الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُبَيَّنُ
الْمُبَيَّنُ: يُقَابِلُ الْمُجْمَلَ.
أَمَّا الْبَيَانُ ; فَقِيلَ: الدَّلِيلُ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ.
وَقِيلَ: مَا دَلَّ عَلَى الْمُرَادِ مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الدَّلَالَةِ، وَهُمَا تَعْرِيفُ لِلْمُبَيَّنِ الْمَجَازِيِّ لَا لِلْبَيَانِ. فَقِيلَ: إِيضَاحُ الْمُشْكِلِ، فَوَرَدَ الْبَيَانُ الِابْتِدَائِيُّ، فَإِنْ زِيدَ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ زَالَ، وَيَحْصُلُ الْبَيَانُ بِالْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ، كَالْكِتَابَةِ، وَالْإِشَارَةِ، نَحْوُ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَنَحْوُ: صَلُّوا، وَخُذُوا، وَبِالْإِقْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ، وَكُلُّ مُقَيَّدٍ مِنَ الشَّارِعِ بَيَانٌ، وَالْبَيَانُ الْفِعْلِيُّ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِيِّ، وَتَبْيِينُ الشَّيْءِ بِأَضْعَفَ مِنْهُ كَالْقُرْآنِ بِالْآحَادِ جَائِزٌ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ إِلَّا عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ، وَعَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِهَا جَائِزٌ عِنْدَ الْقَاضِي، وَابْنِ حَامِدٍ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْعَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَالتَّمِيمِيُّ، وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ.
ــ
قَوْلُهُ: «الْمُبَيَّنُ: يُقَابِلُ الْمُجْمَلَ» ، وَقَدْ سَبَقَ لِلْمُجْمَلِ تَعْرِيفَانِ ; فَخُذْ ضِدَّهُمَا فِي الْمُبَيَّنِ.
فَإِنْ قُلْتَ: الْمُجْمَلُ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ مُحْتَمَلَيْنِ فَصَاعِدًا عَلَى السَّوَاءِ، قُلْ فِي الْمُبَيَّنِ: هُوَ اللَّفْظُ النَّاصُّ عَلَى مَعْنًى، غَيْرِ مُتَرَدِّدٍ، مُتَسَاوٍ.
وَإِنْ قُلْتَ: الْمُجْمَلُ: مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى مُعَيَّنٌ، قُلِ: الْمُبَيَّنُ مَا فُهِمَ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى مُعَيَّنٌ، مِنْ نَصٍّ أَوْ ظُهُورٍ، بِالْوَضْعِ أَوْ بَعْدَ الْبَيَانِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمُبَيَّنُ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ عَلَى مَعْنًى ; إِمَّا بِالْأَصَالَةِ، وَإِمَّا بَعْدَ الْبَيَانِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْمُبَيَّنُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْخِطَابُ الْمُسْتَغْنِي بِنَفْسِهِ عَنِ الْبَيَانِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ عِنْدَ وُرُودِهِ عَلَيْهِ، كَالْمُجْمَلِ وَغَيْرِهِ.
قُلْتُ: الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ.
قَوْلُهُ: «أَمَّا الْبَيَانُ ; فَقِيلَ: الدَّلِيلُ» ، يَعْنِي أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ كَانَ فِي الْمُبَيَّنِ، وَهَذَا فِي الْبَيَانِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، يُقَالُ: مُجْمَلٌ وَإِجْمَالٌ، وَمُبَيَّنٌ وَبَيَانٌ.
فَالْمُجْمَلُ: اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ.
وَالْإِجْمَالُ: إِرَادَةُ التَّرَدُّدِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، أَوِ النُّطْقُ بِاللَّفْظِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ فِيهِ التَّرَدُّدُ.
وَالْمُبَيَّنُ: اللَّفْظُ الدَّالُّ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ.
وَالْبَيَانُ: نَحْنُ الْآنَ فِي الْكَلَامِ فِيهِ.
«فَقِيلَ» : هُوَ «الدَّلِيلُ» ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَأَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَاخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ دَلِيلٍ.
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: هُوَ التَّعْرِيفُ.
وَالْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَسْأَلَةُ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ كَاللَّفْظِيَّةِ ; لِأَنَّ التَّعْرِيفَ مِنْ آثَارِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الدَّلِيلِ ; فَاسْتَوَتْ، أَوْ تَقَارَبَتِ الْأَقْوَالُ جِدًّا، وَيَجْمَعُ الْكُلَّ مَعْنَى الظُّهُورِ، إِذْ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: بَانَ الشَّيْءُ يَبِينُ بَيَانًا، إِذَا ظَهَرَ وَاتَّضَحَ، وَالدَّلِيلُ يُوَضِّحُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَيُظْهِرُهُ، وَيُعَرِّفُهُ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، يَعْنِي الدَّلِيلَ، «مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ» .
