الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(60) - (1003) - بَابُ الْوَفَاءِ بِالْبَيْعَةِ
(150)
- 2826 - (1) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شيْبَةَ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ
===
(60)
- (1003) - (باب الوفاء بالبيعة)
(150)
- 2826 - (1)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد وأحمد بن سنان) بن أسد بن حبان - بكسر المهملة بعدها موحدة - أبو جعفر القطان الواسطي، ثقةٌ حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة تسع وخمسين ومئتين (259 هـ)، وقيل: قبلها. يروي عنه: (خ م د س ق).
(قالوا: حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير التميمي الكوفي، ثقةٌ، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن) سليمان بن مهران (الأعمش) الأسدي الكاهلي الكوفي، ثقةٌ حافظ عارف بالقراءة، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة (148 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي صالح) ذكوان السمان القيسي المدني، ثقةٌ، من الثالثة، مات سنة إحدى ومئة (101 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة) أنفار (لا يكلمهم الله) تعالى يوم القيامة تكليم رضًا عنهم، بل يكلمهم تكليم سخط
وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ
===
وغضب عليهم؛ كما جاء في "صحيح البخاري": (يقول الله لمانع الماء؛ اليوم أمنعك فضلي؛ كما منعت فضل ما لَمْ تعمل يداك) رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رقم (2369)، وكما حكى الله تعالى أنه يقول للكافرين:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (1)، وقيل معناه: لا يكلمهم إلَّا بواسطة استهانة بهم، وقيل معنى ذلك: الإعراض عنهم والغضب عليهم.
(وَلَا ينظر إليهم يوم القيامة) نظر رحمة ورضًا، بل ينظر إليهم نظر سخط وغضب، ونظر الله تعالى إلى عباده رحمته لهم، وعطفه عليهم، وإحسانه إليهم، وهذا النظر هو المنفي في هذا الحديث، فمعنى لا ينظر إليهم: لا يرحمهم؛ من إطلاق السبب وإرادة المسبب، وإلا .. فالله سبحانه وتعالى يرى كلّ موجود، (وَلَا يزكيهم) أي: لا يطهرهم من ذنوبهم؛ لعظم جرمهم، وقيل: لا يثني عليهم، ومن لا يثني عليه سبحانه .. يعذبه.
(ولهم) أي: ولأولئك الثلاثة (عذاب اليم) أي: عذاب شديد الألم الموجع؛ أي: لهم عذاب أليم مؤبد لا ينقطع على كفرهم إن استحلوا ذلك، فلا إيمان لهم، أو عذاب شديد على جرمهم؛ مجازاةً عليه إن لَمْ يستحلوا ذلك، فإيمانهم باقي صحيح.
قال بعض الحاضرين من الصحابة: من هم يا رسول الله؟ أي: من هؤلاء الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يكلمهم ولا يزكيهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيلًا لأولئك الثلاثة؛ كما في رواية مسلم من حديث أبي ذر: أحدهم: (رجل) أي: شخص جالس (على فضل ماء) أي: على ماء فاضل عن
(1) سورة المؤمنون: (108).
بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيل،
===
حاجته وكفايته كائن ذلك الماء (بالفلاة) أي: بالمفازة؛ والفلاة - بفتح الفاء -: الصحراء التي لا ماء فيها ولا أنيس، والفلاة اسم جنس يجمع على فلًا وفلوات، وهي في الأصل مصدر فلا الشعر يفلي؛ من باب رمى؛ إذا سرحه وأخرج منه الهوام؛ مثل القمل، أصله: فلية؛ نظير رمى السهم رماة - بالفتح - أصله: رميةً (يمنعه) أي: يمنع ذلك الماء (من) شرب (ابن السبيل) أي: من المُسافِر المارِّ على ذلك الماء؛ أي: يمنع ابن السبيل من شرب ذلك الماء الفاضل عن حاجته.
قال النووي: ولا شك في غلظ تحريم ما فعل وشدة قبحه، فإذا كان من يمنع فضل الماء الماشية عاصيًا .. فكيف بمن يمنعه الآدمي المحترم؛ فإن الكلام فيه، فلو كان ابن السبيل غير محترم؛ كالحربي والمرتد .. لَمْ يجب بذل الماء له. انتهى.
قال القرطبي: قوله: "رجل على فضل ماء بالفلاة
…
" إلى آخره؛ يعني بفضل الماء: ما فضل عن كفاية السابق إلى الماء وأخذ حاجته منه، فمن كان كذلك، فمنع ما زاد على ذلك .. تعلق به هذا الوعيد، (وابن السبيل): هو المسافر؛ والسبيل: هو الطريق، وسمي المسافر بذلك؛ لأن الطريق تبرزه وتظهره، فكأنها ولدته.
