الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلَا يَفْتَقِرُ قَضَاؤُهُ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ، خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ وَالْأَكْثَرِينَ.
لَنَا: اسْتِصْحَابُ حَالِ شَغْلِ الذِّمَّةِ إِلَّا بِامْتِثَالٍ أَوْ إِبْرَاءٍ.
قَالُوا: الْمُوَقَّتُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ ; فَالْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ أَمْرًا بِالْآخَرِ.
قُلْنَا: بَلْ مُقْتَضَى الْمُوَقَّتِ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ، بَقِيَ وُجُوبُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ.
ــ
الْمَسْأَلَةُ: «السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ
، وَلَا يَفْتَقِرُ قَضَاؤُهُ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ» ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، «خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ، وَالْأَكْثَرِينَ» ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ، عِنْدَ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: مَا إِذَا أَمَرَ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا، فَلَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ; فَهَلْ تَسْقُطُ بِذَلِكَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَيَتَوَقَّفُ وُجُوبُ قَضَائِهَا عَلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ؟
أَوْ لَا تَسْقُطُ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهَا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، الَّذِي وَجَبَتْ بِهِ صَلَاةُ الْفَجْرِ فِي وَقْتِهَا؟
أَوْ يَجِبُ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ، كَمَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ؟
يُرِيدُ بِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عُهِدَ مِنْهُ إِيثَارُ اسْتِدْرَاكِ عُمُومِ الْمَصَالِحِ الْفَائِتَةِ، عَلِمْنَا مِنْ عَادَتِهِ بِذَلِكَ، أَنَّهُ يُؤْثِرُ اسْتِدْرَاكَ الْوَاجِبِ الْفَائِتِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، بِقَضَائِهِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي ; فَكَانَ هَذَا ضَرْبًا مِنَ الْقِيَاسِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: اسْتِصْحَابُ حَالِ شَغْلِ الذِّمَّةِ، إِلَّا بِامْتِثَالٍ، أَوْ إِبْرَاءٍ» . هَذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
دَلِيلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَسْقُطُ بِتَرْكِهِ فِي وَقْتِهِ، وَأَنَّ قَضَاءَهُ بَعْدَهُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الذِّمَّةَ إِذَا اشْتَغَلَتْ بِوَاجِبٍ لِلشَّرْعِ، أَوْ لِآدَمِيٍّ، لَمْ تَبْرَأْ مِنْهُ إِلَّا بِالِامْتِثَالِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ، أَوْ إِبْرَاءٌ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ لِلْوَاجِبِ، بِأَنْ يَقُولَ الشَّرْعُ: نَسَخْتُ عَنْكَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ، أَوِ الْآدَمِيُّ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَتِ الذِّمَّةُ مَشْغُولَةً بِالْوَاجِبِ، مَا لَمْ يُوجَدْ أَدَاءٌ لَهُ، أَوْ إِبْرَاءٌ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ ; فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ بِالْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ فِي وَقْتِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَدَاءٌ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ إِبْرَاءٌ ; فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ ; فَتَكُونُ بَرَاءَتُهَا مِنْهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْأَدَاءِ، أَوِ الْإِبْرَاءِ، لَكِنَّ الْإِبْرَاءَ صَارَ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَنِ الْوَحْيِ مُمْتَنِعًا ; فَتَعَيَّنَ الْأَدَاءُ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، لَكِنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ اصْطِلَاحًا قَدْ فَاتَ بِالتَّأْخِيرِ ; فَتَعَيَّنَ الْقَضَاءُ فِيمَا بَعْدَهُ، لِإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْمُؤَقَّتُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ ; فَالْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ أَمْرًا بِالْآخَرِ» .
