا كله ما عدل منها حلقة واحدة، ولها شهيقٌ وزفير ورعد وشرر ودخان يفور حَتَّى يسد الأْفق ظلمته، وتنفلت من أيدي الخزنةِ ولم يقدر على إمساكها أحدٌ لِعظم شأنها حَتَّى يجثو كلُّ من بالموقفِ على ركبتيه حَتَّى المرسلين، ويتعلق إبراهيمُ، وموسى، وعيسى بالعرشِ، وكل منهم يقولُ: نَفْسي نفسي.
وفي تفسير الثعلبي عن أبي سعيدِ رضي الله عنه قال: لمّا نزلتْ {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23] تغير لونُه صلى الله عليه وسلم، وعرف ذلك في وجهه حَتَّى اشتد على أصحابه ثمّ قال: أقرأني جبريل {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} إلى قوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 21 - 23] قِيل له: كيفَ يُجاء بها؟ قال: "يجيءُ بها سَبعُون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردةَ لو تُرِكتْ لأحرقتْ أهل الجْمعِ، ثمّ أتعرض لجهنم فتقول: ما لي وما لك يا محمد فقدْ حرَّمَ اللهُ لحمكَ عَليّ فلا يَبْقى أحدٌ إلا قالَ: نفسي نفسي، وإنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: يا رب أمَّتِي أمَّتِي أمَّتِي" أخرَجه ابن أبي حاتم؛ قال الحافظ ابن رجب في كتابِه "صفة النَّارِ": وفيه الوَصَّافي شيخ صالح لا يحفظ الحديثَ فكثرت المناكيرُ في حدِيثه (1).
وأخرجَ مسلمٌ عن عبدِ الله بنِ مسعود رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بجهنم لها سبعون ألفَ زمام مع كلِّ زمامِ سبعون ألف ملك يجرونها". قال الحافظ ابن رجب في كتابه "صفةً النار": وخرَّجه الترمذيُّ مَوقوفًا على ابن مسعود، ورجح وقفَه العقيلي، والدارقطني (2).
وأخْرجَ أبو يعلى عن أبي سعيدٍ الخدري مرفوعًا: "إذا جمع اللهُ النَّاسَ فى صعيدٍ واحد يومَ القيامة أقبلت النَّارُ يركب بعضُها بعضا، وخزنتها يكفونها، وهي تقول: وعزة رب ليخلين بيني وبين أزْواجي، أو لأغشين النَّاس عنقا واحدًا، فيقال: مَنْ أزواجك؟ فتقول: كل
(1) التخويف من النار ص 163، وأورده القرطبي في تفسيره 20/ 55.
(2)
رواه مسلم (2842)، والترمذي (2573)، والبزار (1754)، والعقيلي 3/ 344.
متكبرٍ جبار" (1).
وأخرجَ الإمامُ أحمد، والترمذي عن أبي هريرةَ مرفوعًا:"يخرج عنق من النارِ يوم القيامةِ لها عينان يبصران، وأذنان يسمعان، ولسان ينطق تقول: إنيِّ وُكِّلْتُ بثلاثةٍ بكل جبارٍ عنيد، وبكلِّ مَنْ دعا مع اللهِ إلهًا آخر، وبالمصورين"(2). قال الحافظ ابن رجب: صححه الترمذي. وفي رواية عند الإمام أحمد: "ومن قتلَ نفسًا بغير نفسٍ" بدل: "المصورين"، وعند البزار "خرج عنق مِن النَّارِ يتكلم بلسان طلق ذلق لها عينان يبصران، ولها لسان يتكلم فتقول: إنيِّ أمِرت بمن جَعَلَ مع اللهِ إلهًا آخر، وبكل جبارٍ، وبمن قتلَ نفسًا بغير نفسِ، فينطلق بهم قبل سائر النَّاسِ بخمسمائة عام (3).
