الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ أَخَذَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا، وَلَا يُنْكَحَانِ إِلَّا بِمَالٍ ; فَقَالَ: " اذْهَبِي حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكِ ; فَذَهَبَتْ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّسَاءِ: 11] ; فَبَعَثَ خَلْفَ الْمَرْأَةِ وَابْنَتَيْهَا وَعَمِّهِمَا ; فَقَضَى فِيهِمْ بِحُكْمِ الْآيَةِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَمَا سَيُذْكَرُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ وُجِدَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَ
الْبَيَانُ الْفِعْلِيُّ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِيِّ»
، أَيِ: الْبَيَانُ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنَ الْبَيَانِ بِالْقَوْلِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْبَيَانِ بِهِمَا، إِلَّا عِنْدَ شُذُوذٍ مِنَ النَّاسِ فِي الْبَيَانِ الْفِعْلِيِّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِيِّ: أَنَّ الْفِعْلِيَّ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ وَعِيَانٌ لِصُورَةِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُهُ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ ; فَالْبَيَانُ الْفِعْلِيُّ مُدْرَكٌ بِالتَّصَوُّرِ الذِّهْنِيِّ، وَالْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ، بِخِلَافِ الْقَوْلِيِّ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّصَوُّرُ الذِّهْنِيُّ فَقَطْ ; فَكَانَ الْفِعْلِيُّ أَقْوَى.
وَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ النَّاسِ عَالِمًا بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ، لِتَكَرُّرِ أَفْعَالِهَا عَلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، بِخِلَافِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَإِنَّ صِبْيَانَ مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى - أَعْلَمُ بِهَا مِنْ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْآفَاقِ الْمُبَرِّزِينَ فِي الْعِلْمِ، لِدُرْبَةِ أُولَئِكَ الصِّبْيَانِ بِهَا دُونَهُمْ.
وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ أَصْحَابَهُ مَثَلَ ابْنِ آدَمَ، وَأَجَلَهُ، وَأَمَلَهُ، خَطَّ لَهُمْ خَطًّا مُرَبَّعًا، صَوَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ فِيهِ، كَمَا صَحَّ فِي السُّنَّةِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَخَطَّ لَهُمْ مَرَّةً خَطًّا مُسْتَقِيمًا وَإِلَى جَانِبِهِ خُطُوطٌ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، وَهَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الْأَنْعَامِ: 153] .
وَكَذَلِكَ الْمُهَنْدِسُونَ وَأَصْحَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَضَعُوا فِي كُتُبِهِمْ صُوَرَ الْأُكَرِ، وَالزَّوَايَا، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَشْكَالِ، لِتَكُونَ أَسْرَعَ إِلَى فَهْمِ الْمُتَعَلِّمِ.
قَوْلُهُ: «وَتَبْيِينُ الشَّيْءِ بِأَضْعَفَ مِنْهُ، كَالْقُرْآنِ بِالْآحَادِ جَائِزٌ» .
اعْلَمْ أَنَّ الْبَيَانَ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنَ الْمُبَيَّنِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، أَوْ أَضْعَفَ مِنْهُ فِي الدَّلَالَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْبَيَانِ بِالْأَقْوَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَيَانِ بِالْأَضْعَفِ ; فَأَجَازَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بِالْأَضْعَفِ وَالْمُسَاوِي، وَاشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ رَاجِحًا. وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا، لَكَانَ إِمَّا مُسَاوِيًا، أَوْ مَرْجُوحًا.
وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْوَقْفُ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلْآخَرِ مِنَ الْعَكْسِ.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ الرَّاجِحِ بِالْمَرْجُوحِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَهَذَا حُجَّةُ الْكَرْخِيِّ عَلَى مَنْعِ الْبَيَانِ بِالْأَضْعَفِ.
وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَتَّجِهُ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ ; لِأَنَّ تَبْيِينَ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
دَلَالَةً مِنْهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ; لِأَنَّ التَّبْيِينَ تَخْلِيصٌ، وَتَمْيِيزٌ لِبَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ مِنْ بَعْضٍ، وَالضَّعِيفُ لَا يُخَلِّصُ الْقَوِيَّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِمَثَابَةِ تَعْدِيلِ الْفَاسِقِ لِلْعَدْلِ، وَتَصْيِيرِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ طَهُورًا بِإِضَافَةِ الْمَاءِ النَّجِسِ إِلَيْهِ، وَالتَّعْرِيفِ بِالْأَخْفَى، كَقَوْلِنَا: الْأَسَدُ هُوَ الْغَضَنْفَرُ، أَوِ الدَّلَهْمَسُ، وَالْعَنْكَبُوتُ: هُوَ الْخَدَرْنَقُ، وَالْأَرْنَبُ: الْخِرْنِقُ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْبَيَانَ بِالْأَضْعَفِ يَجُوزُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ ذَلِكَ الْأَضْعَفُ عِنْدَهُ أَقْوَى، لَكِنْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى هَذَا الشَّخْصِ لَيْسَ بَيَانًا بِالْأَضْعَفِ بَلْ بِالْأَقْوَى، كَمَا يُقَالُ لِلْعِرَاقِيِّ: الْفُولُ الْبَاقِلَّا ; لِأَنَّ الْبَاقِلَّا أَشْهَرُ عَنْهُ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِيِّ وَنَحْوِهُ ; لِأَنَّ الْفُولَ عِنْدَهُمْ أَشْهَرُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مَسْأَلَةَ «الْمُخْتَصَرِ» ; لِأَنَّ الْكَلَامَ هَهُنَا فِي تَبْيِينِ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ، وَمَسْأَلَةُ «الْمُخْتَصَرِ» وَ «الرَّوْضَةِ» مُمَثَّلَةٌ بِتَبْيِينِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ فِي الرُّتْبَةِ لَا فِي الدَّلَالَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ الرُّتْبَةِ ضَعَّفُ الدَّلَالَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْأَضْعَفُ رُتْبَةً أَقْوَى دَلَالَةً، كَتَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُ أَخَصُّ ; فَيَكُونُ أَدَلَّ.
فَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ الضَّعْفَ إِنْ كَانَ فِي الدَّلَالَةِ، لَمْ يَجُزْ تَبْيِينُ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ، لِمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ فِي الرُّتْبَةِ، جَازَ إِذَا كَانَ أَقْوَى دَلَالَةً، وَمَنْ أَجَازَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْبَيَانَ بِالْأَضْعَفِ، أَجَازَهُ بِالْمُسَاوِي، وَلَا عَكْسَ، وَمَنِ اشْتَرَطَ الرُّجْحَانَ فِي الْبَيَانِ، لَمْ يُجِزْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا سَبَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَائِدَةٌ: قَدْ يَكُونُ الْبَيَانُ مُتَّصِلًا كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا كَتَبْيِينِهِ سُبْحَانَهُ الْمُرَادَ مِنَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ، بِقَوْلِهِ عز وجل: مِنَ الْفَجْرِ [الْبَقَرَةِ: 187]، وَكَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا مَنَّتْ
فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنَّهُ مِنَ الْمَنِّ، وَهُوَ الْإِنْعَامُ بِالْوَصْلِ، أَوِ الْوَعْدُ الصَّادِقُ بِهِ، أَوْ مِنَ التَّمَنِّي، ثُمَّ بَيَّنَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ:
إِنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