الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
- قَوْلُهُ: «وَحُكْمُهُ التَّوَقُّفُ عَلَى الْبَيَانِ الْخَارِجِيِّ» ، أَيْ: وَ
حُكْمُ الْمُجْمَلِ
أَنْ يُتَوَقَّفَ فِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُبَيِّنِ لِلْمُرَادِ بِهِ، خَارِجًا عَنْ لَفْظِهِ، كَمَا أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْنَا الْعَمَلَ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَالْمُجْمَلُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ ; فَلَا نُكَلَّفُ بِالْعَمَلِ بِهِ. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِالْمُجْمَلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا ذَلِكَ أَيْضًا: هُوَ أَنَّ فِي الْعَمَلِ بِهِ تَعَرُّضًا بِالْخَطَأِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، وَالتَّعَرُّضُ بِالْخَطَأِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا بِالْخَطَأِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ إِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ ; فَإِمَّا أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا، أَوْ لَا يُرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، أَوْ يُرَادَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ; فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ، يَسْقُطُ مِنْهَا الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ لَا يُرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْحُكَمَاءِ، أَنْ يَتَكَلَّمُوا كَلَامًا لَا يَقْصِدُونَ بِهِ مَعْنًى، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، لَا دَلِيلَ عَلَى إِرَادَةِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا.
فَإِذَا أَقْدَمْنَا عَلَى الْعَمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ، احْتَمَلَ أَنْ نُوَافِقَ مُرَادَ الشَّرْعِ ; فَنَصِيبُ حُكْمَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ نُخَالِفَهُ ; فَنُخْطِئُ حُكْمَهُ ; فَتَحَقَّقَ بِذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ تَعَرَّضَ بِالْخَطَأِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ.
وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ; فَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ، وَالتَّعَرُّضُ بِالْخَطَأِ فِيهِ يُنَافِي تَعْظِيمَهُ ; فَيَكُونُ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنَ الْإِهْمَالِ لَهُ، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَالِاحْتِفَالِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمِثَالُ ذَلِكَ، لَوْ قَالَ: إِذَا غَابَ الشَّفَقُ ; فَصَلُّوا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِالشَّفَقِ الْحُمْرَةَ وَالْبَيَاضَ جَمِيعًا، وَأَنْ يُرِيدَ الْحُمْرَةَ فَقَطْ، وَأَنْ يُرِيدَ الْبَيَاضَ فَقَطْ.
فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُرِيدَهُمَا جَمِيعًا ; فَلَوْ صَلَّيْنَا قَبْلَ مَغِيبِ الْبَيَاضِ، أَخْطَأْنَا، فَلَمَّا جَاءَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ، فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ ; فَقَدْ وَجَبَ عِشَاءُ الْآخِرَةِ» . عِلِمْنَا الْمُرَادَ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ، أَوْ بَلَغَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ، قَالَ: الْأَصْلُ بَقَاءُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ ; فَمَنِ ادَّعَى خُرُوجَهُ بِمُجَرَّدِ غَيْبُوبَةِ الْحُمْرَةِ ; فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَلِأَنَّ الْمُصَلِّيَ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ مُمْتَثِلٌ إِجْمَاعًا، وَقَبْلَهُ مُخْتَلَفٌ فِي امْتِثَالِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ ; فَيُسْتَصْحَبُ فِيهِ الْحَالُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [الْبَقَرَةِ: 238] ، احْتَمَلَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُيَّضُ وَالْأَطْهَارُ، وَأَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِأَيِّهِمَا كَانَ، وَاحْتَمَلَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُيَّضُ فَقَطْ، أَوِ الْأَطْهَارُ فَقَطْ ; فَلَوْ أَمَرْنَاهَا قَبْلَ الْبَيَانِ بِبَعْضِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَلَمْ يُوَافِقْ مُرَادَ الشَّرْعِ فِيهِ، كُنَّا مُخْطِئِينَ، فَلَمَّا جَاءَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ عز وجل:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطَّلَاقِ: 4]، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ ; لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَعَلَ الشُّهُورَ فِي الْآيِسَةِ بَدَلًا عَنِ الْحُيَّضِ بِقَوْلِهِ عز وجل:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} ، وَلَمْ يَقُلْ: يَئِسْنَ مِنَ الْأَطْهَارِ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ «قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِلْحَائِضِ: اتْرُكِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ»
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالصَّلَاةُ إِنَّمَا تُتْرَكُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ لَا الطُّهْرِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ أَقْوَى مِنَ الْحَدِيثِ.
