الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إِشَاعَتِهِ عَلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، لَكُنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَوَفُّرَ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَاشْتِهَارِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ مَنَاطَ تَعَبُّدِهِمُ الظَّنُّ ; فَيَكْتَفُوا مِنَ النَّقْلِ بِمَا يُحَصِّلُهُ، وَهُوَ الْآحَادُ.
قَوْلُهُ: «وَ
فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ»
، أَيْ: وَيُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، كَالْحُدُودِ، «خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ» ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا:«لِأَنَّهُ» ، أَيْ: خَبَرَ الْوَاحِدِ، «مَظْنُونٌ» ، أَيْ: إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ، «فَيَنْهَضُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ» ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ. وَهُوَ، أَيْ: مَا ذَكَرُوهُ، «بَاطِلٌ بِالْقِيَاسِ وَالشَّهَادَةِ» ; فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا يُفِيدَانِ الظَّنَّ، وَمَعَ ذَلِكَ يُقْبَلَانِ فِي الْحَدِّ، وَلَيْسَ كُلُّ شُبْهَةٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ، وَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُؤْثَرْ فِيهَا مُطْلَقُ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ دَرْءِ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ مُعَارَضٌ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ ظَاهِرٌ، مُغَلِّبٌ عَلَى الظَّنِّ ثُبُوتَ الْحَدِّ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ. وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْقَوَاطِعُ فِي الْحُدُودِ، لَتَعَطَّلَتْ، أَوْ كَثُرَ وُقُوعُهَا، وَطَمِعَ مُوَاقِعُوهَا.
قَوْلُهُ: «وَفِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ» ، أَيْ: وَيُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، «خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَفِيمَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ» ، أَوْ مَعْنَى الْأُصُولِ، «خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ» .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِمَّا يُسْتَشْكَلُ ; فَيُقَالُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ وَبَيْنَ مَا خَالَفَ الْأُصُولَ؟ وَالْحَنَفِيَّةُ يُمَثِّلُونَهُ بِخَبَرِ الْمُصَرَّاةِ، وَهُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِلْقِيَاسِ، إِذِ الْقِيَاسُ ضَمَانُ الْمِثْلِيِّ بِمِثْلِهِ، وَالتَّمْرُ لَيْسَ مِثْلًا لِلَّبَنِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقِيَاسَ أَخَصُّ مِنَ الْأُصُولِ، إِذْ كُلُّ قِيَاسٍ أَصْلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ أَصْلٍ قِيَاسًا ; فَمَا خَالَفَ الْقِيَاسَ قَدْ خَالَفَ أَصْلًا خَاصًّا، وَمَا خَالَفَ الْأُصُولَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِقِيَاسٍ، أَوْ لِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوِ اسْتِدْلَالٍ، أَوِ اسْتِصْحَابٍ، أَوِ اسْتِحْسَانٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَقَدْ يَكُونُ الْخَبَرُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، مُوَافِقًا لِبَعْضِ الْأُصُولِ. وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ، كَانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ، مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْحُكْمِ بِمَظِنَّتِهِ، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِمَظَانِّهَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِبَعْضِ الْأُصُولِ، وَهُوَ الِاسْتِصْحَابُ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ خُرُوجِ الْحَدَثِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَدْ يَكُونُ مُخَالِفًا لَهُمَا جَمِيعًا، كَخَبَرِ الْمُصَرَّاةِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ كَمَا دَلَّ عَلَى ضَمَانِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، كَذَلِكَ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُمَا، كَالْآثَارِ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ، مُوَافَقَةً لِقِيَاسِهِ عَلَى الْخَمْرِ، وَالنَّصُّ عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَالنَّصُّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ.