وقيل سمي بذلك؛ لملازمته إياها؛ كما يقال في الغراب: ابن دأبة؛ لملازمته دأبة البعير؛ أي: دبره لينقرها؛ والبعير المدبر: هو الذي تقرحت دأبته من البعير؛ والدأبة من البعير: هو الموضع الذي تقع عليه ظلفة الرحل فيعقره.
وقد أجمع المسلمون على تحريم ذلك؛ لأنه منع ما لا حق له فيه من مستحقه، وربما أتلفه أو أتلف ماله وبهيمته؛ فلو منعه هذا الماء حتى مات عطشًا .. اقتص منه عند مالك؛ لأنه قتله؛ كما لو قتله بالجوع أو بالسلاح.
وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ،
===
(و) ثانيهم: (رجل بايع) أي: ساوم (رجلًا) آخر وباع له (بسلعة) أي: ببضاعة معروضة للبيع (بعد (صلاة (العصر، فحلف) أي: حلف وأقسم الرجل الأول؛ وهو البائع (بالله) أي: بذاته عز وجل أو باسم من أسمائه أو بصفته؛ ليغره على أنه (لأخذها) أي: لأخذ تلك السلعة واشتراها (ب) ثمن قدره (كذا) أي: ألف ريال (وكذا) أي: وخمس مئة، مع أنه أخذها بألف ريال فقط (فصدقه) أي: فصدق المشترى البائع على أنه أخذها بألف وخمس مئة، فأعطاه ألفين بزيادة خمس مئة؛ أي: ألف ريال (وهو) أي: والحال أنه أخذ تلك السلعة (على غير ذلك) المذكور من الذي أشار إليه بقوله: كذا وكذا؛ وهو ألف وخمس مئة؛ والمعنى: أنه اشتراه بألف فقط، وزعم أنه اشتراها بألف وخمس مئة ويبيعها بألفين.
ومعنى الكلام: أي: حلف له بعد صلاة العصر على أعين الناس، فالتقييد بذلك؛ لأنه وقت اجتماعهم وتكاثرهم، ولأنه وقت تلاقي ملائكة الليل والنهار، وفي ذلك تكثير للشهود منهم على كذب الحالف أو صدقه، فيكون أخوف، ذكره المفسرون عند تفسير قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} (1) في سورة المائدة. انتهى من بعض هوامش المتون.
وقال القاضي عياض: وقوله: "بعد العصر" قيده بذلك؛ لشدة الأمر فيها وحضور ملائكة الليل والنهار عندها، وشهادتهم على مجاهرته ربه بيمينه، واستخفافه عظيم حقه. انتهى.
وعبارة "المفهم" هنا: (ورجل بايع رجلًا سلعة) رويناه سلعة بغير باء،
(1) سورة المائدة: (106).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
ورويناه بالباء؛ فعلى الباء: بايع بمعنى ساوم؛ كما جاء في الرواية الأخرى: (ساوم) مكان بايع، فتكون الباء بمعنى عن؛ كما قال الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
…
بصير بأدواء النساء طبيب
أي: عن النساء.
وعلى إسقاطها: يكون معنى بايع: باع، فيتعدى بنفسه، وسلعة مفعول به.
وقوله: "فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا" يعني: أنه كذب، فزاد في الثمن الذي به اشتري، فكذب واستخف باسم الله تعالى حتى حلف به على الكذب، وأخذ مال غيره ظلمًا، فقد جمع بين كبائر، فاستحق هذا الوعيد الشديد، وتخصيصه بما بعد العصر يدلُّ على أن لهذا الوقت من الفضل والحرمة ما ليس لغيره من ساعات اليوم.
وقال أيضًا: ويظهر لي أن يقال: إنما كان ذلك؛ لأنه عقب الصلاة الوسطى؛ كما يأتي النص عليه، ولما كانت هذه الصلاة لها من الفضل وعظيم القدر أكثر مما لغيرها .. كان ينبغي لمصليها أن يظهر عليه عقبها من التحفظ على دينه، والتحرز على إيمانه أكثر مما ينبغي له عقب غيرها؛ لأن الصلاة حقها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ كما قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1)؛ أي: تحمل على الامتناع عن ذلك مما يحدث في قلب المصلي بسببها؛ من النور والانشراح والخوف من الله تعالى والحياء منه، ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"من لَمْ تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر .. لَمْ يزد من الله إلَّا بعدًا" رواه الطبراني في "الكبير" من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
(1) سورة العنكبوت: (45).
وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا .. وَفَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا .. لَمْ يَفِ لَهُ".
===
وإذا كان هذا في الصلوات كلها .. كانت الوسطى بذلك أولي، وحقها في ذلك أكثر وأوفى؛ فمن اجترأ بعدها على اليمين الغموس التي يأكل بها مال الغير .. كان إثمه أشد، وقلبه أفسد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(و) ثالثهم: (رجل بايع) وعاهد (إمامًا) وسلطانًا على الإمامة حالة كونه (لا يبايعه) أي: لا يريد مبايعته (إلَّا لدنيا) أي: إلَّا لأجل نيل حظوظ الدنيا منه من المال والجاه وغيرهما لا لاتفاق الكلمة (فإن أعطاه) أي: فإن أعطاه الإمام (منها) أي: من الدنيا .. (وفى له) وبَرَّ ونفذ تلك البيعة، فلا ينقضها ولا يخدعه (وإن لَمْ يعطه) أي: وإن لَمْ يعط الإمام ذلك الرجل مراده (منها) أي: من الدنيا
…
(لَمْ يف له) ذلك الرجل بيعة الإمام، بل ينقضه ويسعى في إبطالها.
وقال القاضي: استحق ذلك؛ لغشه الإمام والمسلمين؛ لأنه يُظن أنه إنما بايعه ديانة، وهو قصد ذلك مع ما يشير من الفتن لا سيما إن كان متبوعًا. انتهى.
قال القرطبي: (ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلَّا لدنيا) إنما استحق هذا الوعيد الشديد؛ لأنه لَمْ يقم لله تعالى بما وجب عليه من البيعة الدينية؛ فإنها من العبادات التي تجب فيها النية والإخلاص، فإذا فعلها لغير الله تعالى من دنيا يقصدها، أو غرض عاجل يقصده .. بقيت عهدتها عليه؛ لأنه منافق مراء غاش للإمام والمسلمين غير ناصح في شيء من ذلك، ومن كان هذا حاله .. كان مثيرًا للفتن بين المسلمين؛ بحيث يسفك دماءهم، ويستبيح أموالهم، ويهتك بلادهم، ويسعى في إهلاكهم؛ لأنه إنما يكون مع من بلغه إلى أغراضه، فيبايعه لذلك وينصره، ويغضب له، ويقاتل مخالفه، فينشأ من ذلك تلك المفاسد،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وقد تكون هذه المخالفة في بعض أغراضه، فينكث مبايعته، ويطلب هلكته؛ كما هو حال أهل هذه الأزمان؛ فإنهم قد عمهم الغدر والخذلان.
قوله: "فإن أعطاه منها .. وفي
…
" إلى آخره، هكذا الرواية:(وفي) بتخفيف الفاء.
وقوله: "لَمْ يف" محذوف الواو والياء مخففًا، وهو الصحيح هنا روايةً ومعنًى؛ لأنه يقال: وفي بعهده يفي وفاء؛ والوفاء ممدودًا؛ ضد الغدر، ويقال: أوفى بمعنى: وفى، وأما وفى المشدد الفاء .. فهو بمعنى: توفية الحق وإعطائه، يقال: وفاه حقه يوفيه توفيةً، ومنه قوله تعالى:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (1)؛ أي: قام بما كلفه من الأعمال؛ كخصال الفطرة وغيرها؛ كما قال: {فَأَتَمَّهُنَّ} (2).
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب المساقاة، باب إثم من منع ابن السبيل من الماء، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف.
وهذا الحديث قد سبق من المؤلف تخريجه في كتاب التجارات، باب ما جاء في كراهية الإيمان في الشراء والبيع، رقم (2171)، وهو مكرر مع ما سبق منه.
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، فغرضه: الاستدلال به على الترجمة.
* * *
(1) سورة النجم: (37).
(2)
سورة البقرة: (124).
(151)
- 2827 - (2) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ حَسَنِ بْنِ فُرَاتٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ تَسُوسُهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ؛
===
ثم استشهد المؤلف لحديث أبي هريرة المذكور بحديث آخر له رضي الله تعالى عنه، فقال:
(151)
- 2827 - (2)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، ثقةٌ، من العاشرة، صاحب تصانيف، مات سنة خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه:(خ م د س ق).