وَقَدِ ادُّعِيَ الْإِجْمَالُ فِي أُمُورٍ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ. مِنْهَا نَحْوُ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [الْمَائِدَةِ: 3]، أَيْ: أَكْلُهَا، وَأُمَّهَاتُكُمْ [النِّسَاءِ: 23] ، أَيْ: وَطْؤُهُنَّ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِلْقَاضِي وَالْكَرْخِيِّ.
لَنَا: الْحُكْمُ، الْمُضَافُ إِلَى الْعَيْنِ يَنْصَرِفُ لُغَةً وَعُرْفًا إِلَى مَا أُعِدَّتْ لَهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالُوا: الْمُحَرَّمُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، لَا نَفْسِهَا، وَالْأَفْعَالُ مُتَسَاوِيَةٌ.
قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، بَلِ التَّرْجِيحُ عُرْفِيٌّ كَمَا ذُكِرَ، وَكَذَا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الْبَقَرَةِ: 275] ، مُجْمَلٌ عِنْدِ الْقَاضِي لِتَرَدُّدِ الرِّبَا بَيْنَ مُسَمَّيَيْهِ، اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَقَدِ ادُّعِيَ الْإِجْمَالُ فِي أُمُورٍ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ» .
أَيِ: ادَّعَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَلَيْسَتْ مُجْمَلَةً.
«مِنْهَا» ، أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي ادُّعِيَ الْإِجْمَالُ فِيهَا وَلَيْسَتْ مُجْمَلَةً، إِضَافَةُ الْأَحْكَامِ إِلَى الْأَعْيَانِ، نَحْوُ قَوْلِهِ عز وجل:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [الْمَائِدَةِ: 3]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النِّسَاءِ: 23] ، وَ {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [الْمَائِدَةِ: 4] ، لَا إِجْمَالَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ: حَرُمَ عَلَيْكُمْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَوَطْءُ الْأُمَّهَاتِ. وَأُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَالْكَرْخِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُجْمَلٌ.
«لَنَا» عَلَى عَدَمِ الْإِجْمَالِ: أَنَّ «الْحُكْمَ الْمُضَافَ إِلَى الْعَيْنِ، يَنْصَرِفُ لُغَةً وَعُرْفًا إِلَى مَا أُعِدَّتْ لَهُ» مِنَ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَوَطْءِ الْأُمَّهَاتِ، إِذْ لَيْسَتِ الْمَيْتَةُ وَالْأُمَّهَاتُ مُعَدَّةً فِي مَشْهُورِ الْعُرْفِ إِلَّا لِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [الْمَائِدَةِ: 1]، {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [الْمَائِدَةِ: 96] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ; فُهِمَ مِنْهُ الْأَكْلُ، وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] ; فُهِمَ مِنْهُ النِّكَاحُ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا نَظَرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِجْمَالَ يُخِلُّ بِالتَّفَاهُمِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
- قَوْلُهُ: «قَالُوا:» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى الْإِجْمَالِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْأَعْيَانَ أَنْفُسَهَا لَا تَتَّصِفُ بِالتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالْأَفْعَالُ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ، إِذْ لَا يَدْرِي هَلِ الْمُحَرَّمُ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا، أَمْ بَيْعُهَا، أَمِ النَّظَرُ إِلَيْهَا، أَمْ لَمْسُهَا؟ وَمِنَ الْأُمِّ وَطْؤُهَا، أَمِ النَّظَرُ إِلَيْهَا، أَمْ لَمْسُهَا؟ وَإِضْمَارُ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ الْمُحْتَمَلَةِ تَكْثِيرٌ لِمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْإِضْمَارُ ; فَلَا يَجُوزُ إِضْمَارُ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ لَا دَلِيلَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ ; فَتَعَيَّنَ الْإِجْمَالُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
- قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، بَلِ التَّرْجِيحُ عُرْفِيٌّ كَمَا ذُكِرَ» ، أَيْ: تَسَاوِي الْأَفْعَالِ فِي فَهْمِ تَعَلُّقِهَا بِالْأَعْيَانِ مَمْنُوعٌ، بَلْ رُجْحَانُ تَعَلُّقِ بَعْضِهَا حَاصِلٌ بِالْعُرْفِ، كَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ وَالْعُرْفِ تُبَادِرُ أَفْهَامُهُمْ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حَرَّمْتُ عَلَيْكَ هَذَا الطَّعَامَ ; إِلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، إِلَى تَحْرِيمِ وَطْئِهَا، دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَلَوْ سَلَّمْنَا عَدَمَ هَذَا الرُّجْحَانِ عُرْفًا أَوْ لُغَةً، لَكُنَّا نُضْمِرُ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُحْتَمَلُ تَعَلُّقُهَا بِالْعَيْنِ ; لِأَنَّ الْإِضْمَارَ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنَ الْإِجْمَالِ، وَإِذَا أَضْمَرْنَا جَمِيعَ الْأَفْعَالِ ; فَلَا إِجْمَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- قَوْلُهُ: «وَكَذَا» : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الْبَقَرَةِ: 275]، مُجْمَلٌ عِنْدِ الْقَاضِي ; لِتَرَدُّدِ الرِّبَا بَيْنَ مُسَمَّيَيْهِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ كَيْفَ كَانَتْ، وَحَيْثُ كَانَتْ، وَفِي الشَّرْعِ: هُوَ زِيَادَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهُوَ التَّفَاضُلُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَصَاعٍ بِصَاعَيْنِ ; فَنَتَوَقَّفُ فِيهِ، حَتَّى نَعْلَمَ أَيَّ الزِّيَادَتَيْنِ أَرَادَ. هَكَذَا قَرَّرَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ.
وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فَقَطْ، وَهُوَ أَصَحُّ وَأَوْلَى.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبِيَاعَاتِ فِي الشَّرْعِ، مِنْهَا حَلَالٌ كَالْعُقُودِ الْمُسْتَجْمِعَةِ لِشُرُوطِ الصِّحَّةِ، وَمِنْهَا حَرَامٌ كَبُيُوعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ التَّلَقِّي، وَالْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَنَحْوِهِ.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَيْعَ فِي قَوْلِهِ عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} مُجْمَلٌ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْبِيَاعَاتِ الْجَائِزَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ، ثُمَّ وَرَدَ الْبَيَانُ مِنَ الشَّرْعِ، بِالْمُحَرَّمِ مِنْهَا مِنَ الْجَائِزِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَامٌّ فِي الْبُيُوعِ الْجَائِزَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ خَصَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهَا بِأَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ ثَابِتًا بِالْعُمُومِ الْأَوَّلِ، وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ نَوْعٌ مِنَ الْبَيَانِ.
نَعَمْ، تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [الْبَقَرَةِ: 275]، إِنْ قُلْنَا: هُوَ مُجْمَلٌ بُيِّنَ كَانَ حُجَّةً بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ عَامٌّ خُصَّ كَانَ فِي بَقَائِهِ حُجَّةُ الْخِلَافِ السَّابِقِ، فِي أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ أَمْ لَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَكَوْنُهُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ أَوْلَى، وَأَكْثَرُ، وَأَشْهَرُ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ» «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» . وَهُوَ مُجْمَلٌ عِنْدِ الْحَنَفِيَّةِ، قِيلَ: لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَقِيلَ: لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى نَفْيِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ ; فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ، وَالْأَحْكَامُ مُتَسَاوِيَةٌ.
وَلَنَا: أَنَّ الْمَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِيَّةَ غَلَبَتْ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ ; فَاللُّغَوِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا مَجَازٌ، وَأَيْضًا اشْتَهَرَ عُرْفًا نَفْيُ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ، نَحْوُ: لَا عِلْمَ إِلَّا مَا نَفَعَ، وَلَا بَلَدَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ. فَيُحْمَلُ هُنَا عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ لِانْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي «لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ» .
ــ
قَوْلُهُ: «وَمِنْهَا» ، أَيْ: وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي ادُّعِيَ الْإِجْمَالُ فِيهَا، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ،» «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» . وَنَحْوُهُ «وَهُوَ مُجْمَلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ» ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْبَصْرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ.
قَوْلُهُ: «قِيلَ: لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ» ، أَيْ: ثُمَّ، تَارَةً يُوَجَّهُ إِجْمَالُ ذَلِكَ، بِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، كَالصَّلَاةِ بَيْنَ الدُّعَاءِ، وَالْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالصِّيَامِ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ الْمُطْلَقِ لُغَةً، وَالْإِمْسَاكِ الْخَاصِّ شَرْعًا ; فَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا الْمُرَادُ.
وَتَارَةً يُوَجَّهُ إِجْمَالُهُ، بِأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:«لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ» ; إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ صُورَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ نَفْيُ حُكْمِهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ صُورَةَ الصَّلَاةِ شَرْعًا يُمْكِنُ إِيجَادُهَا بِغَيْرِ طَهُورٍ، كَصَلَاةِ الْمُحْدِثِ ; فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ حُكْمِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَكِنَّ الْأَحْكَامَ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ، كَالصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ، وَالْإِجْزَاءِ ; فَيَبْقَى الْكَلَامُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ: لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ، أَوْ لَا تَكْمُلُ، أَوْ لَا تُجْزِئُ، أَوْ لَا تُقْبَلُ بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهَا الْمُرَادُ ; فَيَجِيءُ الْإِجْمَالُ.
قَوْلُهُ: «وَلَنَا» ، يَعْنِي عَلَى نَفْيِ الْإِجْمَالِ فِي هَذَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَوْضُوعَاتُ، يَعْنِي الْمُصْطَلَحَاتِ، الشَّرْعِيَّةَ غَلَبَتْ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، لِمَا سَبَقَ فِي إِثْبَاتِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، مِنْ أَنَّ الشَّارِعَ شَأْنُهُ بَيَانُ الْأَحْكَامِ، لَا بَيَانُ اللُّغَاتِ، وَحِينَئِذٍ صَارَتِ الْمَوْضُوعَاتُ اللُّغَوِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْعِيَّةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مَجَازًا كَمَا سَبَقَ، فَإِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالْمَجَازِ ; فَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى بِهِ ; فَإِذَنْ حَمْلُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: لَا صَلَاةَ، وَلَا صِيَامَ وَنَحْوِهِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ ; فَلَا إِجْمَالَ فِيهِ، وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ تَوَجُّهِ الْإِجْمَالِ أَوَّلًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ اشْتَهَرَ فِي الْعُرْفِ نَفْيُ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: لَا عِلْمَ إِلَّا مَا نَفَعَ، وَلَا بَلَدَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ غَيْرُ النَّافِعِ عِلْمًا بِالْحَقِيقَةِ، وَالْبَلَدُ الَّذِي لَا سُلْطَانَ فِيهِ بَلَدًا بِالْحَقِيقَةِ ; فَيُحْمَلُ الْكَلَامُ هُنَا عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، لِانْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَالصِّيَامَ بِغَيْرِ تَبْيِيتِ نِيَّةٌ لَا يُفِيدَانِ ; فَانْتَفَتْ صِحَّتُهُمَا، لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِمَا، إِذْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الصِّحَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْتِيبِ الْفَوَائِدِ، وَالْآثَارِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْفِعْلِ، وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ تَوْجِيهِ الْإِجْمَالِ ثَانِيًا.
قَوْلُهُمْ: «حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ» .
قُلْنَا: نَعَمْ.
قَوْلُهُمْ: «تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ، وَالْأَحْكَامُ مُتَسَاوِيَةٌ» .
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ تَسَاوِيَهَا، بَلْ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ أَوْلَى، عُرْفًا وَلُغَةً، لِدُخُولِ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى ذَاتِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ نَفْيُ صُورَتِهِ، كَانَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ صِحَّتِهِ أَقْرَبَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى نَفْيِ صُورَتِهِ ; فَكَانَ أَوْلَى.
وَقَدْ قُرِّرَ الدَّلِيلُ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ الشَّارِعَ، إِنْ كَانَ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عُرْفٌ، وَجَبَ تَنْزِيلُ لَفْظِهِ عَلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عُرْفِهِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالْغَالِبَ مُخَاطَبَتُهُ لَنَا بِعُرْفِهِ ; فَلَا إِجْمَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا عُرْفٌ ; فَلَا إِجْمَالَ أَيْضًا حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ عُرْفًا، وَهُوَ نَفْيُ الْفَائِدَةِ وَالْجَدْوَى. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الصِّحَّةِ، إِذْ صَحِيحٌ، لَا فَائِدَةَ وَلَا جَدْوَى لَهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْإِضْمَارِ، أَضْمَرْنَا نَفْيَ الصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ جَمِيعًا، إِذْ مَا يُمْكِنُ إِضْمَارُهُ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهُمَا بِالْإِجْمَاعِ، وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ تَكْثِيرٌ لِلْإِضْمَارِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: تَكْثِيرُ الْإِضْمَارِ مَعَ حُصُولِ الْبَيَانِ أَوْلَى مِنَ الْإِجْمَالِ.
قَوْلُهُ: «وَكَذَا الْكَلَامُ فِي» قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ» ، أَيْ: لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، إِذِ الْمُرَادُ نَفْيُ فَائِدَتِهِ وَجَدْوَاهُ بِدُونِ النِّيَّةِ ; فَتَنْتَفِي صِحَّتُهُ لِمَا مَرَّ، وَمَنِ ادَّعَى إِجْمَالَهُ، قَالَ: صُورَةُ الْعَمَلِ بِدُونِ النِّيَّةِ لَا تَنْتَفِي ; فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ حُكْمِهِ، وَأَحْكَامُهُ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ، كَالصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ ; فَجَاءَ الْإِجْمَالُ.
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ تَسَاوِيَ أَحْكَامِهِ، بَلْ نَفْيُ الصِّحَّةِ أَظْهَرُ عُرْفًا وَلُغَةً كَمَا سَبَقَ. سَلَّمْنَا تَسَاوِيَهَا لَكِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ جَمِيعِهَا، وَتَكْثِيرُ الْإِضْمَارِ أَوْلَى مِنَ الْإِجْمَالِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تَنْبِيهٌ: النِّزَاعُ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . مِنْ هَذَا الْبَابِ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ; فَاخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ الصِّحَّةُ؟ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ صَحِيحَةٌ، أَوِ الْكَمَالُ؟ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ كَامِلَةٌ، وَالْأَظْهَرُ إِضْمَارُ الصِّحَّةِ لِمَا سَبَقَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ، أَيْ: رُفِعَ حُكْمُهُ، إِذْ حَمْلُهُ عَلَى رَفْعِ حَقِيقَتِهِ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْخَبَرِ لِوُقُوعِهَا مِنَ النَّاسِ كَثِيرًا.
ثُمَّ قِيلَ: رُفِعَ الْإِثْمُ خَاصَّةً دُونَ الضَّمَانِ وَالْقَضَاءِ، إِذْ لَيْسَ صِيغَةَ عُمُومٍ فَيَعُمَّ كُلَّ حُكْمٍ، وَأَفْسَدَهُ أَبُو الْخَطَّابِ بِأَنَّهُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ الْأُمَّةِ بِهِ، إِذِ النَّاسِي وَنَحْوُهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ أَصْلًا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ.
قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا حَيْثُ لَزِمَ الْقَضَاءُ أَوِ الضَّمَانُ بَعْضَ مَنْ ذُكِّرَ، كَنَاسِي الصَّلَاةِ يَقْضِيهَا، وَالْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ يُقْتَلُ، أَوْ يُضَمَّنُ، يَكُونُ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَمِنْهَا» ، أَيْ: وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي ادُّعِيَ فِيهَا الْإِجْمَالُ، وَلَيْسَتْ مُجْمَلَةً: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ، أَيْ: رُفِعَ حُكْمُهُ، يَعْنِي أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: رَفْعُ حُكْمُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالْإِكْرَاهِ ; لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى رَفْعِ حَقِيقَةِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْخَبَرِ ; لِأَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ يَقَعَانِ مِنَ النَّاسِ كَثِيرًا، وَالْكَذِبُ فِي خَبَرِ الْمَعْصُومِ مُحَالٌ ; فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى رَفْعِ حُكْمِهِ.
ثُمَّ قِيلَ: الْحُكْمُ الْمَرْفُوعُ هُوَ الْإِثْمُ خَاصَّةً، دُونَ الضَّمَانِ وَالْقَضَاءِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ صِيغَةَ عُمُومٍ فَيَعُمَّ كُلَّ حُكْمٍ.
قُلْتُ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْحَدِيثِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي حُكْمُ الْخَطَأِ، وَاللَّامُ فِي الْخَطَأِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَحُكْمُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَالْمُضَافُ إِلَى الْعَامِّ عَامٌّ. وَهَذَا يَقْتَضِي رَفْعَ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْخَطَأِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا خَطَأً، لَا يَأْثَمُ بِإِتْلَافِهِ، وَلَا يُضَمَّنُهُ، وَمَنْ تَرَكَ عِبَادَةً خَطَأً، أَوْ نِسْيَانًا، أَوْ إِكْرَاهًا، لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا ; فَلَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهَا. وَعَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ اخْتِصَاصُ الرَّفْعِ بِالْإِثْمِ، يَسْقُطُ الْإِثْمُ فِي صُورَةِ الْإِتْلَافِ وَالتَّرْكِ، وَيَجِبُ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ، وَقَضَاءُ الْمَتْرُوكِ.
قَوْلُهُ: «وَأَفْسَدَهُ أَبُو الْخَطَّابِ» ، يَعْنِي اخْتِصَاصَ الرَّفْعِ بِالْإِثْمِ دُونَ غَيْرِهِ، أَفْسَدَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، «بِأَنَّهُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ الْأُمَّةِ بِهِ» ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ» . وَذَلِكَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا بِهَذِهِ الرُّخْصَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّسْهِيلَ عَلَيْهَا، وَاللُّطْفَ بِهَا ; فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ الرَّفْعَ فِي حَقِّهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مُخْتَصٌّ بِالْإِثْمِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ تَمَيُّزٌ ; لِأَنَّ النَّاسِيَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ، كَالْمُخْطِئِ، وَالْمُكْرَهِ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ أَصْلًا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ.
قُلْتُ: وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأُمَّةِ بِالذِّكْرِ، يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا بِحُكْمٍ زَائِدٍ عَلَى بَقِيَّةِ الْأُمَمِ، إِذْ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ رَفْعَ الْإِثْمِ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ سَائِرِ الْأُمَمِ.
قُلْتُ: وَالِاعْتِرَاضَانِ ضَعِيفَانِ، وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ; «فَعَلَى هَذَا: حَيْثُ لَزِمَ الْقَضَاءُ أَوِ الضَّمَانُ بَعْضَ مَنْ ذُكِّرَ» يَعْنِي الْمُخْطِئَ، أَوِ النَّاسِيَ، أَوِ الْمُكْرَهَ، «كَنَاسِي الصَّلَاةِ يَقْضِيهَا، وَالْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ يُقْتَلُ أَوْ يُضَمَّنُ» ، كَانَ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ، كَقَوْلِهِ عليه السلام:«مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» . وَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [الْمَائِدَةِ: 45]، وَقَوْلِهِ عليه السلام:«مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا ; فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِنْ شَاءُوا، قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» . لَا بِحَقِّ الْأَصْلِ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ أَنْ لَا يَجِبَ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ شَيْءٌ. عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا قُرِّرَ مِنْ دَلَالَتِهِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ، وَقَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ فِي الْمُجْمَلِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ، وَهَذَا حِينُ الْكَلَامِ فِي الْمُبَيَّنِ.