وَالْقِسْمَةُ رُبَاعِيَّةٌ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ إِمَّا أَنْ يُوَافِقَ الْقِيَاسَ وَالْأُصُولَ، أَوْ يُخَالِفَهُمَا، أَوْ يُوَافِقَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَأَصْحَابُنَا لَمْ يَتْرُكُوا حَدِيثَ الْقَهْقَهَةِ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بَلْ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» ، أَيْ: عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِنْ خَالَفَ الْأُصُولَ وَمَعْنَاهَا وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، صَوَّبَ مُعَاذًا فِي تَقْدِيمِهِ السُّنَّةَ عَلَى الِاجْتِهَادِ، حَيْثُ قَالَ لَهُ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي. فَصَوَبَّهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْخَبَرِ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ مُطْلَقًا، وَإِنْ خَالَفَهُ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فَائِدَةُ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا خَالَفَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ: عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الِاجْتِهَادِ ; فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ، إِذَا وَجَدُوهَا، تَرَكُوهُ إِلَيْهَا، كَمَا رَجَعَ عُمَرُ فِي غُرَّةِ الْجَنِينِ إِلَى حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَ دِيَةِ الْأَصَابِعِ، وَيُقَسِّمُهَا عَلَى قَدْرِ مَنَافِعِهَا ; فَلَمَّا بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، رَجَعَ إِلَيْهِ، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ; فَلَوْ وَجَبَ تَقْدِيمُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْقِيَاسِ لَمَا أَقَرُّوهُ عَلَى تَرْكِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَبَرَ قَوْلٌ لِلْمَعْصُومِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ; فَإِنَّهُ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ، وَلَيْسَ بِمَعْصُومٍ، فَإِذَا تَعَارَضَ قَوْلُ الْمَعْصُومِ، وَقَوْلُ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، كَانَ قَوْلُ الْمَعْصُومِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ ; لِأَنَّ الْخَطَأَ فِيهِ مَأْمُونٌ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْقَائِسُ عَلَى يَقِينٍ مِنِ اجْتِهَادِهِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ مُعَارَضَةٌ لِهَذَا الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَهِيَ أَيْضًا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ لِلْخَصْمِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقَائِسَ عَلَى يَقِينٍ مِنِ اجْتِهَادِهِ ; لِأَنَّهُ يُبَاشِرُ النَّظَرُ فِي أَصْلِ الْقِيَاسَ، وَفَرْعِهِ، وَعِلَّتِهِ، وَحُكْمِهِ، وَلَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ الْخَبَرِ، لِتَعَدُّدِ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّارِعِ، وَاتِّبَاعُ مَا هُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ أَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِ مَا لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» . هَذَا جَوَابُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقَائِسَ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ الْخَبَرِ، كَذَلِكَ هُوَ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ إِصَابَتِهِ فِي الْقِيَاسِ، وَكَوْنُهُ عَلَى يَقِينٍ مِنِ اجْتِهَادِهِ لَا يَنْفَعُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِصَابَةُ، وَلَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْهَا. وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ ; فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ أَوْ يُصِيبَ، وَإِذَا اسْتَوَى الْخَبَرُ وَالْإِصَابَةُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَقِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رُجْحَانِ الْخَبَرِ، بِكَوْنِهِ قَوْلَ الْمَعْصُومِ، سَالِمًا عَنِ الْمُعَارِضِ، وَهُوَ أَقْوَى فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ مِنَ الْقِيَاسِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ احْتِمَالُ الْخَطَأِ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا تَرْجِيحٌ آخَرُ لِلْخَبَرِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْخَطَأَ ; وَإِنْ كَانَ مُتَطَرِّقًا إِلَى الِاجْتِهَادِ وَالْخَبَرِ جَمِيعًا، غَيْرَ أَنَّ احْتِمَالَ الْخَطَأِ فِي حَقِيقَةِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ: تَحْقِيقُ الْجَامِعِ فِي الْقِيَاسِ، وَإِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِوَاسِطَتِهِ، وَلَيْسَ احْتِمَالَ الْخَطَأِ فِي حَقِيقَةِ الْخَبَرِ ; لِأَنَّهُ قَوْلُ الْمَعْصُومِ، وَإِنَّمَا احْتِمَالُ الْخَطَأِ فِي طَرِيقِ الْخَبَرِ، بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ أَوْ عِلَّةٌ مَا، وَمَا كَانَ الْخَطَأُ مُتَطَرِّقًا إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، يَكُونُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِمَّا كَانَ الْخَطَأُ مُتَطَرِّقًا إِلَى حَقِيقَتِهِ.
قَوْلُهُ: «وَأَيْضًا مُقَدِّمَاتُ الْقِيَاسِ أَكْثَرُ ; فَالْخَطَأُ فِيهَا أَغْلَبُ» . هَذَا تَرْجِيحٌ آخَرُ لِلْخَبَرِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقِيَاسَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ كَثِيرَةٍ، أَكْثَرَ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْخَبَرُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَتَحْقِيقِ الْعِلَّةِ فِيهِمَا، ثُمَّ إِلْحَاقِ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ يَتَطَرَّقُ الْخَطَأُ إِلَى الْقِيَاسِ مِنْهَا.
وَأَمَّا الْخَبَرُ ; فَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ النَّظَرُ فِي السَّنَدِ، وَالْخَطَأُ فِيمَا كَثُرَتْ مُقَدِّمَاتُهُ أَغْلَبُ مِنْهُ فِيمَا قَلَّتْ مُقَدِّمَاتُهُ ; فَيَكُونُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ سَنَدُ الْخَبَرِ قَصِيرًا، كَثُلَاثِيَّاتِ الْبُخَارِيِّ، وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ احْتِمَالَ الْخَطَأِ هَاهُنَا يَكُونُ نَادِرًا.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا نَقْضٌ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّكُمْ قَدْ أَوْجَبْتُمُ الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ، بِشَرْطِهِ عِنْدَكُمْ، وَأَبْطَلْتُمُ الْوُضُوءَ بِالْقَهْقَهَةِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، دُونَ خَارِجِ الصَّلَاةِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ آحَادٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ النَّقْلِ» . هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ لَهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَحَلُّ النِّزَاعِ إِنَّمَا هُوَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ، وَخَبَرِ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ، وَبُطْلَانُ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ، لَيْسَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ عِنْدَنَا، بَلْ هُوَ مُتَوَاتِرٌ أَوْ مُسْتَفِيضٌ، يَصْلُحُ أَنْ تُتْرَكَ الْأُصُولُ لِمِثْلِهِ، بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ وَلَا مُسْتَفِيضٌ، كَمَا ذَكَرْتُمْ، بَلْ هُوَ آحَادٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ النَّقْلِ، وَبَعْضُهُمْ يُضَعِّفُهَا، وَالِاعْتِبَارُ فِي النَّقْلِ بِأَئِمَّتِهِ لَا بِكُمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ حَدِيثَ النَّبِيذِ لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا أَبُو زَيْدٍ، وَهُوَ كُوفِيٌّ مَجْهُولٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْقَهْقَهَةِ ; فَهُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَفِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ مَا يَمْنَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ ; أَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا كَانَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ دُونَ الْوُضُوءِ.
تَنْبِيهٌ: هَكَذَا وَقَعَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» تَبَعًا لِأَصْلِهِ، وَذَكَرَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْآمِدِيُّ تَفْصِيلًا، وَهُوَ: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ مِنَ الْآخَرِ، كَانَ الْقِيَاسُ مُخَصِّصًا لِلْخَبَرِ، كَمَا يَأْتِي فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَكُونُ الْخَبَرُ مُخَصِّصًا لِلْقِيَاسِ، إِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ مِنَ الْآخَرِ، وَتَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ; فَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٍ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالْوَقْفُ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ عِلَّةَ الْقِيَاسِ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً ; فَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْلَى، إِنْ قُلْنَا إِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْعِلَّةِ لَا يُخْرِجُ الْقِيَاسَ عَنْ كَوْنِهِ قِيَاسًا ; لِأَنَّ دَلَالَةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِمَّا رَاجِحَةٌ عَلَى دَلَالَةِ نَصِّ الْعِلَّةِ، أَوْ مُسَاوِيَةٌ لَهَا، أَوْ مَرْجُوحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَبِتَقْدِيرِ رُجْحَانِهَا وَمُسَاوَاتِهَا يَكُونُ الْخَبَرُ أَوْلَى، لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بِخِلَافِ نَصِّ الْعِلَّةِ، إِذْ دَلَالَتُهُ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ دَلَالَةُ نَصِّ الْعِلَّةِ إِذَا كَانَتْ رَاجِحَةً عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً ; فَالْخَبَرُ أَوْلَى مُطْلَقًا، وَاسْتَدَلَّ بِخَبَرِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ.