هَذَا حُجَّةُ الْخَصْمِ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مَثَلًا: صَلِّ فِي هَذَا الْوَقْتِ، أَمْرٌ مُقَيَّدٌ بِزَمَانٍ. وَقَوْلُهُ: اقْضِ هَذَا الْفَائِتَ، أَمْرٌ مُطْلَقٌ، لَا تَقْيِيدَ فِيهِ، وَالْمُقَيَّدُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ ; فَالْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا، أَيْ: بِالْمُقَيَّدِ، لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْآخَرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعِبَادَةِ بِالْوَقْتِ، كَتَخْصِيصِ الْفِعْلِ بِمَكَانٍ، أَوْ شَخْصٍ، أَوْ جِهَةٍ ; فَتَخْصِيصُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتِ الزَّوَالِ، وَشَهْرِ رَمَضَانَ، كَتَخْصِيصِ الْحَجِّ بِمَكَّةَ، وَالزَّكَاةِ بِالْمَسَاكِينِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالْقَتْلِ بِالْكُفَّارِ، وَالصَّلَاةِ بِالْقِبْلَةِ. ثُمَّ إِنَّ مَا عُلِّقَ بِمَكَانٍ، أَوْ شَخْصٍ، أَوْ جِهَةٍ، لَا يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِ ; فَلَا يَجُوزُ الْحَجُّ فِي غَيْرِ مَكَّةَ، وَلَا صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَى غَيْرِ أَصْنَافِهَا الْمَذْكُورَةِ، وَلَا قَتْلُ غَيْرِ مَنْ خُصَّ الْقَتْلُ بِهِ، مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْعُصَاةِ، وَلَا الصَّلَاةُ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ ; فَكَذَلِكَ مَا عُلِّقَ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، لَا يُعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، إِلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا جَوَابُ دَلِيلِ الْخَصْمِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُؤَقَّتَ غَيْرُ الْمُطْلَقِ، بَلِ الْمُطْلَقُ جُزْءُ الْمُؤَقَّتِ، عَلَى مَا قَرَّرْتُمُوهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ، اقْتَضَى الْإِتْيَانَ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْوَاجِبُ، وَهُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ مَثَلًا.
وَالثَّانِي: إِيقَاعُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ، بِالتَّأْخِيرِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ اقْتَضَاهُمَا الْأَمْرُ بَقِيَ وُجُوبُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْآخَرُ ; فَيَأْتِي بِهِ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ، لِاسْتِحَالَةِ إِيقَاعِهِ فِي غَيْرِ زَمَانٍ، حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ إِيقَاعُهُ لَا فِي زَمَانٍ، لَمَا أَوْجَبْنَا إِلَّا حَقِيقَةَ الْفِعْلِ مُجَرَّدَةً ; لِأَنَّهَا الْبَاقِي فِي الذِّمَّةِ مِنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ، وَصَارَ هَذَا تَخْصِيصًا ضَرُورِيًّا ; فَهُوَ كَالتَّخْصِيصِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ الْعَامَّ إِذَا خُصَّ مِنْهُ صُورَةٌ بِدَلِيلٍ، وَجَبَ امْتِثَالُهُ فِيمَا عَدَا مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَكَمَا لَوْ أُمِرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمَيْنِ ; فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَيْنِ ; فَمَاتَ أَحَدُهُمَا ; لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ، وَيُعْتِقَ الْبَاقِيَ، بِمُوجِبِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ تَعَلُّقَ الْفِعْلِ بِالزَّمَانِ، عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْمَكَانِ، وَالشَّخْصِ، وَالْجِهَةِ ; فَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّمَانَ حَقِيقَةٌ سَيَّالَةٌ، غَيْرُ قَارَّةٍ ; فَالْمُتَأَخِّرُ مِنْهُ تَابِعٌ لِلْمُتَقَدِّمِ ; فَمَا ثَبَتَ فِيهِ، ثَبَتَ فِيمَا بَعْدَهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ ; بِخِلَافِ الْأَمْكِنَةِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْجِهَاتِ ; فَإِنَّهَا حَقَائِقُ قَارَّةٌ، لَيْسَ بَعْضُهَا تَابِعًا لِبَعْضٍ، حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِبَعْضِهَا مَا تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ.
قُلْتُ: فَتَلْخِيصُ مَأْخَذِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّنَا نَحْنُ نَقُولُ: الْوَاجِبُ الْوَاقِعُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ، هُوَ جُزْءُ الْوَاجِبِ فِي زَمَنِ الْأَدَاءِ، وَالْخَصْمُ يَقُولُ: هُوَ غَيْرُهُ. وَقَدْ بَانَ تَقْرِيرُ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.