المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

. . . . . . . . . . - شرح مختصر الروضة - جـ ٢

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْكِتَابُ

- ‌السُّنَّةُ

- ‌ التَّوَاتُرُ

- ‌ الْآحَادُ

- ‌ السَّمَاعِ

- ‌ الْإِجَازَةُ

- ‌إِنْكَارُ الشَّيْخِ الْحَدِيثَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي رِوَايَةِ الْفَرْعِ لَهُ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «التَّاسِعَةُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا مَقْبُولَةٌ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الْعَاشِرَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ»

- ‌ مُرْسَلُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ

- ‌فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى

- ‌فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ»

-

- ‌الْقَوْلُ فِي النَّسْخِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ جَائِزٌ

- ‌لَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ

- ‌ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ

- ‌ نَسْخُ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِآحَادِهَا

- ‌الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ»

- ‌مَا يُعْرَفُ بِهِ النَّسْخُ:

- ‌الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي

- ‌«الْأَمْرُ:

- ‌ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ " الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ

- ‌الْمَسْأَلَةُ " الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ

- ‌أَقْسَامُ الْمَعْلُومَاتِ:

- ‌الْمَسْأَلَةُ: «السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ: حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْأَمْرُ لِجَمَاعَةٍ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ

- ‌ فَرْضُ الْكِفَايَةِ

- ‌فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ:

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الْعَاشِرَةُ: تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْمَعْدُومِ»

- ‌النَّهْيُ

- ‌فَوَائِدُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ:

- ‌الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ

- ‌الْعَامُّ

- ‌أَلْفَاظُ الْعُمُومِ

- ‌«أَدَوَاتُ الشَّرْطِ»

- ‌ كُلُّ وَجَمِيعُ

- ‌«النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الْأَمْرِ»

- ‌ الْعَامُّ الْكَامِلُ»

- ‌ أَقَلُّ الْجَمْعِ

- ‌ الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ

- ‌ الْخِطَابُ الْعَامُّ يَتَنَاوَلُ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ

- ‌الْخَاصُّ

- ‌الْمُخَصِّصَاتُ»

- ‌الْخَامِسُ: الْمَفْهُومُ

- ‌ تَعَارُضِ الْعُمُومَيْنِ

- ‌الِاسْتِثْنَاءُ

- ‌ تَعْرِيفِهِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالنَّسْخِ

- ‌ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِشُرُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ

- ‌الشَّرْطُ

- ‌ الْغَايَةُ»

- ‌الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ

- ‌ مَرَاتِبُ الْمُقَيَّدِ

- ‌الْمُجْمَلُ

- ‌حُكْمُ الْمُجْمَلِ

- ‌الْمُبَيَّنُ

- ‌ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ

- ‌كُلُّ مُقَيَّدٍ مِنَ الشَّارِعِ بَيَانٌ

- ‌الْبَيَانُ الْفِعْلِيُّ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِيِّ»

- ‌تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ

- ‌تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ

- ‌خَاتِمَةٌفَحْوَى اللَّفْظِ:

- ‌ شَرْطُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ

- ‌ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ»

- ‌ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ

- ‌ دَرَجَاتُ دَلِيلِ الْخِطَابِ

- ‌ مَفْهُومَ الْغَايَةِ

- ‌ مَفْهُومُ الشَّرْطِ

- ‌ تَخْصِيصُ وَصْفٍ غَيْرِ قَارٍّ بِالْحُكْمِ

- ‌ مَفْهُومُ الْعَدَدِ

- ‌ مَفْهُومُ اللَّقَبِ

الفصل: . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِذَلِكَ ; فَتَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً أُرِيدَ بِهَا الْخَاصُّ ; فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا عَلَى مَا يَذْكُرُونَ.