(حدثنا عبد الله بن إدريس) بن يزيد بن عبد الرَّحمن الأودي الكوفي، ثقةٌ فقيه عابد، من الثامنة، مات سنة اثنتين وتسعين ومئة (192 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن حسن بن فرات) بن أبي عبد الرَّحمن القزاز التميمي الكوفي، صدوق يهم، من السابعة. يروي عنه:(م ت ق).
(عن أبيه) فرات بن أبي عبد الرَّحمن القزاز الكوفي، ثقةٌ، من الخامسة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي حازم) سلمان الأشجعي الكوفي، ثقةٌ، من الثالثة، مات على رأس المئة (100 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل كانت تسوسهم أنبياؤهم) أي: تقوم بسياستهم وتدبير أمورهم وتحصيل
كُلَّمَا ذَهَبَ نَبِيٌّ .. خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإنَّهُ لَيْسَ كَائِنٌ بَعْدِي نَبِيٌّ فِيكُمْ"، قَالُوا: فَمَا يَكُونُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "تَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُوا"، قَالُوا: فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: "أَوْفُوا
===
مصالحهم أنبياؤهم؛ كما تتولى الأمراء والوزراء بسياسة الرعية وتدبير مصالحهم؛ والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه. انتهى "نهاية".
(كلما ذهب) ومات وهلك (نبي) من أنبيائهم .. (خلفه) أي: استخلف عن الذي مات (نبي) آخر في سياستهم وتدبير أمورهم (و) أما أنا .. فـ (إنه) أي: إن الشأن والحال (ليس كائن) أي: موجود (بعدي نبي فيكم) يكون خليفة عني في النبوة والسياسة، فلفظ:(كائن) زائدة هنا؛ والتقدير: فإنه ليس بعدي نبي؛ كما تزاد: (كان) بلفظ الماضي (قالوا) أي: قال الحاضرون من الصحابة: (فما يكون) ويوجد بعدك (يا رسول الله؟ ).
فـ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤالهم: (تكون) وتوجد بعدي (خلفاء) يقومون بسياسة أمتي (فيكثروا) هكذا في الرواية بحذف النون من غير جازم أو ناصب، والمعنى: فتكثر الخلفاء بعدي؛ يعني: أنه لا نبي بعدي، فيفعل ما كان يفعله أنبياء بني إسرائيل، وهذا من أوضح الأدلة على أن النبوة قد انتهت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ونفي جنس النبوة بعده صلى الله عليه وسلم يعم كلّ نوع من أنواع النبوة، سواء كانت بشريعة جديدةٍ أو لا، وقد أجمعت الأمة على أن من ادعى النبوة بعده صلى الله عليه وسلم .. فإنه كافر كذاب.
(قالوا) أي: قال الحاضرون من الأصحاب: فماذا تأمرنا به حينئذ؛ أي: حين إذ كثرت الخلفاء (فكيف نصنع؟ ) فيهم، فهل نطيع الكل ونسمعهم أو نترك الكل؟ فـ (قال) لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤالهم:(أوفوا) أمر من أوفى الرباعي، وفي رواية مسلم:(فوا) أمر من وفى الثلاثي؛
بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ؛ أَدُّوا الَّذِي عَلَيْكُمْ فَسَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عز وجل عَنِ الَّذِي عَلَيْهِمْ".
===
والمعنى واحد؛ أي: أتموا (ببيعة الأول فالأول) أي: أتموا ببيعة الخليفة الأول؛ والمعنى: أنه إذا بويع الخليفة بعد خليفة .. فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها بالسمع والطاعة له، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، ويحرم عليه طلبها، سواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول أو جاهلين، وسواء كانا في بلدين أو بلد أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل والآخر في غيره.
قال النووي: هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء، وقيل: تكون لمن عقدت له في بلد الإمام الأول، وقيل: يقرع بينهما، وهذان القولان فاسدان؛ لمعارضتهما الحديث ولمخالفتهما ما عليه السلف والخلف، ولظواهر إطلاق الأحاديث، والله أعلم.
(أدوا) أيَّتُها الأمة وأتموا الحق (الذي) وجب لهم (عليكم) أي: وأعطوا الخلفاء بعدي وأدوهم حقهم؛ من السمع والطاعة والذب عنهم عرضًا ونفسًا والاحترام والنصرة لهم على من بغى عليهم (فسيسألهم الله عز وجل يوم القيامة (عن) الحق (الذي) وجب لكم (عليهم) من الأموال ورعاية المصالح لكم، والنصيحة لكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الجملة جواب لشرط محذوف؛ تقديره: وأعطوهم حقهم من الطاعة وعدم الخروج عليهم، وإن لَمْ يعطوكم حقكم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم من حقوقكم، والله أعلم.