وخرَّجَ ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام آخذ بكلِّ زمام سبعون ألف ملك، وهي تمايل عليهم حَتَّى توقف عن يمينِ العرش، ويلقي اللهُ عليها الذُّل يومئذ فيوحي إليها: ما هذا الذل؟ فتقول: يا رب أخاف أن يكون فيّ نقمة، فيوحي الله إليها: إنَّما خَلقتك نقمة، وليس لي فيكِ نقمة فيوحي الله إليها، فتزفر زفرةً لا تبقي دمعةً في عينٍ إلاّ جرت ثمّ تزفر أخرى فلا يبقى ملكٌ مُقرَّبٌ، ولا نبي مرسل إلاّ صُعِقَ إلَاّ نَبيِّكم نبيَّ
(1) رواه أبو يعلى (1145).
(2)
رواه الإمام أحمد 2/ 336، والترمذي (2574) وقال: حسن غريب صحيح.
(3)
هو لفظ حديث أبي سعيد أخرجه البزار بهما في مجمع الزوائد 10/ 392، وهو عند أحمد 3/ 40 مختصرًا.
الرَّحمة فيقولُ: "يا ربِّ أمَّتي أُمَّتي" صلى الله عليه وسلم (1). ثم إنّ الناسَ يعرضون على ربِّهم كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة: 18] وقال: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18]، وقال:{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 48].
قال الفخر في تفسيرِ الصّف وجوه أحدها: أنْ تعرض الخلق على اللهِ تعالى صفًّا واحدًا ظاهرين بحيث لا يحجب بعضُهم بعضا.
ثانيها: لا يبعد أنْ يكونوا صفوفًا يقف بعضُهم وراء بعضٍ كالصفوف المحيطة بالكعبة التي يكون بعضها خلف، وعلى هذا التقديرِ فالمراد من قوله:
{صَفًّا} كقوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} (2)[غافر: 67] قلت: ويدل لهذا أي: كونهم صفوفًا ما مرّ في الحديث السابق: "اخرُج يا عبدي إلى هذه الصفوت فمن أطعمك، أو كساك" الحديث، وبما يأتي "أقيموا عبادي صفوفا".
ثالثها: أن يكونوا قياما كقولهِ تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] أي: قائمة. انتهى.
وأخْرجَ ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا: "يعرض النَّاس يوم القيامةِ ثلاث عرضات فأمَّا عرضتان: (فجدال)(3) ومعاذير، وأمَّا العرضة الثالثة: فتطير الصحف في الأيدي
(1) التخويف من النار ص 165.
(2)
"التفسير الكبير" 21/ 133.
(3)
في (أ): (فجدل).
فآخذ بيمينه وآخذ بشماله" (1) وفي لفظ: "فتطاير الكتب في الأيمانِ والشمائل". قال الحكيم الترمذي: الجدال للأعداء أي: الكفار يجادلون لأنّهم لا يعرفون ربَّهم فيظنون أنهم إذا جادلوا نجوا، وقامت حجتهم، والمعاذير لله يعتذر إلى آدم، وإلى أنبيائه، ويقيم حجته عندهم على الأعداء، ثم يبعث بهم إلى النَّارِ، والعرضة الثالثة: للمؤمنين، وهو العرض الأكبر يخلو بهم جلّ ذِكره فيعاتب مَن يريد عتابه في تلك الخلوات حَتَّى يذوق وبالَ الحياء والخجلِ، ثُمّ يغفر لهم، ويرضى عنهم فَيا له مِنْ مقام ما أعظمه، ووبال ما أجسمه! فيا مَنْ إذا وقفَ بين [يدي](2) أحد ملوك الأرضِ ارْفَضَّ عرقا، وارتعد فرقا، فكيف حالك إذا وقفت بين يدي ملك الملوكِ، وعاتبكَ بما فعلته حَتَّى على الظنون والشكوكِ؟! فلا هنَّأ الله لعبدٍ عيشا علمَ ذلك فالتذ بمعصية اللهِ، ولقد قلت ارتجالا:
إذا ما تذكرتُ الجزاء يوم عرضتي
…
على خالقي ضاقتْ عليَّ مذاهبي
فلم أدْر ما ردُّ الجوابِ وما الذي
…
أقول وربُّ العالمين معاتبي
فوا أسَفَي يومَ الحسابِ إذا بدتْ
…
قبائح أفْعَالي وكل معايبي
وعاتبني ربِّي لديه وقَال لي:
…
لك الويل إنِّي كنت لست بغائب
أمَا تستحي مني أما كنتَ تختشي
…
أما كانَ أولى أنْ تكونَ مراقبي
أمَا كُنْت تدْرِي أنني بك عالم
…
أما خِفْتَ مِن غضبي وشرِّ عواقبي
فما حِيلتي وا خجلتي مِنْ جَرائمي
…
إذا كنت فذًّا ندّ عنّي صواحبي
(1) رواه أحمد 4/ 414، وابن ماجه (4277).