قَوْلُهُ «وَالْمُخَصِّصُ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخَاصِّ وَمُوجِدُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ مَجَازٌ» . يَعْنِي أَنَّ الْمُخَصِّصَ يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا ; فَالْمُخَصِّصُ حَقِيقَةً هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخَاصِّ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ إِذَا صَدَرَ ذَلِكَ عَنْهُمَا، وَوُجِدَ مِنْهُمَا، وَالْمُخَصِّصُ مَجَازًا هُوَ ذَلِكَ الْكَلَامُ الْخَاصُّ الْمُبَيِّنُ لِلْمُرَادِ بِالْعَامِّ ; فَاللَّهُ هُوَ الْمُخَصِّصُ بِالْحَقِيقَةِ، لِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ عُمُومِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ، وَقَوْلُهُ عز وجل:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 5] ، يُسَمَّى مُخَصِّصًا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فِعْلٌ، وَالْمُخَصِّصُ اسْمُ فَاعِلٍ، وَالْفِعْلُ إِنَّمَا يَصْدُرُ حَقِيقَةً عَنْ فَاعِلٍ حَقِيقِيٍّ، أَمَّا إِسْنَادُهُ إِلَى الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَيْسَ بِفَاعِلٍ حَقِيقِيٍّ ; فَهُوَ مَجَازٌ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ النَّاسِخَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ، وَإِطْلَاقُ النَّاسِخِ عَلَى بَعْضِ النُّصُوصِ مَجَازٌ.

قَوْلُهُ: «وَ‌

‌الْمُخَصِّصَاتُ»

، أَيْ: وَالْأَدِلَّةُ الْمُخَصِّصَاتُ، يَعْنِي أَدِلَّةَ التَّخْصِيصِ «تِسْعَةٌ» :

- «الْحِسُّ» ، أَيْ: أَحَدُهَا الْحِسُّ، «كَخُرُوجِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ» قَوْلِهِ عَزَّ

ص: 552

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَجُلَّ فِي صِفَةِ الرِّيحِ الْعَقِيمِ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الْأَحْقَافِ: 25] ; فَإِنَّنَا عَلِمْنَا بِالْحِسِّ أَنَّهَا لَمْ تُدَمِّرِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ ; فَكَانَ الْحِسُّ مُخَصِّصًا لِذَلِكَ.

قُلْتُ: وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَظَرٌ كَمَا سَبَقَ فِي صَدْرِ الْبَابِ.

«الثَّانِي» : مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ: الْعَقْلُ، وَبِهِ خُصَّ مَنْ لَا يَفْهَمُ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ، نَحْوَ:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانِ: 97]، وَنَحْوَ قَوْلِهِ عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الْبَقَرَةِ: 21] ، فَإِنَّ هَذَا الْخِطَابَ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مِنَ النَّاسِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لَكِنَّهُ خَرَجَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ; فَكَانَ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ بِهِ، وَدَلِيلُ الْعَقْلِ الْمُخَصِّصِ لَهُ مَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ.

قَوْلُهُ: «وَوُجُوبُ تَأَخُّرِ الْمُخَصِّصِ وَصِحَّةِ تَنَاوُلِ الْعَامِّ مَحَلَّ التَّخْصِيصِ مَمْنُوعٌ» هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالَيْنِ مُقَدَّرَيْنِ، أُورِدَا عَلَى كَوْنِ الْعَقْلِ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِّهِ ; فَالْمُخَصِّصُ مُبَيِّنٌ وَالْمُبَيِّنُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمُبَيِّنِ، وَالْعَقْلُ سَابِقٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى أَدِلَّةِ السَّمْعِ ; فَلَا يَكُونُ مُبَيِّنًا لَهَا ; فَلَا يَكُونُ الْعَقْلُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ، كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُقَدَّمِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ.

ص: 553

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّ التَّخْصِيصِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِحَّ تَنَاوُلُ الْعَامِّ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدِ الْمُخَصِّصُ، وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ، لَكِنْ مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ عَقْلًا، لَا يَصِحُّ تَنَاوُلُ اللَّفْظِ لَهُ لُغَةً وَلَا إِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ. وَحِينَئِذٍ لَا عُمُومَ فِي اللَّفْظِ ; فَلَا تَخْصِيصَ.

وَمِثَالُهُ أَنَّ ذَاتَ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ لَا يَصِحُّ خَلْقُهَا عَقْلًا ; فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ عز وجل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 101] مُتَنَاوِلًا لَهَا لُغَةً ; فَلَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ عَامًّا ; فَلَا يَكُونُ الْعَقْلُ مُخَصِّصًا لَهُ. هَذَا تَقْرِيرُ السُّؤَالَيْنِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا بِالْمَنْعِ:

أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ ; فَبِأَنَّ حَقَّ الْمُخَصِّصِ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا، وَالْعَقْلُ إِنَّمَا سَبَقَ أَدِلَّةَ السَّمْعِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا. أَمَّا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لَهَا ; فَلَا نُسَلِّمُ.

