الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
تتمة ما في أحاديث الباب من حياة الشهداء
قال القرطبي: ومعنى حياة الشهداء: أن لأرواحهم من خصوص الكرامة ما ليس لغيرهم؛ بأن جعلت في جوف طير خضر؛ كما في حديث ابن مسعود، أو في حواصل طير خضر؛ كما في الحديث الآخر؛ صيانةً لتلك الأرواح، ومبالغةً في إكرامها؛ لاطلاعها على ما في الجَنَّة من المحاسن والنعم؛ كما يطلع الراكب المظلل عليه بالهودج الشفاف الذي لا يحجب عما وراءه، ثم يدركون في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجَنَّة وطيبها وسرورها ما يليق بالأرواح مما ترتزق وتنتعش به.
وأما اللذات الجسمانية؛ فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها .. استوفت من النعيم جميع ما أعد الله تعالى لهم.
ثم إن أرواحهم بعد سرحها في الجَنَّة ترجع تلك الطيور بهم إلى مواضع مكرمة مشرفة منورة عبر عنها بالقناديل؛ لكثرة أنوارها وشدتها، والله أعلم.
وهذه الكرامات كلها مخصوصة بالشهداء؛ كما دلت عليه الآية والحديث. انتهى.
وأما حديث مالك الذي قال فيه: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق بثمر الجَنَّة" رواه في "الموطأ"(1/ 240) .. فالمراد بالمؤمن فيه: الشهيد، والحديثان واحد في المعنى؛ من باب حمل المطلق على المقيد، وقد دل على صحة هذا قوله في الحديث الآخر:"إذا مات الإنسان .. عرض عليه مقعده بالغداة والعشي من الجَنَّة أو النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه إلى يوم القيامة" رواه أحمد (5/ 51)، والبخاري (5/ 65)، والنسائي (4/ 107)، وابن ماجة (4270).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
فالمؤمن غير الشهيد هو الذي يعرض عليه مقعده من الجَنَّة، وهو في موضعه من القبر، أو الصور، أو حيث شاء الله تعالى غير سارح في الجَنَّة، ولا داخل فيها، وإنما يدرك منزله فيها، بخلاف الشهيد؛ فإنه يباشر ذلك ويشاهده وهو فيها، على ما تقدم.
وكذلك أرواح الكفار تشاهد ما أعد الله لها من العذاب عند عرض ذلك عليها؛ كما قال تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (1).
وعند هذا العرض تدرك روح الكفار من الألم والتخويف والحزن والعذاب بالانتظار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فنسأل الله تعالى العافية منها.
كما أنه يحصل للمؤمن عند عرض الجَنَّة عليه؛ من الفرح والسرور والتنعم بانتظار المحبوب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فإذا أعيدت الأرواح إلى الأجساد .. استكمل كلّ فريق ما أعد الله له، وبهذا الذي ذكرناه تلتم الأحاديث وتتفق، والله الموفق.
وقد حصل من مجموع الكتاب والسنة أن الأرواح باقية بعد الموت، وأنها منعمة أو معذبة إلى يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد اختلف الناس في الأرواح قديمًا وحديثًا ما هي؟ وعلى أي حال هي؟ اختلافًا كثيرًا، واضطربوا فيها اضطرابًا شديدًا، الواقف عليه يتحقق أن الكل منهم على غير بصيرة منها، وإنما هي أقوال صادرة عن ظنون متقاربة، ولا يشك أنَّها مما انفرد الله تعالى بعلم حقيقته، وعلى هذا المعنى حمل أكثر المفسرين
(1) سورة غافر: (46).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (1)، فليقطع العاقل طمعه من علم حقيقته، ولينظر هل ورد في الأقوال الصادقة ما يدلُّ على شيء من صفتها.
وعند تصفح ذلك واستقراء ما هناك يحصل للباحث أن الروح: أمر ينفخ في الجسد، ويقبض ويتوفى بالنوم والموت، ويؤمن ويكفر، ويعلم ويجهل، ويفرح ويحزن، ويتنعم ويتالم، ويخرج ويدخل، والإنسان يجد من ذاته بضرورته قابلًا للعلوم وأضدادها، وللفكر وأضداده، ولغير ذلك من المعاني.
فيحصل من مجموع تلك الأمور على القطع بأن الروح ليس من قبيل الأعراض؛ لاستحالة كلّ ما ذكر عليها، فيلزم أن يكون الروح من قبيل ما يقوم بنفس، وأنه قابل للأعراض.
وهل هو متحيز أو غير متحيز؟
ذهب أكثر أهل الإسلام إلى أن ذلك من أوصاف الحق سبحانه وتعالى الخاصة به، وأنه لا تصح مشاركته في ذلك؛ لأدلة تذكر في علم الكلام، وأن الروح قائم بنفسه متحيز؛ فهو من قبيل الجواهر. انتهى من "المفهم".
* * *
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: خمسة أحاديث:
الأول للاستئناس، والثاني للاستدلال، والثلاثة الباقية للاستشهاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم
(1) سورة الإسراء: (85).