قُلْتُ: هَذَا تَفْصِيلٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مُجَرَّدًا عَنْ مِثَالٍ، تَكْمِلَةً لِمَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَأَمْثِلَتُهُ تَطُولُ، وَرُبَّمَا تَعَدَّدَتْ، وَذُو الدُّرْبَةِ يَفْهَمُ مَقْصُودَهَا مُجَرَّدَةً عَنْ مِثَالِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: تَجُوزُ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى الْمُطَابِقِ لِلَّفْظِ، لِلْعَارِفِ بِمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ، الْفَارِقِ بَيْنَهَا. وَمَنَعَ مِنْهُ ابْنُ سِيرِينَ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، «وَلِقَوْلِهِ عليه السلام» لِلْبَرَاءِ حِينَ قَالَ: وَرَسُولُكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ: قُلْ: وَنَبِيُّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ
وَلَنَا: جَوَازُ شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَعَكْسِهِ ; فَهَذَا أَوْلَى. وَلِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، بِخِلَافِ الْقُرْآنِ. وَلِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي غَيْرِ السُّنَّةِ ; فَكَذَا فِيهَا، إِذِ الْكَذِبُ حَرَامٌ فِيهِمَا. وَالرَّاوِي بِالْمَعْنَى الْمُطَابِقِ مُؤَدٍّ كَمَا سَمِعَ. ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْهُ: مَنْ لَا يُفَرِّقُ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ عليه السلام لِلْبَرَاءِ مَا ذُكِرَ: عَدَمُ الِالْتِبَاسِ بِجِبْرِيلَ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ لَفْظَتِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ.
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَلَا يُبَدِّلُ لَفْظًا بِأَظْهَرَ مِنْهُ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ رُبَّمَا قَصَدَ إِيصَالَ الْحُكْمِ بِاللَّفْظِ الْجَلِيِّ تَارَةً، وَبِالْخَفِيِّ أُخْرَى.
قُلْتُ: وَكَذَا بِالْعَكْسِ، وَأَوْلَى، وَقَدْ فُهِمَ هَذَا مِنْ قَوْلِنَا: الْمَعْنَى الْمُطَابِقُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّ الرَّاوِيَ إِمَّا غَيْرُ عَالِمٍ بِمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهَا، مِنْ جِهَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلَّفْظِ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لَهُ، جَازَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَجُوزُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ لَا يَزِيدَ التَّرْجَمَةَ، وَلَا يَنْقُصَ، وَلَا يَكُونَ أَخْفَى مِنْ لَفْظِ الشَّارِعِ.
قُلْتُ: هَذَا هُوَ مَعْنَى الْمُطَابَقَةِ. وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ: مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى ابْنُ سِيرِينَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَأَوْجَبُوا نَقْلَ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى صُورَتِهِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا. الْحَدِيثَ. وَقَدْ سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ فِقْهِ الرَّاوِيِ، وَهُوَ يَقْتَضِي نَقْلَ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ.
وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ ; فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأَتْ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ. قَالَ: فَرَدَّدْتُهُنَّ لِأَسْتَذْكِرَهُنَّ ; فَقُلْتُ: آمَنْتُ بِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ ; فَقَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِنَبِيِّكِ الَّذِي أَرْسَلْتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنِّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ إِبْدَالَ لَفْظِ النَّبِيِّ بِالرَّسُولِ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ نَقْلِ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ.