وَتَحْقِيقُ هَذَا، أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ مَوْجُودٌ دَائِمُ الْوُجُودِ ; فَالْمَوْجُودُ مِنْهُ بَعْدَ وُرُودِ أَدِلَّةِ السَّمْعِ هُوَ اللَّاحِقُ لَهَا بِالتَّخْصِيصِ وَالْبَيَانِ، أَمَّا السَّابِقُ عَلَيْهَا ; فَلَا، وَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّهُ مُخَصِّصٌ مِنْ جِهَةِ مَا تَأَخَّرَ مِنْ وُجُودِهِ عَنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْنَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّمُ. لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ بِوُجُودِهِ وَبَيَانِهِ، وَالْعَقْلُ إِنَّمَا تَقَدَّمَ أَدِلَّةَ السَّمْعِ بِوُجُودِهِ، وَتَأَخَّرَ بِبَيَانِهِ.

ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُقَدَّمِ وَالْعَقْلِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُقَدَّمَ لَا يُعَدُّ كَلَامًا وَلَا النَّاطِقَ بِهِ مُتَكَلِّمًا، كَمَنْ قَالَ: إِلَّا زَيْدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قَامَ

ص: 554

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْقَوْمُ، بِخِلَافِ دَلِيلِ الْعَقْلِ ; فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ الْبَارِئِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ قَبْلَ دَلِيلِ السَّمْعِ وَبَعْدَهُ، وَالْمُسْتَعْمِلُ لَهُ يُعَدُّ مُسْتَدِلًّا فِي الْحَالَيْنِ. وَأَمَّا امْتِنَاعُ النَّسْخِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ; فَلِأَنَّ النَّسْخَ إِمَّا رَفْعُ الْحُكْمِ، أَوْ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ، وَلَا قُوَّةَ لِلْعَقْلِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى الشَّرْعِ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ ; فَإِنَّهُ بَيَانٌ، وَالْعَقْلُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِلَفْظِهِ.

وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي. فَبِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَحَلَّ التَّخْصِيصِ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ تَنَاوُلُ الْعَامِّ لَهُ.

قَوْلُهُ: لَوْ لَمْ يَرِدِ الْمُخَصِّصُ. وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ.

قُلْنَا: هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ، بَلْ إِنَّمَا يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَصِحُّ تَنَاوُلُهُ لَهُ. أَمَّا مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ عَقْلًا ; فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ النَّافِي لِلصِّحَّةِ، وَعُدْنَا إِلَى رَأْسِ الْمَسْأَلَةِ.

ثُمَّ قَوْلُهُ: مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ عَقْلًا لَا يَصِحُّ تَنَاوُلُ اللَّفْظِ لَهُ لُغَةً.

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ إِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْصُومِ لَهُ. وَحِينَئِذٍ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ عَقْلًا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ لُغَةً، وَيُبَيِّنُ الْعَقْلُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِلْمُتَكَلِّمِ الْمَعْصُومِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا هَذَا بِالْمُتَكَلِّمِ الْمَعْصُومِ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْمَعْصُومِ يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يُرِيدَ بِلَفْظِ الْعَامِّ مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ، لَكِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْصُومًا مِنَ الْكَذِبِ، وَبَابُ الْكَذِبِ مَفْتُوحٌ لِمَنْ أَرَادَهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

الثَّالِثُ: مِنْ مُخَصِّصَاتِ «الْعُمُومِ الْإِجْمَاعُ، لِقَطْعِيَّتِهِ، وَاحْتِمَالِ الْعَامِّ» ، أَيْ: لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ شَرْعِيٌّ، وَالْعَامُّ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ

ص: 555

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ لَا بِطْرِيقِ الْقَطْعِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَاطِعُ وَالظَّاهِرُ كَانَ الْقَاطِعُ مُتَقَدِّمًا.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، يَعْنِي الْإِجْمَاعَ، «دَلِيلُ نَصٍّ مُخَصِّصٍ» ، أَيْ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُخَصِّصَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ نَصٍّ مُخَصِّصٍ، كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّاسِخِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا يُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِجْمَاعِ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ ; فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مُسْتَنَدِهِ، وَالتَّخْصِيصُ وَالنَّسْخُ مُضَافٌ إِلَى ذَلِكَ الْمُسْتَنَدِ، فَإِذَا رَأَيْنَا الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدًا عَلَى الْعَمَلِ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْعَامِّ بِخِلَافِ مُقْتَضَى الْعُمُومِ، عَلِمْنَا أَنَّ هُنَاكَ نَصًّا عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ.