(2)
ساقطة من (أ).
وَصَارَ مَني خِلِّي وملَّ مودَّتي
…
ومَرَّ وخلاّني أعزُّ حبايبي
سوى المصطفَى ذخري وحصني وبغيتي
…
ورحمة ربي ملجئى في معاطبي
عليه صلاة اللهِ ما هبت الصبا
…
وما ناحَ ولهَان لكثر المصائب
كذا الآل والأصحاب ما ناح بلبل
…
وغرَّد شحرور بصوت مناسبي
وأخْرجَ الإمامُ الحافظ ابن منده في "التوحيد" عن معاذ بنِ جبل رضي الله عنه رفعه قال: "إِنّ اللهَ ينادي يومَ القيامةِ بصوتَ رفيع غير فظَيع: يا عبادي إنِّي أنَا اللهُ لا إله إلَاّ أنا أرحم الراحمين، وأَحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين، أحضروا حجتكم، ويسّروا جوابا فإنكم مسئولون، ومحاسبون، يا ملائكتي أقِيموا عِبَادِي صفوفًا على أطرافِ أنامل أقْدامهم للحساب"(1).
وأخْرجَ أبو داود، وابنُ حبان عن أبي الدّرداء رضي الله عنه مرفوعًا:"إنكم تُدْعون يومَ القيامةِ بأَسْمائكم، وأسماءِ آبائكَم فأحْسِنوا أسماءكم"(2)، وأخرجَ أبو يعلى بسندِ رجاله ثقات عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذَا جمُعَ النَّاسُ فيَ صعيدٍ واحدٍ يومَ القيامةِ أقبلت النَّارُ يركب بعضُها بعضا، وخزنتها يكفونها، وهي تقول: وعزة ربي لَتُخَلِّيَنَّ بيني وبين أزواجي، أو لأغْشينَّ الناس عنقا واحدا فيقولون: ومَن أزواجك؟ فتقول: كلُّ متكبرٍ جبّار، فتخرج لسانَها، فتلتقطهم من بين ظهراني النّاس، فتقذفهم في
(1) كذا عزاه القرطبي في التذكرة وفي التفسير 10/ 417.
(2)
رواه أحمد 5/ 194، وأبو داود (4946)، وابن حبان (5818)، والبيهقي 9/ 306 وقال: هذا مرسل ابن أبي زكريا لم يسمع من أبي الدرداء.
جوفها، ثم كذلك فيقولون: مَنْ أزواجك؟ فتقول: كلُّ مختالٍ فخور، فتلتقطهم بلسَانهِا، فتقذفهم في جوفها، ثم تتأخّر، ويُقضَى بين الناسِ" (1) وتقدَّم معناه، وظاهر هذا أنّ هؤلاء يلقونَ في النّارِ بغيرِ حسابٍ لأنّهم تكبَّروا على خلق الة في دارِ الدُّنيا.
وفي الحديث القدسي: "الكبرياءُ رِدائي، والعظمةُ إزاري فمَنْ نَازعني واحدًا منهما ألْقيته في النار" رواهُ الإمامُ أحمد، وأبو داود، وابنُ ماجه (2).
وعندَ مسلم، وأبي داود، وابن ماجه:"ألقيته في جهنم"(3) وأخرجَ الحاكمُ: "الكبرياء ردائي فمن نَازعني رِدائي قَصمته" وقال: صحيح على شرطِ مسلم (4).
وأخرجَ الإمامُ أحمد، والحاكم، وابنُ ماجه:"ما مِن رجلٍ يتعاظم في نفسِه، ويختالُ في مشيته إلاّ لَقِيَ الله، وهو عَليه غضبان"(5).
واعلم أنّ التكبر مذموم شرعًا، وعقلاً، فأمَّا الشرع: فقدْ ذكَرنا قطرةً من بحرٍ لجي ممّا وردَ في الكبر، وفي الإشارة مَا يغني عن
(1) رواه أبو يعلى (1145).
(2)
رواه أحمد 2/ 442، وأبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، وإسحاق في مسنده (285)، وهو عند ابن حبان (328) من حديث أبي هريرة، وهو في المختارة للضياء 10/ (248) و (286) و (287) من حديث ابن عباس.
(3)
رواه مسلم (2620)، وأبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، وأحمد 2/ 376.
(4)
المستدرك 1/ 129.
(5)
رواه أحمد 2/ 118، والحاكم 1/ 128، والبيهقي في الشعب 6/ 283 والمزي في التهذيب 32/ 539 من حديث ابن عمر.
العبارةِ، وأمّا العقل: فَإنّ كلّ إنسانٍ يعلم أنّ الكبرَ مذمومٌ وأنّ صاحبه من الأجرِ محروم، ومن ثم قال بعض الفضلاء: الكبر، والخيلاء يكسيان الرذائل، ويسلبان الفضائل، وقالَ الأحنف بن قيسُ: ما تكبّر أحد إلاّ مِن ذلّةٍ يجدها في نفْسه، ورأى أفلاطون رجلاً يختال في مشيته، فقال: جعلني اللهُ مثلك في نفسك، ولا جَعلني مثلك في نفسي، وقال الأحنف بن قيس: عجبتُ لِمَن خرجَ منْ مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟! ومرّ بعضُ أولادِ المهلب بمالك بن دينار وهو يختال في مشيته، فقال له مالك: يا بنيّ لو تركت هذا الخيلاء لكان أجمل لك، قال: أوما تعرفني؟ قال: أعرفك معرفةً جيدة أوّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وبين ذلك تحمل العذرة، فأحْنى الفتى برأْسِه، وكفّ عمّا كان عليه.
والكبرُ يوجب المقتَ، ومَن مقته رجاله لمْ يستقم حاله، وقيل: لا يتكبّر إلا كلّ وضيع ولله در القائل:
قولا لأحمق يلوي التيه أجذعه
…
لو كنت تعلم ما في التيه لم تته
التيه مفسدة للدِّين منقصة
…
للعقل مهلكة للعرض فانْتبه
وقال الآخر:
تواضعْ إذا ما كان قدرُكَ عاليًا
…
فإنَّ انخفاض المرءِ من شيمة الفضل
وَلا تعجبن مِنْ عَالم متواضعٍ
…
يخاطبه طفلٌ فيصغي إلى الطفل
فإنّ رسولَ اللهِ كلَّم نملةً
…
وإن إله العرشِ أوحى إلى النَّحْل
ولسْنا بصددِ الكشفِ عنْ قبائح الكبرِ، ولكن ذكرنا ما ذكرنا للمناسبةِ، والشيء بالشيء يذكر، والله سبحانه وتعالى أعْلم.