قَوْلُهُ: «وَلَنَا» ، أَيْ: عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى كَمَا قَرَّرْنَاهُ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ شَرْحِ الْحَدِيثِ الْعَرَبِيِّ بِالْعَجَمِيِّ، وَالْعَجَمِيِّ بِالْعَرَبِيِّ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَالشَّهَادَةِ بِالْعَجَمِيَّةِ عَلَى الشَّهَادَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
أَيْ: إِذَا كَانَ شَاهِدُ الْأَصْلِ أَعْجَمِيًّا، جَازَ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ الشَّهَادَةَ عَرَبِيٌّ، وَيُؤَدِّيَهَا بِلِسَانِهِ، وَبِالْعَكْسِ: يُؤَدِّي الْعَجَمِيُّ عَنِ الْعَرَبِيِّ، وَكَذَلِكَ شَرْحُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِلِسَانِهِمْ، وَإِذَا جَازَ إِبْدَالُ الْعَرَبِيِّ بِالْعَجَمِيِّ ; فَإِبْدَالُهُ بِعَرَبِيٍّ مِثْلِهِ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ أَوْلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بِالْجَوَازِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّعَبُّدَ فِي الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، لَا بِاللَّفْظِ، بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِمَعْنَاهُ لِلْإِبْلَاغِ، وَبِلَفْظِهِ لِلتِّلَاوَةِ وَالْإِعْجَازِ. بِدَلِيلِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَعْنًى يُفْهَمُ ; فَيُمْتَثَلُ، وَنَحْنُ مُتَعَبِّدُونَ بِلَفْظِهَا، وَالْأَجْرُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهَا، عَلَى كُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، كَسَائِرِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَبْدِيلَ اللَّفْظِ بِمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ جَائِزٌ فِي غَيْرِ السُّنَّةِ، كَالتَّخَاطُبِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ ; فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ فِي السُّنَّةِ ; لِأَنَّ الْمَحْذُورَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْكَذِبُ، وَهُوَ حَرَامٌ فِيهِمَا، أَيْ: فِي السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُحَاوَرَاتِ النَّاسِ بَيْنَهُمْ. وَقَدْ جَازَ فِي أَحَدِهِمَا ; فَلْيَجُزْ فِي الْآخَرِ.
قَوْلُهُ: «وَالرَّاوِي بِالْمَعْنَى الْمُطَابِقِ لِلَفْظٍ مُؤَدٍّ كَمَا سَمِعَ» . هَذَا جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِ الْخَصْمِ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ، فَإِنِ اقْتَضَى أَنَّ الرَّاوِيَ يُؤَدِّي الْحَدِيثَ كَمَا سَمِعَهُ، وَالرَّاوِي بِالْمَعْنَى الْمُطَابِقِ يُؤَدِّي كَمَا سَمِعَ.
وَقَوْلُهُمُ: الْحَدِيثُ يَقْتَضِي نَقْلَ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ نَقَلَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنْ يَقْتَضِيهِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ. «ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْهُ» ، أَيْ: مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي نَقْلَ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ «مَنْ لَا يُفَرِّقُ» بَيْنَ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْعَارِفِ الْفَارِقِ، الرَّاوِي بِاللَّفْظِ الْمُطَابِقِ.
قَوْلُهُ: «وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ عليه السلام لِلْبَرَاءِ مَا ذَكَرَ» . هَذَا جَوَابٌ عَنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ عليه السلام لَهُ: قُلْ: وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ إِمَّا عَدَمُ الِالْتِبَاسِ بِجِبْرِيلَ ; فَإِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ; فَلَوْ قَالَ: وَبِرَسُولِكَ، لَالْتَبَسَ بِهِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ هَهُنَا الْإِيمَانُ بِهِ عليه السلام ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِجِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ، مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، أَعْنِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِجِبْرِيلَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِالنَّبِيِّ عليه السلام.
