الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقَوْلُ فِي النَّسْخِ
وَهُوَ لُغَةً: الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالرِّيحُ الْأَثَرَ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُشْبِهُ النَّقْلَ، نَحْوَ نَسَخْتُ الْكِتَابَ، وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الرَّفْعِ.
وَشَرْعًا: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمَ، زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، وَهُوَ حَدٌّ لِلنَّاسِخِ لَا لِلنَّسْخِ، لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ.
وَقِيلَ: هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ، بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ.
فَالرَّفْعُ: إِزَالَةُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَبَقِيَ ثَابِتًا، كَرَفْعِ الْإِجَارَةِ بِالْفَسْخِ ; فَإِنَّهُ يُغَايِرُ زَوَالَهَا بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا. وَبِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ حُكْمِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، إِذْ لَيْسَ بِنَسْخٍ. وَبِخِطَابٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ ; فَلَيْسَ بِنَسْخٍ. وَاشْتِرَاطُ التَّرَاخِي احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِمُتَّصِلٍ، كَالشَّرْطِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَنَحْوِهِ ; فَإِنَّهُ بَيَانٌ لَا نَسْخٌ.
وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ: رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، بِمِثْلِهِ، مُتَرَاخٍ عَنْهُ. لِيَدْخُلَ مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ، أَوْ إِقْرَارٍ ; فِيهِمَا.
ــ
«الْقَوْلُ فِي النَّسْخِ: وَهُوَ لُغَةً» - أَيْ: فِي اللُّغَةِ - الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، أَيْ: رَفَعَتْهُ وَأَزَالَتْهُ ; لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا قَابَلَتْ مَوْضِعَ الظِّلِّ، ارْتَفَعَ وَزَالَ، وَالرِّيحَ إِذَا مَرَّتْ عَلَى آثَارِ الْمَشْيِ، ارْتَفَعَتْ وَزَالَتْ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ يُرَادُ بِهِ» ، أَيْ: بِالنَّسْخِ، مَا يُشْبِهُ النَّقْلَ نَحْوَ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ، فَإِنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ لَيْسَ نَقْلًا لِمَا فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهُ حَقِيقَةً، لِبَقَائِهِ بَعْدَ النَّسْخِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَإِنَّمَا هُوَ مُشْبِهٌ لِلنَّقْلِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا فِي الْأَصْلِ صَارَ مِثْلَهُ فِي الْفَرْعِ، لَفْظًا وَمَعْنًى.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ، وَهُوَ انْتِقَالُ حَالِهَا بِانْتِقَالِهَا مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، مَعَ بَقَاءِ الْمَوَارِيثِ فِي نَفْسِهَا.
قَوْلُهُ: «وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ» ، أَيِ: اخْتُلِفَ فِي النَّسْخِ، فِي أَيِّ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ حَقِيقَةٌ، هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، أَوْ فِي النَّقْلِ وَمَا يُشْبِهُهُ؟ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: عَكْسُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّقْلِ، مَجَازٌ فِي الْإِزَالَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ. ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَأَصْحَابَهَا الْآمِدِيُّ.
قَوْلُهُ: «وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الرَّفْعِ» ، أَيِ: الْأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ النَّسْخَ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ التَّعَارُضَ فِي الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، قَدْ وَقَعَ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ الْمَجَازِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَجَازَ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ ; فَيَبْقَى الْأَمْرُ دَائِرًا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، أَوْ فِي الْعَكْسِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الرَّفْعَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْلِ ; فَيَكُونُ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ النَّسْخِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَمَّا أَنَّ الرَّفْعَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْلِ ; فَلِأَنَّ الرَّفْعَ يَسْتَلْزِمُ النَّقْلَ، وَالنَّقْلَ لَا يَسْتَلْزِمُ الرَّفْعَ ; فَيَكُونُ الرَّفْعُ أَخَصَّ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْجَوَاهِرِ الْمَحْسُوسَةِ ; فَإِنَّكَ إِذَا رَفَعْتَ حَجَرًا مِنْ مَكَانٍ، اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ نَقْلَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَزُولَ عَنْ مَكَانِهِ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ، بِأَنْ يُعْدِمَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى، وَيَقُولَ لَهُ: كُنْ عَدَمًا ; فَيَكُونَ، مَعَ أَنَّهُ لَا رَفْعَ هُنَاكَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا رَفْعَ هُنَاكَ، بَلْ هُنَاكَ رَفْعٌ إِلَهِيٌّ غَيْرُ مَحْسُوسٍ.
وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّفْعُ أَخَصَّ، كَانَ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ ; فَلِأَنَّ الْأَخَصَّ أَبْيَنُ وَأَدَلُّ وَأَوْضَحُ ; فَيَكُونُ بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَدُلُّ بِدُونِ قَرِينَةٍ، وَذَلِكَ لِوُضُوحِهَا، بِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِمَعْنَاهَا ; فَحَصَلَ بِذَلِكَ التَّنَاسُبُ فِي الْوُضُوحِ بَيْنَ الْأَخَصِّ وَالْحَقِيقَةِ ; فَكَانَ بِهَا أَوْلَى.
وَقَدْ يُعَارَضُ هَذَا بِأَنَّ الْأَعَمَّ أَكْثَرُ فَائِدَةٍ ; فَيَكُونُ أَوْلَى ; بِأَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي اللَّفْظِ.
أَمَّا أَنَّ الْأَعَمَّ أَكْثَرُ فَائِدَةً ; فَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ مِنَ الْأَفْرَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْمَلُهُ الْأَخَصُّ، كَالْحَيَوَانِ الَّذِي يَشْمَلُ مِنَ الْأَفْرَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْمَلُهُ الْإِنْسَانُ ; فَيَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً بِالضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ فَائِدَةً، كَانَ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ ; فَلِأَنَّ الْأَلْفَاظَ وُضِعَتْ لِإِفَادَةِ الْمَعَانِي ; فَكُلَّمَا كَانَتْ إِفَادَتُهَا لِلْمَعَانِي أَكْثَرَ، كَانَتْ بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى.
فَإِذَا عَرَفْتَ مَا عَلَى الْمُخْتَارِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» مِنَ التَّوْجِيهِ وَالِاعْتِرَاضِ ; فَالتَّحْقِيقُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ:
الْإِزَالَةُ وَالنَّقْلُ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ مُتَرَادِفَانِ ; فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: النَّسْخُ: الْإِزَالَةُ، وَالنَّسْخُ: النَّقْلُ. أَوْ يَكُونَا مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; فَتَكُونُ الْإِزَالَةُ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ النَّسْخِ مِنَ النَّقْلِ ; لِأَنَّهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَوْفَقُ لِكَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ ; إِذْ كَانَ تَرْجِيحًا بِالْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ عُمُومُ اللَّفْظِ وَخُصُوصُهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ التَّعَارُضُ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ; فَيَرْجِعُ إِلَى التَّرْجِيحِ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ أَنَّ النَّسْخَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَانْتَسَخَتْهُ: أَزَالَتْهُ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ آثَارَ الدِّيَارِ: غَيَّرَتْهَا، وَنَسَخْتُ الْكِتَابَ وَانْتَسَخْتُهُ وَاسْتَنْسَخْتُهُ: كُلُّهُ بِمَعْنًى، وَنَسْخُ الْآيَةِ بِالْآيَةِ: إِزَالَةُ مِثْلِ حُكْمِهَا ; فَالثَّانِيَةُ نَاسِخَةٌ، وَالْأُولَى مَنْسُوخَةٌ، وَالتَّنَاسُخُ فِي الْمِيرَاثِ: أَنْ يَمُوتَ وَرَثَةٌ بَعْدَ وَرَثَةٍ، وَأَصْلُ الْمِيرَاثِ قَائِمٌ لَمْ يُقَسَّمْ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِلَفْظِ الْإِزَالَةِ.
قُلْتُ: وَإِنْ جَعَلَ النَّسْخَ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ وَالنَّقْلِ وَمَا يُشْبِهُهُ، وَهُوَ التَّغْيِيرُ، كَانَ أَوْلَى. وَقَدْ صَرَّحَ الْجَوْهَرِيُّ بِلَفْظِ التَّغْيِيرِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَدْ أَطَلْتُ الْكَلَامَ فِي هَذَا، وَهُوَ مِنْ رِيَاضِيَّاتِ هَذَا الْعِلْمِ، لَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ.
قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا» ، أَيْ: وَالنَّسْخُ فِي الشَّرْعِ، قَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمَ زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ حَدٌّ لِلنَّاسِخِ، لَا لِلنَّسْخِ» ، أَيْ: تَعْرِيفُ النَّسْخِ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ، إِلَى آخِرِهِ، غَيْرُ مُطَابِقٍ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ نَاسِخٌ، لَا نَسْخٌ، وَلِأَنَّ النَّسْخَ مَصْدَرُ: نَسَخَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَنْسَخُ نَسْخًا، وَالْخِطَابُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَصْدَرَ خَاطَبَ خِطَابًا، حَتَّى يَكُونَ تَعْرِيفُ مَصْدَرٍ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ مُطَابِقٌ فِي اللَّفْظِ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ الْقَوْلُ الدَّالُّ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: «لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ» ، أَيْ: تَعْرِيفُ النَّسْخِ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمُ: الْخِطَابُ الدَّالُّ ; لِأَنَّ النَّاسِخَ يَسْتَلْزِمُ النَّسْخَ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ، أَوِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَكَانِ: أَنَّ النَّسْخَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْإِضَافِيَّةِ، الَّتِي يَدُلُّ اللَّفْظُ مِنْهَا عَلَى مُتَعَلِّقَاتٍ لَهُ ; فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَاسِخٍ، وَمَنْسُوخٍ، وَمَنْسُوخٍ لَهُ، وَمَنْسُوخٍ بِهِ، وَنَسْخٍ ; فَيَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ حَقَائِقِ هَذِهِ الْأُمُورِ، لِيَتَمَيَّزَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
فَالنَّاسِخُ فِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ اللَّهُ سبحانه وتعالى ; لِأَنَّهُ الرَّافِعُ لِلْأَحْكَامِ، وَالْمُزِيلُ لَهَا، وَيُطْلَقُ النَّاسِخُ مَجَازًا عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي يُزِيلُ اعْتِبَارَ لَفْظِ غَيْرِهِ، وَعَلَى الْحُكْمِ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ تِلْكَ، وَهَذَا الْحُكْمُ نَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمَ، كَمَا يُقَالُ: وُجُوبُ التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ نَسَخَ وُجُوبَ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَالْمَنْسُوخُ هُوَ الْحُكْمُ الْمُرْتَفِعُ بِغَيْرِهِ كَالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَالْمَنْسُوخُ لَهُ عِلَّةُ النَّسْخِ، وَهُوَ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْحِكْمَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لَهُ، أَوْ إِرَادَةُ اللَّهِ سبحانه وتعالى لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ، فَإِنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ سبحانه وتعالى عِلَّةٌ بَعِيدَةٌ، وَالْحِكْمَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلنَّسْخِ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ.
وَالْمَنْسُوخُ بِهِ هُوَ اللَّفْظُ، وَالْحُكْمُ الرَّافِعُ لِغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الْبَقَرَةِ: 144] ، الدَّالِّ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهَذَا الْمَنْسُوخُ بِهِ، هُوَ الَّذِي سَبَقَ أَنَّهُ يُسَمَّى نَاسِخًا مَجَازًا.
وَالنَّسْخُ نِسْبَةٌ بَيْنَ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِخِ الْمَنْسُوخَ بِهِ، فِي إِزَالَةِ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ.
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، عَرَفْتَ أَنَّ تَعْرِيفَ النَّسْخِ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ تَعْرِيفٌ لِلنَّسْخِ بِالنَّاسِخِ، وَلَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ، لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ» ، أَيْ، فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ:«هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ، بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ» . هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِلنَّسْخِ، مُطَابِقٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ; لِأَنَّ الرَّافِعَ مَصْدَرٌ، كَمَا أَنَّ النَّسْخَ مَصْدَرٌ وَلَيْسَ هَذَا تَعْرِيفًا لِلنَّسْخِ بِالنَّاسِخِ.
وَقَوْلُهُ: «بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ» ، هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّابِتِ.
وَقَوْلُهُ: «بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ» ، مُتَعَلِّقٌ بِرَفْعِ الْحُكْمِ.
وَتَقْرِيرُهُ النَّسْخَ: هُوَ أَنْ يُرْفَعَ بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ.
ثُمَّ فَسَّرَ الرَّفْعَ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَبَقِيَ ثَابِتًا، كَرَفْعِ الْإِجَارَةِ بِالْفَسْخِ ; فَإِنَّهُ يُغَايِرُ زَوَالَهَا بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا ; لِأَنَّ فَسْخَهَا قَطْعٌ لِدَوَامِهَا، لِسَبَبٍ خَفِيٍّ عَنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَانْقِضَاءُ مُدَّتِهَا هُوَ ارْتِفَاعُ حُكْمِهَا لِسَبَبٍ عَلِمَاهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْأَجَلِ ; فَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً، عَلِمَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ أَنَّ عِنْدَ انْتِهَاءِ السَّنَةِ، يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ، وَلَوِ انْقَطَعَ مَاءُ الْأَرْضِ، أَوْ بَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ ; فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ، مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بِانْقِطَاعِ مَاءِ الْأَرْضِ، وَاسْتِحْقَاقِهَا ; فَكَذَلِكَ نَسْخُ الْحُكْمِ، هُوَ قَطْعٌ لِدَوَامِهِ، لَا بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّتِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى نَسْخًا، كَمَا أَنَّ انْقِضَاءَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ لَا يُسَمَّى فَسْخًا.
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ النَّسْخَ لَوْ كَانَ قَطْعًا لِدَوَامِ الْحُكْمِ، لَلَزِمَ مِنْهُ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ قَطْعًا لِدَوَامِ الْحُكْمِ ; إِلَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَمِرًّا فِي عِلْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، كَمَا لَا يَكُونُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ قَطْعًا لِدَوَامِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً بِحُكْمِ الْعَقْدِ إِلَى آخِرِ الْمُدَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَمِرًّا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ انْقَطَعَ قَبْلَ غَايَتِهِ بِالنَّسْخِ، لَزِمَ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ ; لِأَنَّهُ سبحانه وتعالى يَكُونُ قَدْ عَلِمَهُ مُسْتَمِرًّا، وَمَا اسْتَمَرَّ، بَلِ انْقَطَعَ بِالنَّسْخِ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ وُقُوعُ خِلَافِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَلِهَذَا فَرَّ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَجَمَاعَةٌ، إِلَى أَنْ قَالُوا: النَّسْخُ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ.
وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي «الْمَعَالِمِ» ، وَحَكَاهُ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ. وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ النَّسْخَ تَخْصِيصًا زَمَانِيًّا، أَيْ: أَنَّ الْخِطَابَ الثَّانِيَ بَيَّنَ أَنَّ الْأَزْمِنَةَ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهَا مُرَادًا مِنَ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْأَعْيَانِ كَذَلِكَ، وَرُبَّمَا وَقَعَ التَّعَرُّضُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَبِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ احْتِرَازٌ» ، إِلَى آخِرِهِ هَذَا بَيَانُ احْتِرَازَاتٍ وَقَعَتْ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَحَدُهَا: قَوْلُنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ حُكْمِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ، كَمَا نَقُولُ: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ; فَهَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، فَإِذَا أَثْبَتْنَا فِي الذِّمَّةِ حَقًا بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ; فَقَدْ رَفَعْنَا حُكْمَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَشَغَلْنَاهَا بِالْحَقِّ، مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَرْفُوعَ هَاهُنَا لَيْسَ ثَابِتًا بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ، بَلْ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ. وَمَعْنَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ: هُوَ الْبَقَاءُ عَلَى حُكْمِ الْعَدَمِ فِي الْمُحْدَثَاتِ قَبْلَ وُجُودِهَا.
الِاحْتِرَازُ الثَّانِي: قَوْلُنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ، أَوْ جُنَّ، انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ التَّكْلِيفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ انْقِطَاعَ الْأَحْكَامِ عَنْهُمَا لَمْ يَكُنْ بِخِطَابٍ، وَكَذَلِكَ ارْتِفَاعُ حُكْمِ الصَّوْمِ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ، وَحُكْمِ الْفِطْرِ بِمَجِيءِ النَّهَارِ لَيْسَ نَسْخًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْخِطَابِ، بَلْ بِانْتِهَاءِ غَايَةِ الْحُكْمِ، وَانْقِضَاءِ وَقْتِهِ، وَيَلْزَمُ مَنْ عَرَّفَ النَّسْخَ بِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ، أَنْ يَجْعَلَ دُخُولَ اللَّيْلِ نَسْخًا لِلصَّوْمِ ; لِأَنَّ بِدُخُولِهِ بَانَ انْتِهَاءُ مُدَّةِ الصَّوْمِ، لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ الْأُصُولِيُّونَ ذَلِكَ نَسْخًا.
الِاحْتِرَازُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ التَّرَاخِي فِي الْخِطَابِ الرَّافِعِ، حَيْثُ قُلْنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ مُتَّصِلٍ، كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، نَحْوُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ «إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ» قَدْ رَفَعَ حُكْمَ عُمُومِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً، هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ رَفَعَ عُمُومَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، حَتَّى رَدَّهُ إِلَى اثْنَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تَعَالَى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ; فَالْغَايَةُ الْمَذْكُورَةُ رَفَعَتْ عُمُومَ التَّحْرِيمِ ; فَهَذَا كُلُّهُ وَأَمْثَالُهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ رَفْعًا لِحُكْمٍ بِخِطَابٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ غَيْرُ مُتَرَاخٍ ; فَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: فَإِنَّهُ بَيَانٌ لَا نَسْخٌ ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَالْأَجْوَدُ» ، أَيْ: فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ، «أَنْ يُقَالَ: رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، بِمِثْلِهِ مُتَرَاخٍ عَنْهُ» ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَجْوَدَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فِيهِمَا، أَيْ: فِي الْمَنْسُوخِ وَالنَّاسِخِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ تَارَةً بِالْخِطَابِ، وَتَارَةً بِمَا قَامَ مَقَامَ الْخِطَابِ، وَرَفَعَ ذَلِكَ، وَالرَّفْعُ بِهِ يُسَمَّى نَسْخًا، وَلَوِ اقْتَصَرْنَا عَلَى قَوْلِنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ، لَخَرَجَ مِنْهُ مَا ثَبَتَ بِغَيْرِ الْخِطَابِ، كَالْإِشَارَةِ، وَالْفِعْلِ، وَالْإِقْرَارِ، أَعْنِي: التَّقْرِيرَ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ السُّنَّةِ، كَمَا سَبَقَ فِيهَا ; فَلَا يَكُونُ الْحَدُّ جَامِعًا.
قَوْلُهُ: «بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ بِمِثْلِهِ» ، أَيْ: بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مِثْلِهِ، وَالْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ هَهُنَا، كَالْقَوْلِ فِيهِ فِي التَّعْرِيفِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَنَّ «بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ» يَتَعَلَّقُ بِالثَّابِتِ، وَبِمِثْلِهِ يَتَعَلَّقُ «بِرَفْعٍ» .
فَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ النَّسْخَ: هُوَ أَنْ يُرْفَعَ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ.
وَاخْتَارَ لَفْظَ الطَّرِيقِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي «الْمَحْصُولِ» ; لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْخِطَابِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ التَّرَاخِي فِي النَّسْخِ ; فَفَائِدَتُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْ تَهَافُتِ الْكَلَامِ وَتَنَاقُضِهِ فِي قَوْلِهِ الْقَائِلِ: افْعَلْ، لَا تَفْعَلْ. وَصَلِّ، لَا تُصَلِّ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي النَّسْخِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَنَّهُ خِطَابُ الشَّارِعِ، الْمَانِعُ مِنِ اسْتِمْرَارِ مَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ خِطَابٍ شَرْعِيٍّ سَابِقٍ.
قُلْتُ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ، مِنْ عَدَمِ الْجَمْعِ بِاسْتِعْمَالِ خُصُوصِ لَفْظِ الْخِطَابِ، دُونَ عُمُومِ لَفْظِ الطَّرِيقِ.
وَأُورِدُ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِالرَّفْعِ: أَنَّ الْحُكْمَ ; إِمَّا ثَابِتٌ ; فَلَا يَرْتَفِعُ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ ; فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّفْعِ، وَلِأَنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ ; فَلَا يَرْتَفِعُ. وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَسَنًا ; فَرَفْعُهُ قَبِيحٌ، وَيُوجِبُ انْقِلَابَ الْحَسَنِ قَبِيحًا، وَإِلَّا فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ. وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ مُرَادًا غَيْرَ مُرَادٍ ; فَيَتَنَاقَضُ. وَلِأَنَّهُ يُوهِمُ الْبَدَاءَ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّهُ ثَابِتٌ، وَارْتِفَاعُهُ بِالنَّاسِخِ مَعَ إِرَادَةِ الشَّارِعِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَطْعًا. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ سَاقِطٌ عَنَّا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَعْرِيفِهِ بِالْخِطَابِ الْقَدِيمِ: إِنَّ الْمُرْتَفِعَ التَّعَلُّقُ. أَوْ: إِنَّ مَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ لَازِمًا لِلْمُكَلَّفِ، زَالَ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ حُسْنُهُ شَرْعِيٌّ ; فَيَجُوزُ وَجُودُهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ; فَإِذَنِ انْقِلَابُهُ قَبِيحًا مُلْتَزَمٌ. وَالتَّنَاقُضُ مُنْدَفِعٌ بِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِهِ قَبْلَ النَّسْخِ، وَبِعَدَمِهِ بَعْدَهُ. وَالْبَدَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ، لِلْقَطْعِ بِكَمَالِ عَلَمِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ تَارَةً ; فَأَثْبَتَهُ، وَالْمَفْسَدَةَ تَارَةً ; فَنَفَاهُ، رِعَايَةً لِلْأَصْلَحِ، تَفَضُّلًا مِنْهُ لَا وُجُوبًا، أَوِ امْتِحَانًا لِلْمُكَلَّفِينَ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
ــ
قَوْلُهُ: «وَأُورِدُ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِالرَّفْعِ» ، إِلَى آخِرِهِ. مَعْنَاهُ أَنْ تَعْرِيفَ النَّسْخِ بِأَنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ، يَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالَاتٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ قَبْلَ النَّسْخِ إِمَّا ثَابِتٌ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا، لَمْ يُمْكِنْ رَفْعُهُ بِالنَّاسِخِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْحُكْمِ الطَّارِئِ، بِأَوْلَى مِنِ انْدِفَاعِ الطَّارِئِ بِالثَّابِتِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِاسْتِقْرَارِ الثَّابِتِ وَتَمَكُّنِهِ ; فَيَكُونُ النَّاسِخُ الطَّارِئُ دَخِيلًا عَلَيْهِ، بِمَثَابَةِ الْغَرِيبِ إِذَا دَخَلَ غَيْرَ وَطَنِهِ ; فَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ صَاحِبِ الْوَطَنِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الرَّفْعِ، بَلْ هُوَ مُرْتَفِعٌ بِنَفْسِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ خِطَابَ اللَّهِ سبحانه وتعالى قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمُ لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ ; لِأَنَّ الرَّفْعَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نَقْلٌ، وَإِزَالَةٌ، وَتَغْيِيرٌ كَمَا سَبَقَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى الْقَدِيمِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا، امْتَنَعَ رَفْعُهُ، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَفْعَ الْحَسَنِ قَبِيحٌ.
الثَّانِي: أَنَّ رَفْعَهُ يُوجِبُ انْقِلَابَ الْحَسَنِ قَبِيحًا، إِذْ لَوْلَا قُبْحُهُ لَمَا رُفِعَ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ قَبْلَ رَفْعِهِ حَسَنٌ ; فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ انْقِلَابُ الْحَسَنِ قَبْلَ النَّسْخِ قَبِيحًا بَعْدَهُ، لَكِنَّ هَذَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا ; فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ مِنْ رَفْعِ الْحَسَنِ ; لِأَنَّ رَفْعَ الْحَسَنِ هُوَ تَفْوِيتُ خَيْرٍ، وَشَرْعَ الْقَبِيحِ إِيقَاعُ شَرٍّ، وَهُوَ أَقْبَحُ ; لِأَنَّ إِيقَاعَ الشَّرِّ مُضِرٌّ، وَتَفْوِيتَ الْخَيْرِ قَدْ لَا يَضُرُّ.
الرَّابِعُ: أَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُرَادًا لِلَّهِ عز وجل، غَيْرَ مُرَادٍ لَهُ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهُ، قَدْ أَمَرَ بِهِ وَأَرَادَهُ، وَمِنْ حَيْثُ رَفَعَهُ، قَدْ نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يُرِدْهُ ; فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، غَيْرَ مُرَادٍ.
الْخَامِسُ: أَنَّ النَّسْخَ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ بَدَا لَهُ مَا كَانَ خَفِيٌّ عَنْهُ، حَتَّى نَهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ، أَوْ أَمَرَ بِمَا نَهَى عَنْهُ، لَكِنَّ الْبَدَاءَ عَلَى الشَّارِعِ مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ أَجْوِبَةُ الْإِشْكَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ قَوْلُهُمُ: الْحُكْمُ إِمَّا ثَابِتٌ ; فَلَا يَرْتَفِعُ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّفْعِ - هُوَ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ ثَابِتٌ، لَكِنَّ ارْتِفَاعَهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَطْعًا ; إِمَّا بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ، كَمَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَأَصْحَابُهُ، أَوْ بِالنَّاسِخِ مَعَ إِرَادَةِ الشَّارِعِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُمْ: لَيْسَ ارْتِفَاعُ الثَّابِتِ بِالطَّارِئِ أَوْلَى مِنِ انْدِفَاعِ الطَّارِئِ بِالثَّابِتِ.
قُلْنَا: بَلْ هَذَا أَوْلَى لِقُوَّةِ الْوَارِدِ، وَلِهَذَا يَتَأَثَّرُ الْمَاءُ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ، دُونَ وُرُودِهِ عَلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ «عَنِ الثَّانِي» - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ فَلَا يَرْتَفِعُ -: هُوَ أَنَّهُ سَاقِطٌ عَنَّا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، بِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْخِطَابِ، لَا نَفْسُ الْخِطَابِ ; فَالْمُرْتَفِعُ بِالنَّسْخِ مُقْتَضَى الْخِطَابِ الْقَدِيمِ، لَا نَفْسُ الْخِطَابِ الْقَدِيمِ.
قَوْلُهُ: «وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَعْرِيفِهِ بِالْخِطَابِ الْقَدِيمِ» . إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَإِنْ عَرَّفْنَا الْحُكْمَ بِالْخِطَابِ الْقَدِيمِ ; فَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرْتَفِعَ بِالنَّسْخِ تَعَلُّقُ الْخِطَابِ بِالْمُكَلَّفِ، لَا نَفْسُ الْخِطَابِ، كَمَا يَزُولُ تَعَلُّقُ الْخِطَابِ بِهِ، لِطَرَيَانِ الْعَجْزِ وَالْجُنُونِ، ثُمَّ يَعُودُ التَّعَلُّقُ بِعَوْدِ الْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ، وَالْخِطَابُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَغَيَّرُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: مَعْنَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ: هُوَ أَنَّ مَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ لَازِمًا لِلْمُكَلَّفِ زَالَ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَالٍ، وَلَا مُسْتَلْزِمٍ لِارْتِفَاعِ الْخِطَابِ الْقَدِيمِ، وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ مُتَقَارِبَانِ، أَوْ سِيَّانِ.
وَالْجَوَابُ «عَنِ الثَّالِثِ» - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ كَانَ الْحُكْمُ حَسَنًا ; فَرَفْعُهُ قَبِيحٌ، وَإِلَّا ; فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ -: هُوَ «أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ»
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، «بَلْ حُسْنُهُ» ، أَيْ: حُسْنُ الْحُكْمِ، «شَرْعِيٌّ» ، أَيْ: ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ أَيْضًا، «فَيَجُوزُ وُجُودُهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ» بِاعْتِبَارِ وُرُودِ أَمْرِ الشَّرْعِ بِهِ، وَنَهْيِهِ عَنْهُ، «فَإِذَنِ انْقِلَابُهُ قَبِيحًا مُلْتَزَمٌ» ، أَيْ: فَإِنْ كَانَ حُسْنُ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا كَمَا ذَكَرْنَا ; فَنَحْنُ نَلْتَزِمُ جَوَازَ انْقِلَابِهِ قَبِيحًا، إِذْ مَعْنَاهُ - عَلَى قَوْلِنَا - أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِهَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ، وَلَا مَعْنَى لِحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ عِنْدَنَا إِلَّا هَذَا، وَلَا مَجَالَ فِيهِ ; فَمَعْنَى انْقِلَابِ الْحَسَنِ قَبِيحًا: هُوَ صَيْرُورَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِمَصْلَحَةٍ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ مُرَادًا، غَيْرَ مُرَادٍ ; فَيَتَنَاقَضُ، بِأَنَّ التَّنَاقُضَ مُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِهِ قَبْلَ النَّسْخِ، وَبِعَدَمِهِ بَعْدَهُ، وَالتَّنَاقُضُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ اتِّحَادِ وَقْتِ التَّعَلُّقِ. أَمَّا إِرَادَةُ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ فِي وَقْتَيْنِ ; فَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَامِسِ - وَهُوَ لُزُومُ الْبَدَاءِ - فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْقَطْعِ، أَيْ: لِأَنَّا نَقْطَعُ بِكَمَالِ عَلَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَدَاءُ يُنَافِي كَمَالَ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ الْمَحْضَ ; لِأَنَّهُ ظُهُورُ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَفِيًّا.
وَهُوَ مَصْدَرُ بَدَا يَبْدُو بِدَاءً. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: بَدَا لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَدَاءٌ مَمْدُودٌ، أَيْ: نَشَأَ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ، وَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحَالَةُ الْبَدَاءِ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى ; فَتَوْجِيهُ النَّسْخِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي الْحُكْمِ تَارَةً ; فَأَثْبَتَهُ بِالشَّرْعِ، وَعَلِمَ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ تَارَةً ; فَنَفَاهُ بِالنَّسْخِ، وَلِذَلِكَ فَائِدَتَانِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إِحْدَاهُمَا: رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ لِلْمُكَلَّفِينَ، تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ عز وجل لَا وُجُوبًا.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِينَ بِامْتِثَالِهِمُ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ، خُصُوصًا فِي أَمْرِهِمْ بِمَا كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ، وَنَهْيِهِمْ عَمَّا كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهِ، فَإِنَّ الِانْقِيَادَ لَهُ أَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ:
الْأُولَى: وَقَعَ النِّزَاعُ فِي جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَفِي وُقُوعِهِ، وَالْكُلُّ ثَابِتٌ.
أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْيَهُودِ ; فَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَ الْمَصَالِحِ، وُجُودًا وَعَدَمًا، كَغِذَاءِ الْمَرِيضِ، وَأَيْضًا الْوُقُوعُ لَازِمٌ لِلْجَوَازِ، وَقَدْ حُرِّمَ نِكَاحُ الْأَخَوَاتِ بَعْدَ جَوَازِهِ فِي شَرْعِ آدَمَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بَعْدَ جَوَازِهِ فِي شَرْعِ يَعْقُوبَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ، وَهُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ.
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ ; فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} ، وَنَسْخُ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَخَالَفَ أَبُو مُسْلِمٍ، لِقَوْلِهِ:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذِ الْمُرَادُ لَا يَلْحَقُهُ الْكَذِبُ، ثُمَّ الْبَاطِلُ غَيْرُ الْإِبْطَالِ.
ــ
«ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ» ، أَيْ: لَمَّا فَرَغَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِّ النَّسْخِ، نَذْكُرُ هَهُنَا مَسَائِلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ «الْأُولَى: وَقَعَ النِّزَاعُ» بَيْنَ النَّاسِ فِي «جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَفِي وُقُوعِهِ» ، أَيِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّسْخِ، وَالْخِلَافُ ; إِمَّا فِي جَوَازِهِ، أَوْ فِي وُقُوعِهِ.
وَالْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ ; إِمَّا عَقْلًا، أَوْ شَرْعًا، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، وَوُقُوعِهِ سَمْعًا، إِلَّا الشَّمْعُونِيَّةَ مِنَ الْيَهُودِ ; فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا الْعَنَانِيَّةُ مِنْهُمْ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا جَوَازَ النَّسْخِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
شَرْعًا، لَا عَقْلًا.
قَوْلُهُ: «وَالْكُلُّ ثَابِتٌ» ، أَيْ: جَوَازُ النَّسْخِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَوُقُوعُهُ.
«أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ - خِلَافًا لِبَعْضِ الْيَهُودِ» ، وَهُمُ الشَّمْعُونِيَّةُ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ - «فَدَلِيلُهُ» ، أَيْ: فَدَلِيلُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: «مَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَ الْمَصَالِحِ وُجُودًا وَعَدَمًا» ، أَيْ: يَجُوزُ وُجُودُ الْحُكْمِ لِوُجُودِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَيَنْتَفِي لِانْتِفَائِهَا كَغِذَاءِ الْمَرِيضِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَكَمِّيَّتِهِ، وَزَمَانِهِ، لِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الطَّبِيبَ يَنْهَاهُ الْيَوْمَ عَمَّا يَأْمُرُهُ بِهِ غَدًا، وَيَأْمُرُهُ بِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَتَلْطِيفِهِ الْيَوْمَ، وَيَأْمُرُهُ بِتَكْثِيرِهِ وَتَغْلِيظِهِ غَدًا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ ; فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فِي وَقْتٍ ; فَيُؤْمَرُ بِهِ تَحْصِيلًا لَهَا، وَيَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةٌ فِي وَقْتٍ ; فَيَنْهَى عَنْهُ نَفْيًا لَهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْوُقُوعَ لَازِمٌ لِلْجَوَازِ» ، كَذَا وَقَعَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمٌ لِلْوُقُوعِ ; لِأَنَّ لَازِمَ الشَّيْءِ هُوَ مَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ ذَلِكَ الشَّيْءِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالْجَوَازُ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْوُقُوعِ ; لِأَنَّ الْوُقُوعَ يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْجَوَازِ، إِذْ كُلُّ وَاقِعٍ جَائِزٌ، وَلَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ وَاقِعًا.
وَتَصْحِيحُ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» أَنْ يُقَالَ: الْوُقُوعُ مَلْزُومٌ أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَوَازِ، وَهَذَا هُوَ كَمَالُ الْمُرَادِ بِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمٌ لِلْوُقُوعِ، وَقَدْ وَقَعَ النَّسْخُ ; فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ. وَبَيَانُ وُقُوعِهِ بِصُوَرٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ نِكَاحَ الْأَخَوَاتِ، أَيْ: نِكَاحَ الرَّجُلِ أُخْتَهُ، حُرِّمَ فِي شَرْعِ مُوسَى عليه السلام أَوْ قَبْلَهُ، بَعْدَ أَنْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِ آدَمَ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ حُرِّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِ يَعْقُوبَ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ بِنْتَيْ خَالِهِ رَاحِيلَ وَلِيَا.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النِّسَاءِ: 160]، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ بَعْدَ تَحْلِيلِهِ: هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ، وَحَيْثُ وَقَعَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ وَغَيْرُهَا مِنَ النَّسْخِ، دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا بِالضَّرُورَةِ، هَذَا بَيَانُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.
قَوْلُهُ: «وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ» ، أَيْ: وَأَمَّا الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ ; فَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [الْبَقَرَةِ: 107]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
، وَهُوَ نَصٌّ فِي وُقُوعِ النَّسْخِ. وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى الْآيَةِ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ لُغَةً مِنْ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النَّحْلِ: 101] ، وَتَبْدِيلُ حُكْمِ الْآيَةِ، أَوْ لَفْظِهَا بِغَيْرِهِ، هُوَ النَّسْخُ.
الثَّالِثُ: نَسْخُ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ بِهِ، أَيْ: بِالِاعْتِدَادِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ تَعْتَدُّ حَوْلًا، عَمَلًا بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [الْبَقَرَةِ: 240]، أَيْ: مَتِّعُوهُنَّ مِنْ تَرِكَةِ أَزْوَاجِهِنَّ مَتَاعًا، أَيْ: أَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ إِلَى الْحَوْلِ مَا لَمْ يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الْبَقَرَةِ: 235] ، وَهَذَا نَاسِخٌ مُؤَخَّرٌ فِي التَّنْزِيلِ، مُقَدَّمٌ فِي التِّلَاوَةِ.
الرَّابِعُ: نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَالَ:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [الْبَقَرَةِ: 180] الْآيَةَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 11]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ; فَإِنَّهُ فَصَّلَ فِيهَا حُكْمَ الْمِيرَاثِ، وَنَسَخَ بِهِ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ، أَوْ إِنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ; فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ; فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، وَهُوَ جَوَازُ النَّسْخِ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: «وَخَالَفَ أَبُو مُسْلِمٍ» يَعْنِي: الْأَصْفَهَانِيَّ، فِي جَوَازِ النَّسْخِ شَرْعًا كَمَا حَكَيْنَاهُ، أَيْ: أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ هُوَ الشَّرْعُ، لَا الْعَقْلُ، «لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فُصِّلَتْ: 42] ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ بِشَيْءٍ» ، يَعْنِي: مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ، أَيْ: لَا يَأْتِيهِ الْكَذِبُ، (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يَعْنِي الْكُتُبَ السَّالِفَةَ لَا تُكَذِّبُهُ، بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لَهُ، (وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُزُولِهِ وَانْقِضَاءِ عَصْرِ النُّبُوَّةِ، بِأَنْ يَقَعَ بَعْضُ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْمُخْبَرَاتِ، عَلَى خِلَافِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبْطِلَ مِنْهُ حَقًّا، وَلَا يُحِقَّ مِنْهُ بَاطِلًا. وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9]، قَالَ: حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَزِيدَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بَاطِلًا، أَوْ يُبْطِلَ مِنْهُ حَقًّا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ إِبْطَالِ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْبَاطِلُ غَيْرُ الْإِبْطَالِ» ، هَذَا رَدٌّ آخَرُ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْبَاطِلِ عَنِ الْقُرْآنِ، لَا عَلَى نَفْيِ الْإِبْطَالِ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ لِلْحُكْمِ، لَا بَاطِلٌ لَاحِقٌ بِالْقُرْآنِ، وَلِلَّهِ سبحانه وتعالى أَنْ يُبْطِلَ مِنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ مَا شَاءَ، وَيُثْبِتَ مَا شَاءَ ; فَمَا نَفَتْهُ الْآيَةُ غَيْرُ مَا أَثْبَتْنَاهُ.
وَمَعْنَى إِبْطَالِ الْحُكْمِ بِالنَّسْخِ: أَنَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا صَارَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ يَدَّعِي امْتِنَاعَ النَّسْخِ شَرْعًا دَعْوَى عَامَّةً، وَالْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا، إِنَّمَا تَدُلُّ - لَوْ دَلَّتْ - عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَالدَّعْوَى الْعَامَّةُ لَا تَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ الْخَاصِّ.
ثُمَّ هُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى نَسْخِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، مَعَ أَنَّهَا شَرَائِعُ حَقٍّ صَحِيحَةٌ، لَا يَأْتِيهَا الْبَاطِلُ. فَجَوَابُهُ عَنْهَا هُوَ جَوَابُنَا عَنْ لُحُوقِ النَّسْخِ لِلْقُرْآنِ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ يَجْعَلُ كُلَّ مَا سَمَّاهُ غَيْرُهُ نَسْخًا، مِنْ بَابِ انْتِهَاءِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ وَوُجُودِ غَايَتِهِ، لَا مِنْ بَابِ ارْتِفَاعِهِ بِوُرُودِ مُضَادِّهِ ; فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّ النَّسْخَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ. وَيَعُودُ النِّزَاعُ هُنَا إِلَى النِّزَاعِ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ بِالرَّفْعِ، أَوْ بَيَانِ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ التِّلَاوَةِ، وَالْحُكْمِ، وَإِحْكَامُهُمَا، وَنَسْخُ اللَّفْظِ فَقَطْ وَبِالْعَكْسِ، إِذِ اللَّفْظُ وَالْحُكْمُ عِبَادَتَانِ مُتَفَاصِلَتَانِ ; فَجَازَ نَسْخُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، وَمَنَعَ قَوْمٌ الثَّالِثَ، إِذِ اللَّفْظُ أُنْزِلَ لِيُتْلَى وَيُثَابَ عَلَيْهِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ، وَآخَرُونَ الرَّابِعَ، إِذِ الْحُكْمُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، وَكُلُّ حُكْمٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ قَبْلَ النَّسْخِ لَا بَعْدَهُ. ثُمَّ قَدْ نُسِخَ لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ دُونَ حُكْمِهَا، وَحُكْمُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} دُونَ لَفْظِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ» ، أَيِ: اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا، وَإِحْكَامُهُمَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: إِبْقَاؤُهُمَا مُحْكَمَيْنِ غَيْرَ مَنْسُوخَيْنِ، «وَنَسْخُ اللَّفْظِ فَقَطْ» دُونَ الْمَعْنَى، «وَبِالْعَكْسِ» ، أَيْ: نَسْخُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَهَذِهِ قِسْمَةٌ رُبَاعِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: «إِذِ اللَّفْظُ وَالْحُكْمُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ دُونَ الْآخَرِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ اللَّفْظَ وَالْحُكْمَ عِبَادَتَانِ مُتَفَاصِلَتَانِ، أَيْ: تَنْفَصِلُ إِحْدَاهُمَا فِي التَّعَبُّدِ بِهَا عَنِ الْأُخْرَى فِعْلًا ; فَجَازَ نَسْخُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَفَاصِلَةِ.
وَبَيَانُ تَفَاصُلِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، هُوَ أَنَّ اللَّفْظَ مُتَعَبَّدٌ بِتِلَاوَتِهِ، وَالْحُكْمَ مُتَعَبَّدٌ بِامْتِثَالِهِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا بِتَفَاصُلِهِمَا، لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا يُمْكِنُ انْفِصَالُهُ عَنِ الْآخَرِ حِسًّا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «وَمَنَعَ قَوْمٌ الثَّالِثَ» ، وَهُوَ نَسْخُ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّفْظَ أُنْزِلَ لِيُتْلَى، وَيُثَابَ عَلَيْهِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ، أَيْ: فَلَوْ رُفِعَ، لَانْتَفَتْ حِكْمَةُ إِنْزَالِهِ.
قَوْلُهُ: «وَآخَرُونَ» ، أَيْ: وَمَنَعَ آخَرُونَ «الرَّابِعَ» ، وَهُوَ نَسْخُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحُكْمَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ الْمَدْلُولُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ، أَيْ: لَوْ رُفِعَ الْحُكْمُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ، وَهُوَ اللَّفْظُ، لَبَقِيَ الدَّلِيلُ بِلَا مَدْلُولٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ عَبَثٌ، إِذْ فَائِدَةُ الدَّلِيلِ الدَّلَالَةُ ; فَلَوْ رُفِعَ مَدْلُولُهُ، لَبَقِيَ عَرِيًّا عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَانْتَفَتْ فَائِدَتُهُ، وَلَا مَعْنَى لِلْعَبَثِ إِلَّا وُجُودُ شَيْءٍ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ» ، أَيْ: عَمَّا احْتُجَّ بِهِ مِنْ مَنْعِ نَسْخِ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ، بِأَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، وَكُلُّ حُكْمٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ.
أَمَّا أَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ ; فَلِأَنَّهُ يَجِبُ تِلَاوَتُهَا فِي الصَّلَاةِ، وَتَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ بِهَا، وَتُسْتَحَبُّ كِتَابَتُهَا، وَالْوُجُوبُ، وَالصِّحَّةُ، وَالِاسْتِحْبَابُ أَحْكَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتِّلَاوَةِ ; فَهِيَ حُكْمٌ أَوْ فِي مَعْنَى الْحُكْمِ.
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ; فَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ ; فَلِمَا سَبَقَ فِي إِثْبَاتِ النَّسْخِ، مِنْ جَوَازِ تَحْرِيمِ الْوَاجِبِ، وَإِيجَابِ الْمُحَرَّمِ، وَكَرَاهَةِ الْمَنْدُوبِ، وَنَدْبِ الْمَكْرُوهِ، بِنَاءً عَلَى وُرُودِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ بِذَلِكَ، تَحْصِيلًا لِلْمَصَالِحِ، وَدَفْعًا لِلْمَفَاسِدِ، وَتَحْقِيقًا لِلِامْتِحَانِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلٌ مُبْتَدَأٌ عَلَى جَوَازِ مَا مَنَعُوهُ، لَا جَوَابَ عَنْ دَلِيلِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: «أُنْزِلَ اللَّفْظُ لِيُتْلَى ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ؟» فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ، وَلَا اسْتِبْعَادَ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي تِلَاوَتِهِ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوخَةِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «وَعَنِ الثَّانِي» ، أَيْ: وَأُجِيبُ عَنِ الثَّانِي - وَهُوَ دَلِيلُ الْمَانِعِينَ لِنَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُهُمُ: الْحُكْمُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ الْمَدْلُولُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ - بِأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلُ الْحُكْمِ قَبْلَ النَّسْخِ، أَمَّا بَعْدَ النَّسْخِ ; فَلَا يَبْقَى دَلِيلًا عَلَيْهِ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ بَقَاءِ الدَّلِيلِ بِدُونِ مَدْلُولِهِ، بَلْ يَبْقَى عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، يُتْلَى، وَيُصَلَّى بِهِ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَهُ جِهَتَانِ، هُوَ مِنْ إِحْدَاهُمَا دَلِيلٌ عَلَى مَعْنَاهُ، وَمِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى هُوَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَإِذَا انْتَفَتْ جِهَةُ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى مَعْنَاهُ بِنَسْخِهِ، بَقِيَتْ جِهَةُ كَوْنِهِ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَدْ نُسِخَ لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ دُونَ حُكْمِهَا» ، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَحَّ فِي السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ:«لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ» ، «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . فَنُسِخَ لَفْظُهَا، وَبَقِيَ حُكْمُهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فِي رَجْمِ الْمُحْصَنَيْنِ إِذَا زَنَيَا، وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ:«لَوْلَا أَنْ يُقَالَ: زَادَ عُمَرُ فِي الْقُرْآنِ، لَأَثْبَتُّهَا فِي الْمُصْحَفِ،» وَذَلِكَ لِأَنَّ بِنَسْخِ لَفْظِهَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَسْتَحِقَّ أَنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تُثْبَتَ فِي الْمُصْحَفِ، لَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْأَصَالَةِ ; فَهَذَا دَلِيلُ نَسْخِ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ إِنَّمَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِ عليه السلام فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ رضي الله عنه: خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ.
قُلْنَا: بَلْ هَذَا مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَمُعَرِّفٌ أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ. وَقَدْ يُضَعَّفُ هَذَا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَإِثْبَاتِ الرَّجْمِ ابْتِدَاءً، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَأْكِيدِ حُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ مُبَيِّنًا لِلسَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النِّسَاءِ: 15] ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِآيَةِ الرَّجْمِ، بَلْ هُوَ إِمَّا مُسْتَقِلٌّ بِإِثْبَاتِ الرَّجْمِ، أَوْ مُبَيِّنٌ لِلسَّبِيلِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
وَكَذَلِكَ نَسْخُ حُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [الْبَقَرَةِ: 185] ، دُونَ لَفْظِهَا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ، دُونَ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ أَنْ يَصُومُوا، وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرُوا، مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الصَّوْمِ، وَيُطْعِمُوا مِسْكِينًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فَنُسِخَ ذَلِكَ التَّخْيِيرُ، بِتَعْيِينِ الصَّوْمِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الْبَقَرَةِ: 185] ، وَبَقِيَتِ الرُّخْصَةُ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنِ الصَّوْمِ، لِكِبَرٍ، أَوْ مَرِضٍ، أَوْ حَمْلٍ، أَوْ رَضَاعٍ، كَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
وَحَيْثُ وَقَعَ نَسْخُ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَنَسْخُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ قَطْعًا، دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ، وَنَسْخِ أَيِّهِمَا كَانَ دُونَ الْآخَرِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ خَالَفُوا فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ. وَاحْتُجَّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ أَيِّهِمَا كَانَ، بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَلَى جَوَازِ نَسْخِهِمَا جَمِيعًا، بِنَسْخِ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ ; فَإِنَّهُ كَانَ مُنَزَّلًا كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها، ثُمَّ نُسِخَ مَعَ آيَتِهِ.
تَنْبِيهٌ: اخْتُلِفَ فِيمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، نَحْوَ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ» هَلْ لِلْجُنُبِ تِلَاوَتُهُ، وَلِلْمُحْدِثِ مَسُّهُ أَمْ لَا؟ قَالَ الْآمِدِيُّ: الْأَشْبَهُ الْمَنْعُ.
قُلْتُ: بَلِ الْأَشْبَهُ الْجَوَازُ ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ إِنَّمَا قَامَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ مِنَ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ لِلْإِعْجَازِ، وَمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ; فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، أَوْ دَاخِلٌ تَحْتِ دَلِيلِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ جَائِزٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ: لَا تَحُجُّوا بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ، وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ.
لَنَا: مُجَرَّدُ الْأَمْرِ مُفِيدٌ أَنَّ الْمَأْمُورَ يَعْزِمُ عَلَى الِامْتِثَالِ ; فَيُطِيعُ، أَوِ الْمُخَالَفَةِ ; فَيَعْصِي، وَمَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ، لَا يَمْتَنِعُ النَّسْخُ، ثُمَّ قَدْ نُسِخَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ قَبْلَ فِعْلِهِ.
قَالُوا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي حُسْنَ الْفِعْلِ، وَنَسْخُهُ قُبْحَهُ، وَاجْتِمَاعُهُمَا مُحَالٌ، وَقِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مَنَامًا لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمَرْ بِالذَّبْحِ، بَلْ بِالْعَزْمِ عَلَيْهِ، أَوْ بِمُقَدِّمَاتِهِ، كَالْإِضْجَاعِ، بِدَلِيلِ:{قَدْ صَدَّقْتَ} ، فَافْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، وَلَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ، ثُمَّ لَمْ يُنْسَخْ، بَلْ قَلَبَ اللَّهُ تَعَالَى عُنُقَهُ نُحَاسًا ; فَسَقَطَ لِتَعَذُّرِهِ، أَوْ أَنَّهُ امْتَثَلَ، لَكِنَّ الْجُرْحَ الْتَأَمَ حَالًا فَحَالًا، وَانْدَمَلَ.
وَالْجَوَابُ:
إِجْمَالِيٌّ عَامٌّ، وَهُوَ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ، لَمَا احْتَاجَ إِلَى فِدَاءٍ، وَلَمَا كَانَ بَلَاءً مُبِينًا.
أَوْ تَفْصِيلِيٌّ، أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ: فَاجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ مَمْنُوعٌ، بَلْ قَبْلَ النَّسْخِ حَسَنٌ، وَبَعْدَهُ قَبِيحٌ شَرْعًا، لَا عَقْلًا كَمَا تَزْعُمُونَ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ; فَإِلْغَاءُ اعْتِبَارِهِ تَهَجُّمٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَكَرُّرِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى الذَّبْحِ لَيْسَ بَلَاءً، وَالْأَمْرُ بِالْمُقْدِمَاتِ فَقَطْ، إِنْ عَلِمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ ; فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ إِيهَامٌ وَتَلْبِيسٌ قَبِيحٌ، إِذْ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمُكَلَّفِ مَا كُلِّفَ بِهِ. وَقَدْ صَدَّقْتَ، مَعْنَاهُ: عَزَمْتَ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرْتَ بِهِ صَادِقًا ; فَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَفَّفْنَا عَنْكَ بِنَسْخِهِ. وَ {مَا تُؤْمَرُ} ، أَيْ: مَا أُمِرْتَ، أَوْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ فِي الْحَالِ، اسْتِصْحَابًا لِحَالِ الْأَمْرِ الْمَاضِي قَبْلَهُ ; فَلَا اسْتِقْبَالَ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ. وَقَلْبُ عُنُقِهِ نُحَاسًا لَمْ يَتَوَاتَرْ، وَإِلَّا لَمَا اخْتَصَصْتُمْ بِعِلْمِهِ، وَآحَادُهُ لَا تُفِيدُ، ثُمَّ هُوَ أَيْضًا نَسْخٌ، وَكَذَا الْتِئَامُ الْجُرْحِ وَانْدِمَالُهُ، وَإِلَّا لَاسْتَغْنَى عَنِ الْفِدَاءِ.
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .