الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
الحمد لله الأوّل بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء؛ المنفرد بقدرته، المتعالي في سلطانه؛ البادئ بالإحسان، العائد بالامتنان؛ الدالّ على بقائه بفناء خلقه، وعلى قدرته بعجز كلّ شيء سواه؛ المغتفر إساءة المذنب بعفوه، وجهل المسيء بحلمه؛ الذي جعل معرفته اضطراراً، وعبادته اختياراً؛ وخلق الخلق من بين ناطق معترف بوحدانيّته، وصامت متخشّع لربوبيّته؛ لا يخرج شيء عن قدرته، ولا يعزب عن رؤيته؛ الذي قرن بالفضل رحمته، وبالعدل عذابه؛ فالناس مدينون بين فضله وعدله، آذنون بالزّوال، آخذون في الانتقال؛ من دار بلاء إلى دار جزاء.
أحمده على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته؛ فإنّه رضي الحمد ثمناً لجزيل نعمائه، وجليل آلائه؛ وجعله مفتاح رحمته، وكفاء نعمته، وآخر دعوى أهل جنّته، بقوله جلّ وعزّ:{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وصلّى الله على سيّدنا محمّد النبيّ المكرّم، الشافع المقرّب، الذي
بعث آخراً واصطفي أولاً، وجعلنا من أهل طاعته، وعتقاء شفاعته.
أما بعد؛ فهذا كتاب فريد في بابه، مُسْتَوْعِب لأَطْرَافِ الْفَنِّ، جَامِع لِشَتِيت الْفَوَائِد، وَمَنْثُور الْمَسَائِل، وَمُتَشَعِّب الأَغْرَاضِ، تخيّرت فيه من جواهر كلام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما حفلت به كتب الآثار.
وصنعت فيه صَنْعَة الشريف الرضي في سِفره (نهج البلاغة)، إذ جمع من كلام أبي السبطين علي رضي الله عنه ما صح سنده وما لم يصح، غير أني جانبت طريقته في نِسبة كثير من الحكم والخطب إليه مما ثبت أنها لغيره أو نُحِلت على لسانه، فخلّفت ورائي من الفرائد الكثير، حين لاح لي زيف نِسبتها.
وقد أعرضت عن التعرض للحُكْمِ على أغلبِ رواياتِ هذا السِفر عن عمد، رغم وقوفي على رُتَبِها، لمَّا كانت الغاية من كتابة هذا السِفر، جمع ما تناثر في الكتب من خُطب الفاروق عمر وكتبه وحِكمه، ليسوغ لمِثلي أن يتمَثَّل بعد هذا قول الفرزدق لجرير مفتخراً:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعَتْنا يا جرير المجامعُ
والبلاغة كما فسَّرها أهل الفن: هي موافقة الكلام مقتضى الحال، مع الفصاحة والإيجاز.
وما أبلغ تعبير القدماء من أعلام الأمة إذ قالوا أنها: بلوغ دقيق المعاني بجليل الكلام.
فقد سأل رَجُلٌ الشَّافِعِيِّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، مَا الْبَلَاغَةُ؟، فقال:((الْبَلَاغَةُ أَنْ تَبْلُغَ إِلَى دَقِيقِ الْمَعَانِي بِجَلِيلِ الْقَوْلِ))، فسأله: فَمَا الْإِطْنَابُ؟، فقال:((الْبَسْطُ لِيَسِيرِ الْمَعَانِي، فِي فُنُونِ الْخِطَابِ))، فسأله: فَأَيُّمَا أَحْسَنُ عِنْدَكَ الْإِيجَازُ أَمْ الْإِسْهَابُ؟، فقال:((لِكُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ مَنْزِلَةٌ، فَمَنْزِلَةُ الْإِيجَازِ عِنْدَ التَّفَهُّمِ فِي مَنْزِلَةِ الْإِسْهَابِ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا احْتَجَّ فِي كَلَامِهِ كَيْفَ يُوجِزُ، وَإِذَا وَعَظَ يُطْنِبُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ مُحْتَجًّا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وَإِذَا جَاءَتِ الْمَوْعِظَةُ، جَاءَ بِأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ بِالسَّلَفِ الْمَاضِينَ)) (1).
ومن تأمل كلام الماضين، تفتقت له ينابيع الحِكمة، وفَصل الخِطاب، وتجلَّت له بلاغة المنطق، وتفتحت له أبوابها.
وأما كلام الفاروق عمر رضي الله عنه فهو البحر الذي لا يُساجَل (2)، والجمّ الذي لا يحافَل (3)، وهو دائرٌ على أقطاب (4) ثلاثة؛ كنحو تلك الأقطاب التي دارت عليها بلاغة أبي السبطين علي رضي الله عنه.
(1) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي: 2/ 66
(2)
لا يُساجَل: لا يغالب في الامتلاء وكثرة الماء.
(3)
لا يحُافَل: لا يغالب في الكثرة، من قولهم: ضرع حافل: ممتلئ كثير اللبن، والمراد أنّ كلامه لا يقابل بكلام غيره لكثرة فضائله.
(4)
أقطاب: أصول.
* فأول هذه الأقطاب: الخطب والأوامر.
* وثانيها: الكتب والرسائل.
* وثالثها: الحكم والمواعظ.
فأجمعتُ (1) بتوفيق الله جل جلاله على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحِكَم والأدب، مفرداً لكلّ صنف من ذلك باباً، ومفصَّلاً فيه أوراقاً، لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذّ عنّي عاجلاً، ويقع إليّ آجلاً.
ولا أدَّعي - مع ذلك - أنّي أحيط بأقطار جميع كلامه رضي الله عنه (2) حتّى لا يشذَّ عني منه شاذّ، ولا يَنِدَّ نادّ (3)، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إليّ، والحاصل في رِبْقتي (4) دون الخارج من يديّ، وما عليّ إلا بذل الجهد، وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه نهج السبيل (5)، وإرشاد الدليل، إن شاء الله تعالى.
ورأيتُ من بعد تسمية هذا الكتاب بـ ((البلاغة العُمرية)) إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها، ويقرّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالم
(1) أجمع عليه: عزم.
(2)
أقطار الكلام: جوانبه.
(3)
الناد: المنفرد الشاذ.
(4)
الربقة: عروة حبل يجعل فيها رأس البهيمة.
(5)
نهج السبيل: إبانته وإيضاحه.
والمتعلّم، وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام، ما هو بِلال كلّ غلّة (1)، وشفاء كلّ علّة، وجِلاء كلّ شبهة.
ثمَّ إني بعد هذا كله، عزوت كل أثر عنه رضي الله عنه بحسب الوُسع والطاقة - إلى مصدره، فما كان منه في الكتب التسعة قدَّمته على غيره، وأخَّرت ما سواه ولو كان ذا علو في الإسناد، بادئًا بالبخاري ثمَّ مسلم ثمَّ أصحاب السنن ثمَّ الموطأ ثمَّ مسند أحمد ثمَّ الدارمي ثمَّ سائر الكتب.
وما كان منه خِلواً مما ذكرت، قَدَّمت فيه الأقدم تصنيفاً فالأحدث.
فإن كان الأثر مُسنداً في كتب أهل الفن، عبَّرت عن ذلك بقولي (رواه)، وإن كان مذكوراً بلا إسناد يُعرف، عبَّرت عن ذلك بقولي (ذكره).
وإني قبل هذا وبعده؛ أستمد من الله تعالى التوفيق والعصمة، وأتنجّزُ التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان، قبل خطأ اللسان، ومن زلّة الكَلِم، قبل زلّة القَدَمْ، وهو حسبي ونعم الوكيل.
(1) الغلة: العطش.