المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة «السابعة: الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به» - شرح مختصر الروضة - جـ ٢

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْكِتَابُ

- ‌السُّنَّةُ

- ‌ التَّوَاتُرُ

- ‌ الْآحَادُ

- ‌ السَّمَاعِ

- ‌ الْإِجَازَةُ

- ‌إِنْكَارُ الشَّيْخِ الْحَدِيثَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي رِوَايَةِ الْفَرْعِ لَهُ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «التَّاسِعَةُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا مَقْبُولَةٌ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الْعَاشِرَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ»

- ‌ مُرْسَلُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ

- ‌فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى

- ‌فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ»

-

- ‌الْقَوْلُ فِي النَّسْخِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ جَائِزٌ

- ‌لَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ

- ‌ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ

- ‌ نَسْخُ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِآحَادِهَا

- ‌الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ»

- ‌مَا يُعْرَفُ بِهِ النَّسْخُ:

- ‌الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي

- ‌«الْأَمْرُ:

- ‌ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ " الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ

- ‌الْمَسْأَلَةُ " الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ

- ‌أَقْسَامُ الْمَعْلُومَاتِ:

- ‌الْمَسْأَلَةُ: «السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ: حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْأَمْرُ لِجَمَاعَةٍ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ

- ‌ فَرْضُ الْكِفَايَةِ

- ‌فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ:

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الْعَاشِرَةُ: تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْمَعْدُومِ»

- ‌النَّهْيُ

- ‌فَوَائِدُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ:

- ‌الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ

- ‌الْعَامُّ

- ‌أَلْفَاظُ الْعُمُومِ

- ‌«أَدَوَاتُ الشَّرْطِ»

- ‌ كُلُّ وَجَمِيعُ

- ‌«النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الْأَمْرِ»

- ‌ الْعَامُّ الْكَامِلُ»

- ‌ أَقَلُّ الْجَمْعِ

- ‌ الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ

- ‌ الْخِطَابُ الْعَامُّ يَتَنَاوَلُ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ

- ‌الْخَاصُّ

- ‌الْمُخَصِّصَاتُ»

- ‌الْخَامِسُ: الْمَفْهُومُ

- ‌ تَعَارُضِ الْعُمُومَيْنِ

- ‌الِاسْتِثْنَاءُ

- ‌ تَعْرِيفِهِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالنَّسْخِ

- ‌ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِشُرُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ

- ‌الشَّرْطُ

- ‌ الْغَايَةُ»

- ‌الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ

- ‌ مَرَاتِبُ الْمُقَيَّدِ

- ‌الْمُجْمَلُ

- ‌حُكْمُ الْمُجْمَلِ

- ‌الْمُبَيَّنُ

- ‌ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ

- ‌كُلُّ مُقَيَّدٍ مِنَ الشَّارِعِ بَيَانٌ

- ‌الْبَيَانُ الْفِعْلِيُّ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِيِّ»

- ‌تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ

- ‌تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ

- ‌خَاتِمَةٌفَحْوَى اللَّفْظِ:

- ‌ شَرْطُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ

- ‌ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ»

- ‌ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ

- ‌ دَرَجَاتُ دَلِيلِ الْخِطَابِ

- ‌ مَفْهُومَ الْغَايَةِ

- ‌ مَفْهُومُ الشَّرْطِ

- ‌ تَخْصِيصُ وَصْفٍ غَيْرِ قَارٍّ بِالْحُكْمِ

- ‌ مَفْهُومُ الْعَدَدِ

- ‌ مَفْهُومُ اللَّقَبِ

الفصل: ‌المسألة «السابعة: الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به»

السَّابِعَةُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، إِذِ النَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَلَا إِجْمَاعَ إِذَنْ. وَلِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ مُتَضَادَّانِ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يُضَادُّ النَّصَّ، وَلَا يَنْعَقِدْ عَلَى خِلَافِهِ.

وَالْحُكْمُ الْقِيَاسِيُّ الْمَنْصُوصُ الْعِلَّةِ، يَكُونُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، كَالنَّصِّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

وَقِيلَ: مَا خَصَّ نَسَخَ. وَهُوَ بَاطِلٌ، بِدَلِيلِ: الْعَقْلِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، يَخُصُّ وَلَا يَنْسَخُ.

وَالنَّسْخُ وَالتَّخْصِيصُ مُتَنَاقِضَانِ، إِذِ النَّسْخُ إِبْطَالٌ، وَالتَّخْصِيصُ بَيَانٌ ; فَكَيْفَ يَسْتَوِيَانِ.

وَيَجُوزُ النَّسْخُ بِتَنْبِيهِ اللَّفْظِ كَمَنْطُوقِهِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَنَسْخُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ يُبْطِلُ حُكْمَ الْمَفْهُومِ، وَمَا ثَبَتَ بِعِلَّتِهِ، أَوْ دَلِيلِ خِطَابِهِ ; لِأَنَّهَا تَوَابِعُ ; فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ مَتْبُوعِهَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.

ــ

‌الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ»

، أَيْ: لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا وَلَا نَاسِخًا.

قَوْلُهُ: «إِذِ النَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَلَا إِجْمَاعَ إِذَنْ» .

هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ، أَيِ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِجْمَاعِ، لَا يُنْسَخُ، أَيْ: لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ لَا يُنْسَخُ.

أَمَّا أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ ; فَلِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ، وَإِبْطَالٌ لَهُ، وَتَغْيِيرٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ زَمَنُ الْوَحْيِ الرَّافِعِ لِلْأَحْكَامِ، وَبَعْدَ

ص: 330

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

انْقِرَاضِ عَهْدِ النُّبُوَّةِ يَسْتَقِرُّ الشَّرْعُ ; فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا اتِّبَاعُ مَا انْقَرَضَ عَلَيْهِ عَصْرُ النُّبُوَّةِ.

وَأَمَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَهْدِ النُّبُوَّةِ ; فَلِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، لِعِصْمَتِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا حَكَمَ بِحُكْمٍ ; فَالْأُمَّةُ إِمَّا أَنْ تُوَافِقَ ; فَلَا أَثَرَ لِمُوَافَقَتِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، أَوْ تُخَالِفَ ; فَلَا اعْتِبَارَ بِمُخَالَفَتِهَا، بَلْ تَكُونُ عَاصِيَةً بِمُخَالَفَتِهِ ; فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا مُؤَثِّرًا إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ.

قَالَ الْآمِدِيُّ إِنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ نَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ، وَأَثْبَتَهُ الْأَقَلُّونَ. وَاخْتَارَ جَوَازَهُ عَقْلًا، وَامْتِنَاعَهُ شَرْعًا.

قُلْتُ: أَمَّا جَوَازُهُ عَقْلًا فَلِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ.

وَأَمَّا امْتِنَاعُهُ شَرْعًا ; فَلِأَنَّ نَسْخَهُ إِمَّا بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ.

وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ.

وَالثَّانِي بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ النَّاسِخَ ; إِمَّا لَا عَنْ دَلِيلٍ ; فَيَكُونُ خَطَأً، أَوْ عَنْ دَلِيلٍ.

فَذَلِكَ الدَّلِيلُ ; إِمَّا نَصٌّ أَوْ قِيَاسٌ، فَإِنْ كَانَ نَصًّا، لَزِمَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى خِلَافِهِ ; فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا ; فَلَابُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ الْقِيَاسُ إِلَى نَصٍّ ; فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ عَلَى خِلَافِهِ أَيْضًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ كَوْنُ نَاسِخِ الْإِجْمَاعِ قِيَاسًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: «وَلِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ مُتَضَادَّانِ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يُضَادُّ النَّصَّ، وَلَا يَنْعَقِدُ

ص: 331

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَلَى خِلَافِهِ» . هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَنْسُوخَ إِنَّمَا يَكُونُ نَصًّا، لِمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا، وَإِذَا انْحَصَرَ الْمَنْسُوخُ فِي كَوْنِهِ نَصًّا ; فَلَوْ نُسِخَ بِالْإِجْمَاعِ، لَلَزِمَ مُضَادَةُ النَّصِّ لِلْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَادَّا، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُضَادُّ النَّصَّ، وَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِلَافِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ، لِانْعِقَادِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ.

وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا، أَثْبَتَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعِيسَى بْنُ أَبَانٍ، وَنَفَاهُ الْبَاقُونَ، وَاخْتَارَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَوْ كَانَ نَاسِخًا، لَكَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ ; إِمَّا نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا، أَوْ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ نَصًّا ; فَالْإِجْمَاعُ النَّاسِخُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ، وَإِلَّا كَانَ خَطَأً، وَذَلِكَ الْمُسْتَنَدُ هُوَ النَّاسِخُ، لَا نَفْسُ الْإِجْمَاعِ، لَكِنْ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ ; فَالْإِجْمَاعُ دَلِيلُ النَّاسِخِ، لَا نَفْسُ النَّاسِخِ. وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ إِجْمَاعًا ; فَلَوْ نُسِخَ بِالْإِجْمَاعِ، لَزِمَ تَعَارُضُ الْإِجْمَاعَيْنِ ; فَأَحَدُهُمَا بَاطِلٌ ; فَلَا نَسْخَ.

وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ قِيَاسًا ; فَهُوَ إِمَّا غَيْرُ صَحِيحٍ ; فَلَا عِبْرَةَ بِهِ ; فَلَا نَسْخَ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا ; فَالْإِجْمَاعُ النَّاسِخُ، إِنِ اسْتَنَدَ إِلَى نَصٍّ ; فَالنَّصُّ هُوَ النَّاسِخُ، وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْقِيَاسِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، أَوْ رَاجِحًا عَلَيْهِ ; فَالْقِيَاسُ الْأَوَّلُ لَيْسَ قِيَاسًا صَحِيحًا، لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلِرُجْحَانِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا ; فَالْإِجْمَاعُ عَلَى حُكْمِهِ خَطَأٌ ; فَلَا نَسْخَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: «وَالْحُكْمُ الْقِيَاسِيُّ الْمَنْصُوصُ الْعِلَّةِ يَكُونُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، كَالنَّصِّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ» . مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحُكْمَ الْقِيَاسِيَّ، أَيِ: الثَّابِتَ بِالْقِيَاسِ ; إِمَّا أَنْ

ص: 332

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَكُونَ مَنْصُوصَ الْعِلَّةِ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مَنْصُوصَ الْعِلَّةِ، أَيْ: قَدْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى عِلَّتِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ كَالنَّصِّ يُنْسَخُ، وَيُنْسَخُ بِهِ، أَيْ: يَكُونُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، كَمَا أَنَّ النَّصَّ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى نَصٍّ، فَإِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسِ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ النَّصِّ، صَارَ حُكْمُ الْقِيَاسِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ ; فَيَكُونُ نَصًّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا.

مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ الْمُتَّخَذَ مِنَ الْعِنَبِ، لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا، فَإِذَا قِسْنَا عَلَيْهِ نَبِيذَ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ، فِي التَّحْرِيمِ، كَانَ تَحْرِيمُ هَذَا النَّبِيذِ حُكْمًا مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: حَرَّمْتُ نَبِيذَ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ ; فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الشَّرْعَ قَالَ: أَبَحْتُ نَبِيذَ الذُّرَةِ الْمُسْكِرِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ نَبِيذِ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ ; الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقِيَاسِ نَاسِخًا لِذَلِكَ، إِذَا ثَبَتَ تَأَخُّرُهُ عَنْ إِبَاحَةِ نَبِيذِ الذُّرَةِ، وَمَنْسُوخًا بِإِبَاحَةِ نَبِيذِ الذُّرَةِ إِذَا ثَبَتَ تَقَدُّمُ تَحْرِيمِ نَبِيذِ التَّمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَحْرِيمَ نَبِيذِ التَّمْرِ، وَإِبَاحَةَ نَبِيذِ الذُّرَةِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ مَعَ اتِّحَادِ عِلَّتِهِمَا، وَهِيَ الْإِسْكَارُ ; فَكَانَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبَحْتُ الْخَمْرَ، ثُمَّ قَالَ: حَرَّمْتُهَا، أَوْ بِالْعَكْسِ.

وَأَمَّا إِنَّ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَلَا مَنْسُوخًا ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْصُوصَةً ; فَهِيَ مُسْتَنْبَطَةٌ، وَاسْتِنْبَاطُهَا هُوَ بِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ، وَاجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عُرْضَةُ الْخَطَأِ ; فَلَا يَقْوَى عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بِخِلَافِ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ ; فَإِنَّهُ حُكْمَ الشَّارِعِ الْمَعْصُومِ مِنَ الْخَطَأِ ; فَهُوَ

ص: 333

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا قِسْنَا الذُّرَةَ عَلَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، بِجَامِعِ الْكَيْلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعِلَّةَ فِيهِمَا، ثُمَّ قَالَ الشَّارِعُ: أَبَحْتُ التَّفَاضُلَ فِي السِّمْسِمِ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَجْعَلَ الْإِبَاحَةَ فِي السِّمْسِمِ نَاسِخَةً لِلتَّحْرِيمِ فِي الذُّرَةِ، وَلَا التَّحْرِيمَ فِي الذُّرَةِ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ فِي السِّمْسِمِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَضَادِّ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ إِبَاحَةَ التَّفَاضُلِ فِي السِّمْسِمِ، وَتَحْرِيمَهَا فِي الذُّرَةِ مُتَضَادَّانِ، لِجَوَازِ عَدَمِ اخْتِلَافِ الْعِلَّةِ فِيهِمَا، أَوْ كَوْنِ الْحُكْمِ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ غَيْرَ مُعَلَّلٍ ; فَيَنْتَفِي التَّضَادُّ ; فَيَنْتَفِي النَّسْخُ.

تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ الْآمِدِيُّ نَسْخَ حُكْمِ الْقِيَاسِ، أَيْ: كَوْنَهُ مَنْسُوخًا. وَقَالَ: مَنَعَ مِنْهُ الْحَنَابِلَةُ مُطْلَقًا، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي قَوْلٍ، وَأَجَازَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْقِيَاسِ الْمَوْجُودِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، دُونَ مَا وُجِدَ بَعْدَهُ. ثُمَّ اخْتَارَ الْآمِدِيُّ نَحْوَ مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَحِكَايَتُهُ مَنْعَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ نَسْخِ حُكْمِ الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، يَرُدُّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِنَا ; فَلَعَلَّهُ رَأَى قَوْلًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا شَاذًّا، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُحَقِّقِ النَّقْلَ.

وَحَكَى فِي النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ أَقْوَالًا، ثَالِثُهَا: جَوَازُهُ بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَ هُوَ فِيهِ تَفْصِيلًا طَوِيلًا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: مَا خَصَّ نَسَخَ» ، أَيْ: مَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، جَازَ النَّسْخُ بِهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ فِي النَّاسِخِ عَلَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ شَاذَّةٍ.

ص: 334

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَهُوَ بَاطِلٌ» ، أَيْ: هَذَا الْقَوْلُ مَنْقُوضٌ بِأَشْيَاءَ:

أَحَدُهَا: دَلِيلُ الْعَقْلِ، يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، دُونَ النَّسْخِ.

الثَّانِي: الْإِجْمَاعُ، يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، دُونَ النَّسْخِ.

الثَّالِثُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ، يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، دُونَ النَّسْخِ.

قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، إِذْ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يَنْسَخُ مِثْلَهُ، وَهَلْ يَنْسَخُ أَقْوَى مِنْهُ، كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْقَاطِعُ، عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَوَجَّهْنَا خِلَافَهُ.

وَقَوْلُهُ: «يَخُصُّ وَلَا يَنْسَخُ» ، يَعْنِي: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ تَكُونُ مُخَصَّصَةً، لَا نَاسِخَةً.

وَقَوْلُهُ: «وَالنَّسْخُ وَالتَّخْصِيصُ مُتَنَاقِضَانِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَقْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ، بِبَيَانِ تَنَاقُضِهِمَا ; فَكَيْفَ يَسْتَوِيَانِ، حَتَّى يَصِحَّ أَنَّ مَا جَازَ بِأَحَدِهِمَا، جَازَ بِالْآخَرِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّسْخَ إِبْطَالٌ لِلْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ رَفْعٌ لَهُ، وَالتَّخْصِيصُ تَقْرِيرٌ وَبَيَانٌ لَهُ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنَ اللَّفْظِ، فَإِذَا بَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ، اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَرَفْعُ الْحُكْمِ وَتَقْرِيرُهُ مُتَنَاقِضَانِ ; فَيَمْتَنِعُ اسْتِوَاؤُهُمَا، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ مَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، جَازَ النَّسْخُ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ كَقَوْلِنَا: مَا جَازَ أَنْ يُبَيِّنَ الْحُكْمَ وَيُقَرِّرَهُ، جَازَ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَيُبْطِلَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ لِحُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ عَلَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 335

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَيَجُوزُ النَّسْخُ بِتَنْبِيهِ اللَّفْظِ كَمَنْطُوقِهِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ» .

مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ تَنْبِيهَ اللَّفْظِ - وَهُوَ الْمَفْهُومُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، مِنْ غَيْرِ مَنْطُوقِهِ - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، كَمَا أَنَّ الْمَنْطُوقَ - وَهُوَ اللَّفْظُ نَفْسُهُ - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا دَلِيلٌ، لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل عِنْدَ ذِكْرِ فَحَوَى الْخِطَابِ.

وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ حَكَى الْخِلَافَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ تَبَعًا، وَالْآمِدِيُّ حَكَى جَوَازَ النَّسْخِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَنَسْخِ حُكْمِهِ اتِّفَاقًا.

وَالْمُرَادُ بِالْفَحْوَى: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَنْبِيهِ اللَّفْظِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، فَإِنْ صَحَّ الْخِلَافُ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ ; فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ أَوْ لَا، أَوْ عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ أَوْ عَقْلِيَّةٌ الْتِزَامِيَّةٌ.

فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ لَفْظِيَّةٌ، جَازَ نَسْخُهَا، وَالنَّسْخُ بِهَا كَالْمَنْطُوقِ، وَهُوَ لَفْظُهَا الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهَا.

وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ عَقْلِيَّةٌ، كَانَتْ قِيَاسًا جَلِيًّا، وَالْقِيَاسُ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ عَارَضَ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا، لَمْ يُعْتَبَرْ مَعَهُمَا، وَإِنْ عَارَضَ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِحًا، تَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنِ اسْتَوَيَا، وَجَبَ التَّرْجِيحُ، وَلَا نَسْخَ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يَثْبُتُ حُكْمًا طَارِئًا مُنَاقِضًا لِحُكْمٍ قَبْلَهُ ; فَجَازَ النَّسْخُ بِهِ، وَنَسْخُهُ كَسَائِرِ مَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ.

قُلْتُ: وَهَذَا يَظْهَرُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسَيْنِ، أَوْ عِلَّةُ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُمَا

ص: 336

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَنْصُوصَةً، أَمَّا إِنْ كَانَتَا مُسْتَنْبَطَتَيْنِ، أَوْ عِلَّةُ الْمُتَأَخِّرِ مُسْتَنْبَطَةً ; فَحُكْمُهَا التَّرْجِيحُ كَمَا سَبَقَ، وَيَضْعُفُ النَّسْخُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ قِيَاسٌ أَمْ لَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ عز وجل: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الْإِسْرَاءِ: 23] ، نَبَّهَ عَلَى تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ; فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ ضَرْبَهُمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ هَذَا التَّنْبِيهِ، كَانَ هُوَ نَاسِخًا لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ إِبَاحَةَ ضَرْبِهِمَا شُرِعَتْ بَعْدَ التَّنْبِيهِ الْمَذْكُورِ، كَانَتْ نَاسِخَةً لَهُ ; فَهُوَ - أَعْنِي التَّنْبِيهَ - نَاسِخٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، مَنْسُوخٌ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: «وَنَسْخُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ يُبْطِلُ حُكْمَ الْمَفْهُومِ، وَمَا ثَبَتَ بِعِلَّتِهِ، أَوْ دَلِيلِ خِطَابِهِ ; لِأَنَّهَا تَوَابِعُ ; فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ مَتْبُوعِهَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ» .

مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ الْمَنْطُوقَ - وَهُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ بِالْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ - إِذَا نُسِخَ ; بَطَلَ حُكْمُ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ مَفْهُومِهِ، وَمَعْلُولِهِ، وَدَلِيلِ خِطَابِهِ ; لِأَنَّهَا تَوَابِعُ لَهُ، وَإِذَا بَطَلَ الْمَتْبُوعُ، بَطَلَ التَّابِعُ، وَإِذَا انْتَفَى الْأَصْلُ، انْتَفَى فَرْعُهُ.

وَخَالَفَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ ; فَقَالُوا: لَا يَبْطُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَخْتَصُّ النَّسْخُ بِالْمَنْطُوقِ وَحْدَهُ، وَمَا خَرَجَ عَنْ مَحَلِّ النُّطْقِ ; فَهُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ ; فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِهِ نَسْخُهُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ غَيْرَهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ: أَنَّ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ الْمَنْسُوخِ، لَيْسَ فَرْعًا عَلَيْهِ وَتَبَعًا لَهُ ; فَلِذَلِكَ

ص: 337

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

اسْتَقَلَّ، بِخِلَافِ فُرُوعِ الْمَنْطُوقِ ; فَإِنَّهَا تَزُولُ بِزَوَالِهِ، لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ فَرْعٍ بِلَا أَصْلٍ.

وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ نُسِخَ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ - الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوقُ - لَبَطَلَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ - الَّذِي هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ - تَبَعًا لِأَصْلِهِ.

وَلَوْ نُسِخَ النَّهْيُ عَنْ قَضَاءِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ ; لَبَطَلَ تَحْرِيمُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُزْعِجَةِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا.

وَلَوْ نُسِخَ قَوْلُهُ: «مَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» ; لَبَطَلَ مَفْهُومُ عِلَّتِهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يُسْكِرْ ; فَلَيْسَ بِحَرَامٍ.

وَلَوْ نُسِخَ قَوْلُهُ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» ; لَبَطَلَ مَفْهُومُ دَلِيلِ خِطَابِهِ ; وَهُوَ أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا. كُلُّ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا فُرُوعٌ تَبِعَتْ أَصْلَهَا فِي السُّقُوطِ، فَإِنْ أُرِيدَ إِثْبَاتُهَا، احْتَاجَتْ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ مُثْبِتٍ، وَعَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ ثَابِتَةٌ بَعْدَ زَوَالِ أَصْلِهَا ; فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُثْبِتٍ. وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْحُكْمَ الْقِيَاسِيَّ يَبْقَى بَعْدَ نَسْخِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِمْ.

وَمِثَالُهُ: لَوْ نُسِخَ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ مَثَلًا، لَبَقِيَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي الْأُرْزِ وَالذُّرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْتَفَى تَبَعًا لِأَصْلِهِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.

وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْحُكْمَ هَلْ يَفْتَقِرُ فِي دَوَامِهِ إِلَى دَوَامِ عِلَّتِهِ أَمْ لَا؟ إِنْ قِيلَ: يَفْتَقِرُ إِلَى دَوَامِ عِلَّتِهِ، تَبِعَ حُكْمُ الْفَرْعِ حُكْمَ أَصْلِهِ فِي النَّسْخِ، وَإِلَّا ; فَلَا. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْبَاقِيَ هَلْ يَفْتَقِرُ فِي بَقَائِهِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ أَمْ لَا؟

فَرْعٌ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ اللَّفْظِ وَمَفْهُومِهِ مَعًا، وَمَنَعَ الْأَكْثَرُونَ نَسْخَ حُكْمِ

ص: 338

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَنْطُوقِ دُونَ فَحْوَاهُ، كَنَسْخِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ دُونَ الضَّرْبِ، نَحْوَ: قُلْ لَهُ: أُفٍّ وَلَا تَضْرِبْهُ. وَالْأَشْبَهُ جَوَازُهُ كَمَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .

وَتَرَدَّدَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي عَكْسِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَسْخُ الْفَحْوَى دُونَ مَنْطُوقِهِ، نَحْوَ: اضْرِبْهُ، وَلَا تَقُلْ لَهُ: أُفٍّ ; فَمَنَعَهُ مَرَّةً لِتَنَاقُضِهِ، إِذِ الْغَرَضُ مِنْ مَنْعِ التَّأْفِيفِ الْإِكْرَامُ، وَإِبَاحَةُ الضَّرْبِ تُنَافِيهِ، وَأَجَازَهُ مَرَّةً، وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ ; لِأَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأَمْرَيْنِ، ثُمَّ خَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْجَوَازِ.

قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ; فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ عِلَّةُ الْمَنْطُوقِ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ ; كَإِكْرَامِ الْوَالِدِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَأْفِيفِهِ، امْتَنَعَ نَسْخُ الْفَحْوَى دُونَهُ، لِتَنَاقُضِ الْمَقْصُودِ كَمَا قُلْنَا، وَإِنِ احْتَمَلَتِ التَّغَيُّرَ ; جَازَ ; لِاحْتِمَالِ الِانْتِقَالِ مِنْ عِلَّةٍ إِلَى أُخْرَى، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، يَقْصِدُ بِذَلِكَ حِرْمَانَهُ، لِغَضَبِهِ عَلَيْهِ ; فَفَحْوَاهُ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِذَا نَسَخَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ لَهُ: أَعْطِهِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، وَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا، جَازَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ عِلَّةِ حِرْمَانِ زِيدٍ، إِلَى عِلَّةِ إِعْطَائِهِ، وَمُوَاسَاتِهِ، وَالتَّوْقِيرِ لَهُ، لِزَوَالِ غَضَبِهِ عَلَيْهِ، وَبَرَاءَةِ سَاحَتِهِ عِنْدَهُ مِمَّا رُمِيَ بِهِ. وَبِهَذَا يَتَّجِهُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْ عَبْدِ الْجَبَّارِ - أَعْنِي: مُجْمَلَهُمَا عَلَى حَالَيْنِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 339