المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

. . . . . . . . . . - شرح مختصر الروضة - جـ ٢

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْكِتَابُ

- ‌السُّنَّةُ

- ‌ التَّوَاتُرُ

- ‌ الْآحَادُ

- ‌ السَّمَاعِ

- ‌ الْإِجَازَةُ

- ‌إِنْكَارُ الشَّيْخِ الْحَدِيثَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي رِوَايَةِ الْفَرْعِ لَهُ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «التَّاسِعَةُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا مَقْبُولَةٌ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الْعَاشِرَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ»

- ‌ مُرْسَلُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ

- ‌فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى

- ‌فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ»

-

- ‌الْقَوْلُ فِي النَّسْخِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ جَائِزٌ

- ‌لَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ

- ‌ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ

- ‌ نَسْخُ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِآحَادِهَا

- ‌الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ»

- ‌مَا يُعْرَفُ بِهِ النَّسْخُ:

- ‌الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي

- ‌«الْأَمْرُ:

- ‌ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ " الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ

- ‌الْمَسْأَلَةُ " الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ

- ‌أَقْسَامُ الْمَعْلُومَاتِ:

- ‌الْمَسْأَلَةُ: «السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ: حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْأَمْرُ لِجَمَاعَةٍ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ

- ‌ فَرْضُ الْكِفَايَةِ

- ‌فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ:

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الْعَاشِرَةُ: تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْمَعْدُومِ»

- ‌النَّهْيُ

- ‌فَوَائِدُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ:

- ‌الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ

- ‌الْعَامُّ

- ‌أَلْفَاظُ الْعُمُومِ

- ‌«أَدَوَاتُ الشَّرْطِ»

- ‌ كُلُّ وَجَمِيعُ

- ‌«النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الْأَمْرِ»

- ‌ الْعَامُّ الْكَامِلُ»

- ‌ أَقَلُّ الْجَمْعِ

- ‌ الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ

- ‌ الْخِطَابُ الْعَامُّ يَتَنَاوَلُ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ

- ‌الْخَاصُّ

- ‌الْمُخَصِّصَاتُ»

- ‌الْخَامِسُ: الْمَفْهُومُ

- ‌ تَعَارُضِ الْعُمُومَيْنِ

- ‌الِاسْتِثْنَاءُ

- ‌ تَعْرِيفِهِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالنَّسْخِ

- ‌ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِشُرُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ

- ‌الشَّرْطُ

- ‌ الْغَايَةُ»

- ‌الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ

- ‌ مَرَاتِبُ الْمُقَيَّدِ

- ‌الْمُجْمَلُ

- ‌حُكْمُ الْمُجْمَلِ

- ‌الْمُبَيَّنُ

- ‌ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ

- ‌كُلُّ مُقَيَّدٍ مِنَ الشَّارِعِ بَيَانٌ

- ‌الْبَيَانُ الْفِعْلِيُّ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِيِّ»

- ‌تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ

- ‌تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ

- ‌خَاتِمَةٌفَحْوَى اللَّفْظِ:

- ‌ شَرْطُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ

- ‌ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ»

- ‌ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ

- ‌ دَرَجَاتُ دَلِيلِ الْخِطَابِ

- ‌ مَفْهُومَ الْغَايَةِ

- ‌ مَفْهُومُ الشَّرْطِ

- ‌ تَخْصِيصُ وَصْفٍ غَيْرِ قَارٍّ بِالْحُكْمِ

- ‌ مَفْهُومُ الْعَدَدِ

- ‌ مَفْهُومُ اللَّقَبِ

الفصل: . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي» .

أَيْ: هَذَا بَيَانُ الْقَوْلِ فِيهَا: وَ «الْأَوَامِرُ» : جَمْعُ أَمْرٍ. وَقَدْ سَبَقَ فِي بَيَانِ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ ; أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَوَامِرِ ; لِأَنَّهَا طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ، وَالنَّوَاهِي طَلَبُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ ; فَقُدِّمَتِ الْأَوَامِرُ تَقْدِيمَ الْمَوْجُودِ عَلَى الْمَعْدُومِ، وَهُوَ التَّقْدِيمُ بِحَسَبِ الشَّرَفِ، وَلَوْ لُحِظَ التَّقْدِيمُ الزَّمَانِيُّ، لَقُدِّمَتِ النَّوَاهِي تَقْدِيمَ الْعَدَمِ عَلَى الْمَوْجُودِ ; لِأَنَّ الْعَدَمَ أَقْدَمُ.

قَوْلُهُ: ‌

‌«الْأَمْرُ:

قِيلَ: الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ، بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ» ; فَقَوْلُهُ:«الْقَوْلُ» : جِنْسٌ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ، وَالنَّهْيَ، وَغَيْرَهُمَا، مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ.

وَقَوْلُهُ: «الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ» : فَصْلٌ، خَرَجَ بِهِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَالْخَبَرِ، وَالتَّمَنِّي، وَالتَّرَجِّي، وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ بَقِيَ النَّهْيُ دَاخِلًا فِي حَدِّ الْأَمْرِ ; لِأَنَّهُ قَوْلٌ يَقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ ; فَأُخْرِجَ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ: بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا يَقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ، لَكِنْ لَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، بَلْ بِالْكَفِّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ; فَمُتَعَلِّقُ الطَّاعَةِ فِي الْأَمْرِ الْفِعْلُ، وَفِي النَّهْيِ الْكَفُّ.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ دَوْرٌ» ، أَيْ: هَذَا التَّعْرِيفُ، دَوْرِيٌّ يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ ; لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ

ص: 348

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لِلْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ، وَالْمَأْمُورِ بِهِ ; الْمُتَوَقِّفِ مَعْرِفَتُهُمَا عَلَى الْأَمْرِ ; فَصَارَ تَعْرِيفًا لِلْأَمْرِ بِنَفْسِهِ، بِوَاسِطَةِ الْمَأْمُورِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ. وَهَذَا كَمَا سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ بِمَعْرِفَةِ الْمَعْلُومِ.

قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ» ، أَيْ: وَقِيلَ: الْأَمْرُ هُوَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِلْأَمْرِ ; فَاسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ: طَلَبُهُ، وَهُوَ جِنْسٌ ; لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ، وَالشَّفَاعَةَ، وَالِالْتِمَاسَ ; لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَدْنَى، وَهُوَ سُؤَالٌ، أَوْ مِنَ الْمُسَاوِي، وَهُوَ شَفَاعَةٌ وَالْتِمَاسٌ، أَوْ مِنَ الْأَعْلَى، وَهُوَ الْأَمْرُ. وَيَدْخُلُ فِيهِ، أَيْ: فِي الِاسْتِدْعَاءِ النَّهْيُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ ; فَبِقَوْلِهِ: «اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ» خَرَجَ النَّهْيُ.

وَقَوْلُهُ: «عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ» ، أَيْ: يَكُونُ الْأَمْرُ مُتَكَيِّفًا بِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّرَفُّعِ عَلَى الْمَأْمُورِ، كَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ، وَالسُّلْطَانِ مَعَ رَعِيَّتِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: «وَقَدْ يُسْتَدْعَى الْفِعْلُ بِغَيْرِ قَوْلٍ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا بَيَانٌ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي قَوْلِهِمْ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ:«اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ» لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُسْتَدْعَى بِغَيْرِ قَوْلٍ، كَالْإِشَارَةِ وَالرَّمْزِ ; فَيَخْرُجُ الْأَمْرُ بِذَلِكَ عَنْ حَدِّ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ ; فَلَا يَكُونُ جَامِعًا ; فَلَوْ أُسْقِطَ لَفْظُ الْقَوْلِ مِنْهُ، بِأَنْ قِيلَ: الْأَمْرُ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، لَاسْتَقَامَ الْحَدُّ ; لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ الْفِعْلِ

ص: 349

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بُقُولٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: الْأَمْرُ: اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، لَاسْتَقَامَ أَيْضًا لِأَنَّ مَا قَامَ مَقَامَ الْقَوْلِ، يَتَنَاوَلُ الْإِشَارَةَ وَالرَّمْزَ، وَنَحْوَهُمَا مِمَّا يَكُونُ بِهِ الْأَمْرُ.

قُلْتُ: وَقَدْ يُعْتَذَرُ عَنْ هَذَا ; بِأَنَّ التَّعْرِيفَ هَاهُنَا لِلْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ. فَأَمَّا الِاسْتِدْعَاءُ الْحَاصِلُ بِغَيْرِ الْقَوْلِ الصَّرِيحِ ; فَهُوَ أَمْرٌ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ ; لِأَنَّ الطَّلَبَ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَالصِّيغَةُ مِنْ لَوَازِمِ الطَّلَبِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ حَقِيقَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ اللِّسَانِيَّةِ، لَا فِي الْمَعَانِي النَّفْسَانِيَّةِ.

قَوْلُهُ: «وَلَمْ تَشْتَرِطِ الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْتِعْلَاءَ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ أَنَّ الِاسْتِعْلَاءَ شَرْطٌ فِي كَوْنِ اسْتِدْعَاءِ الْفِعْلِ أَمْرًا، كَمَا سَبَقَ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ:{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 34، 35] ; فَجَعَلَ الْقَوْلَ الصَّادِرَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ أَمْرًا، مَعَ كَوْنِهِ هُوَ أَعْلَى مِنْهُمْ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا هُمْ أَعْلَى مِنْهُ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيُخَاطِبُوهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ إِلَهًا وَرَبًّا، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِعْلَاءُ شَرْطًا فِي الْأَمْرِ، لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ لَهُمْ: فَمَاذَا تَأْمُرُونَ.

ص: 350

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِشَارَةِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: (مَاذَا تَأْمُرُونَ) مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى: مَاذَا تُشِيرُونَ بِهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ. وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْمَذْكُورُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَحْمِيقِ الْعَبْدِ الْآمِرِ سَيِّدَهُ، أَيْ: أَنَّ الْعُقَلَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَمَرَ سَيِّدَهُ بِأَنْ قَالَ: أَمَرْتُكَ أَنْ تَفْعَلَ، أَوْ أَخْرَجَ لَفْظَةً لِسَيِّدِهِ مَخْرَجَ الِاسْتِعْلَاءِ، عُدَّ أَحْمَقَ، نَاقِصَ الْعَقْلِ، سَيِّئَ الْأَدَبِ، مَذْمُومًا. وَلَوْلَا اشْتِرَاطُ الِاسْتِعْلَاءِ فِي الْأَمْرِ، لَاسْتَوَى فِيهِ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ، وَالْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ، وَلَمْ يَتَّجِهْ عَلَيْهِ التَّحْمِيقُ فِيمَا إِذَا أَمَرَهُ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ طَالِبًا لِلْفِعْلِ مِنْهُ طَلَبًا مُجَرَّدًا، كَالسَّائِلِ الْمُلْتَمِسِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ تَحْمِيقُ الْعَبْدِ الْآمِرِ سَيِّدَهُ مِنْ جِهَةِ اسْتِعْلَائِهِ عَلَيْهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْجَزْمَ، أَوْ يُشْعِرُ بِهِ ; فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَالْمُتَحَكِّمِ عَلَى سَيِّدِهِ.

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْجَزْمَ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ ; فَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ، بَلْ هُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمُ النَّدْبَ ; فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْجَزْمَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْمِيقِ الْعَبْدِ الْمَذْكُورِ ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَحْمِيقَهُ لَيْسَ لِتَحَكُّمِهِ بِالْجَزْمِ، بَلْ لِادِّعَائِهِ مَنْصِبَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى سَيِّدِهِ.

ص: 351

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَادَةَ الْمُلُوكِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ مُهِمٌّ، إِنَّمَا يَسْتَشِيرُونَ مَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ وُزَرَائِهِمْ وَنُدَمَائِهِمْ، لَا أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ لَهُمْ رَعِيَّةً يَأْتَمِرُونَ بِأَوَامِرِهِمْ ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَاذَا تَأْمُرُونَ؟ ، اسْتِشَارَةٌ لَا ائْتِمَارٌ، عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ بِقَوْلِ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَدُلَّ النَّصُّ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ، وَهُوَ لَيْسَ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ ; فَجَازَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ، أَوْ وَرَدَ عَلَيْهِ وَارِدٌ عَظِيمٌ مِنْ أَمْرِ مُوسَى، صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَخَلَّ بِشَرْطِ الْأَمْرِ، وَقَلَبَ حَقِيقَتَهُ، خُصُوصًا وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، عَاتَبَهُ فِرْعَوْنُ بِمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، ثُمَّ قَالَ لِأَعْوَانِهِ: خُذُوهُ ; فَبَادَرَهُمْ مُوسَى بِإِلْقَاءِ عَصَاهُ ; فَصَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمًا ; فَانْهَزَمُوا مِنْهُ مُزْدَحِمِينَ، حَتَّى هَلَكَ مِنْهُمْ بِالزِّحَامِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَكَانَ فِرْعَوْنُ لَا يَدْخُلُ الْخَلَاءَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا مَرَّةً ; فَتَرَدَّدَ إِلَى الْخَلَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً ; فَلَعَلَّهُ لَمَّا رَأَى هَذَا الْهَوْلَ، اخْتَلَطَ عَقْلُهُ ; فَقَلَبَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، وَأَخَلَّ بِشَرْطِهِ وَهُوَ الِاسْتِعْلَاءُ.

وَيَكُونُ هَذَا، كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْجُبَنَاءِ، أَنَّ الْعَدُوَّ أَرْهَقَهُ ; فَقَامَ لِيَلْجِمَ فَرَسَهُ فِي رَأْسِهِ ; فَأَلْجَمَهُ فِي ذَنَبِهِ، ثُمَّ لَمَّا رَكِبَ، وَرَاحَ مُنْهَزِمًا، أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ; فَمَرَّ بِقَوْمٍ ; فَقَالَ: أَطْعِمُونِي مَاءً ; فَقَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ يَهْجُوهُ:

ص: 352

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَأَلْجَمَ الطِّرْفَ بَعْدَ الرَّأْسِ فِي ذَنَبٍ

وَاسْتَطْعَمَ الْمَاءَ لَمَّا جَدَّ فِي الْهَرَبِ

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى اشْتِرَاطِ الِاسْتِعْلَاءِ فِي الْأَمْرِ ; أَنَّ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، لَمَّا قَالَ لِبَرِيرَةَ: صَالِحِي مُغِيثًا - يَعْنِي زَوْجَهَا لَمَّا أَرَادَتْ فِرَاقَهُ - قَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، لَكِنِّي أَشْفَعُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِعْلَاءُ شَرْطًا فِي الْأَمْرِ، لَمَا افْتَرَقَ الْأَمْرُ وَالشَّفَاعَةُ.

قَوْلُهُ: «وَلِلْأَمْرِ صِيغَةٌ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَيْهِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: الْأَمْرُ لَهُ صِيغَةٌ، أَيْ: لَفْظٌ يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ عَلَيْهِ، أَيْ: بِدُونِ الْقَرِينَةِ.

وَالْمُرَادُ: أَنَّ لِلْأَمْرِ صِيغَةً مَوْضُوعَةً لَهُ، تَدُلُّ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، كَدَلَالَةِ سَائِرِ

ص: 353

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْأَلْفَاظِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

«وَقِيلَ: لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ، بِنَاءً عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ» ، أَيْ: الْقَائِلُ: إِنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ، بَنَى ذَلِكَ عَلَى إِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ ; فَإِنَّهُ مَعْنًى لَا صِيغَةٌ، «وَقَدْ سَبَقَ مَنْعُهُ» ، أَيْ: مَنْعُ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ عِنْدَ ذِكْرِ اللُّغَاتِ.

قَالَ الْآمِدِيُّ: هَلْ لِلْأَمْرِ النَّفْسَانِيِّ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ؟ نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ نَفْيُهَا، وَعَنِ الْغَيْرِ إِثْبَاتُهَا، قَالَ: وَالْحَقُّ الْإِثْبَاتُ.

قُلْتُ: قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ: لَيْسَ لِلْأَمْرِ النَّفْسِيِّ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ، مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْقُرْآنَ صِيَغٌ وَعِبَارَاتٌ مَخْلُوقَةٌ، تَدُلُّ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ عز وجل، الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، تَنَاقُضٌ.

وَالْأَشْهَرُ عَنْهُ: أَنَّ لِلْكَلَامِ وَالْأَمْرِ صِيَغًا تَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ ; فَلَعَلَّ مَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْهُ، قَوْلٌ مَرْجُوعٌ عَنْهُ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ مَا ظَهَرَ لِي وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: «وَهِيَ» ، أَيْ: صِيغَةُ الْأَمْرِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ «حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ الْجَازِمِ» إِلَى آخِرِهِ.

مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ - وَهِيَ لَفْظُ افْعَلْ - نَحْوَ: اعْلَمْ،

ص: 354

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَاضْرِبْ، أُطْلِقَتْ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ لِمَعَانٍ:

أَحَدُهَا: الطَّلَبُ الْجَازِمُ، وَهُوَ الْإِيجَابُ، نَحْوَ:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 110] .

وَثَانِيهَا: النَّدْبُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عز وجل:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النُّورِ: 33] ، وَالْكِتَابَةُ مَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.

وَثَالِثُهَا: الْإِبَاحَةُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عز وجل:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [الْمَائِدَةِ: 2]، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الْمُلْكِ: 15] .

وَرَابِعُهَا: التَّعْجِيزُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عز وجل:{كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الْإِسْرَاءِ: 50]، أَيْ: فَلَنْ تُعْجِزَنِي إِعَادَتُكُمْ.

وَخَامِسُهَا: التَّسْخِيرُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الْبَقَرَةِ: 65]، أَيْ: تَسَخَّرَتْ مَوَادُ أَجْسَامِهِمْ، لِانْقِلَابِهَا عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى الْقِرْدِيَّةِ بِالْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ.

وَسَادِسُهَا: التَّسْوِيَةُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطُّورِ: 16]، أَيْ: الصَّبْرُ وَعَدَمُهُ.

وَسَابِعُهَا: الْإِهَانَةُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عز وجل:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَانِ: 49] عَلَى جِهَةِ الْإِهَانَةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [الْقَمَرِ: 48]، {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الْأَنْفَالِ: 50] ، وَ {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزُّمَرِ: 24] .

وَثَامِنُهَا: الْإِكْرَامُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عز وجل:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الْحِجْرِ: 46] .

ص: 355

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَتَاسِعُهَا: التَّهْدِيدُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَتْ: 40]، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} [الْعَنْكَبُوتِ: 66] ; فَهَذَا أَمْرٌ بِلَامِ الْأَمْرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عز وجل فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: 55] .

وَعَاشِرُهَا: الدُّعَاءُ، نَحْوَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الْأَعْرَافِ: 126] .

وَحَادِيَ عَشَرَهَا: الْخَبَرُ، كَقَوْلِهِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ، صَنَعْتَ مَا شِئْتَ ; فَقَوْلُهُ: صَنَعْتَ، وَالْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، يَصِحُّ فِي جَوَابِهَا: صَدَقَ أَوْ كَذَبَ.

وَثَانِيَ عَشَرَهَا: التَّمَنِّي، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي

بِصُبْحٍ وَمَا الْإِصْبَاحُ فِيكَ بِأَمْثَلِ

ص: 356

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: انْجَلِي: تَمَنَّى انْجِلَاءَهُ عَنْهُ لِطُولِهِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ:

وَلَيْلٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ

عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الْهُمُومِ لِيَبْتَلِي

فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ

وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ

أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَيْ: لِطُولِهِ عَلَيَّ، قُلْتُ لَهُ: أَنَا أَتَمَنَّى انْجِلَاءَكَ عَنِّي.

وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ لِمَعَانٍ أُخَرَ:

نَحْوَ الْإِرْشَادِ إِلَى مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، نَحْوَ:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [الْبَقَرَةِ: 282]، {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التَّحْرِيمِ: 6] ، يَعْنِي بِالتَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ.

وَالِامْتِنَانِ، نَحْوَ:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 57]، {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} [سَبَأٍ: 15] .

وَالْإِنْذَارِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:{خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النِّسَاءِ: 71] .

وَإِذَا ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي ; فَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ

ص: 357

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْجَازِمِ مِنْهَا، مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ. هَذَا الْمَذْكُورُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .

وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صِيغَةَ: افْعَلْ مَجَازٌ فِيمَا سِوَى الطَّلَبِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، أَوْ حَقِيقَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ، مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهَا، أَوْ فِي الطَّلَبِ، مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهُ.

قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ كَذَا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ، تَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ الطَّلَبُ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ.

قُلْتُ: وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ، ثَبَتَ أَنَّهَا لِلْجَزْمِ، بِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قُلْتُ: وَقَوْلِي: «كَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَالتَّعْجِيزِ، وَالتَّسْخِيرِ، وَالتَّسْوِيَةِ، وَالْإِهَانَةِ، وَالْإِكْرَامِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْخَبَرِ» ، هَذَا سَرْدٌ لِلْمَعَانِي الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ فِيهَا هَذِهِ الصِّيغَةُ.

وَقَوْلِي: «نَحْوَ كَاتِبُوهُمْ، اصْطَادُوا، {كُونُوا حِجَارَةً} ، {كُونُوا قِرَدَةً} ، {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} ، {ذُقْ إِنَّكَ} ، {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} ، اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِذَا لَمْ تَسْتَحْ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» هَذَا سَرْدٌ لِأَمْثِلَةِ تِلْكَ الْمَعَانِي، عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ.

وَالتَّمَنِّي ذِكْرُ مِثَالِهِ يَلِيهِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدْتُهُ ; لِأَنَّ مِثَالَهُ لَيْسَ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ أَمْثِلَةِ الْمَعَانِي.

ص: 358

وَلَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ الْأَمْرِ أَمْرًا إِرَادَتُهُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.

لَنَا: إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِرَادَةِ.

قَالُوا: الصِّيغَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْمَعَانِي ; فَلَا تَتَعَيَّنُ لِلْأَمْرِ إِلَّا بِالْإِرَادَةِ، إِذْ لَيْسَتْ أَمْرًا لِذَاتِهَا، وَلَا لِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ، إِذْ تَبْطُلُ بِالسَّاهِي وَالنَّائِمِ.

قُلْنَا: اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ الْأَمْرِ مَجَازٌ ; فَهِيَ بِإِطْلَاقِهَا لَهُ، وَلَا يَرِدُ لَفْظُ النَّائِمِ وَالنَّاسِي، إِذْ لَا اسْتِعْلَاءَ فِيهِ، ثُمَّ الْأَمْرُ وَالْإِرَادَةُ يَتَفَاكَّانِ كَمَنْ يَأْمُرُ وَلَا يُرِيدُ، أَوْ يُرِيدُ وَلَا يَأْمُرُ ; فَلَا يَتَلَازَمَانِ، وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَلَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ الْأَمْرِ أَمْرًا إِرَادَتُهُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ» .

اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ: الْأَمْرُ: هُوَ صِيغَةُ افْعَلْ بِشَرْطِ إِرَادَةِ إِحْدَاثِ الصِّيغَةِ، وَإِرَادَةِ الدَّلَالَةِ بِهَا عَلَى الْأَمْرِ، وَإِرَادَةِ الْآمِرِ الِامْتِثَالَ مِنَ الْمَأْمُورِ، بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَعِنْدَنَا هُوَ صِيغَةُ: افْعَلْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهِ أَمْرًا شَيْءٌ مِنَ الْإِرَادَاتِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: «لَنَا» : أَيْ: عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الصِّيغَةُ، مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْإِرَادَةِ، هُوَ «أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِرَادَةِ لِلْآمِرِ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَتَّبُوا ذَمَّ الْمَأْمُورِ أَوْ مَدْحَهُ، وَإِثْبَاتَهُ وَعُقُوبَتَهُ، عَلَى مُخَالَفَةِ مُجَرَّدِ الصِّيغَةِ أَوْ مُوَافَقَتِهَا وَلَمْ يَسْأَلُوا، وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا هَلْ أَرَادَ الْآمِرُ الْأَمْرَ أَوِ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ أَوْ

ص: 359

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَا؟ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، لَمَا أَهْمَلُوا السُّؤَالَ عَنْهُ، وَلَا رَتَّبُوا أَحْكَامَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، بِدُونِ تَحَقُّقِهِ، فَلَمَّا أَهْمَلُوا السُّؤَالَ عَنْهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، لَمْ يَكُنْ شَرْطًا مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَعَنْهُمْ يُؤْخَذُ أَقْسَامُ الْكَلَامِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّ الْإِرَادَةَ ظَهَرَتْ لَهُمْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ ; فَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنِ السُّؤَالِ.

قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَرَائِنِ، وَإِنْ سُلِّمَ وُجُودُهَا، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْأَمْرِ ; فَمَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهِ ; يَسْتَحِيلُ عَادَةً أَنْ لَا يَتَجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ; فَيَحْتَاجُونَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ شَرْطِهِ الْمَذْكُورِ ; فَيُنْقَلُ عَنْهُمْ، وَيُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنْ لَا أَصْلَ لِهَذَا الشَّرْطِ.

قَوْلُهُ: «قَالُوا: الصِّيغَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْمَعَانِي» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ مَنِ اشْتَرَطَ لِلْأَمْرِ الْإِرَادَةَ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ صِيغَةَ «افْعَلْ» لَوِ اسْتَغْنَتْ - فِي كَوْنِهَا أَمْرًا - عَنِ الْإِرَادَةِ ; لَكَانَتْ ; إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَمْرًا لِذَاتِهَا، أَوْ لِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ ; فَالْقَوْلُ بِاسْتِغْنَائِهَا عَنِ الْإِرَادَةِ بَاطِلٌ.

«وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ أَمْرًا لِذَاتِهَا» ، أَيْ: لِكَوْنِهَا صِيغَةَ افْعَلْ ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَمْرًا لِذَاتِهَا، لَمَا صَحَّ وُرُودُهَا لِلتَّهْدِيدِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا لَيْسَ الْمُرَادُ بِلَفْظِهَا

ص: 360

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فِيهِ الْأَمْرَ، وَلَكِنْ قَدْ صَحَّ وُرُودُهَا لِلتَّهْدِيدِ، نَحْوَ:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَتْ: 40] ; فَلَا تَكُونُ أَمْرًا لِذَاتِهَا.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ أَمْرًا، لِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْطُلُ بِالسَّاهِي وَالنَّائِمِ، فَإِنَّ صِيغَةَ افْعَلْ تَصْدُرُ مِنْهُمَا مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرَائِنِ، وَلَيْسَتْ أَمْرًا.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْرًا لِذَاتِهَا، وَلَا لِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ، وَقَدْ وَرَدَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمَعَانِي السَّابِقِ ذِكْرُهَا، عَلَى كَثْرَتِهَا ; فَحَمْلُهَا عَلَى الْأَمْرِ دُونَ بَقِيَّةِ تِلْكَ الْمَعَانِي، تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ ; فَوَجَبَ أَنْ تُشْتَرَطَ الْإِرَادَةُ فِي كَوْنِهَا أَمْرًا، لِتَتَعَيَّنَ لَهُ بِهَا.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا: اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ الْأَمْرِ مَجَازٌ ; فَهِيَ بِإِطْلَاقِهَا لَهُ» ، هَذَا جَوَابُ دَلِيلِهِمْ، وَهُوَ يَمْنَعُ الْحَصْرَ فِي قَوْلِهِمْ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَمْرًا لِذَاتِهَا، أَوْ لِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ.

وَبَيَانُهُ أَنَّ ثَمَّ قِسْمًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْأَمْرِ بِوَضْعِ الْوَاضِعِ، أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ مِنْ مُبَادَرَةِ فَهْمِ الطَّلَبِ الْجَازِمِ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةً فِيهِ ; فَهِيَ بِإِطْلَاقِهَا لَهُ. فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالْإِرَادَةِ، وَهِيَ مَجَازٌ فِي غَيْرِ الْأَمْرِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ الِاشْتِرَاكُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِهَا لِلْأَمْرِ بِالْإِرَادَةِ، لَوْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً فِي الْمَعَانِي الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا لَفْظُ النَّائِمِ وَالنَّاسِي بِصِيغَةِ افْعَلْ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا ; فَلَا يَرِدُ

ص: 361

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَلَيْنَا ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ كَوْنِهِ أَمْرًا ; لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ الْإِرَادَةِ، بَلْ لِعَدَمِ الِاسْتِعْلَاءِ فِيهِ، إِذِ الِاسْتِعْلَاءُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنَ السَّاهِي وَالنَّائِمِ ; لِأَنَّ الِاسْتِعْلَاءَ كَيْفِيَّةٌ تَصْدُرُ عَنْ تَصَوُّرِ الْآمِرِ، وَاسْتِشْعَارِهِ أَنَّهُ أَعْلَى مِنَ الْمَأْمُورِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ التَّصَوُّرِ وَالْقَصْدِ، وَهُمَا مُمْتَنِعَانِ فِي النَّائِمِ وَالسَّاهِي، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: لَا يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ إِلَيْهِمَا حَالَ النَّوْمِ وَالسَّهْوِ.

وَقَدْ يَرِدُ عَلَى هَذَا: أَنَّ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الِاسْتِعْلَاءَ أَيْضًا، يُصَحِّحُ الْأَمْرَ مِنْهُمَا ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الِاسْتِعْلَاءِ مِنْهُمَا لَيْسَ هُوَ الْمَانِعَ، لَكِنْ يُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ الِاسْتِعْلَاءِ لَيْسَ هُوَ الْمَانِعَ، لَكِنَّ عَدَمَ الْإِرَادَةِ لَا يَتَعَيَّنُ مَانِعًا، إِذْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ غَيْرَهُ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْأَمْرُ وَالْإِرَادَةُ يَتَفَاكَّانِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى بُطْلَانِ اشْتِرَاطِ الْإِرَادَةِ لِلْآمِرِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِرَادَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلْأَمْرِ، لَمَا انْفَكَّتْ عَنْهُ، لِاسْتِحَالَةِ انْفِكَاكِ الْمَشْرُوطِ عَنْ شَرْطِهِ، لَكِنَّهُمَا يَتَفَاكَّانِ جَمِيعًا، أَيْ: يَنْفَكُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ ; فَلَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ شَرْطًا لِلْأَمْرِ.

وَبَيَانُ انْفِكَاكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ هُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَأْمُرَ الْمُتَكَلِّمُ

ص: 362

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِمَا لَا يُرِيدُ، وَأَنْ يُرِيدَ مَا لَا يَأْمُرُ بِهِ.

أَمَّا الْأَمْرُ بِمَا لَا يُرَادُ ; فَكَأَمْرِ اللَّهِ عز وجل الْكُفَّارَ بِالْإِيمَانِ، مَعَ عَدَمِ إِرَادَتِهِ مِنْهُمْ، إِذْ لَوْ أَرَادَهُ مِنْهُمْ، لَكَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ إِيمَانِهِمْ مُرَادًا لَهُ عز وجل: هُوَ تَعَلُّقُ إِرَادَتِهِ بِهِ، وَمَعْنَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِهِ هُوَ تَخْصِيصُهَا بِحُدُوثِهِ مِنْهُمْ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، إِذْ شَأْنُ الْإِرَادَةِ التَّخْصِيصُ، وَشَأْنُ الْقُدْرَةِ التَّأْثِيرُ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدِ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لَهُ عز وجل، مَعَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ ; فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ يَصِحُّ وُجُودُهُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ، وَكَذَلِكَ: لَوْ عُوتِبَ شَخْصٌ عَلَى مُعَاقَبَةِ عَبْدِهِ ; فَادَّعَى مُخَالَفَتَهُ لَهُ، وَأَرَادَ إِقَامَةَ عُذْرِهِ عِنْدَ مُعَاتِبِهِ ; فَقَالَ لِعَبْدِهِ: اذْهَبْ ; فَافْعَلْ كَذَا ; فَهَذَا أَمْرٌ لَهُ بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُرِيدُ مِنْهُ الِامْتِثَالَ قَطْعًا، لِئَلَّا يُفْضِي إِلَى تَكْذِيبِهِ عِنْدَ مُعَاتِبِهِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِقَامَةُ عُذْرِهِ عِنْدَهُ.

وَكَذَلِكَ نُوحٌ عليه السلام، لَمَّا قِيلَ لَهُ:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] ، وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمَّا أُخْبِرُوا أَنَّ كُفَّارَ قَوْمِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، إِقَامَةً لِرَسْمِ الدَّعْوَةِ، وَلَا يُرِيدُونَهُ مِنْهُمْ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِفْضَاءُ إِيمَانِهِمْ إِلَى تَكْذِيبِ خَبَرِ اللَّهِ عز وجل.

ص: 363

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الثَّانِي: اسْتِحَالَةُ إِيمَانِهِمْ، لِتَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِهِ، وَالْمُحَالُ غَيْرُ مُرَادٍ.

وَأَمَّا إِرَادَةُ مَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ ; فَهُوَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ، إِذِ الْإِنْسَانُ كَثِيرًا مَا يُرِيدُ شَيْئًا، وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، خَوْفًا، أَوْ حَيَاءً، أَوْ تَدَيُّنًا، كَمَا لَوْ حَرَّمَ السُّلْطَانُ عَصْرَ الْعِنَبِ خَمْرًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُرِيدُ عَصْرَهُ، وَلَا يَأْمُرُ بِهِ عَبْدَهُ، وَلَا وَلَدَهُ، وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، خَوْفًا أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ ; فَيُعَاقَبُ، وَالصَّائِمُ قَدْ يُرِيدُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، وَلَا يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِإِحْضَارِهِ، لِيَتَنَاوَلَ مِنْهُ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عز وجل وَمُحَافَظَةً عَلَى الدِّينِ.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالْإِرَادَةَ يَتَفَاكَّانِ، «فَلَا يَتَلَازَمَانِ» .

أَيْ: لَا يَلْزَمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا، «وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ» .

أَيْ: لَوْ تَلَازَمَا مَعَ صِحَّةِ تَفَاكِّهِمَا، لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ تَفَاكُّهُمَا، وَعَدَمُ تَفَاكِّهِمَا، أَوْ تَلَازُمُهُمَا وَعَدَمُ تَلَازُمِهِمَا، وَهُوَ مُحَالٌ.

ص: 364

ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ عَنْ قَرِينَةٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ ; وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ النَّدْبَ حَمْلًا لَهُ عَلَى مُطْلَقِ الرُّجْحَانِ، وَنَفْيًا لِلْعِقَابِ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَقِيلَ: الْإِبَاحَةَ لِتَيَقُّنِهَا.

وَقِيلَ: الْوَقْفَ لِاحْتِمَالِهِ كُلَّ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ وَلَا مُرَجِّحَ.

لَنَا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النُّورِ: 63]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [الْمُرْسَلَاتِ: 48] ، ذَمَّهُمْ وَذَمَّ إِبْلِيسَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ، وَدَعْوَى قَرِينَةِ الْوُجُوبِ، وَاقْتِضَاءُ تِلْكَ اللُّغَةِ لَهُ دُونَ هَذِهِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ; وَإِنَّ السَّيِّدَ لَا يُلَامُ عَلَى عِقَابِ عَبْدِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ مُجَرَّدِ أَمْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ.

ــ

«ثُمَّ هُنَا» ، أَيْ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ «مَسَائِلُ» :

الْأُولَى: الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ عَنْ قَرِينَةٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ «، إِلَى آخِرِهِ.

اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا أَوْ مُجَرَّدًا، فَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِقَرِينَةٍ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوُجُوبُ، أَوِ النَّدْبُ، أَوِ الْإِبَاحَةُ، حُمِلَ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ قَرِينَةٍ ; فَهُوَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْجِبَائِيِّ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ يَقْتَضِي النَّدْبَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ» حَمْلًا لَهُ «، أَيْ: لِلْأَمْرِ» عَلَى مُطْلَقِ الرُّجْحَانِ، وَنَفْيًا لِلْعِقَابِ بِالِاسْتِصْحَابِ «، هَذَا تَوْجِيهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ.

ص: 365

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَرَدَ تَارَةً لِلْوُجُوبِ كَمَا فِي الْمَكْتُوبَةِ، وَتَارَةً لِلنَّدْبِ كَمَا فِي صَلَاةِ الضُّحَى، وَالْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ خِلَافُ الْأَصْلِ ; فَوَجَبَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَهُوَ مُطْلَقُ رُجْحَانِ الْفِعْلِ.

وَأَمَّا الْعِقَابُ عَلَى التَّرْكِ ; فَيَنْتَفِي بِالِاسْتِصْحَابِ، أَيْ: اسْتِصْحَابِ حَالِ عَدَمِهِ، وَهُوَ كَوْنُ الْأَصْلِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْهُ.

هَكَذَا وَقَعَ فِي» الْمُخْتَصَرِ «، وَالْأَوْلَى أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، يَجْعَلُ نَفْيَ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ، مُسْتَفَادًا مِنْ لَفْظِ النَّدْبِ ; لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ رُجْحَانِ الْفِعْلِ، وَجَوَازِ التَّرْكِ. وَإِذَا جُعِلَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، كَانَ نَفْيُ الْعِقَابِ مُسْتَفَادًا مِنِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَهَذَانِ مَذْهَبَانِ، وَتَوْجِيهُهُمَا مَا ذُكِرَ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ هَذَا الْفَرْقِ.

قَوْلُهُ:» وَقِيلَ: الْإِبَاحَةُ «، أَيْ: وَقِيلَ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ الْإِبَاحَةُ» لِتَيَقُّنِهَا «، أَيْ: أَنَّ الْأَمْرَ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَهِيَ الْمُتَيَقَّنَةُ ; فَلْيَكُنِ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِيهَا، وَيَقِفُ حَمْلُهُ عَلَى خُصُوصِيَّةِ النَّدْبِ، أَوِ الْوُجُوبِ عَلَى الدَّلِيلِ ; لِأَنَّهُمَا مَشْكُوكٌ فِيهِمَا ; فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْإِقْدَامِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ ; فَلْيَكُنِ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِيهِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، دَفْعًا لِلْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ.

- قَوْلُهُ:» وَقِيلَ: الْوَقْفَ «، أَيْ: وَقِيلَ: الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوَقْفَ، أَوْ حُكْمُهُ الْوَقْفُ،» لِاحْتِمَالِهِ كُلَّ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ مِنْ إِبَاحَةٍ، وَنَدْبٍ، وَوُجُوبٍ، وَلَا مُرَجِّحَ «لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ; فَيَجِبُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُرَجِّحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ،

ص: 366

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَاخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ هَاهُنَا، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَعُمْدَتُهُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ، وَاتِّجَاهُ الْقَدْحِ فِيهَا ; فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ عَلَى حُجَّةِ الْقَادِحِ فِيهَا.

قُلْتُ: وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَيِّدَةٌ فِي الْمُطَالَبَةِ الْقَطْعِيَّةِ، أَمَّا الظَّنِّيَّةُ ; فَيَكْفِي فِيهَا ظُهُورُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ قَادِحٌ مَا.

هَذِهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَالْوَقْفُ. وَقَدْ ذُكِرَ تَوْجِيهُ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي تَوْجِيهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْوُجُوبُ.

قَوْلُهُ:» لَنَا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} إِلَى آخِرِهِ.

أَيْ: لَنَا عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّورِ: 63] ; فَتَوَعَّدَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الرَّسُولِ بِالْعَذَابِ، وَالْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ امْتِثَالَ أَمْرِهِ وَاجِبٌ، وَلَا يَعْنِي بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إِلَّا هَذَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ عز وجل عَنِ الْكُفَّارِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الْمُرْسَلَاتِ: 48، 49] ، وَلَمَّا أَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ ; فَأَبَى، قَالَ لَهُ:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} إِلَى قَوْلِهِ:

ص: 367

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

{اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الْأَعْرَافِ: 12 - 18] ; فَذَمَّ الْكُفَّارَ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ عِبَادَةً، وَذَمَّ إِبْلِيسَ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ تَحِيَّةً، وَذَلِكَ ذَمٌّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، إِذْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَا ذُمَّ تَارِكُهُ شَرْعًا.

قَوْلُهُ: «وَدَعْوَى قَرِينَةِ الْوُجُوبِ، وَاقْتِضَاءِ تِلْكَ اللُّغَةِ لَهُ، دُونَ هَذِهِ، غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ» . هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ، يُورِدُهُ الْخَصْمُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ، بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذَّمَّ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ، بَلِ اقْتَرَنَ بِالْأَمْرِ فِيهَا قَرِينَةٌ أَفَادَتِ الْوُجُوبَ، وَلَوْلَا تِلْكَ الْقَرِينَةُ، لَمْ يَقْتَضِ الْوُجُوبَ، وَلَا الْوَعِيدَ وَالذَّمَّ عَلَى التَّرْكِ.

فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ الْأُولَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ، الْمُفِيدِ لِلْوُجُوبِ، بِقَرِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.

وَتَقْدِيرُ الثَّانِيَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} ، وَاسْتَفَادُوا الْوُجُوبَ بِقَرِينَةٍ، أَوْ تَصْرِيحٍ بِهِ.

وَذَلِكَ أَمْرُ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ، اقْتَرَنَ بِهِ قَرِينَةٌ أَفَادَتِ الْوُجُوبَ ; فَكَانَ ذَمُّهُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، لَا عَلَى مُطْلَقِ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: مُخْتَصٌّ بِقِصَّةِ إِبْلِيسَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي اللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَ اللَّهُ عز وجل بِهَا الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ كَانَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ; فَلِذَلِكَ ذَمَّ

ص: 368

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ لُغَتِنَا هَذِهِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ; لِأَنَّهَا مُجَرَّدَةٌ عَنْ حُجَّةٍ:

أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ اقْتِرَانُ الْأَمْرِ بِمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ ; فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَرِينَةِ، وَمُجَرَّدُ احْتِمَالِهَا لَا يَكْفِي، وَلَا يُتْرَكُ لَهُ ظَاهِرُ الْخِطَابِ.

وَأَمَّا اقْتِضَاءُ الْأَمْرِ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ الْوُجُوبَ، دُونَ هَذِهِ ; فَخِلَافُ الظَّاهِرِ أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى، حَكَى لَنَا الْحِكَايَةَ بِلُغَةٍ، وَالْأَصْلُ مُطَابَقَةُ الْحِكَايَةِ لِلْمَحْكِيِّ، وَمُوَافَقَتُهُ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عز وجل أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ، بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ: إِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ حَكَى الْقِصَّةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَكِنَّ اللَّهَ عز وجل صَادِقٌ فِي إِخْبَارِهِ، وَالصِّدْقُ يَقْتَضِي مُطَابَقَةَ الْمُخْبَرِ بِهِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مُطَابَقَةً مَعْنَوِيَّةً، وَهُوَ إِيرَادُ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَاللَّهُ عز وجل لَيْسَ يَعْزُبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ; فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ: فَهَذِهِ الدَّعْوَى إِذَا قُوبِلَتْ بِظَاهِرِ الْحَالِ، كَانَتْ هَبَاءً مَنْثُورًا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا خَالَفَ مُجَرَّدَ أَمْرِ سَيِّدِهِ ; فَعَاقَبَهُ، لَمْ يُلَمْ عَلَى عِقَابِهِ، بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَلَوْلَا إِفَادَةُ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ الْوُجُوبَ، لَاتَّجَهَ لَوْمُ السَّيِّدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَتَّجِهُ ; فَدَلَّ عَلَى إِفَادَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لِمُجَرَّدِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَمُبَادَرَةِ الذِّهْنِ، أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، ثَبَتَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ ; فَيَضْعُفُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ لِلنَّدْبِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ ; حَمْلًا لَهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، وَقَوْلُ مَنْ تَوَقَّفَ لِظُهُورِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.

ص: 369

الثَّانِيَةُ: صِيغَةُ الْأَمْرِ الْوَارِدَةُ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلِمَا هِيَ لَهُ قَبْلَ الْحَظْرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.

وَقِيلَ: إِنْ وَرَدَ بِصِيغَةِ افْعَلْ فَكَالْأَوَّلِ لِلْعُرْفِ، وَإِلَّا فَكَالثَّانِي، نَحْوَ: أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِكَذَا، لِعَدَمِهِ فِيهِ، وَالْحَقُّ اقْتِضَاؤُهَا الْإِبَاحَةَ عُرْفًا لَا لُغَةً.

لَنَا: فَهْمُ الْإِبَاحَةِ مِنْ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: كُلْ هَذَا الطَّعَامَ بَعْدَ مَنْعِهِ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ غَالِبًا كَذَلِكَ، نَحْوَ:(وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)[الْمَائِدَةِ: 2]، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا) [الْجُمُعَةِ: 10] ، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) [الْبَقَرَةِ: 222] ، وَنَحْوِهَا، وَاسْتِفَادَةُ وُجُوبِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: 12] وَنَحْوِهَا، لَا مِنْ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 5] .

وَفِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ التَّحْرِيمَ أَوِ الْكَرَاهَةَ خِلَافٌ، وَيَحْتَمِلُ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا، وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ إِذْ هَذَا رَفْعٌ لِلْإِذْنِ بِكُلِّيَّتِهِ، وَمَا قَبْلَهُ رَفْعٌ لِلْمَنْعِ ; فَيَبْقَى الْإِذْنُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ " الثَّانِيَةُ: صِيغَةُ الْأَمْرِ الْوَارِدَةُ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلِمَا هِيَ لَهُ قَبْلَ الْحَظْرِ "، يَعْنِي مِنْ إِيجَابٍ أَوْ إِبَاحَةٍ " عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ "، أَيْ: إِنْ كَانَتْ قَبْلَ الْحَظْرِ لِلْوُجُوبِ ; فَهِيَ لَهُ بَعْدَ الْحَظْرِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْإِبَاحَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ.

" وَقِيلَ: إِنْ وَرَدَ "، يَعْنِي الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ، " بِصِيغَةِ افْعَلْ فَكَالْأَوَّلِ "، أَيْ: يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ " لِلْعُرْفِ "، أَيْ: لِأَنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل. " وَإِلَّا "، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بَعْدَ الْحَظْرِ بِصِيغَةِ افْعَلْ " فَكَالثَّانِي "،

ص: 370

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَيْ: فَهُوَ كَالثَّانِي، أَيْ: يَكُونُ لِمَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الْحَظْرِ، مِنْ وُجُوبٍ، أَوْ إِبَاحَةٍ " نَحْوَ: أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِكَذَا "، إِذْ هَذَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، لَا الْأَمْرِ، " لِعَدَمِهِ " أَيْ: لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِيهِ بِخِلَافِ الْوَارِدِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. هَذَا نَقْلُ " الْمُخْتَصَرِ " وَأَصْلُهُ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إِذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ، اقْتَضَى الْوُجُوبَ عِنْدَ الْبَاجِيِّ، وَمُتَقَدِّمِي أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ، وَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

وَحَكَى الْآمِدِيُّ الْوُجُوبَ، وَالْإِبَاحَةَ، وَالْوَقْفَ، وَاخْتَارَهُ.

قَوْلُهُ: " وَالْحَقُّ اقْتِضَاؤُهَا الْإِبَاحَةَ عُرْفًا، لَا لُغَةً ". هَذَا تَفْصِيلٌ اخْتَرْتُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ، لَا اللُّغَةُ، إِذْ هُوَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، كَمَا سَبَقَ. وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.

قَوْلُهُ: " لَنَا: فَهْمُ الْإِبَاحَةِ مِنْ قَوْلِ السَّيِّدِ ". هَذَا دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا مَنَعَ عَبْدَهُ مِنْ طَعَامٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُلْهُ ; فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنْهُ الْإِبَاحَةَ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ لُغَةً، أَوْ عُرْفًا، أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ.

قَوْلُهُ: " وَهُوَ فِي الشَّرْعِ غَالِبًا كَذَلِكَ ": هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْوُقُوعِ، أَيْ: وَالْأَمْرُ الْوَارِدُ فِي الشَّرْعِ بَعْدَ الْحَظْرِ غَالِبًا، أَيْ: فِي غَالِبِ مَوَارِدِهِ كَذَلِكَ، أَيْ: لِلْإِبَاحَةِ ; فَقَدْ تَطَابَقَ الدَّلِيلُ وَالْوُقُوعُ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ عز وجل:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} بَعْدَ

ص: 371

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلِهِ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [الْمَائِدَةِ: 1] ; فَفُهِمَ مِنْهُ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الْجُمُعَةِ: 10] ، اقْتَضَى إِبَاحَةَ الِانْتِشَارِ بَعْدَ الْمَنْعِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ عز وجل:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [الْبَقَرَةِ: 222]، اقْتَضَى إِبَاحَةَ الْوَطْءِ بَعْدَ قَوْلِهِ:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَوَارِدِ هَذِهِ الصِّيغَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ، هُوَ لِلْإِبَاحَةِ ; فَلْتَكُنْ هِيَ مُقْتَضَاهُ.

- قَوْلُهُ: " وَاسْتِفَادَةُ وُجُوبِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ، وَنَحْوِهَا، لَا مِنْ:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: اسْتَفَدْنَا مِنْ قَوْلِهِ عز وجل: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التَّوْبَةِ: 5] ، وُجُوبَ قَتْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، بِحُكْمِ الْعَهْدِ ; فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا بِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ فِي الْأَمْرِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ كَمَا سَبَقَ.

وَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَنْعِهِ، لَمْ نَسْتَفِدْهُ مِنْ قَوْلِهِ عز وجل:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، بَلْ مِنْ قَوْلِهِ عز وجل:{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التَّوْبَةِ: 12] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، نَحْوَ:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 191]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التَّحْرِيمِ: 9] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التَّوْبَةِ: 123] ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَلَوْ تُرِكْنَا وَظَاهِرَ قَوْلِهِ عز وجل:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ، لَمَا فَهِمْنَا إِلَّا إِبَاحَةَ قِتَالِهِمْ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْوُجُوبُ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ.

وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ ; فَتَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبٍ، كَوُجُوبِ قِتَالِ

ص: 372