فَقَوْلُنَا: «مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهِ» ، يَعْنِي مَا كَانَتْ لَهُ صَلَاحِيَّةُ الِاتِّصَالِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، لِيَعُمَّ الدَّلِيلُ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ، أَيْ: مَا اسْتُعْمِلَ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَمَا صَلَحَ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي التَّوَصُّلِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِنَا: يَصْلُحُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [الْبَقَرَةِ: 188] ، عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ فِي الْبَاطِنِ ; لِأَنَّهُ سبحانه وتعالى سَمَّى الْأَمْوَالَ مَأْكُولَةً بِالْبَاطِلِ، مَعَ الْإِدْلَاءِ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ.
وَقَوْلُنَا: «بِصَحِيحِ النَّظَرِ» : احْتِرَازٌ مِمَّا يُوَصِّلُ بِفَاسِدِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ، إِنْ قَدَّرْنَاهُ صَحِيحًا، كَانَ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ بِفَاسِدِ النَّظَرِ مُمْتَنِعًا، وَإِنْ قَدَّرْنَاهُ بَاطِلًا، لَمْ يَكُنْ مَا تَوَصَّلْنَا بِهِ إِلَيْهِ دَلِيلًا.
وَقَوْلُنَا: «إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ» : يَعُمُّ مَا أَوْصَلَ إِلَى عِلْمٍ، كَقَوْلِنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَكُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ ; فَالْإِنْسَانُ جِسْمٌ. أَوْ إِلَى ظَنٍّ، كَغَالِبِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا ; فَمِنْهُمْ مَنْ سَمَّاهُ دَلِيلًا، سَوَاءٌ أَوَصَلَ إِلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الدَّلِيلَ بِمَا أَوْصَلَ إِلَى عِلْمٍ، وَسَمَّى مَا أَوْصَلَ إِلَى ظَنٍّ أَمَارَةً، - بِفَتْحِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْهَمْزَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ - وَلَعَلَّهُ أَقَرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ، وَالْخِلَافُ اصْطِلَاحِيٌّ.
- قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: مَا دَلَّ» ، أَيْ: وَقِيلَ: الْبَيَانُ مَا دَلَّ «عَلَى الْمُرَادِ، مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الدَّلَالَةِ» ، يَعْنِي إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الدَّلَالَةِ كَالْقُرْءِ وَنَحْوِهِ ; فَمَا دَلَّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ، هُوَ الْبَيَانُ كَمَا سَبَقَ مِثَالُهُ فِي الْمُجْمَلِ. فَهَذَانَ تَعْرِيفَانِ لِلْبَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِأَنَّهُ الدَّلِيلُ.
وَالثَّانِي: بِمَا ذُكِرَ هَهُنَا.
قَوْلُهُ: «وَهُمَا تَعْرِيفٌ لِلْمُبَيَّنِ الْمَجَازِيِّ، لَا لِلْبَيَانِ» ، يَعْنِي أَنَّ تَعْرِيفَ الْبَيَانِ بِالدَّلِيلِ، وَبِمَا دَلَّ عَلَى الْمُرَادِ، مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، لَيْسَ تَعْرِيفًا لِلْبَيَانِ، بَلْ لِلْمُبَيَّنِ الْمَجَازِيِّ.
وَكَشْفُ هَذَا: بِأَنَّهُ لَابُدَ لَنَا مِنْ مُبَيِّنٍ، بِكَسْرِ الْيَاءِ، وَمُبَيَّنٍ بِفَتْحِهَا، وَمُبَيَّنٍ بِهِ، وَبَيَانٍ.
فَالْمُبَيِّنُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الشَّارِعُ، إِذْ عَنْهُ تَظْهَرُ الْأَحْكَامُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْمُبَيَّنِ بِهِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ، وَهُوَ خِطَابُ الشَّارِعِ الدَّالِّ عَلَى الْمُرَادِ مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ.
وَالْمُبَيَّنُ: هُوَ الْمُتَّضِحُ بِنَفْسِهِ، أَوِ الْمُجْمَلُ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ. فَقَدِ اتَّضَحَ بِهَذَا أَنَّ التَّعْرِيفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْبَيَانِ لَيْسَا تَعْرِيفًا لَهُ، بَلْ لِلْمُبَيِّنِ الْمَجَازِيِّ، أَيِ: الَّذِي يُسَمَّى مُبِيِّنًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ.
قَوْلُهُ: «فَقِيلَ إِيضَاحُ الْمُشْكِلِ، فَوَرَدَ الْبَيَانُ الِابْتِدَائِيُّ» أَيْ: لَمَّا لَمْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَتَحَصَّلْ لَنَا تَعْرِيفُ الْبَيَانِ بِالْحَقِيقَةِ مِمَّا سَبَقَ، احْتَجْنَا إِلَى أَنْ نَذْكُرَ تَعْرِيفَهُ.
