الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّمَنِّي، الَّذِي هُوَ كَأَحْلَامِ النَّائِمِ، لَا مِنَ الْمَنِّ.
قَوْلُهُ: «وَ
تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ
مُمْتَنِعٌ، إِلَّا عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ» ، يَعْنِي تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ ; فَمَنْ أَجَازَهُ، أَجَازَ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَمَنْ مَنْعَهُ، مَنَعَهُ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: صَلُّوا غَدًا، ثُمَّ لَا يُبَيِّنُ لَهُمْ فِي غَدٍ كَيْفَ يُصَلُّونَ، أَوْ: آتَوُا الزَّكَاةَ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ، ثُمَّ لَا يُبَيِّنُ لَهُمْ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ كَمْ يُؤَدُّونَ، أَوْ إِلَى مَنْ يُؤَدُّونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى امْتِنَاعِهِ.
قَوْلُهُ: «وَعَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِهَا جَائِزٌ» ، أَيْ: وَ
تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ
إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ عِنْدَ الْقَاضِي، وَابْنِ حَامِدٍ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنَعَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَأَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْأَمْرِ دُونَ الْخَبَرِ، وَذَهَبَ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: مَا لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ، كَالْمُجْمَلِ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ، وَمَا لَهُ ظَاهِرٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ، يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ التَّفْصِيلِيِّ، لَا الْإِجْمَالِيِّ، بِأَنْ يَقُولَ وَقْتَ الْخِطَابِ مَثَلًا: هَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ، وَلَا يَجِبْ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ تَخْصِيصِهِ بِبَيَانِ غَيْرِ الْمُخَصَّصِ وَمِقْدَارِ مَا يُخَصُّ مِنْهُ.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ، دُونَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
غَيْرِهِ كَالظَّاهِرِ وَالْعُمُومِ وَالنَّسْخِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الْبَيَانِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ مُطْلَقًا.
وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُولَ وَقْتَ الْفَجْرِ مَثَلًا: صَلُّوا الظُّهْرَ، ثُمَّ يُؤَخِّرَ بَيَانَ أَحْكَامِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، أَوْ يَقُولَ: حُجُّوا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ يُؤَخِّرَ بَيَانَ أَحْكَامِ الْحَجِّ إِلَى دُخُولِ الْعَشْرِ.
لَنَا: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هُودٍ: 1]، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 19] ، وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي، وَأُخِّرَ بَيَانُ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّ ابْنَ نُوحٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بَيَانَ:{ذَوِي الْقُرْبَى} ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ. وَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} ، وَبَيَّنَ جِبْرِيلُ:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} بِفِعْلِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ، وَلِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ زَمَنِيٌّ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ ; فَكَذَا هَذَا.
قَالُوا: الْخِطَابُ بِمَا لَا يُفْهَمُ عَبَثٌ، وَتَجْهِيلٌ فِي الْحَالِ كَمُخَاطَبَةِ الْعَرَبِيِّ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَعَكْسِهِ، وَإِيجَابِ الصَّلَاةِ بِأَبْجَدْ هَوَّزْ، وَكَإِرَادَةِ الْبَقَرِ مِنْ قَوْلِهِ:«فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ» .
قُلْنَا: بَاطِلٌ بِالْمُتَشَابِهِ لَا تُفْهَمُ حَقِيقَتُهُ، وَلَيْسَ تَجْهِيلًا، وَلَا عَبَثًا، فَإِنْ مَنَعَ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَائِدَتُهُ الِانْقِيَادُ الْإِيمَانِيُّ.
قُلْنَا: وَهَذَا الِانْقِيَادُ التَّكْلِيفِيُّ وَإِيجَابُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَطْعُ السَّارِقِ وَنَحْوُهَا يُفِيدُ مَاهِيَّاتِ الْأَحْكَامِ، وَتُفَصَّلُ عِنْدَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ ; فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا.
ــ
«لَنَا» عَلَى جَوَازِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هُودٍ: 1] .
الثَّانِي: قَوْلُهُ عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 18، 19] .
فَرَتَّبَ تَفْصِيلَ الْآيَاتِ عَلَى أَحْكَامِهَا، وَبَيَانَ الْقُرْآنِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِـ «ثُمَّ» وَهِيَ لِلتَّرَاخِي، وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا جَوَازُهُ إِلَيْهَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عليه السلام بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، ثُمَّ أَخَّرَ بَيَانَ صِفَتِهَا حَتَّى رَاجَعُوهُ فِيهَا مِرَارًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ عز وجل: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 67، 71] ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، أَخَّرَ بَيَانَ أَنَّ ابْنَ نُوحٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لِنُوحٍ عليه السلام:{اصْنَعِ الْفُلْكَ} [هُودٍ: 37]، وَ {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هُودٍ: 40] ، وَهُوَ عَامٌّ فِي ابْنِهِ وَغَيْرِهِ، فَلَمَّا أَدْرَكَ ابْنَ نُوحٍ الْغَرَقُ، خَاطَبَ نُوحٌ رَبَّهُ عز وجل فِيهِ بِقَوْلِهِ:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هُودٍ: 45]، أَيْ: وَعَدْتَنِي أَنْ تُنْجِيَ أَهْلِي، وَإِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ; فَأَنْجِهِ ; فَقَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هُودٍ: 46] ; فَسَكَتَ نُوحٌ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ مَا سَمِعَ خَائِفًا مُسْتَغْفِرًا ; فَهَذَا تَأْخِيرُ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَخَّرَ بَيَانَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ:
مِنْهَا: بَيَانُ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الْأَنْفَالِ: 41] ، اقْتَضَتِ الْآيَةُ أَنَّ جَمِيعَ الْغَنِيمَةِ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْقُرْبَى بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، دُونَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، لِمَنْعِهِ لَهُمْ مِنْهَا، وَقَوْلِهِ: إِنَّا وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الْحَجِّ: 78] ، بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَحْكَامَهَا مُؤَخَّرًا، بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ، فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الزَّكَاةِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] ، أَخَّرَ بَيَانَهُ بِفِعْلِهِ، وَقَوْلِهِ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ. كَمَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْأَنْعَامِ: 72] ، بَيَّنَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام بِفِعْلِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ مُتَأَخِّرًا، وَالْإِشَارَةُ بِالْيَوْمَيْنِ، إِلَى مَا رَوَى نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ ; فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ، الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ ; فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
السَّادِسُ: أَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا بَيَانٌ فِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ قَدْ وَجَبَ التَّأْخِيرُ فِي النَّسْخِ ; فَلْيَجُزِ التَّأْخِيرُ هَهُنَا، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّسْخِ وَغَيْرِهِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَ النَّسْخِ يُوهِمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي زَمَنٍ، لَيْسَ ثَابِتًا فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَتَأْخِيرُ تَخْصِيصِ الْعَامِّ يُوهِمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ التَّخْصِيصِ، وَلَيْسَ ثَابِتًا فِيهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكِلَاهُمَا مَحْذُورٌ. وَقَدِ الْتَزَمَ الْخَصْمُ أَحَدَهُمَا ; فَيَلْزَمُهُ الْتِزَامُ الْآخَرِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْخِطَابُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا حُجَّةُ الْمَانِعِينَ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْخِطَابَ بِالْمُجْمَلَ بِدُونِ بَيَانِهِ ; خِطَابٌ بِمَا لَا يُفْهَمُ، وَالْخِطَابُ بِمَا لَا يُفْهَمُ عَبَثٌ، وَتَجْهِيلٌ لِلسَّامِعِ فِي الْحَالِ، إِذْ لَا يَعْلَمُ مَا الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ، وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ إِنَّمَا هُوَ إِفَادَةُ الْمُرَادِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ فَائِدَتَهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَبَثًا مُمْتَنِعًا، وَصَارَ ذَلِكَ كَمُخَاطَبَةِ الْعَرَبِيِّ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَمُخَاطَبَةِ الْعَجَمِيِّ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: أَبْجَدْ هَوَّزْ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِهِ إِيجَابَ الصَّلَاةِ عَلَيْكُمْ. أَوْ قَالَ: فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ. وَقَالَ أَرَدْتُ بِالْإِبِلِ الْبَقَرَ ; فَهَذَا كُلُّهُ وَأَشْبَاهُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ ; فَكَذَلِكَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: بَاطِلٌ» ، أَيْ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ بِمَا لَا يُفْهَمُ عَبَثٌ ; فَلَا يَجُوزُ، بَاطِلٌ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، كَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ ; فَإِنَّهُ لَا تُفْهَمُ حَقِيقَتُهُ، وَلَيْسَ الْخِطَابُ بِهِ تَجْهِيلًا لِلسَّامِعِ، وَلَا عَبَثًا مِنَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْمُتَكَلِّمِ، فَكَمَا جَازَ الْخِطَابُ بِالْمُتَشَابِهِ، بِدُونِ فَهْمِ حَقِيقَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَبَثًا، كَذَلِكَ يَجُوزُ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ، وَإِنْ أَخَّرَ بَيَانَ حَقِيقَتِهِ، وَلَا يَكُونُ عَبَثًا.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ مَنَعَ، فَقَدْ بَيَّنَّاهُ» ، أَيْ: إِنْ مَنَعَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا تُفْهَمُ حَقِيقَتُهُ ; فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَنَّ تَأْوِيلَهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ لَا غَيْرَ.
وَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ «فَائِدَتُهُ الِانْقِيَادُ الْإِيمَانِيُّ» ، أَيِ: الِانْقِيَادُ لِلْإِيمَانِ بِهِ، كَمَا قَالَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: آمَنَّا بِهِ.
قُلْنَا: وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ بِالْمُجْمَلِ «الِانْقِيَادُ التَّكْلِيفِيُّ» ، أَيِ: الِانْقِيَادُ لِلْعَزْمِ عَلَى امْتِثَالِ التَّكْلِيفِ بِهِ، فَإِذَا قِيلَ لِلْمَرْأَةِ: اعْتَدِّيِ بِالْأَقْرَاءِ ; عَزَمَتْ عَلَى الِاعْتِدَادِ بِأَنَّهَا أُمِرَتْ بِهِ، وَبُيِّنَ لَهَا، وَإِذَا قِيلَ:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التَّوْبَةِ: 103] ، أَفَادَ عَزْمَ كُلِّ ذِي مَالٍ عَلَى إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ مَالِهِ وَمَقَادِيرِهِ، حَتَّى يَرِدَ التَّخْصِيصُ النَّوْعِيُّ بِسَائِمَةِ الْأَنْوَاعِ، وَالنَّقْدَيْنِ، وَالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالتَّخْصِيصُ الْمِقْدَارَيُّ بِشَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْ مِائَتَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ، عَصَى، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا مَرَّ بِالنَّسْخِ قَبْلَ امْتِثَالِ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أَفَادَهَا الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ ; فَهِيَ فِي بَابِهَا كَفَائِدَةِ الْإِيمَانِ بِالْمُتَشَابِهِ فِي بَابِهَا.
قَوْلُهُ: «وَإِيجَابِ الصَّلَاةِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ ثَانٍ بِالْفَرْقِ، وَالَّذِي سَبَقَ جَوَابٌ بِالنَّقْضِ.
وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْخِطَابِ بِالْمُجْمَلِ، وَالْخِطَابِ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ، مِنْ أَبْجَدْ هَوَّزْ وَنَحْوِهِ، هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ بِالْمُجْمَلِ يُفِيدُ مَاهِيَّاتِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْأَحْكَامِ ; فَلَا يَضُرُّ تَأْخِيرُ بَيَانِ تَفْصِيلِهَا إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النُّورِ: 56]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] ، {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آلِ عِمْرَانَ: 130] ، وَنَحْوِهِ، أَفَادَنَا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَطْعَ يَدِ السَّارِقِ، وَتَحْرِيمَ الرِّبَا، وَإِذَا اسْتُفِيدَتْ مَاهِيَّةُ الْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ، وَجَبَ اعْتِقَادُهَا ; فَمَنِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمَ الرِّبَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِلْأَمْرِ بِهِمَا، عِنْدَ بَيَانِ أَحْكَامِهِمَا ; أُثِيبَ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ، عَصَى، وَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْعَمَلِ، بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ خَمْسٌ، وَأَنَّ رَكَعَاتِهَا سَبْعَ عَشْرَةَ، وَأَنَّ الْفَجْرَ رَكْعَتَانِ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثٌ، وَبَقِيَّةَ الصَّلَاةِ رُبَاعِيَّةٌ، وَأَنَّ التَّفَاضُلَ يَحْرُمُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، جَازَ التَّفَاضُلُ يَدًا بِيَدٍ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا لَا مَانِعَ مِنْهُ، شَرْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ خِطَابِ الْعَجَمِيِّ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِيجَابِ الصَّلَاةِ بِأَبْجَدْ هَوَّزْ ; فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً أَصْلًا، وَإِرَادَةُ الْبَقَرِ مِنْ لَفْظِ الْإِبِلِ تَغْيِيرٌ لِلْوَضْعِ، وَقَلْبٌ لِحَقَائِقِ اللُّغَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ، احْتَجَّ بِأَنَّ الْخَبَرَ وَالْإِجْمَالَ يُوهِمُ الْكَذِبَ ; فَيَجِبُ تَدَارُكُهُ بِالْبَيَانِ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ فِي الْأَمْرِ أَيْضًا تَوَهُّمَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ، مِنَ الْأَعْيَانِ أَوِ الزَّمَانِ، وَهُوَ قَبِيحٌ كَالْكَذِبِ.
وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَغَيْرِهِ، احْتَجَّ بِأَنَّ الْمُجْمَلَ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ، وَلَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يُوهِمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، كَالْعَامِّ مَثَلًا ; فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي إِرَادَةِ جَمِيعِ مَدْلُولِهِ بِالْحُكْمِ.
وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ بَعْضَ مَدْلُولِهِ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ ; فَيَكُونُ إِيهَامًا لِلْبَاطِلِ ; فَيَجِبُ تَدَارُكُهُ بِالْبَيَانِ، نَفْيًا لِهَذَا الْإِيهَامِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِنَحْوِ الْجَوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ يُوهِمُ إِرَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُحْتَمَلَيْهِ، أَوْ مُحْتَمَلَاتِهِ، مَعَ أَنَّ جَمِيعَهَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَهُوَ إِيهَامٌ لِلْبَاطِلِ ; فَهُوَ كَإِيهَامِ الْعُمُومِ التَّعْمِيمَ ; وَإِنْ ظَهَرَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي قُوَّةِ الْإِيهَامِ وَضَعْفِهِ، غَيْرَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيهَامِ مَوْجُودٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ.
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: وَقَعَ ذِكْرُ ابْنِ نُوحٍ فِي أَدِلَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، هَلْ كَانَ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ، بَلْ كَانَ لِلزِّنَى ; فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ; قَالُوا: وَإِنَّمَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ، مِنْ أَجْلِ ابْنِ نُوحٍ، وَحَلَفَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِابْنِهِ، وَحَلَفَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهُ ابْنُهُ، وَلِلنِّزَاعِ مَأْخَذَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخِيَانَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التَّحْرِيمِ: 10] ، هَلْ هِيَ بِمَا عَدَا الزِّنَا، أَوْ بِالزِّنَا وَغَيْرِهِ ; فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَانَتَاهُمَا بِالْكُفْرِ ; فَكَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ عليه السلام تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَجْنُونٌ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ عليه السلام إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ ضَيْفٌ، تُخْبِرُ بِهِ قَوْمَهَا، وَتُغْرِيهِمْ بِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَلَا ابْتُلِيَ الْأَنْبِيَاءُ فِي نِسَائِهِمْ بِهَذَا، يَعْنِي الزِّنَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: خَانَتَاهُمَا بِالزِّنَا وَغَيْرِهِ. فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: هُوَ ابْنُهُ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي، قَالَ: لَيْسَ بِابْنِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ خِيَانَتِهَا بِالزِّنَا.
قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ ; فَلِأَنَّ الْخِيَانَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ مُطْلَقَةٌ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى تَحْقِيقِهَا بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَذَى، وَذَلِكَ وَافٍ بِمُطْلَقِ الْآيَةِ، يَبْقَى خُصُوصُ الزِّنَا، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ تَقْدِيرَ أَنَّهَا خَائِنَةٌ بِالزِّنَا ; لَكِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مُطْلَقٌ، يَكْفِي فِي تَحْقِيقِهِ زِنَا مَرَّةٍ ; فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ مِنْ تِلْكَ الْمَرَّةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا زَنَتْ مِرَارًا، لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فِي تَحَقُّقِ أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمِرَارِ، وَلَا فِي ظُهُورِ ذَلِكَ فَضَعُفَ هَذَا الْمَأْخَذُ.
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ سبحانه وتعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا [هُودٍ: 42]، وَقَالَ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُ، لِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ: ابْنِي، وَقَوْلِهِ عز وجل، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَمَنْ تَابَعَهُمَا، وَعَوَّلَ الْحَسَنُ وَمَنْ تَابَعَهُ، عَلَى قَوْلِهِ عز وجل:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هُودٍ: 46] ، وَحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي نَفْيَ النَّسَبِ.
قُلْتُ: وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ تُسْتَعْمَلُ فِي اللِّسَانِ تَارَةً فِي النَّسَبِ، وَتَارَةً فِي الدِّينِ وَغَيْرِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: هُوَ ابْنُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَهُ فِي الْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ ; فَهِيَ مُجْمَلٌ، وَالتَّصْرِيحُ بِالْبُنُوَّةِ، وَإِضَافَتُهَا لِنُوحٍ عليه السلام مُبَيِّنٌ ; فَيَكُونُ مُقَدَّمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ:{لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الَّذِي وَعَدْتُكَ أَنْ أُنْجِيَهُمْ، كَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْحَسَنِ فَقَالَ: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} وَتَقُولُ: لَيْسَ بِابْنِهِ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ؟ قَالَ: قُلْتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الَّذِينَ وَعَدْتُكَ أَنْ أُنْجِيَهُمْ مَعَكَ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ ابْنُهُ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَكْذِبُونَ.
وَاحْتَجَّ الطَّنْزِيُّ، بِالنُّونِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ، عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ الْحَسَنِ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} فَكَيْفَ يُخْبِرُ اللَّهُ عز وجل عَمَّا لَمْ يَكُنْ؟
الثَّانِي: أَنَّ نُوحًا عَاشَ عُمْرَ ابْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: ابْنِي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يُبْتَلَ نَبِيٌّ بِهَذِهِ الْبَلْوَى، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ سبحانه وتعالى رُسُلَهُ عَمَّا هُوَ دُونَ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ، وَبِهَذَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ حَيْثُ قَالَتْ: هَبْكَ شَكَكْتَ فِيَّ، أَشَكَكْتَ فِي نَفْسِكَ.
قُلْتُ: هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ قَوَاطِعَ فِي بُطْلَانِ قَوْلِ الْحَسَنِ، إِذْ لَهُ أَنْ يُجِيبَ:
عَنِ الْأَوَّلِ ; بِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَضَافَهُ إِلَى نُوحٍ عليه السلام إِضَافَةَ فِرَاشٍ، لَا إِضَافَةَ وِلَادَةٍ.
وَعَنِ الثَّانِي بِذَلِكَ أَوْ بِأَنَّ نُوحًا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَلَمْ يُطْلِعْهُ اللَّهُ عز وجل عَلَى ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ مَا.
وَعَنِ الثَّالِثِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ مَنْصِبِ غَالِبِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ هَذِهِ الْبَلْوَى ; صِيَانَةُ مَنْصِبِ نُوحٍ عَنْهَا، لِجَوَازِ أَنْ يَخُصَّهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا، أَوْ لِشَقَاءِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، كَمَا خَصَّ امْرَأَةَ لُوطٍ بِالْقِيَادَةِ وَالسِّعَايَةِ فِي اللِّوَاطِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي امْرَأَةِ نَبِيٍّ غَيْرِهِ.
قُلْتُ: وَثَمَّ مَأْخَذٌ آخَرُ لِلْخِلَافِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل لِنُوحٍ عليه السلام:{فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هُودٍ: 46] ، فَإِنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ عِلَّةُ إِهْلَاكِهِ الْكُفْرَ، لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، إِذْ نُوحٌ قَدْ كَانَ يَعْلَمُ كُفْرَ ابْنِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَمْ يَعْلَمْهُ هُوَ كَوْنُهُ لِغَيْرِ صُلْبِهِ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ سبحانه وتعالى سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَهْلِ النَّارِ، وَنُوحٌ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: التَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا قَاطِعَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَلَا نِزَاعَ فِي احْتِمَالِ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، وَانْهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ عَقْلًا.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الظُّهُورُ ; فَالظَّاهِرُ مَعَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ، وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ ابْنُهُ لِلْفِرَاشِ دُونَ الصُّلْبِ، وَانْبَنَى عَلَى النِّزَاعِ الْمَذْكُورِ الْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ عز وجل:{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هُودٍ: 46] فَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمَنْ تَابَعَهُ: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} بِالرَّفْعِ، يَعْنِي: ابْنُ نُوحٍ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّنَا وَهُوَ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ السَّبْعَةِ إِلَّا الْكِسَائِيَّ ; فَإِنَّهُ قَرَأَ: عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، يَعْنِي عَمِلَ الْكُفْرَ، لَا أَنَّهُ مِنْ زِنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُجْمَلَ وَالْمُبَيَّنَ يَتَفَاوَتَانِ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَالِ وَالْبَيَانِ ; فَيَكُونُ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ أَشَدَّ إِجْمَالًا مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا أَشَدَّ بَيَانًا مِنْ بَعْضٍ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39 - 40] وَفِي سُورَةِ الطُّورِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطُّورِ: 48 - 49]، وَفِي سُورَةِ هُودٍ:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هُودٍ: 114] . فَهَذِهِ الْآيَاتُ إِشَارَةٌ إِلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ، وَأَشَدُّ بَيَانًا مِنْهَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، يَعْنِي الظَّهْرَ {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} يَتَنَاوَلُ الْعَصْرَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالْعِشَاءَيْنِ، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} الصُّبْحَ، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الْإِسْرَاءِ: 78 - 79] التَّطَوُّعَ، فَجَمَعَ فِي الْآيَةِ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَنَفْلَهَا. وَفِي سُورَةِ طَهَ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [طَهَ: 130] ، يَعْنِي الْفَجْرَ {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يَعْنِي الْعَصْرَ، {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} يَعْنِي الْعِشَاءَيْنِ وَالتَّطَوُّعَ، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} يَعْنِي الظُّهْرَ ; لِأَنَّهَا فِي وَسَطِ النَّهَارِ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، أَوْ يُرِيدُ بِمَا قَبْلَ غُرُوبِهَا الْعَصْرَ وَالظُّهْرَ ; لِأَنَّ وَقْتَهُمَا وَاحِدٌ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الظُّهْرُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِذَا أَدْرَكَ الْمَعْذُورُ قَدْرَ تَكْبِيرَةٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ، لَزِمَهُ قَضَاءُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} الْعِشَاءَيْنِ وَالتَّطَوُّعَ، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} التَّطَوُّعَ أَيْضًا. وَفِي سُورَةِ الرُّومِ [الْآيَةِ: 17] : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} الْعَصْرَ {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الْفَجْرَ، مُطَابَقَةً لِقَوْلِهِ عز وجل:{قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] ، وَعَشِيًّا الْعِشَاءَانِ، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الرُّومِ: 18] الظُّهْرَ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ: أَدْخَلُ فِي الْبَيَانِ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ، وَأَبْيَنُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ،، وَأَبْيَنُ مِنْ أَحَادِيثِ السُّنَّةِ مَا فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَإِلَى هُنَا انْتَهَى الْبَيَانُ.
وَهَكَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ ; السُّنَّةُ أَبْيَنُ مِنَ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِبَيَانِهِ، وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ أَبْيَنُ مِنَ السُّنَّةِ ; لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِتَفْصِيلِ أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.