مِثَالُهُ: أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَامَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْعِوَضِ الْمَعْلُومِ، ثُمَّ رَأَيْنَا النَّاسَ مُجْمِعِينِ عَلَى دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ وَرُكُوبِ السُّفُنِ بِغَيْرِ تَعْيِينِ عِوَضٍ ; فَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى وُجُودِ دَلِيلٍ مُخَصِّصٍ لِهَذِهِ الصُّورَةِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْثَالِهَا، وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الِاسْتِحْسَانِ.

ص: 556

الرَّابِعُ: النَّصُّ: كَتَخْصِيصِ «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ،» لِعُمُومِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [الْمَائِدَةِ: 38]، «وَلَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» . لِعُمُومِ:«فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ،» وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَامُّ كِتَابًا، أَوْ سُنَّةً، مُتَقَدِّمًا، أَوْ مُتَأَخِّرًا، لِقُوَّةِ الْخَاصِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ يُقَدَّمُ الْمُتَأَخِّرُ، خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ، وَلِأَنَّ الْعَامَّ كَآحَادِ صُوَرٍ خَاصَّةٍ ; فَجَائِزٌ أَنْ يُرْفَعَ الْخَاصُّ. وَلَنَا: أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَمَلًا بِكِلَيْهِمَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ ; فَكَانَ أَوْلَى، فَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا. وَمُتَعَارِضَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِاحْتِمَالِ تَأَخُّرِ الْعَامِّ وَنَسْخِهِ الْخَاصَّ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُخَصُّ عُمُومُ السَّنَةِ بِالْكِتَابِ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ حَامِدٍ قَوْلًا لَنَا ; لِأَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لَهُ ; فَلَوْ خَصَّهَا لَبَيَّنَهَا ; فَيَتَنَاقَضُ. وَلَنَا: أَنَّ مَا بَيَّنَتْهُ مِنْهُ لَا يُبَيِّنُهَا وَبِالْعَكْسِ، أَوْ يُبَيِّنُ كُلٌّ مِنْهَا الْآخَرَ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ ; فَلَا تَنَاقُضَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يُخَصُّ عُمُومُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِضَعْفِهِ عَنْهُ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ: يُخَصَّصُ الْمُخَصِّصُ دُونَ غَيْرِهِ. بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُخَصَّصَ مَجَازٌ ; فَيَضْعُفُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ، إِذِ الْكِتَابُ قَطْعِيُّ السَّنَدِ، وَالْخَبَرُ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ فَيَتَعَادَلَانِ. لَنَا: إِرَادَةُ الْخَاصِّ أَغْلَبُ مِنْ إِرَادَةِ عُمُومِ الْعَامِّ ; فَقُدِّمَ لِذَلِكَ، وَأَيْضًا تَخْصِيصُ الصَّحَابَةِ:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] ، بِـ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَآيَةَ الْمِيرَاثِ بِـ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ. وَالْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. وَلَا إِرْثَ لِقَاتِلٍ، وَنَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، وَعُمُومَ الْوَصِيَّةِ بِـ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَ {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ، بِـ «حَتَّى يَذُوقَ عَسِيلَتَكِ» . مُتَسَارِعِينَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ تَارِيخٍ. وَدَعْوَى الْوَاقِفِيَّةِ التَّعَادُلَ مَمْنُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا. وَإِلَّا لَتَوَقَّفَ الصَّحَابَةُ.

ــ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 557

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

" الرَّابِعُ ": مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ: " النَّصُّ " الْخَاصُّ، " كَتَخْصِيصِ " قَوْلِهِ عليه السلام: لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ عز وجل:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] ، فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْقَطْعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ; فَخَصَّ بِالْحَدِيثِ مَا دُونَ رُبُعِ دِينَارٍ ; فَلَا قَطْعَ فِيهِ، وَكَتَخْصِيصِ قَوْلِهِ عليه السلام: لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ. فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعُشْرِ فِي قَلِيلِ مَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ وَكَثِيرِهِ ; فَخُصَّ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْهُ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ; فَلَا زَكَاةَ فِيهَا.

وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَامُّ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً، وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، فَإِنَّ الْخَاصَّ يَخُصُّهُ، لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ " لِقُوَّةِ الْخَاصِّ "، أَيْ: لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى مَدْلُولِهِ ; فَإِنَّهَا قَاطِعَةٌ، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ ظَاهِرَةٌ، وَالْقَاطِعُ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ.

مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ: كُلَّمَا سَرَقَ السَّارِقُ ; فَاقْطَعُوهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْآيَةِ ; فَدَلَالَتُهُ عَلَى قَطْعِ مَنْ سَرَقَ دُونَ رُبُعِ دِينَارٍ ظَاهِرَةٌ، وَدَلَالَةُ قَوْلِهِ عليه السلام: لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ. عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ فِيمَا دُونَهُ قَاطِعَةٌ ; فَيُقَدَّمُ، " وَهُوَ "

ص: 558

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَعْنِي التَّسْوِيَةُ بَيْنَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَقَدِّمَةٌ وَمُتَأَخِّرَةٌ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَيْهِ هُوَ " قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَدَّمُ الْمُتَأَخِّرُ "، مِنَ النَّصَّيْنِ " خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ "، لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم، أَيْ: بِالْآخَرِ فَالْآخَرِ، وَهُوَ عَامٌ فِي تَقْدِيمِ الْمُتَأَخِّرِ خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا ; لِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ الشَّرْعِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ إِنْ كَانَ هُوَ الْخَاصَّ ; فَهُوَ الْمُقَدَّمُ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَامَّ ; فَهُوَ كَآحَادِ صُوَرٍ خَاصَّةٍ ; فَجَازَ أَنْ يُرْفَعَ الْخَاصُّ. وَتَحْقِيقُ هَذَا بِنَحْوِ مَا سَبَقَ فِي أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حَقِيقَةٌ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ كَأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا لَوْ نُصَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِلَفْظٍ ; فَالْحُكْمُ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَصِحُّ أَنْ يَرْفَعَ الْحُكْمَ الْمُنَافِيَ لَهُ فِي مُسَمًّى خَاصٍّ ثَبَتَ قَبْلَهُ.

مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، ثُمَّ قَالَ: لَا تُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا ; فَكَأَنَّهُ

ص: 559

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَالَ: لَا تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا وَلَا فُلَانًا وَلَا زَيْدًا ; فَكَانَ هَذَا النَّهْيُ عَنْ إِعْطَاءِ زَيْدٍ رَافِعًا لِلْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ بِإِعْطَائِهِ.

قَوْلُهُ: " وَلَنَا أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَمَلًا بِكِلَيْهِمَا، بِخِلَافِ الْعَكْسِ "، أَيْ: لَنَا عَلَى تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَمَلًا بِكِلَا الدَّلِيلَيْنِ: الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فِيمَا عَدَا صُورَةِ التَّخْصِيصِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْعَامِّ إِلْغَاءٌ لِلْعَمَلِ بِالْخَاصِّ، وَالنُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مَا أَمْكَنَ ; فَيَكُونُ الْعَمَلُ بِكِلَا النَّصَّيْنِ بِتَقْدِيمِ الْخَاصِّ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ الْخَاصِّ بِتَقْدِيمِ الْعَامِّ.

وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، ثُمَّ قَالَ: لَا تُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا، فَإِذَا عَمِلَ بِهَذَا الْعُمُومِ وَحْدَهُ، وَمَنَعَ زَيْدًا، كَانَ مُلْغِيًا لِلنَّصِّ الْخَاصِّ فِي إِعْطَاءِ زَيْدٍ، وَإِذَا أَعْطَى زَيْدًا، وَمَنَعَ مَنْ سِوَاهُ، كَانَ عَامِلًا بِالنَّصِّ الْخَاصِّ فِي إِعْطَاءِ زَيْدٍ، وَبِالْعَامِّ فِي مَنْعِ غَيْرِهِ ; فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ أَحَدِ النَّصَّيْنِ.

وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْخَصْمُ، أَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ ; فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّسْخِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَشَرْطُ النَّسْخِ التَّعَارُضُ وَعَدَمُ إِمْكَانِ الْجَمْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ مُنْتَفٍ هَاهُنَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُمُ: الْعَامُّ كَآحَادِ صُوَرٍ خَاصَّةٍ ; فَجَازَ أَنْ يَرْفَعَ الْخَاصَّ.

قُلْنَا: الْجَوَازُ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، وَالْأَوْلَى فِي الشَّرْعِيَّاتِ مُتَعَيِّنٌ ; لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ، وَبَيَانُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ; مَا سَبَقَ فِي دَلِيلِنَا.

ص: 560

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ نَسْخٌ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ تَخْصِيصٌ. وَإِذَا تَعَارَضَ النَّسْخُ وَالتَّخْصِيصُ، كَانَ التَّخْصِيصُ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ وَتَقْرِيرٌ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ وَتَعْطِيلٌ، وَلِأَنَّ النَّسْخَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ دَوَامُ الْحُكْمِ وَاسْتِمْرَارُهُ، وَالْبَيَانُ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ فِي كَلَامِ الْحَكِيمِ إِذِ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ بَيِّنًا، لَكِنَّ الْبَيَانَ قَدْ يُقَارِنُ الْخِطَابَ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ.

قُلْتُ: وَلَعَلَّ مَثَارَ الْخِلَافِ أَنَّ الْعَامَّ هَلْ يُدَلُّ عَلَى أَفْرَادِهِ بِالنُّصُوصِيَّةِ أَوْ بِالظُّهُورِ؟ .

فَإِنْ قِيلَ: بِالنُّصُوصِيَّةِ ; فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَطِبْقِهِ مِنَ الْعَامِّ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَقْطُوعٌ بِإِرَادَةِ حُكْمِهِ فِيهِ ; فَيَرْفَعُ الثَّانِي الْأَوَّلَ.

وَإِنْ قُلْنَا: بِالظُّهُورِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ ; فَالْخَاصُّ قَاطِعٌ فِي الدَّلَالَةِ ; فَيُقَدَّمُ كَمَا سَبَقَ.

قَوْلُهُ: " فَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ ; فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا "، أَيْ: يُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي جَهَالَةِ التَّارِيخِ أَنْ يُقَدَّرَ تَأَخُّرُ الْعَامِّ، وَنَحْنُ لَوْ تَحَقَّقْنَا تَأَخُّرَهُ، قَدَّمْنَا الْخَاصَّ عَلَيْهِ ; فَلَا فَرْقَ عَلَى قَوْلِنَا بَيْنَ تَقَدُّمِهِ وَتَأَخُّرِهِ، وَجَهَالَةِ التَّارِيخِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَعَارَضَانِ، وَهُوَ قِيَاسُ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ أَحْمَدَ.

وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَمَا قَابَلَهُ مِنَ الْعَامِّ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مُتَأَخِّرًا ; فَيَكُونُ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مُتَقَدِّمًا ; فَيَكُونُ مَخْصُوصًا بِالْخَاصِّ وَلَا مُرَجِّحَ ; فَيَجِبُ الْوَقْفُ لِئَلَّا يَكُونَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا تَحَكُّمًا.

ص: 561

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا بِمَنْعِ عَدَمِ الْمُرَجِّحِ، بَلِ الْمُرَجِّحُ مَوْجُودٌ، وَهُوَ مَا سَبَقَ مِنْ تَرْجِيحِ التَّخْصِيصِ عَلَى النَّسْخِ إِذَا تَعَارَضَا.

قَوْلُهُ: وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُخَصُّ عُمُومُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ "، هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ قَبْلُ: " وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَامُّ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً "، أَيْ: فَإِنَّهُ يُخَصُّ بِالْخَاصِّ، كِتَابًا كَانَ الْخَاصُّ أَوْ سُنَّةً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. " وَخَرَّجَهُ ابْنُ حَامِدٍ قَوْلًا "، أَيْ: رِوَايَةً " لَنَا " وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] ; فَلَوْ خَصَّصَهَا الْكِتَابُ، لَبَيَّنَهَا ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ. وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ، إِذْ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَيِّنًا لِلْآخَرِ وَتَابِعًا لَهُ ; لِأَنَّ الْمُبَيِّنَ تَابِعٌ لِلْمُبِيَّنِ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّيْئَيْنِ تَابِعًا لِلْآخَرِ بَاطِلٌ.

قَوْلُهُ: " وَلَنَا أَنَّ مَا بَيَّنَتْهُ مِنْهُ لَا يُبَيِّنُهَا وَبِالْعَكْسِ "، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى صِحَّةِ تَخْصِيصِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّوْرَ وَالتَّنَاقُضَ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ لَوْ بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ مَا بَيَّنَهُ الْآخَرُ مِنْهُ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الَّذِي تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ مِنَ الْكِتَابِ لَا يُبَيِّنُهُ الْكِتَابُ مِنَ السُّنَّةِ، وَمَا يُبَيِّنُهُ الْكِتَابُ مِنَ السُّنَّةِ لَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ مِنَ الْكِتَابِ ; فَلَا دَوْرَ وَلَا تَنَاقُضَ. وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ فِي النَّسْخِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَبْيِينَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ ; فَيَكُونُ ذَلِكَ

ص: 562

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ ; فَلَا تَنَاقُضَ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْ يُشْبِهُهُ.

قَوْلُهُ: " وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يُخَصُّ عُمُومُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِضَعْفِهِ "، أَيْ: لِضَعْفِ الْخَبَرِ عَنِ الْكِتَابِ.

وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: " يُخَصِّصُ الْمُخَصَّصَ دُونَ غَيْرِهِ "، أَيْ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يَخُصُّ الْعَامَّ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا كَانَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِهِ، وَلَا يَخُصُّ الْعَامَّ غَيْرَ الْمَخْصُوصِ.

قُلْتُ: هَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ عِيسَى: إِنِ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يَبْقَى مَجَازًا ; فَيَضْعُفُ ; فَيَقْوَى خَبَرُ الْوَاحِدِ عَلَى تَخْصِيصِهِ.

قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ قَوْلُ عِيسَى هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْتُ ; فَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّهَافُتِ ; لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ لَا يَبْقَى حُجَّةً عِنْدَهُ عَلَى مَا سَبَقَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً، لَمْ يَكُنْ لِلْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهِ فَائِدَةٌ، إِذْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بَيَانُ أَنَّ الصُّورَةَ الْمَخْصُوصَةَ لَا يَتَنَاوَلُهَا حُكْمُ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ أَوْ لَهُ حُكْمٌ مُجْمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ ; فَيَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ ; فَهَذَا وَجْهُ التَّهَافُتِ فِي قَوْلِهِ: الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ لَا يَبْقَى حُجَّةً مَعَ قَوْلِهِ: يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، يَعْنِي قَوْلَ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. " وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ "، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْوَاقِفِيَّةِ، فِي تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّ " الْكِتَابَ قَطْعِيُّ السَّنَدِ " لِتَوَاتُرِهِ، ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ ظَاهِرَةٌ ظَنِّيَّةٌ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ " قَطْعِيُّ

ص: 563

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الدَّلَالَةِ " لِخُصُوصِهِ وَنُصُوصِيَّتِهِ فِي مَدْلُولِهِ، ظَنِّيُّ الثُّبُوتِ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ ; لِأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ كَمَا سَبَقَ ; فَيَتَعَادَلَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ رَاجِحًا مِنْ وَجْهٍ، مَرْجُوحًا مِنْ وَجْهٍ.

مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} [الْبَقَرَةِ: 168] ، مَعَ نَهْيِهِ عليه السلام عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ; فَيُقَدَّمُ الْخَبَرُ عِنْدَنَا عَلَى مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْآيَةِ وَيَتَعَادَلَانِ عِنْدَ الْوَاقِفِيَّةِ.

" لَنَا " عَلَى تَقْدِيمِ الْخَاصِّ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ " إِرَادَةَ الْخَاصِّ أَغْلَبُ مِنْ إِرَادَةِ عُمُومِ الْعَامِّ "، أَيْ: إِذَا وَرَدَ عَامٌّ وَخَاصٌّ ; فَالظَّاهِرُ الْغَالِبُ أَنَّ حُكْمَ الْخَاصِّ مُرَادٌ بِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَامِّ مَا عَدَا الْحُكْمَ الْخَاصَّ.

مِثَالُهُ: إِنَّ إِرَادَةَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: " نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ". أَظْهَرُ مِنْ إِرَادَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يُوَرَثُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 11] ، وَإِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ الْخَاصِّ أَظْهَرَ وَأَغْلَبَ، قُدِّمَ لِذَلِكَ، أَيْ: لِظُهُورِهِ وَغَلَبَتِهِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِطَرِيقٍ آخَرَ.

ص: 564

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ وَبَادَرُوا إِلَيْهِ بِفِقْهِهِمْ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ:

مِنْهَا: تَخْصِيصُ قَوْلِهِ عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24]، بِقَوْلِهِ عليه السلام:" لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا "، وَالْآيَةُ بِلَفْظِهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِجَوَازِ ذَلِكَ.

وَمِنْهَا تَخْصِيصُ آيَةِ الْمِيرَاثِ، وَهِيَ قَوْلُهُ عز وجل:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 11]، بِقَوْلِهِ عليه السلام:" لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ ". وَالْآيَةُ بِلَفْظِهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِتَوَارُثِهِمَا وَالِدًا وَمَوْلُودًا، وَكَذَلِكَ خَصَّتْ فِي الْقَاتِلِ بِقَوْلِهِ عليه السلام:" لَا إِرْثَ لِقَاتِلٍ ". وَفِي وَلَدِ النَّبِيِّ عليه السلام وَأَقَارِبِهِ بِقَوْلِهِ عليه السلام: " نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ".

وَمِنْهَا: تَخْصِيصُ عُمُومِ الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [الْبَقَرَةِ: 180]، بِقَوْلِهِ عليه السلام:" لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ". وَالْآيَةُ بِلَفْظِهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِلْوَصِيَّةِ لَهُ.

وَمِنْهَا تَخْصِيصُ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}

ص: 565

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[الْبَقَرَةِ: 230]، بِقَوْلِهِ عليه السلام لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ:" لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَكِ ".

وَإِذَا ثَبَتَ تَخْصِيصُ الصَّحَابَةِ عُمُومَ الْكِتَابِ بِخُصُوصِ السُّنَّةِ مُتَسَارِعِينَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ تَارِيخٍ، وَلَا سُؤَالٍ عَنِ الْعَامِّ: هَلْ خُصَّ أَمْ لَا، وَلَا تَوَقَّفَ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهِ، بَلْ وُجُوبِهِ ; لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْوَاجِبِ، وَذَرِيعَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ.

وَأَمَّا الْوَاقِفِيَّةُ ; فَدَعْوَاهُمُ التَّعَادُلُ بَيْنَ عَامِّ الْكِتَابِ وَخَاصِّ السُّنَّةِ مَمْنُوعَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّخْصِيصِ وَمُبَادَرَتِهِمْ إِلَيْهِ، " وَإِلَّا " أَيْ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَائِزًا، " لَتَوَقَّفَ الصَّحَابَةُ " كَمَا تَوَقَّفْتُمْ.

تَنْبِيهٌ: قَوْلُنَا: مِنْ غَيْرِ تَارِيخٍ يُعْرَضُ بِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ التَّارِيخَ إِذَا جُهِلَ، يُقَدَّمُ الْخَاصُّ عِنْدَنَا، وَيَتَعَارَضَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيْ: فَلَوْ صَحَّ هَذَا، لَاسْتَفْصَلَ الصَّحَابَةُ فِي تَخْصِيصِهِمْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، وَاحْتَاجُوا لِذَلِكَ إِلَى طَلَبِ التَّارِيخِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ مَعَ كَثْرَةِ مَجَارِي اجْتِهَادَاتِهِمْ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ وَغَيْرِهِ ; فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْعَامِّ وَتَأَخُّرِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} مَعَ قَوْلِهِ عليه السلام: " حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ ". فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ النِّكَاحَ عَامٌّ فِي الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ حَتَّى يَكُونَ ذَوْقُ

ص: 566

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْعُسَيْلَةِ تَخْصِيصًا لِأَحَدِهِمَا بِالْإِرَادَةِ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ سبحانه وتعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ، تَرَدُّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدَ أَوِ الْوَطْءَ ; فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ، وَالْأَقْوَالُ الْمَشْهُورَةُ فِي النِّكَاحِ: هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ أَوْ فِي الْعَقْدِ، أَوْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 567