وَقَدْ قِيلَ: هُوَ إِيضَاحُ الْمُشْكِلِ، وَهَذَا مُخْتَصَرُ مَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِيهِ، أَنَّهُ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنَ الْإِشْكَالِ إِلَى الْوُضُوحِ، فَلَمَّا عُرِفَ بِهَذَا، وَرَدَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ الِابْتِدَائِيُّ، أَيِ: الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ ابْتِدَاءً، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى بَيَانٍ خَارِجٍ، كَالنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ، وَمَا عُرِفَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِالتَّعْلِيلِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ، أَوْ بِاللُّزُومِ، كَالدَّلَالَةِ عَلَى الشُّرُوطِ وَالْأَسْبَابِ، كَدَلَالَةِ الصَّلَاةِ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَدَلَالَةِ الْمِلْكِ عَلَى تَقَدُّمِ سَبَبِهِ، مِنْ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوِ اكْتِسَابٍ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُبَيَّنٌ بِبَيَانٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ إِيضَاحُ مُشْكِلٍ ; فَتَعْرِيفُ الْبَيَانِ بِإِيضَاحِ مُشْكِلٍ غَيْرُ جَامِعٍ.
- قَوْلُهُ: «فَإِنْ زِيدَ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ، زَالَ» ، أَيْ: فَإِنْ زِيدَ هَذَا عَلَى التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ، زَالَ وُرُودُ الْبَيَانِ الِابْتِدَائِيِّ، وَاسْتَقَامَ التَّعْرِيفُ ; فَيُقَالُ: الْبَيَانُ: هُوَ إِيضَاحُ الْمُشْكِلِ بِالْقُوَّةِ أَوِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَكُونُ مُشْكِلًا بِالْفِعْلِ، أَيْ: إِشْكَالُهُ ظَاهِرٌ مَوْجُودٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْكِلًا بِالْقُوَّةِ، أَيْ: هُوَ قَابِلٌ لِأَنْ يَرِدَ مُشْكِلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَادَّةَ الْكَلَامِ لِذَاتِهَا قَابِلَةٌ لِلْإِشْكَالِ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ نُظُمِهِ وَصِيَغِهِ، وَمَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهِ.
وَمِثَالُ هَذَا: مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَهَذَا كَلَامٌ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ، صَحِيحٌ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ. وَنَقَلَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَظَاهِرُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ عليه السلام: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ - مُشْكِلٌ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ جَمِيعًا مُؤْمِنُونَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ كُفَّارٌ، وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِيهَا إِلَّا كَافِرٌ، لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله أَلْحَقَ بِكَلَامِهِ بَيَانًا بَيَّنَهُ، وَأَظْهَرَ مَعْنَاهُ الْمُرَادَ لَهُ، بِأَنْ قَالَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مُؤْمِنٌ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ حِينَئِذٍ يُعَايِنُونَ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ; فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، أَيْ: يُصَدِّقُونَ، لَكِنْ إِيمَانًا لَا يَنْفَعُهُمْ ; لِأَنَّهُ اضْطِرَارِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ، وَلِقَوْلِهِ عز وجل:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غَافِرٍ: 85]، وَقَوْلِهِ عز وجل لِفِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ: آمَنْتُ -: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يُونُسَ: 91] .
فَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ مُشْكِلٌ بِالْفِعْلِ ; فَاحْتَاجَ إِلَى الْبَيَانِ، وَكَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بَيِّنٌ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ بِالْقُوَّةِ، إِذْ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُورِدَهُ عَلَى نَظْمٍ يَسْتَشْكِلُ، نَحْوَ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ. كَلَامٌ مُتَّضِحٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بَيِّنٌ، إِذْ مَعْنَاهُ: لَا فَاعِلَ لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ إِلَّا اللَّهُ.
ثُمَّ عَرَضَ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ الْإِشْكَالُ، بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ، أَيْ: مَنْ لَهُ إِبِلٌ مِرَاضٌ عَلَى مَنْ لَهُ إِبِلٌ صِحَاحٌ. وَقَوْلِهِ: فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ. لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ هَذَا إِثْبَاتُ الْعَدْوَى، وَهُوَ يُنَاقِضُ نَفْيَهَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ; فَاحْتِيجَ إِلَى بَيَانِ الْمُزِيلِ لِلْإِشْكَالِ، بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ نَافٍ لِلْعَدْوَى، أَيْ: لَا يُعْدِي مَرِيضٌ صَحِيحًا، وَأَمَّا الثَّانِي، فَلَمْ يَنْهَ فِيهِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ لِكَوْنِهِ يُعْدِي الْإِبِلَ، بَلْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِبِلٍ مُصِحٍّ مَرَضًا ; فَيَعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنَ الْعَدْوَى ; فَيَكُونَ بِذَلِكَ مُشْرِكًا مَعَ اللَّهِ فَاعِلًا غَيْرَهُ ; فَزَالَ الْإِشْكَالُ.
وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ; فَقَدْ رَأَيْتُ كَيْفَ كَانَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ بَيِّنًا بِنَفْسِهِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ الْإِشْكَالُ ; فَكَذَلِكَ قَدْ يَرِدُ الْكَلَامُ بَيِّنًا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