أَوْ يَكُونُ فَائِدَةُ ذَلِكَ الْجَمْعَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ لَفْظَيِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، فِي قَوْلِهِ: وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، وَإِحْدَاهُمَا أَعَمُّ مِنَ الْأُخْرَى، عَلَى مَا سَبَقَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْكِتَابِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَبْلَغُ فِي الْإِيمَانِ، وَأَفْخَمُ لِلرَّسُولِ عليه السلام.
«قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَلَا يُبَدِّلُ - يَعْنِي الرَّاوِي بِالْمَعْنَى - لَفْظًا بِأَظْهَرَ مِنْهُ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ رُبَّمَا قَصَدَ إِيصَالَ الْحُكْمِ» إِلَى الْمُكَلَّفِينَ «بِاللَّفْظِ الْجَلِيِّ تَارَةً» تَسْهِيلًا لِلْفَهْمِ عَلَيْهِمْ، وَبِاللَّفْظِ الْخَفِيِّ أُخْرَى، تَكْثِيرًا لِأَجْرِهِمْ، بِإِجَادَةِ النَّظَرِ فِيهِ.
«قُلْتُ: وَكَذَا بِالْعَكْسِ وَأَوْلَى» أَيْ: كَذَلِكَ لَا يُبَدِّلُ لَفْظًا بِلَفْظٍ أَخْفَى مِنْهُ، وَهُوَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَوْلَى بِعَدَمِ الْجَوَازِ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ; لِأَنَّ فِيهِ تَصْعِيبًا لِمَا سَهَّلَ الشَّارِعُ فَهْمَهُ.
وَقَدْ فُهِمَ هَذَا مِنْ قَوْلِنَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ: تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى الْمُطَابِقِ ; لِأَنَّ الْمُطَابِقَ هُوَ الْمُسَاوِي فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; فَلَا يَكُونُ أَعَمَّ وَلَا أَخَصَّ، وَفِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ ; فَلَا يَكُونُ أَجْلَى وَلَا أَخْفَى. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ النَّسْخُ لَاحِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَمِيعًا، عَقَّبْنَاهُمَا بِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ عُذْرًا فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى السُّنَّةِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ لَمَّا كَانَ النَّسْخُ لَاحِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَمِيعًا، عَقَّبْنَاهُمَا بِهِ» ، أَيْ: ذَكَرْنَا النُّسَخَ عَقِيبَهُمَا، أَيْ: بَعْدَ انْقِضَاءِ الْكَلَامِ فِيهِمَا، وَهَذَا تَوْجِيهٌ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ النَّسْخِ بَعْدَهُمَا.
قَوْلُهُ: «وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ عُذْرًا فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى السُّنَّةِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَزَالِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ النَّسْخَ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْكِتَابِ، وَقَبْلَ الْكَلَامِ عَلَى السُّنَّةِ، وَاعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّسْخَ أَخَصُّ بِالْقُرْآنِ لِإِشْكَالِهِ وَغُمُوضِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، مَعَ اشْتِبَاهِهِ بِالْبَدَاءِ، وَاسْتِحَالَةِ الْبَدَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى السُّنَّةِ طَوِيلٌ، لِتَعَلُّقِهِ بِبَيَانِ أَحْكَامِ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ، وَمَرَاتِبِ أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِضَمِّ النَّسْخِ إِلَى الْقُرْآنِ التَّعْدِيلَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِقْدَارِ، أَيْ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ وَالنَّسْخِ مُعَادِلًا لِلْكَلَامِ فِي السُّنَّةِ مَعَ طُولِهَا، تَحْقِيقًا أَوْ تَقْرِيبًا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ ; لِأَنَّ مَقْصِدَهُ الْمَذْكُورَ مَعَ مُنَاسَبَةِ وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعِهَا، طَرْدِيٌّ مَحْضٌ ; فَالْمُنَاسِبُ مُتَعَيِّنُ التَّقْدِيمِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.