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن كلّ مسلم يجب عليه أن يهتم بأداء ما عليه من الحقوق دون أن يهمل واجبه، ويتصدى للآخرين في أداء ما عليهم، فيجب على الشعب أن يهتموا بأداء ما عليهم من حق أميرهم، ويجب على الأمير أن يهتم بما عليه من حقوقهم، لا أن يطالب كلّ أحد الآخر بما له عليه من الحق،
(152)
- 2828 - (3) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيد، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
===
ويغفل عما يجب عليه من حق الآخر، وهكذا يؤكد الإسلام على أداء الواجب قبل مطالبة الحقوق؛ فلو أبي كلّ واحد واجبه .. سلمت حقوق الجميع.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، وأحمد في "المسند".
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به.
* * *
ثم استشهد المؤلف ثانيًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(152)
- 2828 - (3)(حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير) الهمداني الكوفي، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين ومئتين (234 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا أبو الوليد) الطيالسي هشام بن عبد الملك الباهلي مولاهم البصري، ثقةٌ ثبت، من التاسعة، مات سنة سبع وعشرين ومئتين (227 هـ)، وله أربع وتسعون سنة. يروي عنه:(ع).
(حدثنا شعبة) بن الحجاج رحمه الله، ثقةٌ إمام، من السابعة، مات سنة ستين ومئة (160 هـ). يروي عنه:(ع).
(ح وحدثنا محمد بن بشار) بن عثمان العبدي البصري، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين (252 هـ). يروي عنه:(ع).
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ".
===
(حدثنا) محمد بن إبراهيم (بن أبي عدي) أبو عمرو البصري، ثقةٌ، من التاسعة، مات سنة أربع وتسعين ومئة (194 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن شعبة عن الأعمش) سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، ثقةٌ من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي وائل) الكوفي شقيق بن سلمة الأسدي، ثقةٌ مخضرم، من الثانية، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مئة سنة. يروي عنه:(ع).
(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وهذان السندان من سداسياته، وحكمهما: الصحة؛ لأن رجالهما ثقات أثبات.
(قال) عبد الله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينصب) بالبناء للمفعول؛ وهو من باب ضرب؛ أي: يرفع ويركز (لكل غادر) وخائن وناقض للعهد؛ والغادر: الخائن؛ من الغدر: وهو نقض العهد، أو عدم الوفاء به (لواء) يعرف به؛ أي: راية؛ واللواء: الراية العظيمة، لا يمسكها إلَّا صاحب جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعًا له؛ أي: ينصب الله سبحانه وتعالى لكل غادر وناقض للعهد (يوم القيامة) لواء وراية يعرف بها من بين الناس؛ فضيحة له على رؤوس الأشهاد (فيقال: هذه) الراية (غدرة فلان) أي: علامة غدرته وخيانته للناس، والقول إما من الله أو من الملائكة بأمر الله تعالى؛ فمعنى:"لكل غادر لواء": أي: علامة يشهر بها في الناس.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قال القرطبي: وهذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم للعرب بنحو ما يفعلون؛ لأنهم كانوا يرفعون؛ يعني: في احتفالات الأسواق للوفاء رايةً بيضاء، وللغدر رايةً سوداء؛ أي: له لواء؛ ليشتهر بصفته يوم القيامة فيذمه أهل الموقف، وأما الوفاء .. فلم يرد فيه شيء، ولا يبعد أن يقع كذلك، وقد ثبت لواء الحمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا في "فتح الباري"(6/ 284).
(فيقال) في عرصات القيامة: (هذه) الراية (غدرة) أي: خيانة (فلان) بن فلان - كما في رواية مسلم - لقومه أو لرعيته مثلًا؛ فالغادر: هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به.
والمراد برفع اللواء للغادر: ركز العلامة بقدر غدرته؛ ليشتهر بها في الناس فيفتضح، وتأنيث اسم الإشارة باعتبار معنى العلامة، أو لكون اللواء بمعنى الراية؛ كما أشرنا إليه في الحل، أو مراعاةً لخبره؛ وهو غدرة. انتهى من بعض الهوامش.
قال النووي: وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر، لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير.
وقيل: لأنه غير مضطر إلى الغدر؛ لقدرته على الوفاء بما أراد مجاهرة؛ كما جاء في الحديث الصحيح في تعظيم كذب الملك، والمشهور أن هذا الحديث وارد في ذم الإمام الغادر، وذكر القاضي عياض احتمالين، أحدهما: هذا، وهو نهي الإمام أن يغدر في عهده لرعيته وللكفار وغيرهم، أو غدره للأمانة التي قلدها لرعيته والتزم القيام بها والمحافظة عليها، ومتى خانهم أو ترك الشفقة عليهم، أو الرفق بهم .. فقد غدر بعهده.
والاحتمال الثاني: أن يكون المراد نهي الرعية عن الغدر بالإمام؛ فلا يشقوا
(153)
- 2829 - (4) حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى اللَّيْثِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ،
===
عليه العصا، ولا يتعرضوا لما يخاف حصول فتنة بسببه، والصحيح: الأول، والله أعلم. انتهى منه.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الجزية والموادعة، باب إثم الغادر للبر والفاجر، ومسلم في كتاب الجهاد، باب تحريم الغدر، وأحمد.
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به.
* * *
ثم استشهد المؤلف ثالثًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(153)
- 2829 - (4)(حدثنا عمران بن موسى) القزاز (الليثي) أبو عمرو البصري، صدوق، من العاشرة، مات بعد الأربعين ومئتين. يروي عنه:(ت س ق).
(حدثنا حماد بن زيد) بن درهم الأزدي البصري ثقةٌ ثبت فقيه، من كبار الثامنة، مات سنة تسع وسبعين ومئة (179 هـ). يروي عنه:(ع).
(أنبأنا علي بن زيد بن جدعان) وهو علي بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي البصري، أصله حجازي، فنسب أبوه إلى جد جده، فقالوا: علي بن زيد بن جدعان، ضعيف، من الرابعة، مات سنة إحدى وثلاثين ومئة (131 هـ)، وقيل قبلها. يروي عنه:(م عم).
(عن أبي نضرة) المنذر بن مالك بن قطعة - بضم القاف وفتح المهملة -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا إِنَّهُ يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ".
===
العبدي العَوَقيُّ - بفتح المهملة والواو ثم قاف - البصري مشهور بكنيته، من الثالثة، مات سنة ثمان أو تسع ومئة (109 هـ). يروي عنه:(م عم).
(عن أبي سعيد) سعد بن مالك الأنصاري (الخدري) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه علي بن زيد، وهو متفق على ضعفه، ولكن تابعه خُلَيْدُ بن جعفر، وهو ثقةٌ ثبت، والمستمر بن الريان، وهو ثقةٌ عابد في الرواية عن أبي نضرة؛ كما في رواية مسلم، فالسند صحيح بغيره.
(قال) أبو سعيد: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إنه ينصب) وكلمة (ألا) للاستفتاح والضمير في (إنه) للشأن و (ينصب) مبني للمفعول (لكل غادر) أي: ناقض للعهد (لواء) أي: راية يعرف بها (يوم القيامة) فضيحةً له على غدره على رؤوس الأشهاد، يرفع له ذلك اللواء (بقدر غدرته) وخيانته كمًا وكيفًا؛ أي: يرفع له لواء أكبر إن كان غدره أشد، ويرفع له مرات إن كان غدره أكثر؛ يعني: كلما كان الغدر أعظم .. كان اللواء أرفع، وفي رواية مسلم زيادة:(وَلَا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة) الناس؛ أي: من غدر صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير، ولكونه من أكثر الناس قدرة على الوفاء، والآمال معقودة عليه بذلك، فكما خيب هذه الآمال بغير عذر .. استحق وزرًا أكثر من غيره، والله تعالى أعلم.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الجزية والموادعة، باب إثم الغادر، ومسلم في كتاب الجهاد، باب تحريم الغدر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به.
ولكن سند المؤلف ضعيف، لأن فيه علي ابن جدعان، كما مر آنفًا، وأما مسلم .. فقد روى في أصل الحديث عن خليد - مصغرًا - ابن جعفر بن طريف الحنفي البصري عن أبي نضرة، وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في "التقريب": صدوق، من السادسة، وفي المتابعة روى عن المستمر بن الريان الزهراني البصري عن أبي نضرة، وثقه النسائي وأحمد ويحيى بن سعد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحاكم: ثقةٌ، وقال أبو بكر البزار: مشهور، وقال في "التقريب": ثقةٌ، عابد، من السادسة.
* * *
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: أربعة أحاديث:
الأول للاستدلال، والبواقي للاستشهاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم