الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُجْمَلُ
الْمُجْمَلُ: لُغَةً: مَا جُعِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، لَا يَنْفَرِدُ بَعْضُ آحَادِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَاصْطِلَاحًا: اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ مُحْتَمَلَيْنِ فَصَاعِدًا عَلَى السَّوَاءِ. وَقِيلَ: مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى.
قُلْتُ: مُعَيَّنٌ وَإِلَّا بَطَلَ بِالْمُشْتَرَكِ ; فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى غَيْرُ مُعَيَّنٍ. وَهُوَ إِمَّا فِي الْمُفْرَدِ، كَالْعَيْنِ، وَالْقُرْءِ، وَالْجَوْنِ، وَالشَّفَقِ فِي الْأَسْمَاءِ، وَعَسْعَسَ، وَبَانَ فِي الْأَفْعَالِ، وَتَرَدُّدِ «الْوَاوِ» بَيْنَ الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ فِي نَحْوِ:(وَالرَّاسِخُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 7] ، وَ «مِنْ» بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالتَّبْعِيضِ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ فِي الْحُرُوفِ، أَوْ فِي الْمُرَكَّبِ كَتَرَدُّدِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ، وَقَدْ يَقَعُ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ كَالْمُخْتَارِ وَالْمُغْتَالِ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَحُكْمُهُ التَّوَقُّفُ عَلَى الْبَيَانِ الْخَارِجِيِّ.
ــ
قَوْلُهُ: «الْمُجْمَلُ» .
لَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، أَخَذَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ.
الْمُجْمَلُ لُغَةً، أَيْ: فِي اللُّغَةِ، «مَا جُعِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، لَا يَنْفَرِدُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بَعْضُ آحَادِهَا عَنْ بَعْضٍ» ، كَالْمُجْمَلِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَدْ أَجْمَلْتُ الْحِسَابَ: إِذَا رَدَدْتُهُ إِلَى الْجُمْلَةِ.
قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْقَدَرِ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، لَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ. وَذَكَرَ فِي أَهْلِ النَّارِ كَذَلِكَ، الْحَدِيثَ، وَمَادَّةُ الْكَلِمَةِ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ وَالِاجْتِمَاعِ وَانْضِمَامِ الْآحَادِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَقِيلَ: الْمُجْمَلُ الْمُحَصَّلُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَجْمَلْتُ الْحِسَابَ: إِذَا حَصَّلْتُهُ.
قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَشْبَهُ.
- قَوْلُهُ: «وَاصْطِلَاحًا» ، أَيْ: وَالْمُجْمَلُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: «هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ مُحْتَمَلَيْنِ فَصَاعِدًا عَلَى السَّوَاءِ» ، أَيْ: لَا رُجْحَانَ لَهُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
فَقَوْلُنَا: اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ، احْتِرَازٌ مِنَ النَّصِّ ; فَإِنَّهُ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَقَوْلُنَا: «عَلَى السَّوَاءِ» احْتِرَازٌ مِنَ الظَّاهِرِ ; فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مُحْتَمَلَيْنِ، لَكِنْ لَا عَلَى السَّوَاءِ، بَلْ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَظَهَرُ، وَكَالْحَقِيقَةِ الَّتِي لَهَا مَجَازٌ ; فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَظَهَرُ، وَالْمُجْمَلُ فِي الْأَلْفَاظِ كَالشَّكِّ فِي الْإِدْرَاكِ ; لِأَنَّ الشَّكَّ: هُوَ احْتِمَالُ أَمْرَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْمُجْمَلُ: مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى» .
هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِلْمُجْمَلِ، وَهُوَ الَّذِي قُدِّمَ فِي أَصْلِ «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ نَاقِصٌ ; لِأَنَّ مَا لَا يُفِيدُ مَعْنًى لَيْسَ كَلَامًا، وَهُوَ مَوْضُوعُ نَظَرِ أَحَدٍ، لَا لُغَوِيٍّ، وَلَا أُصُولِيٍّ، وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ لَفْظٌ مُهْمَلٌ، وَالْمُجْمَلُ يُفِيدُ مَعْنًى، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمَا تَعَيَّنَ مُرَادُهُ بِالْبَيَانِ ; لِأَنَّ الْبَيَانَ كَاشِفٌ عَنِ الْمُرَادِ بِالْمُجْمَلِ، لَا مُنْشِئٌ لِلْمُرَادِ ; فَلِذَلِكَ كَمَّلْتُ هَذَا التَّعْرِيفَ بِقَوْلِي: قُلْتُ: مُعَيَّنٌ، أَيِ: الْمُجْمَلُ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى مُعَيَّنٌ.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا بَطَلَ بِالْمُشْتَرَكِ» ، أَيْ: لَوِ اقْتَصَرْنَا فِي تَعْرِيفِ الْمُجْمَلِ عَلَى مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى، لَبَطَلَ بِالْمُشْتَرَكِ نَحْوُ الْقُرْءِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالْجَوْنِ لِلْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَالْعَيْنِ لِلذَّهَبِ وَالْعُضْوِ الْبَاصِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُجْمَلٌ، وَهُوَ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ; فَإِنَّا إِذَا أَطْلَقْنَا لَفَظَ الْقُرْءِ ; فَهِمْنَا مِنْهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مَعْنًى مُجْمَلٌ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ إِمَّا فِي الْمُفْرَدِ» ، إِلَى آخِرِهِ. يَعْنِي الْمُجْمَلَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، أَوِ الْمُرَكَّبِ، وَالْوَاقِعُ فِي الْمُفْرَدِ، إِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الْأَسْمَاءِ، أَوِ الْأَفْعَالِ، أَوِ الْحُرُوفِ.
أَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ ; فَكَالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ ; فَإِنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْهُ، إِذْ كَلُّ مُشْتَرَكٍ مُجْمَلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مُجْمَلٍ مُشْتَرَكًا، وَذَلِكَ كَالْعَيْنِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ مُحْتَمَلَاتِهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَالْقُرْءِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالْجَوْنِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَالشَّفَقِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ.
وَلِهَذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي دُخُولِ وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، هَلْ هُوَ بِغَيْبُوبَةِ حُمْرَةِ الشَّمْسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، أَوْ بِغَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ الَّذِي هُوَ بَعْدَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الشَّفَقِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَثَرِ، هُوَ الْبَيَاضُ أَوِ الْحُمْرَةُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا لُغَةً، لَكِنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ، كَابْنِ عُمَرَ، وَعُبَادَةَ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَغَيْرِهِمْ فَسَّرُوهُ بِالْحُمْرَةِ هَاهُنَا.
وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ ; فَنَحْوُ: عَسْعَسَ، بِمَعْنَى أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ: إِذَا أَقْبَلَ ظَلَامُهُ. قَالَ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى عَسْعَسَ: أَدْبَرَ.
قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التَّكْوِيرِ: 17] ، يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَقْسَمَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى إِقْبَالِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ عز وجل:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ، أَيْ: أَقْبَلَ، وَعَلَى إِقْبَالِ النَّهَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التَّكْوِيرِ: 18]، أَوْ أَنَّهُ سبحانه وتعالى أَقْسَمَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى إِذْهَابِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ عز وجل:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ، أَيْ: أَدْبَرَ، وَعَلَى الْإِتْيَانِ بِالنَّهَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَاخْتِلَافَهُمَا، مِنْ أَعْجَبِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَدَلِّهَا عَلَى قُدْرَةِ الْبَارِئِ وَحِكْمَتِهِ جل جلاله، وَلِذَلِكَ كَثُرَ ذِكْرُهُمَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، نَحْوَ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الْبَقَرَةِ: 164]، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الْحَدِيدِ: 6] ، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الْقَصَصِ: 73] ، فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَكَذَلِكَ «بَانَ» بِمَعْنَى ظَهَرَ، وَمِنْهُ:{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ} [الْبَقَرَةِ: 256]، {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} [النُّورِ: 18] ، وَبَانَ بِمَعْنَى غَابَ وَاخْتَفَى، وَمِنْهُ: بَانَتْ سُعَادُ، بَانَ الْخَلِيطُ، وَمِنْهُ الْبَيْنُ، وَهُوَ الْفِرَاقُ وَالْبُعْدُ، وَمِنْهُ:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الْأَنْعَامِ: 94] ، وَغُرَابُ الْبَيْنِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا فِي الْحُرُوفِ ; فَنَحْوُ «تَرَدُّدِ الْوَاوِ بَيْنَ الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ فِي نَحْوِ» قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، مُسْتَوْفًى بِحَمْدِ اللَّهِ عز وجل وَمِنْهُ. وَكَتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْعَطْفِ وَالْحَالِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عز وجل:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الْأَنْفَالِ: 66] .
لِأَنَّهَا إِنْ جُعِلَتْ عَاطِفَةً، لَزِمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِضَعْفِهِمْ حَدَثَ الْآنَ، وَبِهِ احْتَجَّ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى حُدُوثِ عِلْمِ الْبَارِئِ جل جلاله بِالْمَعْلُومَاتِ.
وَإِنْ جُعِلَتْ حَالِيَّةً، كَانَ تَقْدِيرُهُ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، عَالِمًا أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ; فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَا ذُكِرَ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا يَضْعُفُ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُوجِبُ إِضْمَارَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
«قَدْ» ، أَيِ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَقَدْ عَلِمَ ; لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يَقَعُ حَالًا إِلَّا مَعَ قَدْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً، نَحْوُ:{أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ} [النِّسَاءِ: 90]، أَيْ: وَقَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَنَحْوُ تَرَدُّدِ مِنْ بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالتَّبْعِيضِ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [الْمَائِدَةِ: 6] ; فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: مَعْنَاهَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، أَيِ: اجْعَلُوا ابْتِدَاءَ الْمَسْحِ مِنَ الصَّعِيدِ، أَوِ ابْتَدِئُوا الْمَسْحَ مِنَ الصَّعِيدِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنهما: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، أَيِ: امْسَحُوا وُجُوهَكُمْ بِبَعْضِ الصَّعِيدِ ; فَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ لِمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ غُبَارٌ، يَعْلَقُ بِالْيَدِ، لِيَتَحَقَّقَ الْمَسْحُ بِبَعْضِهِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمَسْحِ مِنَ الصَّعِيدِ: وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضَ ; فَقَدْ حَصَلَ ; فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ عُهْدَةِ النَّصِّ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ غُبَارٌ أَوْ لَا.
وَكَذَلِكَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 6] تَرَدُّدٌ بَيْنَ الْإِلْصَاقِ وَالتَّبْعِيضِ، عَلَى مَا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَنَقَلُوهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ ; فَانْبَنَى عَلَيْهِ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْكَرُوا وُرُودَ الْبَاءِ لِلتَّبْعِيضِ.
وَالْمَأْخَذُ الْجَيِّدُ فِي تَبْعِيضِ مَسْحِ الرَّأْسِ غَيْرُ هَذَا، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَاءَ اسْتُعْمِلَتْ فِي اللُّغَةِ تَارَةً بِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ، نَحْوَ: أَمْسَكْتُ الْحَبَلَ بِيَدِي، أَيْ: أَلْصَقْتُهَا بِهِ، وَتَارَةً لِلتَّبْعِيضِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَوْضُوعَةً لَهُ، نَحْوَ: مَسَحْتُ بِرَأْسِ الْيَتِيمِ، وَمَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ، وَأَخَذْتُ بِثَوْبِ الرَّجُلِ، وَبِرِكَابِهِ.
وَلَمَّا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْمَعْنَيَيْنِ، بَقِيَتْ فِي الْآيَةِ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَهُمَا ; فَكَانَتْ مُجْمَلَةً ; فَاقْتُصِرَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى مُطْلَقِ الِاسْمِ ; لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ ; فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ.
وَيُرَدُّ عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ، أَنَّ الْبَاءَ حَيْثُ اسْتُعْمِلَتْ لِلتَّبْعِيضِ، كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا، لِقَرَائِنَ ظَاهِرَةٍ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَالْأَصْلُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ، كَمَا سَبَقَ.
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ، هَلْ يَكْتَفِي بِأَوَّلِ ذَلِكَ الِاسْمِ، أَوْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُ؟ فَلَمَّا عُلِّقَ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ هُنَا، اتَّجَهَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمُجْمَلُ الْوَاقِعُ فِي اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ ; فَكَقَوْلِهِ عز وجل: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [الْبَقَرَةِ: 237] ; فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَعَلْقَمَةُ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَشُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الْوَلِيُّ، الَّذِي الْمَرْأَةُ فِي حِجْرِهِ ; فَهُوَ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الَّتِي لَمْ تَمْلِكْ أَمْرَهَا، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الزَّوْجُ. قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عَنْهُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَشُرَيْحٌ رَجَعَ إِلَيْهِ.
قُلْتُ: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ الزَّوْجُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ الْوَلِيُّ الْأَبُ وَسَيِّدُ الْأَمَةِ. وَالْمُخْتَارُ الرَّاجِحُ فِي النَّظَرِ: أَنَّهُ الْوَلِيُّ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ أَدِلَّتَهُ اعْتِرَاضًا وَجَوَابًا فِي التَّفْسِيرِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ.
- قَوْلُهُ: «وَقَدْ يَقَعُ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ، كَالْمُخْتَارِ وَالْمُغْتَالِ، لِلْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ» ، يَعْنِي أَنَّ الْإِجْمَالَ أَوِ الْمُجْمَلَ، قَدْ يَقَعُ فِي الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ يَقَعُ عَارِضًا مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ ; وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعَرَفُ بِهِ أَحْوَالُ أَبْنِيَةِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ كَالْمُخْتَارِ ; فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الِاخْتِيَارُ، وَبَيْنَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارُ ; فَاللَّهُ سبحانه وتعالى مُخْتَارٌ لِنَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام، أَيْ: وَقَعَ مِنْهُ اخْتِيَارُهُ رَسُولًا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، مُخْتَارٌ، أَيْ: وَقَعَ عَلَيْهِ اخْتِيَارُ اللَّهِ عز وجل.
وَكَذَلِكَ الْمُغْتَالُ ; يَصْلُحُ لِمَنِ اغْتَالَ غَيْرَهُ، أَيْ: قَتَلَهُ غِيلَةً، أَيْ: خُفْيَةً، وَلِمَنِ اغْتِيلَ، أَيْ: قُتِلَ كَذَلِكَ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ مُخْتَارَ أَصْلُهُ مُخْتِيرٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ فِي الْفَاعِلِ وَفَتْحِهَا لِلْمَفْعُولِ، نَحْوَ: مُصْطَفِي وَمُصْطَفًى، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ كَسْرًا وَفَتْحًا، وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا، قُلِبَتْ أَلِفًا وَالْأَلِفُ لَا تَحْمِلُ الْحَرَكَةَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْفَاعِلُ مِنَ الْمَفْعُولِ ; فَلَا جَرَمَ وَقَعَ اللَّبْسُ، وَجَاءَ الْإِجْمَالُ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْمُغْتَالِ.